قال الله عز وجل في آخر سورة العنكبوت: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:65-69].
في هذه الآيات الأخيرة من سورة العنكبوت يخبرنا الله عز وجل عن عظيم فضله على عباده، أنه هو الذي خلقهم وأنه هو الذي رزقهم، وأنه هو الذي نزل لهم من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنه هو الذي ينجيهم في البر والبحر، فإذا ركبوا في الفلك فارتفعت عليهم الأمواج، وهاجت بهم الرياح، فلا يجدون ملجأً من الله إلا إليه، فيدعون الله مخلصين له الدين، متجردين له وحده لا شريك له بالعبادة، ويتركون آلهتهم والأنداد التي اتخذوها من دون الله عز وجل، ويتوجهون إليه وحده بالعبادة، فيدعونه مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر يرجعون مرة ثانية إلى شركهم بالله سبحانه، فليفعلوا ذلك، قال الله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66].
وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه لهؤلاء الكافرين، فهو يقول لهم: اكفروا بما شئتم، وتمتعوا بما شئتم، وانتظروا ما يأتيكم به الله عز وجل من عذاب فسوف تعلمون.
وهذه الآية قد تكرر معناها في القرآن ثلاث مرات، فقد قال الله تعالى في هذه السورة سورة العنكبوت: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66]، وقال الله عز وجل في سورة النحل وفي سورة الروم: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل:55]، فالله عز وجل يقول للكفار: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:66]، أي: تمتعوا بما شئتم في هذه الدنيا، فإنها لا قيمة لها، فلو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، فمن الأشياء التي يحسدهم عليها الناس، أن أعطاهم الله من المال وأعطاهم من النعم، وأعطاهم من البنين، وأعطاهم من القوة في أجسادهم، وأعطاهم من الثياب والرياش، وأعطاهم ما يتنعمون به، وهذا دليل على أن الدنيا حقيرة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطى هؤلاء منها شيئاً.
أليست هذه آية من الآيات التي تدلهم على نعم الله عز وجل عليهم، فأنتم في بلادكم في أمان، ومن يأتي إلى بلادكم يستشعر فيها الأمان، فإذا خرجوا من عندكم يتخطف الناس من حول هذا البلد العظيم، أو من حول سكان هذا البلد.
والخطف: هو الأخذ بسرعة، فالناس من حولهم يتخطفون بالقتل والغصب وغير ذلك، ويؤخذون، وكانت عادة العرب الإغارة، أي: أن يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ولا يهتمون لذلك، فهم معتادون على هذا الشيء.
فإذا جاءت الأشهر الحرم كفوا وسكتوا وانتظروا حتى تمر الأشهر الحرم، ولعلهم يتعجلون خروج هذه الأشهر الحرم فيغيرون أسماءها، فإذا جاء عليهم شهر محرم فلا بد أن يحرموا، وشهر محرم بعد ذي القعدة وذي الحجة، فيقولون: نلغي المحرم في هذه السنة، ونجعل اسمه صفراً، فيسمونه صفراً؛ ليغير بعضهم على بعض، ومن أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً، ويأخذوا أموال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض فيه، أما في مكة فلا أحد يجرؤ أن يفعل ذلك، وقد رأوا آيات الله سبحانه، ومن أعظم ما رأوه حين جاء أبرهة من اليمن إلى مكة ليهدم الكعبة، ومعه الفيلة يريد بها هدم الكعبة بيت الله سبحانه وتعالى، فأرسل الله عليه وعلى جيشه طيراً أبابيل، قال تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:4-5].
وقد رأى أهل مكة ذلك؛ فخاف الناس كلهم من هذا المكان، وعرفوا أنه المكان الآمن، فهو بيت الله عز وجل، وأن له رباً يحميه، هذه الكلمة العظيمة قالها عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لـأبرهة ، فقد قال له: جئت أسأل عن إبلي، أما البيت فله رب يحميه، أي: لن تستطيع أن تعمل شيئاً في هدم البيت، ومن الممكن أن تفعل في إبلي ما تشاء؛ ومن أجل هذا جئت أطلب إبلي التي أخذتها، أما البيت فلن تقدر عليه.
وأخذ إبله، وخرج أهل مكة ينظرون كيف سيدافع الله عز وجل عن حرمه وعن بيته، فزلزل الله أبرهة وجيشه وهزمهم سبحانه، بأن أرسل عليهم طيوراً ترميهم بحجارة من نار، فجعلهم كعصف مأكول.
قال الله سبحانه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:67]، أي: بالشيطان، وبالكفر بالله سبحانه، وبما يشركونه بالله عز وجل من آلهة وأنداد، قال تعالى: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، أي: يكفرون بنعم الله عز وجل، والقرآن نعمة من الله عز وجل، والتوحيد، أن يعلمهم التوحيد ليكونوا من أهل الجنة نعمة من الله سبحانه؛ ولذلك أهل الجنة يقولون عن هذا الدين العظيم حين يدخلون الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
فمنة من الله وكرم منه سبحانه أن يهدي العباد إلى جنته، قال سبحانه: وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67]، هكذا ذكرت هنا، وفي النحل وفي غيرها قال الله تعالى: وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، أي: أيكفرون بنعمة الله وينسون توحيده وشكره سبحانه؟
ولمَّا أخبرهم الله عز وجل عن هذا المكان الآمن، كيف أمنهم فيه، وجعل الناس من حولهم يخطف بعضهم بعضاً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، كما في سورة القصص، فقال الله سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:57-58].
فقد كذبوا بما يقوله الله سبحانه وتعالى، وقد أمنهم في ديارهم، فقالوا: سنتخطف من أرضنا، لا نستطيع أن نؤمن معك لكيلا نتخطف من أرضنا، وقد أخبرهم الله عز وجل بأنهم آمنون، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ، فما الذي سيجعلكم تتخطفون من دياركم؟ وما الذي سيجعل الكفار يأتون إليكم إذا أسلمتم وأنتم في بلادكم؟ والله يدافع عن حرمه وعن بلده سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [العنكبوت:68]، فادعى لله الصاحبة، وادعى لله الولد، أو كذب بالحق وبالقرآن الذي جاء من عند رب العالمين، قال تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]، فقوله: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ، استفهام، والمعنى فيه التقرير، أي: أنه فعلاً فيها، والمثوى: دار الإقامة، والمستقر أي: أليس في جهنم مستقر للكافرين؟ بلى، فيها المستقر للكافرين، يستقرون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ولا يموتون ولا يحيون فيها، لا حياة كريمة، ولا موتاً يريحهم، وإنما العذاب الأليم.
ففي هذه الآية قد أخبرنا الله أنه مع المحسنين الذين جاهدوا في الله عز وجل، فجاهد في سبيل الله حتى يهديك الله سبحانه، ويبين لك السبل، والجهاد جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الهوى، والجهاد في طلب العلم الشرعي، وجهاد الكفار والمنافقين، وكل بحسب ما يستحقه من نوع الجهاد.
وإذا اتقى العبد ربه وأحسن في عبادته لله، فإن الله عز وجل يكون معه.
ويقول تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
وجاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، فانظروا إلى الكلام العظيم الجميل للإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لقد كان عمر بن عبد العزيز من العلماء، ومع ذلك من تواضعه يقول: إنما قصر بنا ودفعنا إلى الجهل ومنعنا من العلم تقصيرنا في العمل.
وكان الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رضي الله عنه يقول: ما احتقرت نفسي عند أحد - يعني من العلماء - إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هذا هو ابن شهاب الزهري الذي يقول علماء الحديث: حديث لا يعرفه الزهري فليس بحديث، فـالزهري عالم عظيم من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحفظ الناس وأتقنهم، ومع ذلك يقول: إنه لم يحقر نفسه عند أحد من العلماء أبداً، فكل العلماء يراهم دونه رضي الله عنه، إلا عمر بن عبد العزيز ، فقد كان عمر بن عبد العزيز عالماً عظيماً، وكان إماماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيرى نفسه أنه أقل من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
إن عمر بن عبد العزيز حين توفي لم يتجاوز بضعة وأربعين سنة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومع ذلك كان الخليفة العادل الذي لم تشغله الخلافة عن العلم الشرعي، ولم يشغله شيء عن العلم الشرعي، وإنما تجرد لله سبحانه وتعالى، وعمل لله، فكان الخليفة الراشد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا -أي: الذي دفعنا للجهل ونحن لا نعرف مزيداً من العلم- قال: تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا.
إذاً: العلم ليس الحفظ والتحصيل فقط، بل العلم هو العمل به، فالإنسان يعمل بما علم، وكلما علم عمل بما علم، فالله عز وجل يفتح له علوماً أخرى غير التي عمل بها، فيقول عمر رضي الله عنه: لو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
يقول أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، والمعنى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، من نصروا دين الله عز وجل بكل وسيلة لنصر دين الله عز وجل، من جهاد بقوة وسلاح وسيف وسنان، ودعوة باللسان، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، يقول الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أي: أن أعظم شيء في الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفس في طاعة الله عز وجل، وهو الجهاد الأكبر، فالإنسان المسلم إذا جاهد نفسه استطاع أن يجاهد أعداءه، أما إذا كان لا يجاهد نفسه، وإذا كان يتبع هواه وشهواته، فإنه لا يقدر أن يجاهد أعداء الله سبحانه وتعالى.
أيضاً جاء عن سفيان بن عيينة ، أنه وصى ابن المبارك رضي الله عنهما، فقال: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وابن المبارك وما أدراك من ابن المبارك رضي الله عنه! كان إماماً عظيماً عالماً فقيهاً محدثاً، عالماً بالقرآن، حتى قالوا: إنه كان إماماً في تسع عشرة خصلة من الخصال، فقد كان إماماً في الفقه، وإماماً في القرآن، وإماماً في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإماماً في العمل، وإماماً في الزهد، وإماماً في الحديث، وإماماً في أشياء كثيرة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكانت وصية سفيان بن عيينة لـابن المبارك نافعة له، يقول له رضي الله تبارك وتعالى عنه: إذا رأيت الناس قد اختلفوا، وأردت أن يوفقك الله للحق، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، أي: كن مع المجاهدين، وكن مع أهل الثغور، فالله يهديك لما يحبه سبحانه، وما اختلف الناس فيه، قال: فإن الله يقول: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع هؤلاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر