أما بعد: ها نحن الليلة مع سورة المدثر المكية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:1-10].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]! المنادي هو الله، منزل هذا الكتاب، ومرسل هذا الرسول، وخالقنا وخالق العالم كله، وهو الله رب العالمين, فهو الذي ينادي: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]! والمدثر هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى المدثر: الملتف في قطيفة من القطائف.
وقد علمنا بالأمس سبب نزول هذه الآية لما درسنا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]! فقد علمنا أنه لما انقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ظهر له جبريل في السماء وبشره بأنه نبي الله جاء إلى خديجة ترتعد فرائصه, وهو يقول: ( زملوني دثروني، زملوني دثروني )، أي: غطوني. فمن ثَمَّ ناداه ربه بـ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]! و يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]!
والتطهر من البول سنة أبي القاسم، فهو أول من فعلها, وبقيت الأمة كلها إلى يوم القيامة تفعلها، فلا تصح أبداً صلاة ببول ولا بغائط, ولا بدم ولا بنجاسة؛ لقوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].
فيا من يلاقي ربه ويناديه ويقف بين يديه ويتقرب إليه! يجب أن تكون طاهراً، وإذا كان مشروعاً طهارة الثياب فالجسم من باب أولى. ومن هنا شرع الله الغسل من الجنابة، فمن أجنب يجب أن يغتسل، سواء كانت جنابته باحتلام أو بجماع. والغسل تطهير، فطهر جسمك، وطهر ثيابك؛ لأنك رسول الله المرسل من قبل الله؛ لتنذر قومك عذاب الدنيا والآخرة؛ من أجل أن ينتهوا من عبادة الأصنام والشرك والكفر, والعياذ بالله.
وهناك لطيفة علمية أخرى, وهي: أن قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] أي: لا تعط من تعطيه وأنت تريد أن يرد عليك بأكثر مما أعطاك. وهذا يسمى الربا الحلال، فالربا الحلال أن تهديه مشلحاً وترجو أن يعطيك ألفي ريال, والمشلح بمائتي ألف ريال، هذا الربا الحلال. ولكن الله عصم منه رسوله وحفظه، وقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6], لا مع الله ولا مع عباده أبداً. فكان صلى الله عليه وسلم يهدي الهدايا ويعطي العطايا ولا يرجو أن يرد إليه شيء في ذلك, ولا يقبله. وأما غيره صلى الله عليه وسلم فيجوز له أن يقدم هدية لشخص ويرد عليه بأكثر مما أهداه، فهذا جائز، ويسمى بالربا الحلال، أو أن تعطيه ألفاً فيرجع لك ألفاً وعشرة. هذا الربا الحلال.
وقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6], أي: تطلب الكثرة.
وهذه النفخة المذكورة هنا هي الثانية, وهي نفخة القيام من القبور أحياء؛ لأجل الحساب والجزاء. والنفخة الأولى هي نفخة الفناء وانتهاء الوجود هذا، فلا يبقى إنسان ولا جان ولا حيوان, بل ولا جبل ولا سماء، بل الكل يذوب ويتحلل. وهذه المذكورة هنا هي النفخة الثانية, وهذه النفخة الصور هي نفخة القيام من القبور.
هكذا يقول تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10]. فهو عسير على كل الكافرين عسراً لا نظير له، وكذلك المؤمنون هو عسير عليهم؛ لأنهم حفاة عراة ينتظرون حكم الله. فهو يوم عسير قطعاً، ولكنه على الكافرين غير سهل ولا ميسر ولا يسير. ومفهوم هذا: أنه على المؤمنين الصالحين يسير.
هكذا يخبرنا تعالى في كتابه العزيز القرآن الكريم، الذي يجب أن نجتمع عليه في بيوت ربنا كل ليلة وطول العمر، لا أن نحوله إلى الموتى, ونقرأه في القبور وفي بيوت الموتى. فيجب علينا أن نعود إلى كتاب الله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: الجد طابع المسلم، فلا كسل ولا خمول, ولا لهو ولا لعب، ومن فارق هذه فليتهم نفسه في إسلامه ] والجد ضد الهزل، فالجد طبع المؤمن، فهو دائماً جاد، والله يقول: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، ويقول: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]. وأتباع محمد مثله صلى الله عليه وسلم، فهم في الجد لا الهزل، وفي العمل لا النوم والعبث, واللهو والباطل, وإنما هم في عبادة الله بما شرع أن يعبد بها, ويدعون الخليقة إلى ذلك.
[ ثانياً: وجوب تعظيم أسمائه وصفاته، وتعظيم كلامه وكتابه, وتعظيم شعائره, وتعظيم ما عظم ] فيجب تعظيم الله، وتعظيم كتابه ورسله, وأوليائه وآياته؛ لأن الله قال: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3], أي: عظم، أي: عظم آلاءه ونعمه، وعظم عباده وأولياءه وأنبياءه، فالكل يجب أن نعظمهم, ولا نهمل واحداً منهم.
[ ثالثاً: وجوب الطهارة للمؤمن ] والمؤمنة [ بدناً وثوباً ومسجداً، أكلاً وشرباً وفراشاً, ونفساً وروحاً ] فدائماً المؤمن طاهر في كل شيء؛ أخذاً بقول الله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]. ونحن أتباعه, فعلينا أن نكون مثله. فالطهارة واجبة على كل مؤمن، حتى في الطعام والشراب يكون طيباً طاهراً.
[ رابعاً: حرمة العجب، فلا يعجب المؤمن بعمله، ولا يزكي به نفسه, ولو صام الدهر, وأنفق الصخرة, وجاهد الدهر ] وذلك لقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6]. فعلى المؤمن ألا يستعظم عبادته ولا عمله الصالح، ولا رباطه ولا جهاده أبداً، بل دائماً يرى أنه مقصر، وأنه ما أكمل ما يجب عليه، ولا يشعر بأنه أكملها وأنه أتمها أبداً، بل دائماً يعرف بأنه عاجز وضعيف, وأنه ما أكمل، والله يقول لرسوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6].
[ خامساً: وجوب الصبر ] على المؤمن [ على الطاعات ] والعبادات [ فعلاً ] وألا يفرط فيها [ وعلى المعاصي تركاً ] فلا يقربها [ وعلى البلاء تسليماً ورضاً ] ولا يجزع ولا يغضب إذا ابتلاه ربه بمرض أو بعلة من العلل، بل يجب عليه الصبر؛ لقوله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7].
فعلى كل مؤمن أن يصبر في ثلاثة مواطن: أولاً: الصبر على العبادة، فلا يفرط فيها ولا يقصر.
ثانياً: الصبر عن المعصية، فلا يقربها ولا يفعلها أبداً.
ثالثاً: الصبر على البلاء, فإذا ابتلاه ربه وامتحنه ما يسخط ولا يجزع، بل يثبت ويبصر.
قال في النهر: [ روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحتى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا ) ] فقد بكى صلى الله عليه وسلم، فتألم أصحابه قالوا: ( ماذا نصنع؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا ). فهذا الذي ينفعنا, وهو قول: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا. هكذا أرشدهم صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر