أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الفلق.
وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ [الفلق:1] أي: يا رسولنا، هذا تعليم الله تعالى لرسوله والمؤمنين، ونحن أتباعه.
قُلْ أَعُوذُ [الفلق:1] علمه كيف يستعيذ بالله من أربعة شرور .. أربع عظائم لا يدفعها إلا الله.
إذاً: أمامنا هذه الشرور الأربعة لا طاقة لنا بدفعها ولا بالوقاية منها إلا أن نلوذ بجناب الله تعالى، وهو الذي علمنا ذلك فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1].
من فالق الحب والنوى؟ الله.
الحبة .. حبة البر أو العدسة في التراب من يفلقها ويشقها ويخرج منها السنبلة؟ أنا أو أمي أو أمريكا؟ الله.
لمّا الظلام يعتم ويغطي الجو من يفلقه ويخرج النور؟ الله. ولو تجتمع البشرية كلها على أن تفلق الليل وتخرج النهار والله ما تستطيع.
إذاً: من فالق الحب والنوى؟ الله.
من فالق الصبح؟ الله فَالِقُ الإِصْبَاحِ [الأنعام:96].
إذاً: هذا مظهر من مظاهر العظمة الإلهية.
قلت لكم: العالم بأكمله لا يستطيع، والله وحده يقدر على أن يفلق الظلام ويخرج النور، فلماذا لا يحب؟ لماذا لا يخاف؟ لماذا لا يطاع؟ لماذا لا يعظم؟!
يا ويل البشرية! قد يعظمون ممثلاً أو لاعب كرة فيقدسونه.. والله العظيم الذي لا أعظم منه .. الذي يفلق صفحة الظلام ويخرج النور بكامله لا يعرفون عنه ولا يسألون.
من فلق لكم الصبح يا عباد الله؟ سيقولون: اسكت.. اسكت! لأنا إذا قلنا: الله، قلتم: صلوا، ونحن لا نريد أن نصلي. لا حول ولا قوة إلا بالله.
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ [الفلق:1] أي: مالكي وخالقي وسيدي الْفَلَقِ [الفلق:1]، تستعيذ به من أي شيء؟ من أربعة أمور.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] الله، ولم يقل: من شر ما خلقه وما ينبغي، وليس من الأدب.
من خلق الخير والشر؟ الله. من خلق الأفعى والعقرب؟ الله. من جعل القنبلة تنفجر؟ الله.
إذاً: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] كل شر في مخلوق تحصن واستعذ بالله منه: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]. هذا أولاً.
إذاً: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] أي: الظلام إذا أقبل؛ لأننا في الضوء، في النور، في الضياء نرى الأفعى .. نرى الثعبان.. نرى اللص .. نرى الذئب، لكن إذا هجم الظلام ودخل الليل فهنا مجال اللص من بني آدم.. للحية .. للذئب .. للأفعى، كلها تخرج في الظلام، فهو مجال ومسرح لها؛ لأنها في النهار تخاف منا وفي الليل تخرج.
إذاً: واستعذ بالله من الظلام إذا دخل، كذلك إذا كنا في نور القمر، ونور القمر مع وجود انعدام السحاب كأنك في النهار، وخاصة في البراري والصحارى، فإذا غاب القمر يحدث ظلام كذلك.
إذاً: قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] الليل إذا دخل، والقمر إذا احتجب فيحل الظلام.
فنعوذ بالله من شر ما يوجد من الشرور في الظلام بسبب الليل أو بسبب غياب القمر ولا أقول: خسوفه، بل غروبه .. يغرب القمر كما تغرب الشمس ويجيء الظلام بعده.
إذاً: ما دمنا نخاف الشرور وما يحدث في الظلام ولا قدرة لنا على معرفة الحيات أو كيف نتصرف نلجأ إلى الله عز وجل!
في النهار أنت في يدك العصا وإذا ظهر لص أو ثعبان تضربه، ولكن في الظلام كيف تفعل؟ ما عليك إلا أن تلوذ بجناب الله، وهو الذي علمنا فقال : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:1-3].
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ [الفلق:4]، لم يقل: النفاثين؛ لأن السحر إلى اليوم أغلب من يقوم به النساء، تجد مقابل المائة ساحرة رجلاً واحداً يسحر إلى الآن.
وكيفية هذا السحر: أنها تأخذ خيوطاً أو خيطاً وتعقد عقدة وتنفثه، سبع عقد.. تسع، على حد نظامهم وتنفث، فتعقد تلك العقود فينعقد قلب الرجل عن امرأته، والعياذ بالله. وهذا -أيضاً- من صنائع اليهود فهم أسحر الناس.
من أين تعلموه؟
تعلموه من مصر من أيام فرعون .. أيام فرعون كان السحر له كليات ومدارس يدرس فيها، فبنو إسرائيل كانوا هناك، وشاهدوا السحر وعرفوه وأبطله الله بعصا موسى، وممكن بعض العجائز حملنه معهن إلى بيت المقدس.
هذا اليهودي لبيد بن الأعصم وعنده بنات ساحرات هو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا السحر في جف طلع النخل ورموه في بئر ذروان .. وهذا البئر شاهدناه قبل سنين ومنزله كائن والآن اندثر.
إذاً: الرسول سحر وأصبح يظن أنه أتى امرأته وهو ما أتاها، ولكن الله عز وجل فقط أراد أن يعلمنا أن الله على كل شيء قدير .. ليعلمنا أن رسول الله ليس بإله، بل بشر تجري عليه أحداث البشر، يمرض ويسحر، ويضرب فيسيل دمه حتى لا يعبد ويؤله كما عبد النصارى المسيح، ولكن ما هي إلا فترة لا تزيد على اليوم واليومين حتى جاء جبريل بهذه السورة ورقاه فقام وكأن لم يصبه شيء صلى الله عليه وسلم.
وقد يقولون: لم يا مالك تحكم بهذا الحكم؟ يقول: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( حد الساحر ضربة بالسيف ).
لم لا يستتاب؟ الذي يسب الله ورسوله يستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب يضرب رأسه، فلم الساحر لا يستتاب؟
قالوا: السحر يؤتى في الخفاء، وإذا قال: تبت.. تبت سبعين مرة فهو لا يعمل السحر أمام الناس بل يعمله في الظلام مع الشياطين فلا نعلم حقيقة ذلك.
إذاً: لا يستتاب ومن الخير أن نقطعه.
والذي يؤسفني ويحزنني -وأنا كثير الأحزان- أنكم تقولون: فلان يسحر .. في مكة ساحر.. في جدة ولا تبلغون الحكومة.
كيف تتآمرون أنتم؟ أنا أسأل، يقول: فلان يعمل السحر، فكيف يبقى يسحر في المدينة؟ يجب أن يقتل، والحكومة جزاها الله خيراً إذا ضبطت تقتل على الفور، أو على الأقل ترحله بلا رجعة.
لكن نحن المقصرون، يشتكي لي فلان أن فيه السحر. فأقول له: من سحره؟ لا بد من ساحر، كيف نقول: فلان مسحور؟ أين الساحر؟ لا بد من فاعل.
إذاً: حد الساحر ضربة بالسيف، ولا يستتاب.
لماذا لا يستتاب؟ لأن عمله سري، فقد يتوب أمامكم ويصلي الصلوات الخمس ويزاحم في الصف الأول ولكن في الليل لما يجتمع مع شياطينه يرجع لسحره ولا تتطلعون عليه.
نعم. أنت تحمل بندقية فلا نقول لك: لم؟ لكن إذا صوبتها إلينا نفزع.
وهكذا الحاسد؛ لأن الحسد يا أبنائي مرض كالسم في العقرب، وهل العقرب خلقت سمها؟ لا. وإنما وجد فيها، فكهذا المخلوق .. هذا بحسب خلقته، بتدبير الله في خلقه، أوجد له هذه المادة السامة في عينيه.
لا تقل: إذاً كيف نظلمه إذا حسد؟
نعم. أنت عندك هذا المرض ويعدي وعندك الحصانة، فإذا أعجبك الشيء فقل: ما شاء الله، اللهم بارك فيه، فيبطل مفعوله.
من وجد فيه هذا المرض -وهذا لا يوجد في عامة الناس- كما قلت لكم كالبهق في الوجه، يوجد في فرد من المليون، فمن وجد فيه هذا المرض يحمل معه الوقاية، فما إن يعجبه الشيء حتى يقول: ما شاء الله، اللهم بارك فيه.
وفي القرآن الكريم: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39].
والرسول صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن نقول: ما شاء الله، تبارك الله. فلا يضر.
يبقى إذا أراد أن يحسد وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] إذا نظر ولا تعوذ ولا تبرك ولا.. فمعناه: سدد السهم إليك، فالجأ إلى الله .. افزع إلى الله.
والحسد كبيرة من كبائر الذنوب، ولا تقل: أنا لا أملك هذا الله جعلها في عيني فقد بينا لك الدواء، وأنك يجب عليك أن تكثر من قول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله.
وهنا حسد آخر وهو: أنك تتمنى زوال النعمة عن أخيك، فهذا ليس من الحسد إذا أعجبه شيء ضربه بسهمه، هذا مرض حسد لم فلان يكون أعلم مني أو أشرف مني؟ لم يملك الدار الفلانية ولا أملك؟ يحسده من أجل أن تزول تلك النعمة عنه لتكون له والعياذ بالله.
وحسد أشر من هذا، وهو أن يتمنى زوال النعمة عنك ولو لم تحصل له، المهم ألا يراك بخير، وهذا أقبح أنواع الحسد. والحسود لا يسود أبداً، ولن يظفر بكمال أبداً.
ثانياً: الحسد كبيرة من كبائر الذنوب، واحذروها؛ لأن الحاسد اعترض على الله، فالحاسد اعترض على الله عز وجل: لم تعط فلاناً هذا العلم أو هذا المال أو هذا الجمال أو هذه الشجاعة وأنا لا تعطيني؟!
إذاً: الذي يقول هذا لله يكفر، إذ كيف تعترض على الله في قسمته؟
إذاً: الحسد كبيرة من كبائر الذنوب، وإذا ما كان عندك ذاك المرض الذي تسقط به البعير فالعين تدخل البعير في القدر، وتدخل الرجل القبر، لكن هذا النوع قليل، ويبقى الحسد السائد.
وأول من حسد هو إبليس .. حسد آدم فقال: كيف أسجد له وتسجد له الملائكة وأنا خير منه؟
وقابيل حسد هابيل: لم تقبل صدقته وأنا لم تقبل؟
وبنو إسرائيل حسدوا الرسول والعرب والمؤمنين: لم يكون فيهم الرسول؟
إذاً: الحسد شر الصفات فاحذروه، وتعوذوا بالله منه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر