أيها الأحبة: القرآن الكريم هو حجة الرسول وآيته الكبرى، يقوم في فم الدنيا شاهداً برسالته وناطقاً بنبوته، ودليلاً على صدقه وأمانته، وهو ملاذ الدين الأعلى، وعماد لغة العرب الأسمى، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها، وتستمد علومها منه على تنوعها وكثرتها.
هو القوة التي غيرت صورة العالم، وحولت مجرى التاريخ، وأنقذت الإنسانية العاثرة؛ لذلك كله كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سلف الأمة وخلفها جميعاً.
وقد اتخذت هذه العناية أشكالاً مختلفة فتارة: ترجع إلى لفظه وأدائه، وأخرى: إلى أسلوبه وإعجازه، وثالثةً: إلى كتابته ورسمه، ورابعةً: إلى تفسيره وشرحه إلى غير ذلك.
في هذه الحلقة سيكون لنا بإذن الله عز وجل مزيد عناية بأمر له في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق، سأتحدث مع ضيفنا الكريم عن (التقديم والتأخير في كلام العلي الكبير).
وأستهل لقاءنا بهذا المحور، وهو إطلالة سريعة عن موضوع التقديم والتأخير في كلام الله عز وجل.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أولاً: أهنئ من يسمعنا ويشاهدنا بعيد الفطر المبارك، سائلين الله جل وعلا أن يجعله علينا أهل الإسلام عيد خير وبركة.
ثم إننا نقول: إنه كلما كان الإنسان قريباً دانياً من كلام الله جل وعلا فهذا شرف عظيم، وموئل كريم لا يعطى لكل أحد.
ولعل من الفأل الحسن أن البرنامج غير موعده إلى ثاني اثنين من كل شهر، فيكون قريباً من قول الله جل وعلا: ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] وإن كان هناك في الذوات وهنا في الأيام، لكن أي قرب من القرآن أمر محمود.
ثم أقول: هذا القرآن هو معجزة نبينا الخالدة صلوات الله وسلامه عليه:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم
والتقديم والتأخير يأخذ طرائق متعددة في كلام الله جل وعلا، لكنني سأشرع في بيان مجملها:
أحياناً يكون التقديم فيه نوع من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يكون في تقديم الخطاب.
الله جل وعلا وحده يعلم الغيب، فأذن لنبيه أن يتوجه إلى بيت المقدس عندما كان في مكة، فلما هاجر إلى المدينة مكث فيها ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك وقد نزل قبل آية النسخ قول الله جل وعلا: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] .
فهذا تقديم، بمعنى: أنه توطئة لأمر وردة فعل ستقع من الناس، ففي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله بعدها بآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].
فقول الله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ناسخ لتولية المسلمين وجوههم نحو بيت المقدس، فالتقديم هنا للتسلية.
ومثال التأخير: كانت بدر أول معركة خاضها المسلمون، ولم يكن لهم عهد بتقسيم الغنائم فلما حازوا الغنائم حصل شيء من النزاع فأخذوا يتساءلون، فذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وسألوه، قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1] لكن الجواب عن سؤالهم تأخر، وقدم ما لم يعن المسلمون به آنذاك وهي قضية إصلاح ذات البين، فأنزل الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] .
ثم بعد ذلك قال الله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] فبين كيفية تصريف الأنفال، فهذا نوع من التقديم والتأخير.
أحياناً يكون التقديم والتأخير في العامل والمعمول، ذكر الله جل وعلا على لسان آسية بنت مزاحم امرأة فرعون أنها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] فقدم الجار والمجرور على المفعول به على خلاف الترتيب لغرض، وهو أنها اختارت جوار الله قبل أن تختار الدار، وقد بين في أكثر من موضع أن هذا من دلالة شوقها إلى ربها جل وعلا وأدبها في مخاطبة الرب تبارك وتعالى.
أحياناً يأتي الترتيب ظاهراً بيناً، يقول الله جل وعلا: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء:13] فتقديم الله على رسوله أمر واضح.
وأحياناً يكون لأجل التشريع، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فالنبي عليه الصلاة والسلام رقا الصفا وقال: (أبدأ بما بدأ الله به وتلا: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) ..).
من هنا نفهم أن التقديم في كلام الله جل وعلا لا بد له من حكمة قد نفقهها وقد لا نفقهها وهذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء ما بين مكثر من الصواب ومقل، وهذا هو العلم الحق.
هذا نوع من التمهيد والتوطئة لحلقة هذا اليوم: (التقديم والتأخير في كلام العلي الكبير جل جلاله).
فأبدأ بمسألة الإنس والجن فأقول: إنها كثيراً ما تقترن في القرآن الكريم، والمتتبع لهذه الآيات يجد أن الباري عز وجل أحياناً يقدم الجن، مثل قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وفي آيات أخرى يقدم الإنس، ولا شك أن هذا التقديم والتأخير لم يكن عبثاً من الله عز وجل وإنما هو لحكمة معينة، لعلنا نستعرض هذه المواضع ونبين سبب التقديم والتأخير في كل آية؟
الشيخ: جعل الله جل وعلا الجن والإنس أمتين: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31] هاتان الأمتان ذكرتا في القرآن كثيراً، فقدمت إحداهما أحياناً والأخرى في الخطاب أحياناً، فلماذا قدم الجن حيناً وأخر الإنس، ولماذا قدم الإنس وأخر الجن؟ هذا ما سنعرض له.
بداية نقول: إن الله خلق الجن قبل الإنس، قال الله: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27] .
وعندما قال الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فتقديم الجن هنا ظاهر، لأن الله جل وعلا خلقهم قبل أن يخلق الإنس، فخاطبهم باعتبار ترتيب إيجادهم وخلقهم.
وقال الله جل وعلا في سورة الرحمن: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الرحمن:33] وقال في سورة النمل: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ [النمل:17] .
والمتتبع للقرآن والسنة يفقه أن الجن أكثر قوة من الإنس: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
حتى ما تكتنفه الضمائر: أن الإنس يرون أن الجن أقوى منهم، فلذلك وجد في الإنس من يلجأ إلى الجن ولا يوجد العكس، فهنا قدم الله جل وعلا الجن؛ لأن القضية قضية مخاطبة بالقوة، فلما أراد الله أن يخاطب في قضية النفوذ من أقطار السماوات والأرض خاطب الجن ابتداءً؛ لأنهم أقوى فقال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الرحمن:33].
ولما أراد الله أن يتكلم عن جند سليمان فهو يتكلم عن جيش، والجيش مداره الأول على القوة فقدم الجن وقال: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17] .
لكن الله لما تكلم عن البيان الذي تحدى به العرب الفصحاء وهم من الإنس، قال الله جل وعلا في الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] فقدم الله الإنس هنا؛ لأن الخطاب أحوج ما يكون إليهم؛ لأنهم مخاطبون به أصلاً فالإنس أكثر فصاحةً وبياناً فيما يظهر لنا من الجن، والمخاطب الأول في القرآن بالتحدي في هذه الآيات هم الإنس، فإن سورة الإسراء مكية وأهل مكة هم الذين كان لهم مجال واسع في الفصاحة والبلاغة كما هو معلوم.
فنلاحظ أنه لم يقدم أحد، ولم يؤخر أحد إلا لحكمة ظاهرة بينة.
أما آية في الإنعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] فهذه لم أجد فيها تعليلاً يروي الظمأ، وما دمت لم أجد فيها شيئاً يروي الظمأ فإني أتوقف عن الحديث فيها حتى يكتب الله جل وعلا أن نقف على كلام أحد قبلنا من العلماء الأفاضل، أو أن يفتح الله علينا بما شاء.
الشيخ: الله تعالى خاطب الجن والإنس بالإيمان والتكليف والعبادة، وهذا أظهرته هذه الآية: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لكن العلماء عندما يناقشون آية الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31].
الذين قالوا: إن مؤمني الجن ليس لهم مكافأة على إيمانهم إلا غفران الذنوب والإجارة من النار ولا يتجاوزونه إلى دخول الجنة، حجتهم هذه الآية، فلو سألناهم: أين الحجة في الآية؟ قالوا: إن الله ذكرهم وذكر عملهم وهو الإيمان، وذكر ما يترتب على إيمانهم: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ [الأحقاف:31]، فقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر، فعلق على الإيمان مغفرة الذنوب والإجارة من النار دون دخول الجنة، فقالوا: لو كان الله قد كتب لمؤمني الجن أن يدخلوا الجنة لأوشك أن يذكروه، هذه عبارتهم.
هذا قول وهو رأي مرجوح.
هناك أقوال يقول عنها العلماء: إنها غريبة، لكن في منهجنا العلمي أننا نذكر كل شيء ولا يعني ذكرنا لقول أننا نرتضيه أو نقطع به أو نجزم بصحته، لكن من باب الأدب مع من يستقبل كلامنا أن يعرف كل شيء، وكذلك الأدب مع قائله.
بعض العلماء يقول -وينسب هذا إلى عمر بن عبد العزيز - إنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في أرجائها وأطرافها.
وقال آخرون: يدخلون الجنة لكنهم لا يمكنون من النظر إلى بني آدم، فبنو آدم يرونهم وهم لا يروا بني آدم، على عكس ما كانوا عليه في الدنيا..
وقطع آخرون بعدم الدخول بحجة أن الجن من ذرية إبليس؛ قالوا: إن إبليس كان سبباً في خروج أبينا وأمنا من الجنة فلا تدخل ذرية إبليس الجنة.
وقال بعضهم: يدخلونها لكنهم لا يطعمون منها، إنما يلهمون التسبيح.
وقد قلت قبل أن أسرد هذه الأقوال: إنها أقوال غريبة لا يوجد ما يعضدها.
والراجح: أن مؤمني الجن يدخلون الجنة، والأدلة على ذلك ساقها الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه في تفسيره عند تفسير سورة الأحقاف، وقد أظهر قوله أموراً أهمها:
سعة اطلاعه رحمه الله، وعلو كعبه في التفسير، وتجرده من الهوى، وهذه مطالب عالية تطلب في طالب العلم، فالإنسان إذا تصدر وكان يملك آلة وقدرة على البحث مع تجرد من الهوى قل أن يخذل، بل يكون إلى التوفيق أقرب، وإذا وفق نفع العباد.
ونحن سنرد جملة من الأدلة التي ذكرها الحافظ ابن كثير بإيجاز، فمنها:
عموم قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107] وأنت لبيب تعلم أن كلمة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يندرج فيها مؤمنو الإنس ومؤمنو الجن.
وأظهر منها أن الله قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47] والآية تخاطب مؤمني الجن ومؤمني الإنس، والله قد وعد فقال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فوجه الدلالة: أنه لا يعقل أو لا يتصور أن يمن الله عليهم بفضل لن يحصلوا عليه، فإذا كان الله قد كتب أن مؤمني الجن لن يدخلوا الجنة، فأين المنة في الآية: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]؟ هذا محرر.
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجنة يبقى فيها سعة فينشئ الله لها خلقاً، فمن باب أولى أن يدخلها مؤمنو الجن، لأنهم أولى ممن ينشئهم الله جل وعلا لها، وهذا لا يعني أن الله لم ينشئ لها أحداً.
وكذلك: إذا ثبت لدينا قطعاً أن الله يعاقب كافري الجن بالنار وهو مقام عدل، فمن باب أولى أن يكافئ ويثيب مؤمني الجن بالجنة وهو مقام فضل.
ثم إن قول الله جل وعلا: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] ليس فيه دلالة على أنهم يمنعون من دخول الجنة؛ لأن الله ذكر مثل هذا عن قوم نوح: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:4] ولم يذكر فيه الجنة، ومعلوم قطعاً أن المؤمنين من قوم نوح مآلهم إلى الجنة.
هذا مجمل ما ذكره العلماء في قضية..
الشيخ: العرب أمة ذات بيان، ومن قرأ تاريخهم وأدبهم وشعرهم الذي وصل إلينا عرف ذلك وتبين له علو كعبهم في الفصاحة والبلاغة.
ولذلك تعجب ممن يطلب علماً ولا يكون له حظ من الاطلاع على ما ذكره العرب السابقون من شعر ونثر؛ لأن ذلك معين على الوصول إلى الحقائق، وبما أن القرآن والسنة عربيان والنبي عليه الصلاة والسلام أفصح من نطق بالضاد، والقرآن أنزل بلسان عربي مبين؛ فإن الإنسان إذا كان له حظ من المعرفة بلغة العرب كانت له قدرة على الوصول إليها، مثلاً يقول لبيد في معلقته التي مطلعها:
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
وهي من أمتع المعلقات وأعظمها صعوبةً، فهي تتميز بصعوبة الألفاظ وغرابتها؛ لكن فيها متعة في سلاسة الجرس الشعري:
شاقتك ظعن الحي حين تحملوا فتكنسوا قطنا تصر خيامها
زجلاً كأن نعاج توضح فوقها وظباء وجرة عطفاً آرامها
حفزت وزاولها السراب كأنها أجزاع بيشة أثلها ورضامها
بل ما تذكر من نوار وقد نأت وتقطعت أسبابها ورمامها
مرية حلت بفيد وجاورت أهل الحجاز فأين منك مرامها
كم معشر سنت لهم أقوامهم ولكل قوم سنة وإمامها
وهم العشيرة أن يبطئ حاسد أو أن يميل مع العدو لئامها
وقال عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
تكلم فيها عن مناقبه وعن فروسيته محاولاً نيل قلب من يعشقها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
ووددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
(يدعون عنتر ) عنتر بالفتح وتأتي بالضم.
يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
إلى أن قال يصور الذباب الذي له ذراعان يحك بعضهما ببعض، والعرب تقول: لم يصف أحد الذباب كما وصفه عنترة قال:
هزجاً يحك ذارعه بذراعه قدح المكب على الزناد الأجذم
غرداً: أي فرحاً بالجيف.
وهذا البيت فرت منه العرب أن تقاربه، وهذا قول النقاد، وهذا كله يدل على أن العرب كانوا أهل فصاحة، فإذا كانوا أهل فصاحة وبلغوا فيها منزلاً عظيماً، ومع ذلك تحداهم الله أن يأتوا بآية من مثل كتابه فعجزوا، فهذه قرينة لا تقبل المزايدة على أن القرآن من عند الله وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما كانوا يزعمون: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:5-6].
الشيخ: تحريرها نحوياً:
(يدعون عنتر ) أصلها: يدعون يا عنتر ، واسمه الحقيقي (عنترة ) والعرب قد تلحق بالاسم المذكر تاء التأنيث مثل: طلحة.. معاوية.. حمزة.. عنترة.
وهناك عند العرب أسلوب يسمى: الترخيم، وحذف آخر الاسم عند النداء: يا فاطم.. يا عائش.
والمنادى العلم المفرد يبنى على الضم في محل نصب، فأصل العبارة: (يدعون يا عنترة ) لكن حذفت التاء للترخيم، فإن قلنا: (يدعون عنترَ) فهو على اعتبار أن الضمة مقدرة على التاء المحذوفة، وهذه يسمونها: (لغة من ينتظر) يعني: هؤلاء على أمل أن تعود التاء بضمتها.
اللغة الثانية يسمونها اصطلاحاً: (لغة من لا ينتظر) أي: من لا ينتظر عودة التاء، فمن لا ينتظر عودة التاء أخذ الضمة التي هي علامة البناء ووضعها على الراء، فأصبحت (يدعون عنترُ والرماح كأنها).
من المعروف فقهياً أن الدين يقدم على الوصية، والمتتبع لآيات المواريث يجد أن الباري سبحانه وتعالى ينص على تقديم الوصية: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] .
قبل أن ندخل في بيان سبب هذا التقديم لعلكم تشيرون إشارة سريعة إلى أهم الحقوق المتعلقة بتركة الميت.
الشيخ: أولاً: نسأل الله لنا ولمن يشاهد حسن الختام.
ثانياً: المال أعطاه الله جل وعلا لابن آدم وموله إياه، أي: ملكه الله جل وعلا إياه، فعند موته يسلب ماله كله، ويوم القيامة يسأل العبد عن ماله كله، إلا أنه يمكن تقسيم ما يتعلق بماله حال الموت إلى أربعة أقسام:
الأول: الإنسان في الدنيا يلبس شيئاً يستر عورته ويخفي سوءته فلا سبيل لأحد بأي سبب إلى الوصول إلى ما يرتديه المرء، ولو كان لنا عليه مئات الآلاف من الأموال فلا سبيل لنا إلى أن نبيع ثيابه، لحاجته إليها.
هذه يوازيها كفن الميت وجهازه إلى قبره، فأول ما يصرف فيه مال الميت وتركته كفنه وجهازه، ولا يحق لأحد أن يطالب بشيء لا يكفي إلا للكفن وجهازه إلى قبره، فهذا يصبح مرادفاً أو موازناً للثياب في الحياة.
الأمر الثاني: إذا كان عليه دين فإن الذمة لا تبرأ إلا بقضائه، فإن كان قد أوصى بعطايا أو بقربات، فلا شك أن هذه الوصايا والقربات يريد بها زيادة أجر، ولا ريب أن تبرئة الذمة مقدمة على زيادة الأجر فلذلك لا بد أن يقدم الدين بالاتفاق، حتى تبرأ ذمته، قال عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه).
والناس اليوم يتساهلون في كل شيء، ففي أقسام المرور هناك قسائم، وكذلك قروض البنك العقاري، أو فواتير الهاتف أو الكهرباء؛ هذه كلها ديون باقية في الذمة يجب سدادها من مال الميت قبل أن توزع تركته، أو قبل أن يقتسم الناس ماله، أو قبل أن يمضى في وصيته، هذه نقطة أساسية.
الثالث: الوصية، لأنه إذا انتهينا من تبرئة الذمة ننتقل إلى درجة أعلى وهي القربات، فله ثلث المال، قال عليه الصلاة والسلام لـسعد رضي الله عنه وأرضاه: (الثلث والثلث كثير) وأبو بكر رضي الله عنه اختار الخمس، قال: رضيت ما ارتضاه لنفسه فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] فأوصى بالخمس؛ لكن الثلث كحد أقصى.
وهنا جعله الله جل وعلا له رحمة به حتى يكون سبباً في نجاته يوم القيامة، ويكون له بسببه لسان صدق، فإن الله جل وعلا ذكر أنبيائه وذكر أنهم يبحثون عن لسان صدق في الآخرين.
ومن أسباب حصول الثناء الحسن والذكر العاطر بعد الوفاة أن يكون هناك مال ينفق على من بعدنا.. ينفق على قربات.. على الفقراء.. على المساكين.. وغيرها من مجالات الخير، وقد ظهرت في بلادنا ولله الحمد جمعيات تعنى بهذا الأمر، وكلها مجال خير يسهم فيه المرء.
الرابع: وهي ما كتبه الله للوارثين، وقد قسمه الله جل وعلا في كتابه وتولى تقسيمه بنفسه.
الجواب: ينبغي التفريق بين الحالين، أن الله يتكلم عن يوم القيامة كزمن، أما كحدث فالأمر يختلف، فإن الله قال: يَوْمَ يَفِرُّ [عبس:34] وقال: يَفْتَدِي [المعارج:11] والافتداء غير الفرار.
فأما الافتداء فإن الإنسان يرجو النجاة لنفسه، فبدأ بتقديم الابن لأنه جرت عادة الناس أن الإنسان يجد عوضاً عن ابنه ولا يجد عوضاً عن أخيه، وقد قيل لرجل غاب كثيراً عن ديار أهله: قد فقدت أباك، قال: ملكت أمري، قيل له: قد فقدت زوجتك، قال: تغير فراشي، قيل له: فد فقدت ابنك، قال: يعوضني الله خيراً منه، قيل له: قد فقدت أخاك، قال: انقصم ظهري.
هذا الأول، أما الثاني: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] فيجب أن يتصور الإنسان أن يوم القيامة يوم أخذ وعطاء، فكل إنسان ينتصف من الآخر، والمقام مقام حسنات وسيئات وليس مقام درهم ودينار، وقد حرر كثيراً في دروسي أن الناس تشكو من الإنسان الذي تتعامل معه كثيراً، لأنك عرضة لأن تظلمه أكثر من غيره، أما الذي هو بعيد عنك فلا وجه لك لأن تظلمه لعدم الاتصال بينكما، فالإنسان عندما يظلم في الدنيا فإن ظلمه لأخيه أكثر من ظلمه لأمه وأبيه، وظلمه لأمه وأبيه أكثر من ظلمه لزوجته وأبنائه، وأن الإنسان يقدم في حياته الدنيا زوجته وأولاده، ثم إذا فاض شيء أعطاه لأمه وأبيه، ثم إذا فاض لأخيه، فإذا أراد التقصير قصر مع أخيه، فيحصل هذا التقصير الكائن منه مع أخيه وأبيه وأمه وزوجته وبنيه، فإذا جاء يوم القيامة وقد حصل منه تقصير فإنه لا يريد أن يراهم؛ لأنهم سيطالبونه عوض هذا التقصير حسنات، وهو يومئذ ظنين بحسناته لا يريد أن يعطيها أحداً، فقال الله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].
يقول: والحق كما هو ظاهر أن مراعاة النظم والسجع لوحدها فقط يسوغ فيها التقديم والتأخير إذا كان في كلام البشر من الشعراء والخطباء، أما في كلام فاطر الأرض والسماء فلا ينفك البعد والجمال المعنوي عن الجمال اللفظي بحال من الأحوال، فما تعليقكم؟
الجواب: هذا كلام صحيح، وهذا الكلام حرره العلماء من قبل فهي مسألة شهيرة، ونأتي لها بمثال:
من أدلتهم على هذا: أن الله قال: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:120-122] فالله قدم موسى، وقال في طه: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70] فقدم هارون.
والسائل يقصد من قوله هذا العتب على بعض العلماء الذين قالوا: إن الله قدم هارون في آية طه للسجع وأخره في الشعراء للسجع، فهذا غير صحيح.
الشيخ: من المعلوم أن الوصية تكتب وقد لا يدري بها أحد إلا اثنان أو ثلاثة، أما الدين فله أصحاب، فعندما يسمع من أقرض مالاً بموت صاحبه أتى يطالب بحقه، فقدم الله الوصية؛ لأن الغالب أنه لا يوجد لها مطالب وأخر الله الدين رغم أنه أولى؛ لأن له مطالبين، فما دام له مطالبون أخره الله وقدم الله ما حقه الرعاية والاهتمام وهو الوصية.
هذا السبب الذي ذكره العلماء رحمهم الله في تقديم الوصية على الدين في كلام الله، مع اتفاقهم على أنه حال الإنجاز يقدم سداد الدين على إنفاذ الوصية.
الجواب: الله جل وعلا رب كل شيء ومليكه، وقد ذكر الله جل وعلا في القرآن المشرق والمغرب على ثلاثة أوجه: مفردةً ومثناة وجمعاً، قال في الرحمن: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]، وقال جل وعلا في المعارج: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40] وقال جل وعلا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] وقال كذلك: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:9].
فأفردها جل وعلا حال ذكر التوحيد، وثناها لما خاطب الثقلين، وجمعها لما تكلم عن الناس مجتمعين: فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:36-40] .
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17] أظهر الأقوال أن لها مشرقاً -من حيث الجملة- في الصيف ومشرقاً في الشتاء، ومغرباً في الصيف ومغرباً في الشتاء، فذكر الله حال إشراقها وغروبها في فصلي الصيف والشتاء، والعلم عند الله.
الجواب: هنا قضية مهمة، وأنا لا أريد أن أصطدم مع من يقولون بالإعجاز العلمي، فهم علماء أفذاذ لكن هناك نقطة أساسية:
الله جل وعلا لا يحيل على مجهول في الغالب يعني: في الغالب لا بد أن تفهم الآية، مثلاً: الله يقول: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] أتى بعض الفضلاء وأخذ يتكلم عن بدن الإنسان، من عدد المفاصل.. عدد الأعضاء.. عدد كريات الدم، وهذا حق موجود لكن لا ينبغي توجيه الآية في أول الأمر إلى ذلك، بسبب أن العرب المخاطبين بهذا القرآن أولاً لم يكن لهم علم بهذا كله، بل إن الأمم كلها مكثت قروناً لا تدري بذلك.
قد يأتي إنسان فيقول: القرآن مخاطب به كل شيء، فأقول: نعم، مخاطب به كل شيء، لكن المخاطب الأول هم الجيل الأول على حسب فهمهم وإلا لم تقم عليهم الحجة بقوله: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
لكن قوله: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] المعنى الحقيقي للآية: أنه يعتري الإنسان نفسه كثير من التقلبات في الآراء والفرح والحزن والمسرة والصحة والمرض، مما يجعله يتفكر أن هناك رباً يدبر هذا كله.
وقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] العرب ليس لها إلا هذا الجرم الواقف أمامها، ولا تدري ما بداخل الإبل؛ لكن التفكر في أنها كيف خلقت؟ هنا الخلق التسخير، فيأتي الصبي الصغير يقود هذا المخلوق العظيم في هيئته حيث شاء.
قوله: وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:18] ذكر السائل ما يقوله العلماء؛ لكن لاشك أنه حتى الذين يقولون إنها سوداء فإن كل الناس تعلم أن هناك جرماً فوقنا، وأن هذا الجرم مغلق، يقول الله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32] ولو لم يكن هناك جرم ثابت ينظر إليه لكان لا بد من النظر إلى ما بعده مثل العرش، وهذا لا سبيل له؛ لأن السماء لها أبواب ولها سقف.
والقضية الأساسية في النظر إلى السماء ليست قضية ألوانها ولا غيرها، وإنما النظر إلى فعها من غير عمد.
الشيخ: أعظم الوصايا تقوى الله، فوالله ما أوصى أحد أحداً ولا محب محباً بأعظم من تقوى الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] أعظم الوصايا التقوى والثبات على الملة.
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:132-133].
فما أوصى أحد أحداً بأعظم من الثبات على الدين وعلى تقوى الله جل وعلا.
فإذا انتقلنا إلى وصاياه صلى الله عليه وسلم فإن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وبركعتي الضحى، وأن يوتر قبل أن ينام.
وركعتا الضحى اختلف العلماء فيها ما بين قائل بالمداومة عليها، وقائل بأن تفعل غباً.
وأظهر الأقوال عندي ما اختاره ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه ورجحه في بهجة قلوب الأبرار قال: إن الإنسان إذا كان له حظ كثير من صلاة الليل يفعل صلاة الضحى غباً، وإن لم يكن له حظ من قيام الليل كثير فليداوم عليها، وأقلها ركعتان، وأكثرها على ما رجحه الشيخ رحمه الله ثمان ركعات.
أما الوتر فهو من السنة المؤكدة التي حافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً، هذه وصايا دينية.
الشيخ: يقول الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وقد أجاب الزركشي رحمه الله عن هذا التساؤل فقال: إن الذي ينسخ حكماً ويبقى تلاوةً، إنما أبقاه الله تلاوةً لأسباب، وذكر منها غفر الله له ورحمه:
الأول: التعبد به؛ فإن القرآن سواءً كان منسوخاً حكماً أو غير منسوخ حكماً هو كلام الله، وكفى شرفاً بالمؤمن أن يقرأ كلام الله جل وعلا بصرف النظر عن كون هذا الحكم نسخ أو لم ينسخ، فهو يتعبد بتلاوته. هذا الوجه الأول وهو أقواها.
والوجه الثاني: أنه يظهر المنة من الله جل وعلا على عباده؛ لأن النسخ إنما يكون في الغالب إلى الأفضل، فيظهر الفرق بين الحالين، بين كونهم يصلون وهم قريبو عهد بخمر وكونهم يصلون وهم لا يشربون الخمر أصلاً، فينظرون إلى فضل الله جل وعلا ورحمته.
الجواب: سيد قطب رحمة الله تعالى عليه رجل يملك قلماً أدبياً قبل أن يملك علماً شرعياً، ولا يعني ذلك أنه ليس عنده علم شرعي، فبحسب الناظر في الكتاب، فإن كان أراد أن ينظر في الأسلوب ورقته وتفتق الكلمات فالحق أن الرجل أوتي حظاً عظيماً في هذا.
أما قضية سيد رحمة الله تعالى عليه في كتابه جاهلية القرن العشرين، وهذه النظرية لا يوافق عليها، وتضرر الناس بسببها كثيراً، فإذا كان الإنسان طالب علم يميز هذا من ذاك فلا بأس أن يقرأ في ظلال القرآن لـسيد غفر الله له ورحمه، ورحم أموات المسلمين جميعاً.
الجواب: العلماء لهم في هذه المسألة ثمانية أقوال وأكثرها فيها ضعف، وأرجحها عندي والعلم عند الله أن قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) تعليق للأمر بالمشيئة، والمقصود منه بيان عظيم القدرة الإلهية، كما يقول الله: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29] ومعلوم أن الله جل وعلا قادر على جمعهم وقد حكم بجمعهم، فـ(إذا يشاء) إنما هي لبيان القدرة، وكذلك قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) لبيان أن الله جل وعلا هو المتصرف المالك العظيم، لا أن أهل النار يخرجون منها، ولا أن أهل الجنة يخرجون منها.
الشيخ: من الوصايا السياسية قالوا: إن عبد الملك بن مروان لما أوصى ابنه الوليد قال: يا بني! من قال برأسه هكذا -يعني: قال لك: لا، في الحكم- فقل بسيفك هكذا.
وهذا لأن المرحلة الزمنية للوليد كانت تستوجب هذا.
يذكر أحد العرب أنه أتى برماح متفرقة وأعطاها بنيه قبل أن يموت وقال:
فكونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا
الشيخ: أبدأ بقصة تاريخية غريبة: كان محمد بن سيرين رحمة الله تعالى عليه أحد أعلام التابعين، وكان يعبر الرؤى، وذات يوم أتاه رجل فقال: رأيت رجلاً مكشوف الساق وقد نبت الشعر في ساقه، فما تأويلها؟
قال رحمه الله: هذا رجل يركبه دين فيسجن فيموت في سجنه.
قال الرجل الذي يسأل: رأيتها فيك، فوقع ما عبره على نفسه، فركبه دين رحمه الله وسجن ومات في السجن، وفي فترة سجنه مات أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، فأوصى أن يغسله محمد بن سيرين ، فأخرج من سجنه مؤقتاً للتغسيل والتكفين والصلاة على أنس ، ثم عاد إلى سجنه، وتحقق تأويله فمات في سجنه.
قد يقول إنسان: ما علاقة ساق مكشوفة بالدين؟ والجواب: أن كشف الساق كناية عن الكرب في أحد أوجه التفسير في قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42].
ثم أقول: القرض يكون إلى مدة معينة، فكان العرب إذا جاء الأجل ولم يجد المقترض شيئاً يسد به، قال له المقرض: إما أن تقضي وإما أن تربي، أي: أؤخر في الأجل وأزيد في المال، وهذا عين الربا الذي حرمه الله بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وأبدل الله جل وعلا المجتمع المسلم بقوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فيجب إنظار المعسر.
ثم قال الله: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] والتصدق: أن تتنازل بالكلية، وهو مندوب.
وهذه إحدى حالتين في الشرع الندب أفضل فيها من الواجب، والحالة الثانية رد السلام، فإن الابتداء به مندوب إليه، والرد: واجب، لكن المبتدئ بالسلام أفضل من حيث الجملة.
النبي صلى الله عليه وسلم بين فضيلة من يقرض الناس ثم يتنازل، أو بتعبير أصح: من أعفى معسراً، يقول عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، حتى أتينا أبا اليسر -وهو صحابي اسمه كعب بن عمرو - فمن جملة ما تذاكروه مسألة الدين، فقال أبو اليسر رضي الله عنه وأرضاه وقد أسن يومئذ قال: فإني أبصرت عيناي وأشار إلى عينيه، وسمعت أذناي وأشار إلى أذنيه، ووعى قلبي وأشار إلى مناط قلبه، النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله تحت ظله).
هذا باب رحمة واسع جداً، فكثير من الناس قد لا يكون له حظ من العبادة من قيام ليل ومن صيام وحضور محاضرات، ويكون ذا مال، والإنسان الذي عنده مال يجلس الساعات حتى يحافظ عليه، فيدير تجارته ويقيم أموره، فتأتي هذه الأبواب رحمة من الله لهم في أن تقربهم من الله فيدركوا ما أدركه الذاكرون والقانتون والصائمون.
الشيخ: أما التصدير فإن الله أراد قبل أن يبين لخلقه أنه يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور: أن ملكه جل وعلا أعظم من ذلك، بل إن كل شيء تحت تصرفه وملكه تبارك وتعالى، وما إيتاء الإناث أو الذكور، أو تزويج الذكران والإناث أو جعل من يشاء عقيماً إلا واحدة من عظيم ملكه وجليل قدرته تبارك وتعالى، وتقديم الجار والمجرور فيه دلالة على الحصر: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:49].
ثم قال: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الشورى:49] ووالله إن الوصول إلى نيل رحمة الله إنما ينطلق أولاً من الإيمان بعظمة الله تبارك وتعالى.
قال الله: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49] هذا موضع السؤال، نحن متفقون من حيث الجملة على أن الذكر أفضل من الأنثى، وأن لكل منهما خصائص: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] والله يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ..) وعد، لكن هذا لا يعني بخسهن حقوقهن، بل يوجد نساء أفضل من الرجال، كما قال المتنبي :
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
الذي يعنينا: أن قدم الله الإناث للوصية بهن، وللاستئناس بهن، ولإظهار التيمن بهن، قال بعض العلماء: إن المرأة إذا كان بكرها أنثى دل ذلك على يمنها، ولا يعني ذلك أنه إذا كان أول مولود لها ذكراً أنه يكون شؤماً؛ لأن إثبات اليمن لأحد لا يعني نفيه عن الآخرين.
نأتي بمثال من الفقه: النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اجعلوا آخر صلاتكم وتراً) ولم يقل: لا تصلوا بعد الوتر، فلو جاء إنسان وأراد أن يقوم الليل ولكنه خاف أن ينام فصلى وأوتر ثم نام، ثم قام من الليل وأراد أن يصلي فلا نقول له: لا تصلي؛ لكن نقول له: لا توتر، فهناك فرق بين قولنا: (اجعلوا آخر صلاتكم وتراً) وقولنا: لا تصلوا بعد الوتر.
ومثله عندما نقول: إن المرأة يدل على يمنها أن يكون أول مولود لها أنثى، ولا يعني هذا أن من كان لها أول مولود ذكراً أنها شؤم؛ لكن الأول ثابت بظاهر القرآن.
والإناث حجاب من النار، يقولون: رجل حملت امرأته ست مرات في كل حمل لها تضع أنثى، فلما حملت السابع هددها وتوعدها إن كان الحمل أنثى، أشرفت المرأة على أن تضع نام فرأى فيما يرى النائم أنه يساق إلى جهنم وجهنم لها سبعة أبواب، فلما ساقته الملائكة إلى الباب الأول وجد ابنته الأولى تصد الملائكة أن يدخلوه النار، وهكذا في الباب الثاني والثالث والرابع والخامس حتى أتي به إلى السادس فوجد ابنته تصد، فأتي به إلى الباب السابع فقام فزعاً وهو يقول: اللهم اجعله أنثى، اللهم اجعله أنثى!
يقول الله: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123] مناط الدين إذا فهم الإنسان أن الله له غيب السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، فأقام التوحيد والفرائض على الوجه الأكمل، وأوكل أمره إلى الله، والإنسان لا يدري أين الخير:
وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
إنما يميز بين من يعرف الله حقاً ومن لا يعرف الله حقاً عند حصول النعمة أو الابتلاء، فالأول إذا حصلت النعمة يتلقاها بقبول وهو يعلم أن هذه النعمة ليس له فيها حول ولا طول ولا قوة، وأنها رحمة من الله له فيسأل الله الشكر، رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل:19] وإذا حصل الابتلاء فيما تكرهه النفس فإنه يرضى ويعلم أن رحمة الله به أكبر، ويصبر ويحاول أن يرتقي إلى مسألة الرضا ويظهر لله جل وعلا ما يحب، ويعلم أن الخير كله بيد الله جل وعلا والشر ليس إليه.
الشيخ: نعم، هي منطوية مندرجة تحت هذا، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [هود:123] الله أعلم بما يصلحك، والله أعلم بما ينفعك، والله أعلم بما تصل به إليه:
فاستقدر الله خيراً وارضين به فبينما العسر إذ دارت مياسير
هذا لا يعني أن لا يأخذ الإنسان بالأسباب، لكن هو يخطو إليها راضياً بقضاء الله وقدره مسلماً أمره إلى الله، عالماً أن ما عند الله جل وعلا من الخير أعظم مما يطلبه، وهو يجهل أين موطن الخير، وربما كان حتفه فيما تمناه، لكن الإنسان يسلم أمره إلى الله ويأخذ بالأسباب المشروعة، وكلما كان القلب راضياً عن الله كان أقرب إلى أن ينال رضوان الله.
فالله جل وعلا ذكر أخباراً من الصالحين من أنبيائه ورسله أنهم كانوا راضين كل الرضا عن الله سواء الذين أعطوا والذين منعوا، والذين نجوا والذين ماتوا، فحياة السعادة في الرضا عن الله جل وعلا وعلى أمره وقدره.
الشيخ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكرمهن إلا كريم، ولا يهينهن إلا لئيم) والرجل لا تظهر رجولته حقاً إلا إذا تعامل مع أنثى، فإذا تعامل مع أنثى في قضية أنها مخلوق ضعيف، فإذا كان ذئباً بشرياً يجعل من منصبه أو قدرته أو ماله سبيلاً للسيطرة عليها، أو استدراجها إلى ما حرم الله، أو حتى إذا كانت زوجة يضطهدها، أو كانت أختاً يمنعها حقها، أو أماً يعقها، فهذا يدل على نقص الرجولة كثيراً عنده؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إنهن عوان عندكم) ووصى صلى الله عليه وسلم بهن فقال: (النساء وما ملكت أيمانكم)، فأوصى صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليهن؛ لأن هذا الأمر يظهر رجولة الرجل.
الرجل العظيم حقاً في نفسه لا يبحث عن عظمته عند الضعفاء، وإنما يحسن إليهم؛ لأن الإنسان إذا اضطهد من دونه كأنه يقول: أنا لا أجد أحداً أقدر عليه إلا هذا الضعيف، فهو يظهر نقصه وعجزه، والمرأة ضعيفة، فالإحسان إليها أمر محمود يدل على حسن المعدن وكرامة الأصل وسلامة المنبت.
والإنسان يتقي فيها إن كانت زوجة أن يؤتيها حقوقها مع إكرامها، خاصة أمام بنيها وبناتها، وأن لا يهينها أمامهم، وإن كان ثمة شيء يكون بينه وبينها، ويكرمها أعظم إكرام إن كانت أماً، ولا يكرم أحداً من الخلق أعظم من أمه، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير حي حتى يكرم إكراماً حسياً.
ثم إكرامها إن كانت خالة أو عمة، أو إحدى محارمه، بأن يتقي الله جل وعلا فيها ويبرها، ويكرمها إن كانت جارة، ويكرمها إن كانت مؤمنة فلا يرضى لها إلا ما يرضاه لنفسه الرضا الشرعي.
وهذه منازل يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً.
الشيخ: الآية تدل على أن الله جل وعلا خالق الأفعال وأسبابها، وهي انتصار لمذهب أهل السنة في أن الله جل وعلا خالق الأفعال وأسبابها، وأنه لا يقع شيء إلا والله جل وعلا قد علمه وكتبه وأراده جل وعلا، فتجري عليه أحكام القدر الأربعة، هذا ما تدل عليه الآية عموماً، فهي مسوقة في الثناء والمدح للذات العلية تبارك وتعالى.
وأما تقديم الضحك على البكاء، فذلك لأن الضحك سببه السرور والفرح، وهو مقدم هنا لأنه نوع من الاستئناس، والبكاء غالباً يكون موضع حزن.
والموت ربما قدمه الله لإظهار القهر على بني آدم، كما قدمه في قوله: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2] هذا قول.
وقول آخر: أن الأصل هو الموت، فالناس أصلاً لم يكونوا شيئاً، قال الله في أول الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1].
وفرحة العيد بعض الناس قد يتجاوز فيها، فلعلنا نبين الضوابط الشرعية في ذلك؟
الشيخ: دين الله ما بين الجافي عنه والمغالي فيه، نظر صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس تقوىً وورعاً إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم في مسجده، فقال: (دونكم يا بني أرفدة! حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة، إنما بعثت بحنيفية سمحة) هذه أيام عيد يغض فيها ما لا يغض في غيرها، فيترك للناس فرحتهم من حيث الإجمال، لكن لا ينبغي للناس أن يفرحوا فرحاً غير شرعي يكون فيه الاختلاط المحرم، أو جني الآثام أو مطالب غير محمودة؛ هذا كله محرم.
العيد ينبغي أن يظهر على الناس الفرحة، وأحياناً يقع من بعض الناس اجتهاد في أمور قد لا يحسن فعلها في أيام العيد، ولا حاجة للتنصيص، لكن ينبغي أن يعرف الإنسان أنه ما سمي عيداً إلا ليظهر الإنسان فيه فرحته وبهجته.
ونذكر بعض المواطن التي فرح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما فرح أحد أعظم من نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] سجل التاريخ مواطن فرح النبي صلى الله عليه وسلم منها:
قدوم جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هاجر إلى الحبشة، وكان الرسول يحبه حباً جماً والتقى بالنبي صلى الله عليه وسلم أثناء عودته من الحبشة في خيبر، عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
ذكر أصحاب السير أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا أدري بأيهما أنا أسر بقدوم
ومن فرحك الله به يحزنك به إذا أمد في العمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرح بقدوم جعفر ثم لم يلبث أن حزن على وفاة جعفر ، وعلى قدر فرحه بقدوم جعفر كان حزنه على وفاة جعفر ، فقدوم جعفر كان فرحاً، والغائب إذا كان محبوباً تبقى له وحشة وفرحة للقاء لا تعدلها فرحة، يقول ابن زريق :
أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزغار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الوداع ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه
المقصود: أن لقاء الغائب أمر محمود، فكان جعفر غائباً مدة طويلة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمه وقريبه، وأحد المؤمنين به من أنصاره، فلما رآه التزمه صلى الله عليه وسلم وأظهر فرحه.
من مواطن فرح الإنسان أن الإنسان يشعر بنوع من التأييد، وهذا أمر يحتاجه كل أحد ولو كان نبياً، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بخبر الدجال ، ثم لم يلبث مدة حتى جاء تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وأرضاه من أهل الشام وكان نصرانياً فلما قدم المدينة بايع وأسلم وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه من خبر الدجال ، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غنىً أن يشهد له أحد من الخلق.
وكان هناك صلاة، فصلى الناس فارتقى صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: (ليلزمن كل أحد منكم مصلاه) ثم جلس على أعواد منبره وهو يضحك صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: (أيها الناس! ما جمعتكم لرهبة ولا لرغبة، ولكن
ثم حدثهم حديث الدجال كما قصه عليه تميم ، وهذا عند أهل الحديث من رواية الفاضل عن المفضول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من تميم قطعاً، وهو هنا يروي عن تميم ، فأخبر عن تميم ثم قال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (ألم أكن قد أخبرتكم بهذا؟ قالوا: بلى، قال: فأعجبني أن وافق حديثه حديثي) .
فالمقصود من هذا: أن الإنسان يشعر بالفرح إذا أيد، فلا نبخل على من حولنا بكلمة تشجيع، ولا بكلمة تأييد، ولا بكلمة نصرة، فنفرق ما بين الرياء وغير الرياء، أحياناً نصلي نحن وراء أئمة حسنة أصواتهم فنحاول قدر الإمكان أن نبعث لهم رسالة: أن الله جل وعلا من علينا بالخشوع وراءكم والإعجاب بأصواتكم، فهذه تبعث فيهم نوعاً من التأييد، وهذا فضل من الله جل وعلا ورحمة.
القصة المشهورة أنه نظر إلى أصحابه وهم يصلون خلف أبي بكر فقرت عينه، واطمأنت نفسه، وتهلل وجهه، المؤمن الحق المنصف يحب اجتماع الكلمة.. يحب وحدة الصف.. ناصحاً لولاة أمره.. لا يريد أن يشق عصا طاعة عليهم، ويعلم أن الصلاة أعظم العبادات وأشرف الفرائض بعد التوحيد، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة قد اجتمعت خلف رجل واحد تصلي بصلاته ويأتموا به قرت عينه واطمأنت نفسه، فهذا من مواطن فرحه صلوات الله وسلامه عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر