أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:53-58].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51]، أي: ولقد أعطينا منة منا وفضلاً وإحساناً عبدنا ونبينا إبراهيم، وإبراهيم هو الخليل، وهو بالعبرية: الأب الرحيم، وحقاً هو أب رحيم. فقد أعطاه الله رشده من صباه ومن صغره، فقد عرف ربه وعبده، وأطاعه وآمن به وهو طفل صغير.
وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51]، أي: من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله عليه وسلم، إذ جاء في السياق قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. كذلك أعطينا إبراهيم هذا العطاء والإحسان الكريم منة من الله على عبده إبراهيم.
وقوله: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] قطعاً ظاهراً وباطناً من يوم ما تخلق في رحم أمه، فقد َكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].
وأبو إبراهيم اسمه: آزر . وكان ملك تلك البلاد من البابليين يومها، واسمه النمرود ، فقوم إبراهيم كانوا مملوكين أو تحت سلطان النمرود . والتماثيل: جمع تمثال، وهو صورة مثل الإنسان أو مثل الحيوان، يقال له: تمثال؛ من المثل والشبه. فقد كان لهم أصنام في صور الناس يعبدونهم.
فقال لهم إبراهيم: أخبروني مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا [الأنبياء:52]، أي: عليها عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]؟ أي: تظلون معها، وتبيتون أحياناً معها، فقد كانوا يأتون ويذهبون ويعودون إليها، فكانوا عاكفين عليها يعبدونها ويتوسلون بها للحصول على أطماعهم، وما يشتهون وما يريدون. وهم بذلك مشركون كافرون.
فبدل أن يعبدوا الله خالقهم وخالق كل شيء عبدوا أصناماً صنعوها بأيديهم وتماثيل، وعكفوا عليها يعبدونها بأنواع العبادات كالدعاء والاستغاثة، والذبح والنذر. فقال إبراهيم عليه السلام لأبيه والده آزر وقومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]؟ وأي شيء هي؟ وكيف تعبد؟ فهي مصنوعة صنعتموها بأيديكم، وهي لا تسمع ولا تبصر، ولا تعطي ولا تمنع.
فهنا قال عليه السلام يبين لهم: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56]، أي: على كون ربكم رب السموات والأرض، وأنه الذي فطرهن، فأنا على ذلكم من الشاهدين، فأنا أقول على علم، وأشهد على علم.
فالواو من حروف القسم، فتحلف بها في أول كلامك، والباء كذلك، فتقول: بربنا .. برب الكعبة .. بالله، ولا حرج، وأما التاء -كما قال إبراهيم: تالله- فلا تكون إلا مع اسم الجلالة الله، ولا تكون مع غيره من الأسماء، فلا تقل: تالعزيز .. تالحكيم .. تالرحيم، بل تكون فقط مع اسم الجلالة الأعظم الله.
فحلف إبراهيم ليطمئنوا، ولتسكن نفوسهم إلى ما يقول لهم، فهذه سنة الله في العباد، وهي: أنك إذا أخبرت أخاك بخبر صعب لا يصدقك، فتضطر إلى أن تحلف له الآن. ولهذا تفضل الله عز وجل علينا، فكان يحلف لنا على الأمور الصعبة؛ حتى نثق ونصدق، فقال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:1-4]. وهكذا قال: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر:1-4]. فهذه أيمان من الله. وهو يحلف من أجلنا حتى نصدق بالخبر، وتطمئن نفوسنا إليه، وتسكن أرواحنا وتطمئن، بخلاف ما لو أخبرنا بخبر بدون يمين فإن النفس تبقى مضطربة، فحلف الله لعباده من باب الرحمة بهم، والإحسان إليهم، وليس لأن الله محتاج إلى هذا.
وهنا إبراهيم عليه السلام حلف لقومه؛ حتى يصدقوه وتطمئن نفوسهم، فقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]. فقد كانوا مجتمعين على أصنامهم، عاكفين يعبدونها، فجاء يخاطبهم ويدعوهم ويوجههم بلسانه بالحجة والبرهان، فقالوا كما علمتم: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55]؟ ولما صمموا وأصروا على بقائهم عليها قال لهم: وَتَاللَّهِ [الأنبياء:57]، أي: والله، لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء:57]، أي: أمكر بها وأحتال عليها، وأبددها وأحطمها. ولا أحد يقوى على هذا، فهذه شجاعة فوق العادة، فهو لم يقل هذا لواحد، أو قاله لهم وهم بعيدون عنها، بل قاله وهم عاكفون عليها، فقد قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء:57]، أي: لأحتالن عليها وأكسرها وأحطمها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، أي: بعدما ترجعوا عنها إلى بيوتكم وأعمالكم أخلوا بها وحدي وأحطمها.
وبالفعل والله جاء بفأس وأخذ يكسرها في يوم عيد، فقد كان يوم نزهة عندهم يخرجون فيه خارج البلاد للتمتع، وكان من سنتهم ومن عادتهم أنهم يتركون ألوان الطعام بين يدي الأصنام لتباركها، فهذا يترك حلويات، وهذا بقلاوات، وهذا كذا؛ حتى تبارك، فإذا رجعوا من نزهتهم يأخذونها ويأكلونها.
فعلم الخليل أنهم سوف يخرجون غداً إلى عيدهم.
فقال لهم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا [الأنبياء:57] وترجعوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57] إلى بيوتكم.
لما خرجوا من الغد جاء إبراهيم بفأس وأخذ يكسر الأصنام ويحطمها، حتى جعلها جذاذاً وقطعاً متناثرة. ثم جاء بالفأس فربطه في عنق الصنم الأكبر، فقد كان عندهم إله أكبر، فربط في عنقه الفأس؛ حتى يقول هذا الذي فعل بكم ما فعل.
ولكنهم لم يرجعوا إلى إبراهيم، ولم يعبدوا معه الله رب العالمين، بل أصدروا حكمهم عليه بإحراقه في النار، كما سيأتي في الآيات الآتية.
الكذبة الأولى: لما أرادوا أن يخرجوا إلى العيد، والناس يسمونه الآن شم النسيم أو كذا، والنصارى عندهم هذا اليوم، وهم يفعلونه في الربيع. فقالوا: هيا يا إبراهيم! امشي معنا، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، كما قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]. ليوهمهم بأنه يعبد النجوم، ويطلب الإذن منها؛ لأنهم يعبدون النجوم، ولذلك فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]. وهو في الحقيقة سقيم متألم متحرق لأن قومه ومنهم أبوه وأمه يعبدون الأصنام. فهذه كذبة، ولكنها أفضل من صدقنا نحن إن صدقنا.
والثانية: لما أتوا به كما علمتم قال لهم: بل فعله كبيرهم هذا، ولست أنا الذي فعلت، وأشار إلى يده، وقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]. فالظاهر أنها كذبة، وليست بكذبة أبداً، فيده هي التي فعلت، وذلك تورية.
والثالثة: أنه لما حكم عليه بالإعدام وأججوا النار وألهبوها أربعين يوماً حتى يكون عبرة للناس، فلا يقوى أحد أن يتكلم عليهم في آلهتهم، فأججوا النار أربعين يوماً، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ( الوزغ كانت تأتي وتنفخ في النار لتشتعل ). وهذا من آيات الله وتدبير الله. ولذلك إذا وجدتم الوزغ في بيوتكم فاقبلوها والعنوها؛ لأنها كانت ضد التوحيد والموحدين، فقد كانت تنفخ في النار وتأججها، ومن ثم كانت أم المؤمنين عائشة تضعت في حجرتها جريدة من النخل، وتتابع الوزغ وتقتلها؛ استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لما خرج من النار كان يعرق جبينه فقط، يتصبب عرقاً. والغريب أنهم ما استطاعوا أن يلقوه في النار المشتعلة من أربعين يوماً في حفرة عظيمة، فزين لهم الشيطان صنع المنجنيق، فوضعوه في المنجنيق ورموه به.
ومن اللطائف: أنه لما كان في طريقه إلى النار -وكان لا بد له من دقيقة حتى يصل أو لحظة- عرض له جبريل عليه السلام، وقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا حاجة لي، حسبي الله ونعم الوكيل. وما إن وقع في النار حتى بردت، ولولا أن يموت إبراهيم من البرد لتحولت إلى جبال من الثلج، فاحترق الوثاق الذي في يديه ورجليه، وخرج وجبينه تتصبب عرقاً. فقال أبوه: نعم الرب ربك يا إبراهيم! مع أن إبراهيم كان مع والده في حوار وجدال سنوات، ومن أراد أن يعرف ذلك فعليه بسورة مريم من قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ [مريم:41]. وينظر كيف كان يجادل أباه، وأبوه يجادله ويهدده. وهنا قال: نعم الرب.
وقد هاجر من أرض بابل إلى أرض القدس في أرض الشام، وقد ترك أهله، أباه وأمه وإخوانه وكل ما عنده، وخرج من هناك وليس معه إلا زوجه سارة وابن أخيه لوط، فقد كانوا ثلاثة أنفار. وقد سترهم الله عز وجل حتى خرجوا، وقد انهزم قومه، فالآن لو يمر بهم إبراهيم فلن يوجد من يقرب منه. فتركوا الأرض وأهلها بأمر الله عز وجل.
قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا [الأنبياء:71] أيضاً. ولعل لوطاً تعرض لما تعرض له إبراهيم من السب أو الشتم أو غير ذلك؛ لأنه أسلم؛ لأنه مهيأ لأن يكون نبياً. وكان عمر إبراهيم في هذه الفترة حوالي ستة وعشرين سنة فقط، ولوط أقل، ولهذا قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]. وهي أرض القدس في الشام، ففيها التفاح والعنب والبرتقال، والشعير والبر من ذاك العهد إلى اليوم، فهي مباركة للعالمين أبيضهم وأسودهم .. كافرهم ومؤمنهم، فقد باركنا فيها للعالمين، للإنس يأكلون، والجن يأكلون أيضاً.
وهنا لطيفة فتح الله بها علي، ولم أجدها في كتاب، وهي: أن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً مع أن الله قد رزقه إسماعيل؛ لأن إسماعيل كما علمتم لما هاجر إبراهيم من أرض بابل ودخل الشام ودخل مصر كانت معه زوجته سارة ، وكانت لا تنجب ولا تلد، فلما أرى الله الطاغية الحاكم في مصر آياته وهب هاجر لها تخدمها، ثم إنها تفضلت ووهبتها لإبراهيم، وقالت له: تسر بها يا إبراهيم! وهذه منة منها وعطية، ولم يأخذها منها بالقوة؛ لأن الملك وهبها لـسارة ، وسارة وهبتها لإبراهيم، وهذه الموهوبة تسمى هاجر . وسبحان الله! فقد سميت هاجر حتى تتلاءم مع إبراهيم؛ لأن إبراهيم هاجر. وقد سميت هي هاجر، وقد سمتها أمها بهذا الاسم وهي طفلة. فتوافقت هاجر مع الهجرة، ولا إله إلا الله!
وتعلمون أن سارة لما أنجبت هاجر ولداً وهو إسماعيل تغيرت وتألمت، وأصابتها غيرة؛ لأن الجارية تلد وهي لا تلد، وهذا بالفطرة. وكما علمنا فإن إبراهيم أمر أن يذهب بإسماعيل وأمه بعيداً عنها؛ حتى لا تبقى في كرب وحزن، فخرج بـهاجر وطفلها إلى مكة، إلى الوادي الأمين، وأنزلهما هناك؛ حتى لا تتألم سارة ، وهي المهاجرة العظيمة، وكانت بنت عمه.
وأقول هنا: يبدو أن إبراهيم سأل الله لـسارة الولد؛ رحمة بها، وأعطاه الله. ومن هنا أبطلنا رأي من يقول: إسحاق كان قبل إسماعيل، بل إسماعيل هو الأول، ولما سبب تلك الغيرة سأل إبراهيم ربه أن يرزق سارة ولداً، واستجاب الله له، فلهذا قال: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ [الأنبياء:72] ولده هبة من الله بالدعاء والسؤال والضراعة.
هذه هي اللطيفة، وهي: أن إبراهيم دعا الله عز وجل أن يرزقه ولداً من سارة ، أو أن يرزق سارة ولداً؛ لأنها متألمة ومتحسرة، فاستجاب الله له، فقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ [الأنبياء:72]. وكذلك قال تعالى في سورة الصافات في إسماعيل وقوله الحق: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ [الصافات:102-112]. فالبشرى جاءت من بعد.
إذاً: كان يلح على ربه ويدعوه أن يرزق سارة ولداً، فلهذا قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنبياء:72] وهبناه له نَافِلَةً [الأنبياء:72]. لأن يعقوب بن إسحاق، وليس هو ابن إبراهيم، بل إبراهيم ولد إسماعيل وإسحاق، وإسحاق ولد له يعقوب، كما قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. وهذه البشرى عظيمة، فقد دخل عليه الملائكة وبشروه بأن تلد المرأة، وأن مولودها يكبر ويتزوج، ويولد له ولد. ولا يقوى على هذه إلا الله، فهو الذي قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. وقال تعالى هنا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، أي: زيادة، وليس كالأول الذي كان يلح على الله ويطالبه أن يرزقه إياه، بل أعطاه نافلة، لم يسألها ولا طلبها.
إذاً: هيا بنا نمش على هذه الخطوات؛ لنصبح إن شاء الله من الصالحين.
وقد كررنا القول ونعيده في كيف يكون العبد صالحاً، فنقول: أد حقوق الله كاملة ولا تنقصها، وأد حقوق الناس كذلك كاملة، ووالله لتصبحن من الصالحين. فالصالح فينا هو: الذي يؤدي حقوق الله، ولا يبخسها ولا ينقصها، وهي العبادات من الأمر والنهي، ثم يؤدي حقوق العباد، ولا يأخذ مال أحد، ولا يعرض له بسوء، لا بالشتم ولا بغير ذلك، ويعطيه ما يجب له. هذا هو والله العبد الصالح. وأغلبكم صالحون إن شاء الله. فالعبد الصالح هو: الذي يؤدي حقوق الله كاملة، ويؤدي حقوق الناس كذلك كاملة، ولا يبخسها ولا ينقصها ولا يفسدها. اللهم اجعلنا من الصالحين.
قال: [ يخبر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قال لقومه منكراً عليهم عبادة آلهتهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ [الأنبياء:66]، أي: أتعبدون آلهة دون الله علمتم أنها لا تنفعكم شيئاً ولا تضركم، ولا تنطق إذا استنطقت، ولا تجيب إذا سئلت. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67]، أي: قبحاً لكم ولتلك التماثيل التي تعبدون من دون الله الخالق الرازق، الضار النافع ] سبحانه وتعالى [ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67] قبح عبادتها، وباطل تأليهها؟ وهي جماد لا تسمع ولا تنطق، ولا تنفع ولا تضر. وهنا أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم، فقالوا: حَرِّقُوهُ [الأنبياء:68]، أي: أحرقوا إبراهيم بالنار. وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68] التي أهانها وكسرها إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، أي: مريدين نصرتها حقاً وصدقاً، ونفذوا ما أجمعوا عليه، وجمعوا الحطب، وأججوا النار في بنيان خاص، وألقوه فيه بواسطة منجنيق؛ لقوة لهبها، وشدة حرها. وقال تعالى للنار ما أخبر به في قوله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. فكانت كما طلب منها، ولم تحرق غير وثاقه ] وهو [ الحبل الذي شدت به يداه ورجلاه. ولو لم يقل: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لكان من الجائز أن تنقلب النار جبلاً من ثلج، ويهلك به إبراهيم عليه السلام.
روي أو والد إبراهيم لما رأى إبراهيم لم تحرقه النار، وهو يتفصد عرقاً قال: نعم الرب ربك يا إبراهيم! ] فعرف الحق فقال: نعم الرب ربك يا إبراهيم!
[ وقوله تعالى: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:70]، أي: أرادوا بإبراهيم مكراً، وهو إحراقه بالنار، فخيب الله مسعاهم، وأنجى عبده وخليله من النار، وأحبط عليهم ما كانوا يأملون، فخسروا في كل أعمالهم التي أرادوا بها إهلاك إبراهيم.
وقوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا [الأنبياء:71] أي: ونجينا إبراهيم وابن أخيه هاران، وهو لوط ] عليه السلام [ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]. وهي أرض الشام، فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي قرى قوم لوط التي بعد دمارها استحالت إلى بحيرة غير صالحة للحياة فيها ] إلى الآن.
[ وقوله ] تعالى: [ بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71] أي: بارك في أرزاقها بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، لكل من ينزل بها من الناس، كافرهم ومؤمنهم؛ لقوله: لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91].
وقوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ [الأنبياء:90]، أي: لإبراهيم إسحاق، حيث سأل الله تعالى الولد، وزاده يعقوب نافلة. وقوله: وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء:72] أي: وجعلنا كل واحد منهم من الصالحين الذين يعبدون الله بما شرع لهم، فأدوا حقوق الرب تعالى كاملة، وأدوا حقوق الناس كاملة. وهذا نهاية الصلاح ].
[ من هداية الآيات:
أولاً: بيان قوة حجة إبراهيم عليه السلام، ومتانة أسلوبه في دعوته، وذلك مما آتاه ربه ] فقد كان كلامه عالياً راقياً، قوياً واضحاً، ولهذا قهرهم.
[ ثانياً: مشروعية توبيخ أهل الباطل وتأنيبهم ] وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:67]. فمن هذا يؤخذ مشروعية التأنيب لأهل الباطل والإنكار عليهم.
[ ثالثاً: آية إبطال مفعول النار، فلم تحرق إبراهيم إلا وثاقه لما أراد الله تعالى ذلك ] وهذه آية من آيات الله الدالة على وجود الله، وعلى علمه وقدرته وحكمته، وأنه الإله الحق، لا إله غيره، ولا رب سواه. فقد أججت النار شهراً كاملاً، ثم أدخل فيها شخص ولم تحرقه. فليس هناك آية أعظم من هذه. فهذه أكبر علامة تدل على وجود الله، وعلى علمه وقدرته وحكمته.
[ رابعاً: قوة التوكل على الله كانت سبب تلك المعجزة، إذ قال إبراهيم: حسبي الله ونعم والوكيل ] فإذا وجد التوكل في عبد وكان صادقاً لا يخاف أبداً لا من النار ولا من غيرها فإن الله تعالى ينجيه منها. فهذه تمرة قوة التوكل والاعتصام بحبل الله، والغير المبالاة بالدنيا بكاملها، فإبراهيم قال: حسبي الله، ولم يقبل أن يقول لجبريل: أفعل كذا أو كذا [ فقال الله تعالى للنار: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. فكانت. وكفاه ما أهمه بصدق توكله عليه. ويؤثر أن جبريل عرض له قبل أن يقع في النار، فقال: هل لك يا إبراهيم! من حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ] وقد قدمنا أن الرسول وأصحابه ائتسوا بإبراهيم، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. وذلك لما قيل: إن أبا سفيان كر راجعاً إليكم إلى المدينة، فلما خرجوا من أحد مشوا مسافة ثم جاء الخبر أنه قال: نرجع لنصفي الحساب نهائياً، فخرج رسول الله وأصحابه وهو والله مجروح، فقد كانوا ينقلونه وهو جريح.
[ خامساً: تقرير التوحيد، والتنديد بالشرك والمشركين ] ولو كانوا من أفضل الناس وأشرفهم. فلهذا الشرك يجب أن نندد به
والمشركين كذلك، وأسوتنا إبراهيم والحبيب صلى الله عليه وسلم، فهو لما دخل مكة بسيفه وبرمحه حطم ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة.
[ سادساً ] وأخيراً: [ خروج إبراهيم من أرض العراق إلى أرض الشام كانت أول هجرة في سبيل الله في التاريخ ] كما علمتم. فأول هجرة في التاريخ البشري هي هجرة إبراهيم من أرض بابل إلى أرض الشام.
والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم من الصالحين، وأن يدخلنا في رحمته معهم يا رب العالمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر