يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
الموالاة معناها: ألا تفصل بين غسل الأعضاء بوقت طويل، وضابط ذلك عند العلماء: ألا يجف العضو، إذا كان المزاج غير متغير؛ لأنه في وقت الغضب قد يجف العضو بسرعة، ولا في وقت حار جداً.
القول الأول في القديم وهو قول الحنابلة: أن الموالاة شرط في صحة الوضوء، فإذا توضأ فغسل وجهه ومكث مدة طويلة حتى جف العضو ثم غسل يديه ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثم صلى فصلاته باطلة؛ لأنه اختل شرط من شروط الوضوء وهو الموالاة.
القول الثاني في المذهب وهو القول الجديد: أن الموالاة سنة، فإذا فعل ذلك فقد خالف الأولى، وصلاته صحيحة.
وهذان قولان للشافعي ، فالقديم هو ما قبل دخوله مصر، والجديد هو بعد دخوله مصر.
والوجه في المذهب غير القول، فهو قول لصاحب من الأصحاب يخرج هذا الوجه على تأصيل الإمام الشافعي. دليل المذهب القديم من الأثر: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، (فاغسلوا) أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وهو يقتضي الفورية، والفورية معناها: التعجيل، يعني لا نفصل بينهما بوقت طويل، واستدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن زيد وحديث عثمان بن عفان وحديث علي وحديث ابن عمر رضي الله عنهم (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ووالى بين أعضائه)، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان للواجب، والقاعدة عند العلماء: أن الواجب واجب.
وفي حديث خالد بن معدان أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي رجله قدر اللمعة -كالدرهم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ وأعد الصلاة)، وهذا الحديث فيه كلام، إذ الحديث أرسله خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل عند علماء الحديث ضعيف.
وأيضاً في سند الحديث بقية بن الوليد، وهو يدلس شر التدليس: تدليس التسوية، وقد قيل فيه: أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية. ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه توضأ وجفت الأعضاء وصلى، فلما وجد قدر اللمعة أمره بإعادة الوضوء، ولو كانت الموالاة ليست بشرط لغسل القدم فقط، لكنه أمره بإعادة الوضوء، فهذه دلالة على أنه اعتبر الموالاة شرطاً للوضوء.
واستدلوا من حيث النظر: فقاسوا الوضوء على الصلاة، فقالوا: كما أن الموالاة شرط لصحة الصلاة وهي عبادة، والوضوء شرط لهذه العبادة، فتكون الموالاة شرطاً فيها.
ووجه الشبه بين الوضوء وبين الصلاة: أن الوضوء يفسده الحدث والصلاة أيضاً، فمن أحدث وهو يصلي توضأ واستأنف صلاته، ولا يبني على ما سبق، هذا الراجح الصحيح، ولو توضأ الرجل فمضمض واستنشق وغسل وجهه وغسل يديه ومسح برأسه ثم قبل أن يغسل رجليه أخرج ريحاً فسد وضوءه واستأنفه من جديد.
والموالاة شرط في الصلاة، فلو رفع من الركوع فلا بد أن ينزل بعدما يقول الدعاء والذكر، ولو أطال طولاً يعرف منه الناظر أنه ليس من الصلاة بطلت صلاته. قالوا: فإذا كانت الموالاة بين أركان الصلاة واجبة وهي عبادة، فالوضوء عبادة كالصلاة، فتكون الموالاة فيه واجبة أيضاً.
ودليل القول الثاني -وهو الجديد- على أن الموالاة ليست شرطاً في الوضوء قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ المائدة:6]، والآية لم تصرح بشرطية الموالاة، فهذه دلالة على أن الموالاة ليست بشرط.
واستدلوا من السنة بأثر ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه توضأ في السوق ولم يمسح على الخفين حتى ذهب إلى المسجد، رواه البيهقي بسند صحيح، وفيه: حتى جف العضو، وفيه أنه دخل المسجد فوجد جنازة يريدون الصلاة عليها، فأراد ابن عمر أن يصلي فقال: ائتوني بماء فأتوه بماء فمسح على الخفين بعدما جف العضو من الوضوء، وهذا أثر صحيح عن ابن عمر فهو يرى أن الموالاة ليست شرطاً، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
والصحيح الراجح عند المحققين من الشافعية: القول الجديد، لكن عندما نأخذ بالقاعدة التي قعدها الإمام الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي، فإننا نقول: الصحيح الراجح هو القول القديم، لا سيما مع تصحيح حديث خالد بن معدان ؛ لأن بقية صرح بالتحديث في بعض الروايات، وكونه أرسله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يضعف الحديث؛ لأن كل الصحابة عدول لا سيما المؤمنات الفضليات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح الراجح: أن الموالاة تعتبر شرطاً وليست سنة، لأن الدليل واضح جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ وأعد الصلاة).
وإن لم تجد سواكاً وعندك منديل فمن الممكن أن تستخدمه، وهو يقوم ببعض ما يقوم به السواك من تنظيف الأسنان، ومن الممكن كذلك أن تدلك أسنانك بإصبعك، وإن كان الحديث الوارد فيه ضعيفاً.
وقوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: لا وضوء كامل، ولا يمكن أن ينصب النفي على الوجود؛ لأن الرجل غسل الأعضاء، ولا ينصب على الصحة؛ لأن الله جل في علاه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، ولم يذكر التسمية، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن قال للأعرابي: (توضأ كما أمرك الله)، ولم يقل: سم الله جل في علاه. وإذا توضأ الرجل فنسي التسمية بعدما غسل وجهه ويديه، فنقول له: افعل كما تفعل في الطعام، فإذا نسيت التسمية فقل: باسم الله أوله وآخره.
أما إذا انتهيت من غسل الرجلين فلا تسم بخلاف الطعام؛ لأن التسمية بعد انتهاء الطعام تجعل الشيطان يتقيأ، أما هنا فلا توجد هذه العلة.
وقد ذكر الغزالي رحمه الله وكثير من الشافعية دعاء لغسل كل عضو من أعضاء الوضوء، ولا دليل عليه، والأصل في العبادات التوقيف.
وللمضمضة والاستنشاق صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون المضمضة منفصلة عن الاستنشاق، فيدخل الماء في فمه، ويكرر هذا ثلاث مرات بثلاث غرفات، ثم يغسل الأنف بعد الفم ثلاث مرات، وهذه الكيفية وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضعفها النووي، لكن الحافظ ابن حجر صححها، ونحن نأخذ بتصحيح الحافظ ابن حجر ، فحديث فصل المضمضة عن الاستنشاق صحيح، لكن الأولى والأفضل: أن تجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة ثلاث مرات كما في حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الصورة الثانية، وهي غالب أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ غرفة ثم يدخل بعض الماء في فمه ويدخل البعض الآخر في أنفه، ويفعل هذا ثلاث مرات.
ومن السنة مسح الأذنين، وهذه السنة دلت عليها الأدلة الكثيرة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح أذنيه، وقال: (الأذنان من الرأس) ومن السنة أن يأخذ ماء جديداً لهما، وفي الحديث الصحيح في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر الأذنين وباطن الأذنين)، وكيفية المسح أن يدخل الإصبعين في صماخي الأذنين، وهي الفتحة التي توصل إلى داخل الأذن، ثم النبي صلى الله عليه وسلم ما مسح أذنيه إلا مرة واحدة.
فإن قيل: هل الأذن من الرأس أم من الوجه؟
فالجواب: قال الزهري: الأذن من الوجه، واستدل بحديث: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره) وأما الجماهير فقالوا: الأذن من الرأس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرأس)، وهذا الحديث ضعيف، وقد صححه الشيخ الألباني، وحتى لو قلنا بتصحيح هذا الحديث فإنه يحمل على الاستحباب، وليس للوجوب، كما أن التحلل من الإحرام يكون بحلق الشعر أو تقصيره، وليس بأخذ شيء من الأذن، ولا يقول بذلك أحد، فالصحيح أن معنى: (الأذنان من الرأس) يعني حكمهما حكم الرأس، فإذا كان حكم الرأس هو الغسل فحكم الأذن الغسل مثل الرأس، وإذا كان حكمه المسح فيمسحان كما يمسح الرأس، فالراجح الصحيح أن من السنن مسح الأذنين.
ويجب تخليل الأصابع في حالة واحدة وهي إذا كانت الأصابع ملتصقة وغلب على ظنه عدم وصول الماء للبشرة، فيجب عليه حينئذ أن يخلل الأصابع حتى يتأكد من وصول الماء، أو إذا كانت الأظافر طويلة وفيها وسخ يمنع وصول الماء فإن عليه التخليل حتى يصل الماء إلى العضو.
والأئمة الأربعة قالوا بالسنية، أما فقهاء المدينة السبعة فقد قالوا بوجوب الابتداء باليمين، بمعنى: أنه لو توضأ الرجل فغسل يده اليسرى ثم غسل اليد اليمنى، فوضوءه لا يصح. وقول الفقهاء السبعة بالوجوب قوي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأتم فابدءوا بالميامن)، وهذا أمر وظاهره الوجوب، وأيضاً ديمومة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله في وضوئه وترجله وتنعله).
لكن النووي صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب بحديث صححه عن علي بن أبي طالب أنه توضأ أمام الناس فابتدأ باليسرى ولم يبتدئ باليمنى، ثم صلى ليظهر للناس أن هذا على الجواز، وهذا هو قول الأئمة الأربعة، والله أعلم.
ويستحب بعد الفراغ من الوضوء أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله كما في حديث عمر بن الخطاب ، وفي رواية الترمذي زيادة: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، وهذه الزيادة صححها بعض العلماء وضعفها كثير من العلماء، وفي حديث آخر مختلف في صحته أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: (سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
الجواب: القاعدة عند العلماء: أن كل شك جاء بعد العبادة فلا عبرة به، فهذا وضوءه صحيح، ولا يلتفت إلى هذه الوسوسة، والأصل: أن وضوءه كامل، والأصل بقاء ما كان على ما كان إلا بدليل ينقل عن الأصل، والمشكوك كالمعدوم حتى يتبين بالقرائن صدق هذا الشك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر