أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة لقمان:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:13-15]، يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من مواعظ لقمان الحكيم لابنه، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ [لقمان:13] وفرض على الأب أن ينصح أبناءه، وأن يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.
فوعظه في أمر الشرك، وكأن في هذا إشارة -كما قال بعض المفسرين- إلى أن ابنه كان على شيء من الشرك، أو أنه كان مشركاً كافراً، فوعظه ونصحه حتى دخل في دين الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.
فقال له: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] فنهاه عن الشرك بالله.
أن ابنه كان مسلماً فوعظه لقمان ونصحه أن يداوم على ما هو فيه من توحيد الله سبحانه، وحذره من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله أعلم بأمره.
وقوله تعالى: يَا بُنَيَّ [لقمان:13] تكررت هذه الكلمة ثلاث مرات في هذه الآية وما يليها فقال تعالى: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] وقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان:17] وقال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان:16] فتكررت ثلاث مرات هنا.
وقوله تعالى: (يا بُنَيَّ) تصغير ابن، والتصغير إما أن يراد به الحقيقة، أي: أن الابن صغير، والابن الصغير لا يوعظ بهذه الأشياء، فكأن التصغير هنا المقصود به التحنن، فالأب يتحنن على ابنه ويترفق معه، فيقول له: يا بني! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي بها الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يقولها لصغار أصحابه، صلوات الله وسلامه عليه، كـأنس بن مالك وغيره ممن كانوا صغاراً في السن، وقد كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم لهم على وجه الترقيق لقلوبهم والتلطف بهم، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الكلمة (يَا بُنَيَّ) قرأها حفص عن عاصم في هذه الثلاثة المواضع بالفتح فيها.
ووافقه ابن كثير في إحدى روايتيه في الموضع الثالث: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] فقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم ، وأما باقي القراء فيقرءونها في هذه المواضع وفي غيرها من القرآن: (يا بني)، على الإضافة إلى النفس.
وابن كثير خالف حفصاً في الموضع الأول والثاني، فقرأها في الموضع الأول: (يا بُنَيْ لا تشرك بالله)، بالتسكين فيها، وفي الموضع الثاني قرأها كقراءة الجمهور: (يا بُنَيِّ إنها إن تك).
وفي الموضع الثالث: (يا بُنَيَّ إنها)، قرأها قنبل عن ابن كثير مثل قراءة الجمهور: (يا بُنَيَّ)، وقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم .
وكلمة: (وهو) يقف عليها يعقوب بهاء السكت، فيقرؤها: (وهوه) وأما باقي القراء فيقفون عليها إما (وَهُوْ) أو (وَهْوَ).
وفي قوله تعالى: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] تحذير من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا التحذير مقصود في كتاب الله سبحانه، فقد نهى الله عن الشرك به، وذكر أنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا إلى أقوامهم بالأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك بالله سبحانه وتعالى.
ولما نزل قول الله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] فهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الذين لم يخلطوا إيمانهم بنوع من الظلم، فخافوا؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، فخاف الصحابة من الظلم؛ لأن مآل الظالم إلى النار، سواء ظلم نفسه أو غيره ظلماً أصغر أو أكبر، فالظلم ظلمان: ظلم أصغر، وظلم أكبر.
فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ أي: أن الآية التي في سورة الأنعام والتي قال الله سبحانه فيها: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] معناها: أن الأمن والأمان يوم القيامة للمؤمنين الذين لم يظلموا أنفسهم، فشق ذلك على الصحابة وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال
فالإنسان قد يظلم نفسه، وقد يتجاوز ويعفو الله سبحانه وتعالى عنه.
وظلم الإنسان لنفسه يكون بالوقوع في صغائر الذنوب، أو في كبائرها، ومنها الشرك بالله سبحانه.
فالصحابة اختلط عليهم الأمر، ولم يفهموا المقصود بقوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] فظنوا أنه أي ظلم يقعون فيه سواء كان صغيراً أو كبيراً أو شركاً بالله، وسواء كان ظلماً للنفس أو ظلماً للغير فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس المقصود منها الظلم الأصغر، وهو الوقوع في صغائر الذنوب، وإنما المقصود منها الظلم الأكبر، وهو الوقوع في الشرك بالله، فوضح الآية بالآية الأخرى فقال: (إنما هو كما قال
فإذا تاب الإنسان إلى الله من الشرك فما دونه تاب الله عز وجل عليه، وإن لم يتب منه جاء يوم القيامة وهو لا أمان له؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
وإذا وقع في الذنوب كبائرها وصغائرها ولم يتب منها فهو في خطر المشيئة، فإن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك.
ولذلك هنا يفرق بين من أتى بالشرك بالله فلا يغفر له، وبين من أتى بصغائر الذنوب ولم يقع في الشرك بالله فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنه عند وفاته، ولذلك قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بأن الإنسان إذا اجتنب الكبائر ولم يقع فيما حرم الله من كبائر الذنوب، مثل: الشرك بالله سبحانه وتعالى، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والوقوع في السرقة، والوقوع في الزنا، والرشوة، وأكل السحت، وأكل الباطل، وغيرها من الكبائر التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي رويت عنه، فإذا ابتعد عن هذه الكبائر، وجاءته وفاته وهو مجتنب لها؛ كفر الله عنه الذنوب الصغائر، وهذا من فضل الله ورحمته على عباده، ولذلك على المؤمن أن يحسن في دنياه ويجتنب الكبائر؛ حتى يكون هذا الاجتناب تكفيراً لصغائر ذنوبه.
وإذا وقع العبد في كبيرة من الكبائر ثم تاب إلى الله عز وجل ومات تائباً فإن الله يتوب على من تاب، وأما إذا لم يتب العبد من ذنوبه فهو في خطر المشيئة، والله عز وجل إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك.
وأما العبد الذي يأتي آمناً يوم القيامة فهو الذي لم يقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولم يكن في خطر المشيئة يوم القيامة على ما ذكرنا.
إذاً: فقوله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] يبين أن أعظم الظلم وأكبر الظلم أن يقع الإنسان في الشرك بالله سبحانه وتعالى.
هذه الآية جملة معترضة بين وصايا لقمان، وكأن الله سبحانه تبارك وتعالى لما ذكر نصيحة لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13] أراد أن يذكر بعدها وصيته هو بعدم عقوق الوالدين، والوصية من الله عز وجل بالوالدين تكررت مراراً في كتاب الله سبحانه، فهو سبحانه ينهى عن الشرك به، ويأمر الإنسان بأن يوحد ربه سبحانه وتعالى، وأن يشكر لله سبحانه، ويشكر بعد ذلك للوالدين.
فالله هو الذي خلقك وأوجدك، وكان سبب وجودك في هذه الدنيا أن أباك تزوج أمك وكنت أنت نتيجة لذلك.
فأمرك الله أن تشكر له عز وجل الذي خلقك، وتشكر لوالديك اللذين كانا سبب وجودك في هذه الدنيا، وهما اللذان ربياك كما أخبر الله سبحانه.
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا [لقمان:14] فالوصية من الله سبحانه تبارك وتعالى. وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] أي: بأبيه وأمه، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] وإن كان الأب قد أنفق على الابن ورباه، فإن الأم لها وصية زائدة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنها حملته وهناً على وهن، فكانت الوصية بالأم أكثر من الوصية بالأب، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل: (من أحق الناس بحصن صحابتي؟ -أي: من أبر أكثر؟- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) .
فوصى بالأم ثلاثاً وبالأب مرة، فكأن الأم تستحق أن يرعاها ابنها ويتحنن عليها مرات ومرات، وإذا كان قد أوصاه الله عز وجل بالوالدين إلا أن الأم أقرب وتستحق من الرعاية ما هو أكثر، وإن كان مطلوباً من الابن أن يبر الاثنين الأب والأم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وكذلك الأم لها حق الرعاية، ولها نفقة واجبة عليك إن احتاجت إلى ذلك.
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا [لقمان:14] الوهن: هو الضعف، فالأم كانت ضعيفة في حال حملها، وكلما كبر الحمل كلما ازداد ضعفها.
قال تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] وهي صابرة على ذلك، ومحبة لهذا الذي في بطنها، ولا تتضجر من ذلك، بل تنتظره، فإذا خرج إلى هذا الوجود وإلى هذه الدنيا كانت أشد حناناً عليه، وأشد محبة له، مع كونه يؤذيها وقد يضرها، ومع ذلك فإنها تفدي ابنها بنفسها، فوصى ربنا سبحانه الابن بها، وذكره بمراحل خلقه.
قال تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] والفصال: هو الفطام، فهو يرضع من أمه عامين كاملين، وقد تتأذى به، ولكنها تفرح بتربيته وبقربه، وهو يبول ويتغوط عليها، وهي تحبه وتدللـه. فأي رعاية وأي حنان بعد حنان الأم على ابنها؟! فلذلك أوصاه الله عز وجل بأمه وأوصاه بالوالدين، وأكد الوصية بالأم، فقال تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ [لقمان:14] والفصال: المفارقة، يعني: أنها تفطمه بعد عامين.
قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] فما دمت حياً فاشكر لله سبحانه الذي خلقك، واعبده سبحانه حق العبادة، وكذلك اشكر لوالديك أحياءً كانا أو أمواتاً، فإذا كان الأب والأم أحياء فاشكر لهما حسن صنيعهما معك، وتذكر لهما هذا الجميل، ولا تنساه أبداً، فمهما عملت للوالدين فلن توفيهما جميلهما معك.
وانظر إلى الأب والأم عندما كان الابن صغيراً فقد كانا يرعيانه ويحملانه ويتعبان معه، وهما في ذلك في غاية الفرح بهذا الأمر، ويتمنيان حياة الابن، فإذا كبر الأب والأم واحتاجا إلى الرعاية من الأبناء فتجد الفرق الكبير بين رعاية الأب لابنه وبين رعاية الابن لأبيه، فقد كان الأب يتمنى حياة الابن، وإذا وصل الأب إلى الشيخوخة والهرم فإن الابن يتمنى وفاته. لقد كان الأب والأم يربيان الابن وهو صغير، ويفرحان به في صوابه، ويعلمانه في خطئه، وأما الابن إذا كبر أحد والديه فينعكس الأمر؛ فإنه يتضجر سريعاً مما يفعلانه في كبرهما.
فالفرق كبير بينهما، فمهما فعل الابن مع أبيه وأمه فلن يوفيهما حقهما، فلذلك يجب على الابن رعاية أمه وأبيه والشكر لهما وإظهار الحب والملاطفة لهما، ولينظر في أحوال الصالحين السابقين كيف كانوا يصنعون مع آبائهم من رعاية، ومن تحنن، فقد كان أحدهم يبيت تحت قدمي أمه يرعاها ويخدمها، ويقول: هذا خير لي من قيام الليل، أي: السهر على أمه المريضة تحت قدمها فلعلها تحتاجه في شيء، يقول: هذا خير من قيام الليل، وكانوا يبرون والديهم طاعة لله سبحانه وحباً في هذه الطاعة، فليكن الإنسان المؤمن مقتدياً بالسلف الصالح في طاعتهم لله سبحانه وبرهم للوالدين.
قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وهذه الآية فيها من التهديد ما فيها، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي [لقمان:14] وإذا لم تشكر فإنك سترجع إلي مرة ثانية وإذا لم ترع الوالدين فأين ستذهب؟ فمهما ذهبت ومهما علوت فسترجع إلينا مرة ثانية، فإن المصير والمرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
والإنسان إذا تذكر ذلك يسأل نفسه: إن عصيت ربي فأين سأذهب بهذه المعصية؟ وأي أرض تحملني؟ وأي سماء تظلني إذا كنت عاصياً لله سبحانه؟ وأين أذهب من الله؟ وأين أهرب منه سبحانه وتعالى؟
قال تعالى: إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] أي: سترجع إلي مرة ثانية.
قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان:15]، أي: إن أمراك بشيء من الشرك وأنت تعلمه ولم ينزل الله عز وجل به سلطاناً فدعه وانته عن الشرك بالله سبحانه، وأمرهما بالمعروف وانههما عن المنكر، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تطعهما في ذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله سبحانه وتعالى، لا في شرك ولا في غيره، فلا تطعهما أبداً في معصية الله سبحانه، ولكن تلطف معهما، كما قال تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] أي: ومع ذلك صاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تعنفهما ولا تزجرهما، ولا تشتمهما، كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23].
والإنسان البار يُعرف ببره لوالديه، فتعرف الإنسان التقي من الشقي من معاملته مع أهله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) .
فإذا كان صاحبك الذي تحبه يؤذي والديه فاعلم أنه لا خير فيه، ولا يستحق المصادقة والمصاحبة، فمره بالمعروف وانهه عن المنكر، ولا تطل المودة معه، فهو لا خير فيه لوالديه.
وإذا أردت أن تعرف أن هذا الإنسان فيه خير أو لا فانظر إلى حاله مع أبيه وأمه وإخوانه وزوجته، فإذا كان خيراً مع هؤلاء فهو جدير بأن يكون خيراً معك، وإن كان مع هؤلاء سيء الخلق فلا تنتظر منه أن يكون خيراً معك، فلو كان فيه خير لبدأ بالخير مع والديه.
وقد تجد إنساناً يرد على أبيه، ويشتم أمه، ثم يأتي إلى المسجد ويصلي! وتراه طيباً مع الناس، مع أنه لو كان فيه خير لكان خيراً مع والديه، فلذلك أمره ببر والديه، فإن الله عز وجل أمر بذلك، قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، أي: حتى ولو كانا يجاهدانك على الكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وتجد الكثير من الناس طيبين وأخلاقهم حسنة مع الناس، وأما مع آبائهم وأمهاتهم فهم في غاية السفاهة، وهذا الذي يعملونه مع آبائهم وأمهاتهم سيعملونه مع أصدقائهم، فمرهم بالمعروف وذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك يقول العلماء: جملة هذا الباب: أن طاعة الأبوين لا تراعى في معصية رب العالمين سبحانه وتعالى، لا في فعل كبيرة، ولا في ترك فريضة من الفرائض، فإذا أمر الأب والأم ولدهما بعدم الصلاة أو بالبعد عن دين الله سبحانه، أو أمر الأب ابنته بالتبرج وحلف إن لم تخلع الحجاب الذي تلبسه فإنه سيخرجها من البيت وكذا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سبحانه وتعالى، (إنما الطاعة في المعروف)، فيطيع الابن أباه وأمه في طاعة الله سبحانه وفي المباح، وأما في ترك فرائض الله عز وجل فلا طاعة لأحد في ذلك.
قال الله سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15]، أي: من رجع إلى الله سبحانه. والمنيبون إلى الله هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أتباعهم من المؤمنين ومن الأتقياء ومن الأولياء.
قال تعالى: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15] فالمرجع إلى الله عز وجل، وهذه الآية فيها من التحذير ما في الأولى، فإن المصير إلى الله والمرجع إليه، فاعملوا ليوم ترجعون فيه إلى الله سبحانه، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر