وتشربت الأمة بمعاني العقيدة، فكان المجتمع المثالي الذي لا يتكرر، ولم تتمكن الفرقة بين أبناء الأمة؛ إذ أنه كلما طرأت عواملها، أرسل الله من يعيد الأمة إلى رشدها.
ولقد تضمن الحديث هنا إضافة إلى ذلك بعض المميزات لهذه البلاد (الجزيرة العربية) والتحذير من الوشايات التي تبث ضدها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الأمين، الذي أنار الله به الطريق للسالكين، فأعلى منار الحق للقاصدين، وأبان السبيل بناصف الحجج وواضح البراهين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي جماع الخيرات، وسبب البركات، ومصدر الرحمات، ونور الظلمات، وسبيل علو الدرجات، والأمانِ من الدركات، وتكفير الذنوب والسيئات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
إخوة الإسلام: لقد اقتضت حكمة الحكيم الخبير سبحانه، وهو الرحيم اللطيف بعباده، ألا يخلو زمانٌ من الأزمنة من قائمٍ لله بحجته، مستمسكٍ بدينه وشرعتهِ منافحٍ عن منهاجه وسنتهِ، مدافعٍ عن عقيدته وملتهِ، فأنزل كتبه، وأرسل رسله: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] ، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وليس بخافٍ على كل ذي لب ما كان عليه أهل الجاهلية قبل البعثة المحمدية من شركٍ ووثنية، وشقاءٍ وانحطاطٍ ووحشية، وفرقة وشتاتٍ وظلمٍ وهمجية، فبعث الله فيهم خاتم أنبيائه وأفضل رسله، هادياً ومبشراً ونذيراً: وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:46] ففتح الله على يديه الفتح المبين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ،ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى حتى دانت الجزيرة بدين الحق، وخفقت راية التوحيد على كثيرٍ من أرجاء المعمورة.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون } فلم يخل قرنٌ من القرون مع كثرة الفتن وغلبة الإعراض والمحن من وجود أئمة مهديين، وعلماء ربانيين، ودعاة مصلحين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، إمامة ودعوة، تعليماً وإصلاحاً، قدوة وجهاداً ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويذبون عن شريعة رب العالمين، وسنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وسنده جيد ورجاله ثقات: {إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها } فلم يزل سبحانه وتعالى تفضلاً منه ومنة يوفق لإقامة عقيدة التوحيد، ويمكن لشريعة الإسلام، مع أن عوامل الضعف ما برحت، ونقم الكيد للإسلام وأهله ما فتئت تصيب الأمة بالوهن والأدواء، في عددٍ من أعضاء جسدها المثخن بالجراح.
وإذا كان العالم اليوم بساسته ومفكريه ومثقفيه ومنظريه، يرقب بحذر كيفية الدخول والتعامل مع القرن الحادي والعشرين، فإننا نقول بهاماتٍ مرتفعة، وأصواتٍ مدوية: إن سلاح العقيدة والإيمان هو السلاح الفاعل في كل العصور والأزمان معاشر المسلمين، لقد شهدت الجزيرة العربية أحقاباً عجافاً، وأتى عليها حينٌ من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، إلا بالظلم والنهب، والجهل والسلب وشيوع القتل والفوضى، وكانت مسرحاً للجرائم، ومثلاً في إنعدام الأمن وكثرة المخاوف.
ضج الحجيج وضج البيت والحرم واستصرخت ربها في مكة الأمم |
حين انفرط عقدها وذهبت ريحها وتسلط عليها أعداؤها، ولم تزل في هذا الوضع المتردي حتى قيظ الله لها أئمة الدعوة الإصلاحية المباركة، في زمنٍ كثر فيه الجهل والخوف وعم، وعظم فيه التخلف والإطراب وطم، ووهت صلة الناس بعقيدتهم، وانعدم توثقهم بشريعتهم، فأجرى الله على أيديهم من الخير للبلاد والعباد ما يشهد به العقلاء المنصفون، ويشكك بها المغرضون الحاقدون، وأعليت راية التوحيد ووئدت الخرافة، وأبطل التنديد، فتحاً من المجيد، وتيسيراً من العزيز الحميد، حتى قرت عيون الموحدين؛ بانتشار نور العلم، وتبددت سحب الجهالة، وتحقيق الوحدة والأخوة، وتأمين السبل وشيوع الأمن، واطمئنان ركاب السفينة إلى من يقودها بمهارة، وسط الأمواج الهائجة، إلى بر الأمان وشاطئ السلامة والنجاة، وهذا من مقتضيات الإمامة والولاية في هذا الدين.
يقول أبو المعالي الجويني الشافعي: والإمامة متضمنها حفظ الحوزة والذب عن البيضة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، وتشييد مباني الرشاد، وحسم معاني الغي والفساد؛ فتنتظم أمور الدين والدنيا، والغرض الأعظم منها جمع شتات الرأي، فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فلا ينتظم تدبير ولا يستتب من إيالة الملك قليلٌ ولا كثير.
إخوة الإيمان: لقد شاء الله لهذه الجزيرة اصطفاءً واختياراً؛ فجعلها منطلقاً للرسالة الإسلامية الخالدة، ومتنزلاً لوحيه، ومهداً لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومكاناً لحرمه ومسجد رسوله عليه الصلاة والسلام، وقبلة لعباده ومهوى لأفئدتهم، ومحلاً لأداء مناسكهم، ومأرزاً لإيمانهم، فأمنه أمن جميع البلاد، ونور إيمانها ساطعٌ بحمد الله في الأسطاع والوهاد، وهي مأوى كل مضطهدٍ في دينه من سائر العباد.
كانت جزيرتنا بالأمس عارية واليوم قد لبست أثوابها القشبا |
لقد كان فيها من الهرج ما يبكي العيون.
كانت ممزقة الأطراف مرهقة فالخد منعفر والركن مهدودُ |
فأصبحت بعد ضم الشمل شامخة حين استتب لها بعثٌ وتجديدُ |
فتمثلت الجزيرة بعد الدعوة الإصلاحية نسيجاً وحدوياً يقل نظيره، نجدها وحجازها ، جنوبها والشمال، في نظام متحد، بعدما أدى الشقاق في الأمة إلى ضمور معاني الوحدة فيها، فكانت كثير من الكيانات تعاني الفرقة في أقسى معانيها، في انقساماتٍ عصبية، ومشاحناتٍ إقليمية.
إن كل أمة تعتنق عقيدة التوحيد، وتلتزم شريعة الله لا يحق لها أن تجعل لأسباب الفرقة طريقاً إلى وحدتها، لكي تنطلق إلى آفاق البناء، وتستشرف آمال المستقبل، على خطىً ثابتة توحداً وتوحيداً: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] ولقد كانت نتيجة ذلك وآثاره أمناً وارف الظلال بحمد الله في عالمٍ ضرب الخوف فيه أطنابه، ولم يعد أحدٌ آمناً على نفسه وماله وعرضه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
أما بعــد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله جل وعلا، فإنها العدة في الشدة والرخاء، والذخيرة في السراء والضراء.
عباد الله: ومع كل ما حبى الله مهد الإسلام ومئرز الإيمان من المزايا والخصائص؛ فإن المتقرر لدى النصفة أن الكمال لله وحده، وأن العصمة ليست لأحدٍ من خلقه سوى أنبيائه ورسله فيما يبلغون من شرعه، ومن رام الكمال فقد رام مستحيلاً، والموفق الملهم من سخر في الخير مفتاحاً، وللشر مغلاقاً، بالمعروف أماراً، وعن المنكر نهاءً، على ضوء الكتاب والسنة، وفي ضوء الأساليب الشرعية.
ولقد دأب الخصوم على رفع عقيرتهم عند تجدد كل نعمة، وتبدد كل نقمة، فبث الدعايات المغرضة، والوشايات الكاذبة، ضد هذه الجزيرة ودعوتها الإصلاحية، فدعوها مذهباً خامساً، وخروجاً عما كان عليه المسلمون الأوائل، بدعوى الوهابية أو غيرها، وتلك شنشنة يرددها من يهذي بما لا يدري، ويهرف بما لا يعرف، ممن أرخى لنفسه الزمام جهلاً أو إعراضا، دون روية وتثبت، واطلاعٍ ونظرٍ، وشأن المسلم الحصيف الواعي أن ينظر بميزانٍ النقل الصحيح والعقل الصريح، ولا يقيم وزناً للشائعات المغرضة، والوشايات الكاذبة.
كما أن علينا جميعاً الحذر من كل دعوة تخالف ثوابتنا، ومنهجنا الصحيح، وإن تزينت ببهرج القول تطويراً، وتنميق الأساليب تنويراً، فالله الله في الثبات على عقيدتنا وديننا! لا إشادة بأمجاد الماضي فحسب، وإنما استمساكاً وعزمات، وعملٌ وجدٌ وثبات ، ومثابرات للنهوض والشموخ لبناء صرحٍ لا كالصروح، وحضارة لا كالحضارات، في عالمٍ يموج بالمتغيرات والتحديات، فيبني الأحفاد كما بنى الأجداد، ويفعلون مثلما فعلوا، وكان الله للمخلصين لدينهم وأمتهم ومجتمعهم معيناً ونصيراً إنه نعم المولى ونعم النصير.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، خير الورى طرى، وأتقاهم لربه جهراً وسراً، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وبكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم أنصاراً لدينك حماة لشرعك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق إمامنا لما تحبه وترضاه، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم وعجل بنصرهم يا قوي يا عزيز، اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين، والصرب الظالمين، والوثنيين الحاقدين، وسائر الطغاة والملحدين والمفسدين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كشمير وفي كوسوفا وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انصرهم يا قوي يا عزيز.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه المؤمنون المتقون، ويذل فيه المجرمون المنحرفون، يا ذا الجلال والإكرام: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبنا فضلك، يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر