وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي تقرر هذه المبادئ:
أولاً: لا إله إلا الله.
ثانياً: محمد رسول الله.
ثالثاً: لقاء الله والبعث والجزاء والحساب، ثم الجنة أو النار.
رابعاً: التشريع والتقنين حق الله رب العالمين، ليس من حق آدمي أن يشرع ويقنن عبادة من العبادات، وإنما ذلكم لله عز وجل.
فهيا بنا نستمع تلاوة الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها، فلنصغ مستمعين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:182-186].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بين يدي الدرس كلمة ألح علي الإخوان في بيانها، وهي: هل هناك ليلة النصف من شعبان يصام يومها ويقام ليلها ويتعبد فيها أكثر مما يتعبد في غيرها؟
الجواب: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الشارع الحكيم وهو المشرع بإذن الله، لم يصح في ليلة النصف من شعبان حديث قط، ولهذا لم يقل بذلك إمام المسلمين الأعظم أبو حنيفة ولا مالك ولا تلميذ مالك الشافعي ، ولا تلميذ الشافعي أحمد رحمهم الله أجمعين، لا وجود لصيام في هذا اليوم بخاصة ولا قيام بخاصة.
والشبهة التي يتمسك بها الغافلون هي في قول الله تعالى من سورة الدخان: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:1-5]، هذه الآية تذكر لنا قيمة ليلة القدر ومنزلتها عند الله، لا ليلة النصف من شعبان.
اسمع الآية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ [الدخان:3]، أي: القرآن، فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:3-4]، هذا -والله- لا ينطبق إلا على ليلة القدر، أما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]؟
وفي ليلة القدر أحداث العام كلها تؤخذ من الديوان الأعظم من السجل الأكبر، من كتاب القضاء والقدر، وتطبق في ذلك العام، حتى إن المرء ليتزوج ويلد وهو ميت، أي: في عداد الموتى، يتزوج أول محرم، وبعد تسعة أشهر يلد في شهر رمضان وهو في عداد الموتى، في شوال أو القعدة يموت، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، ويفصل.
أما قيام هذه الليلة وصيام يومها فوالله! ما صح عن أبي القاسم في ذلك شيء، والمؤمنون يصومون أكثر شعبان، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شعبان، ولكن لا يختمه ويكمله، يفطر قبل رمضان، فمن أراد أن يصوم فليصم شعبان، فليصم يوماً بعد يوم، أما الأيام الثلاثة البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؛ فالمؤمنون يصومونها في كل شهر؛ لأنها تعدل صيام الدهر، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أيام البيض -أي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر- تعدل صيام الدهر؛ ذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فثلاثة في العشر بثلاثين، فكأنما صام الدهر كله.
وابتدع الناس الصلاة في هذه الليلة يصلون مائة ركعة، من أمر؟ من أذن؟ من أين؟ مجرد اجتهاد فقط.
نحن نبين الطريق وندعو إخواننا إلى السلوك، فكل بدعة ضلالة، والبدع لا تنتج طاقة نورانية في القلب، ولا تزكي النفس، حسبنا ما شرع لنا رسول الله وبين لنا من العبادات، فلا رجبية ولا شعبانية، وإنما ليلة القدر، هذه الليلة يطلبها المؤمنون، فبعضهم في رمضان لا ينام حتى يدركها، على الأقل العشر الليالي التي هي في الغالب فيها، لا ينامون من أجلها؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر خرج من المسجد واعتكف وطوى فراشه وقام ليلة كله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا توجد شعبانية ولا رجبية، لا في كتب التفسير، ولا في القرآن ولا في السنة، وإنما هي عند بعض المتصوفة، لا أقل وأكثر.
وصوموا شعبان كاملاً إن استطعتم، وتصدقوا بما استطعتم، وقوموا ليلكم ولا حرج، لكن تخصيص ليلة بعبادة فذلك نحتاج فيه إلى شرع من الله عز وجل، هو الذي يعين ذلك ويبينه.
بيان ذلك: هذه الآية من جاء بها؟ الله. والبشرية تطأطئ رأسها، من أنزلها؟ لم يبق إلا الله. إذاً: الله موجود، وهذا كلامه، وقد أخبر فيه أنه لا إله إلا الله هو.
ثم هذه الآية على من نزلت؟ من أدعى أنها نزلت عليه؟ لا أحد إلا واحد، إذاً هو رسول الله، والدليل العقلي أنه إذا أنزل عليه آيته فهو رسوله.
ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل دلالة واضحة عقلية على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24]، هذا التحدي، فهل استطاع العرب ببلغائهم وفصحائهم وأرباب البيان أن يأتوا بسورة؟ عجزوا. إذاً: لم يبق إلا أن يؤمنوا بأنه كلام الله، وأن هذا رسوله، وأنه لا إله إلا الله.
واسمع: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:182]، وما تحويه من العلم والهدى، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف:182]، هذا وعيد شديد، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف:182]، ننزلهم درجة بعد درجة بعد درجة إلى الهاوية، يزين لهم الدنيا وما فيها، ويقبلون عليها، ويعرضون عن الدار الآخرة، يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، حتى تنتظم المعصية حياتهم، ويصبحوا فجرة كفرة أعداء لله فينزل الله بهم نقمته.
فلهذا يا عبد الله العاصي! لا تستمر في معصيتك، فإنك تستدرج ثم تهلك، لا تغتر بكثرة مالك ولا سعة بلادك ولا كثرة رجالك. انتبه! إنك مستدرج إلى الهاوية إلى ساحة الدمار والهلاك.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، لو علموا لما أصروا على الكفر والشرك والتكذيب والإجرام، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] حتى يقعوا في الهاوية.
وعلى سبيل المثال: مجموعة من طغاة قريش في مكة تدخل في هذا الوعيد دخولاً أولياً، تكبروا وترفعوا وقالوا وفعلوا، وصبهم كلهم في بئر في بدر إلى جهنم، بعد كم سنة؟
مضى أربع عشرة سنة وهو يمهلهم ويمدهم، ويزدادون طغياناً وكفراً، في النهاية اجتمعوا وهو يستدرجهم إلى الهاوية، فهلكوا مشركين كافرين، وألقوا في تلك البئر، ووقف عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وناداهم: ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ).
أما بالنسبة إلى الأمم والشعوب فهذا أمر مقطوع مجزوم به، وبالنسبة إلى الأفراد فبعضهم قد يؤجل له النقمة إلى يوم القيامة، يتركه في فرطه وفي معصيته حتى يموت بدون نقمة إلهية، ولكن يتلقى جزاءه يوم القيامة، أما الأمة والشعب فلا بد في الدنيا قبل الآخرة، يسلبهم سلطانهم، مالهم، رجالهم، يسلط عليهم عدواً من أعدائهم يبيدهم يمزقهم كما يشاء الله عز وجل.
إنها القرآن، ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، (كَذَّبُوا) قالوا: ما نؤمن بأنه كلام الله، أو نؤمن بأنه كلام الله ولا نعمل ولا نطبق، استكباراً وعتواً في الأرض، ولا فرق بين المكذب والمستكبر، فالمكذب: ما آمن أنه كلام الله فلم يعمل به، والمستكبر: عرف أنه كلام الله وحمله الكبر وآثر الدنيا على ألا يعمل به، فهما في الهلاك سواء، وهي لطيفة تقدمت لنا مئات المرات، فمريض مرضاً مهلكاً جاءه الطبيب يزوره، وصف له الدواء، فقال: أنا لا أؤمن بهذا الدواء ولا أستعمله، فهو خرافة وضلال، فهلك بمرضه، مريض آخر مثله جاءه الطبيب وجاء بالدواء فقال: أنا آمنت بأنه دواء وأنه نافع وشاف، لكن نفسي ما تريد هذا، أبعدوه عني. فهلك؛ فهل هناك فرق بين المكذب والمستكبر؟ والله! لا فرق.
واسمع كيف جمعهما الله في آية واحدة من هذه السورة في أولها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، كلاهما هالك أم لا؟ ما هناك فرق بين من كذب بالدواء وبين من عرفه وأبى أن يستعمله كبراً، إذ العبرة باستعمال الدواء للشفاء للخروج من الأمراض والأسقام والأوجاع.
فالعالم الإسلامي الآن مؤمن بالقرآن أنه كلام الله ويقرؤه في الإذاعات، ثم لم يطبقه ولم يعمل به، فهل سعدوا؟ هل كملوا؟ هل سادوا؟ هل فازوا؟ هم من أذل الناس، حفنة من اليهود أذلتهم إذلالاً عظيماً، فهل نفعهم أنهم يؤمنون بالقرآن أنه كلام الله؟ ما نفع، نفع أفراداً هم يصومون ويصلون ويبكون بين يدي الله، لكن الأمة بجميعها معرضة عنه ما تطبقه فلن تنتفع به، وهي مستدرجة إلى الهاوية، إذا لم يتداركها الله بالتوبة النصوح والعودة الصادقة إلى الله عز وجل، ومن قال: كيف؟ قلنا له: أما استعمرنا الشرق والغرب، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ونحن مستعمرات، من استعمرنا واستغلنا واستعبدنا وأذلنا؟ أليس الكفار المسيحيون الصليبيون؟ كيف يحصل هذا؟ كيف يتم هذا؟ لأنهم صرفونا عن القرآن، وحولناه إلى القبور والموتى، وأصبح ديننا ديانات، ومذهبنا مذاهب، وطريقنا طرقاً، وجماعتنا جماعات، وضاع ذاك الإسلام والدين الحق، فمن ثم ضربنا الله عز وجل تلك الضربة القاسية فأذل أجدادنا وآباءنا، والآن نتعنتر معرضين عن كتاب الله، نعقد اجتماعات، مؤتمرات، وما نقول: هيا نطبق شرع الله، لا مجال أبداً للتخلف الآن، اتضح كل شيء، فعودة حميدة إلى القرآن، تعالوا إلى الروضة نبايع إمام المسلمين ونطبق شرع الله في أرض الإسلام، لم لا نفعل؟ إنه الجهل والكبر والحسد والغش والبغض وأمراض الأهواء والشهوات.
هذا وعيد الله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، يستدرجهم إلى الهاوية، إلى الخزي والعار والدمار والشقاء في الدنيا والآخرة.
ظهر لهم ألا قيمة للإسلام أبداً، وأنه رجعية وتعفن، وأن العلم هو كل شيء، وأرخى الزمام تعالى وأملى الأيام وأطالها، حتى تدق الساعة، وحينئذ تنزل بهم النقمة الإلهية، والرسول الحبيب يقول في هذا المعنى: ( إن الله ليملي للظالم )، ما معنى: يملي له؟ يزيد في أيامه ويطيل حبل متاعه وما فيه من الإجرام، أو ما هو فيه من النعيم، ( حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقبل أن يسلط الله الغرب علينا كم بقيت أمة الإسلام؟ أكثر من ستمائة سنة وهي في الجرائم والموبقات والمعاصي حتى أذن الله عز وجل بالعقوبة.
ثم ما هي دعوته التي يدعو إليها؟ هل إلى الإجرام؟ إلى الخبث؟ إلى الشر؟ إلى الفساد؟ إنما يدعو فقط إلى أن يعبد الله وحده؛ لأن الأصنام والأحجار والأوثان لا تستحق عبادة؛ ما خلقت ولا رزقت فكيف تعبد؟! كيف يقبل الإنسان على حجر ويترك ربه ورب كل شيء؟!
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف:184]، قالوا: به جنون، أي: به مس جنون، وكذبوا وكذبهم الله في عشرات الآيات، واعترفوا بكذبهم، كيف يكون مجنوناً وهو أعقلهم، ما هي آثار مس الجنون؟ هل يتخبط؟ هل يقول ما لا يعرف؟
مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف:184]، مهمته النذارة فقط، الشعب مقبل على جهنم، مقبل على الخزي والعار، مقبل على الفقر والبلاء، ويحذرهم ذلك، ويبين لهم أسباب النجاة، يقول: آمنوا، أسلموا، اجتمعوا على كلمة الحق وامشوا في طريق الله تنجوا وتسعدوا، هذه مهمته، ما هي إلا الإنذار، لا يملك أن يسعد ولا أن يشقي أحداً، ولكن ينذر، ونذارته بينة وهو نذير بين لا يشك فيه ذو عقل؛ لأنه ما طالبهم بامرأة ولا بولد ولا بمال ولا بمنصب ولا بجاه ولا بشرف ولا ببيع قط، فكيف يكون غير نذير إذاً؟ لو طالبهم أن يبنوا له قصراً، أن يزوجوه بخير النساء، أن يجمعوا له أموالاً فسيقال ذلك، ولكن حاشاه، ما خطر بباله ولا رغب فيه، لو أعطيه لما قبله، سبحان الله!
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف:184]، أي: من مس جنون، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف:184]، لا أقل ولا أكثر، ينذر أهل المعاصي والجرائم قبل أن يهلكوا، ينذر أهل الشرك والكفر قبل أن يدخلوا جهنم؛ لأن أيام الدنيا محدودة ومعدودة.
فهذا القرآن -والله- عجب، هذا القرآن مضى عليه أكثر من سبعمائة سنة والمسلمون يقرءونه على الموتى، يقرأ فقط على الموتى، أهذا الكلام يقرأ على الموتى؟! هل الميت يقوم فيتوضأ ويصلي؟ هل يعلن عن توبته ويترك الزنا والربا؟ كيف نقرأ عليه القرآن؟
حرموا أنفسهم، والله! ما يجتمعون عليه إلا نادراً في بعض الأوقات لدراسة وتعلم وتفهم ومعرفة ما فيه من الهدى، يقرءونه على الموتى فقط، ويحفظونه في الكتاتيب والمساجد لأجل أن يقرءوه على الموتى.
لا بد أن يسألوا، فالعدم ما يوجد أبداً، لا بد من موجد أوجد، فابحثوا عنه، شرقوا وغربوا؛ لتعرفوا عظمة هذا الرب العظيم الذي أوجد هذا الملكوت كله، لم لا يسألون وما يتفكرون أبداً؟ يصرون على عبادة شهواتهم، وعبادة بطونهم وفروجهم وأصنامهم وأحجارهم ولا يفكرون فيمن خلق هذه العوالم.
ثم هذه العوالم تدل على أن الخالق لا أعظم منه، لا أقدر منه، لا أعلم منه، لا أحكم منه أبداً؛ إذ هذه النعم كلها هو المنعم بها وخالقها وموجدها ولا شريك له أبداً، ويعمون عن هذا، ويجعلون الأصنام يستشفعون بها عنده!
إذاً: هناك قدرة، هناك رب وخالق، هيا نسأل عنه، فيقولون: إنه الله رب السماوات والأرض، بلغكم عنه شيء؟ بلغنا عنه كتاب كامل حدثنا فيه عن الذرة والمجرة، وعن الكون كله، فهيا إذاً نحبه، هيا نقبل عليه، هيا نسجد له، نركع بين يديه، فيكون الإيمان إيمان علم وبصيرة.
الجواب: لا. وفوق هذا آية من سورة آل عمران، والمفروض أن من سمعها الليلة لا يقوم من مقامه حتى يحفظها، وإذا وجد من يحفظه إياها لزمه وأخذ بجلبابه وقال: والله! لا تدخل بيتك حتى تحفظني هذه، لو كنا بصراء في طريقنا إلى الكمال.
اسمع الآية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18]، فإن لم تقبل شهادته تعالى فأي شهادة تقبل؟ وشهد الملائكة الذين يملئون السماء والأرض كلهم شهدوا أنه لا إله إلا الله، وشهد أولو العلم من الرسل والأنبياء والعلماء، وأنت تبقى في شك؟ خذ هذه الشهادة فقط، قل: آمنت أنه لا إله إلا الله، فإن قيل: ما دليلك؟ فقل: دليلي شهادة الله، وشهادة ملائكته، وشهادة أولي العلم من عباده، أبعد هذا يبقى في نفسك شك أو ريب؟ والله! ما يبقى؛ لأنك تقبل شهادة اثنين على قضية من القضايا وتجزم بصحتها، فكيف بشهادة الله خالق كل شيء، وشهادة ملائكته الذين يحوطون بالكون كله، وشهادة أنبيائه ورسله والعلماء.
فمن منا يقول: أنا أشهد بما شهد الله به والملائكة وأولو العلم؟ ما الذي شهد الله به؟ أنه لا معبود بحق إلا هو في الأرض ولا في السماء، وشهادة الملائكة كشهادة الله، وشهادة الأنبياء والعلماء كشهادة الملائكة.
هذا كلام الله عز وجل، آمنا بالله، هذه النملة من أوجدها؟ هل العدم يوجد شيئاً؟ إذاً: لا بد من موجد للخلق كله، وهو الله رب العالمين، الذي لولاه -والله- ما نطقت، والله! لولا الله ما سمعتم، والله! لولاه ما وجدنا ولا وجد هذا المسجد لنا، فكيف ننكره؟ وإذا آمنا به فكيف نعصيه ونتمرد على شرعه ونخرج عن طاعته إيثاراً للدنيا والأهواء والباطل والترهات؟
وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185]، بأي كتاب، بأي بيان، بأي علم، بأي حديث بعد القرآن يؤمن الناس؟ الذي لا يؤمن بالقرآن لا يؤمن بغيره، القرآن ذو البيان والتفصيل والعجائب بالأمر الذي يدهش العقول ويحيرها، كل ذلك دال على أنه كلام الله ليس كلام الخلق أبداً، من لم يؤمن بالقرآن فبماذا يؤمن؟ بالقصائد والمدائح والرقص! فَبِأَيِّ حَدِيثٍ [الأعراف:185] بعد القرآن يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185]؟
واعلموا أن إضلال الله لن يكون ظلماً من الله، أنت مستقيم فهل يضلك، مستحيل هذا، لا يضل الله عبداً؛ لأن ذلك ظلم والظلم حرام عليه، ما هو في حاجة إلى أن يظلم أبداً؛ لغناه، وإنما سنته أن من أكل خمسة جرامات من سم الأفعى يموت، ومن ألقى نفسه من شاهق كجبل إلى الأرض يتحطم ويموت، من طعن بطنه بسكينة وخضخضه يموت. فالله عز وجل لا يضل العبد وهو يريد الهداية، لا يضل العبد وهو مهتد، مستحيل هذا، ولكن يضله حين يتكبر ويترفع ويجيئه النذير ويأتيه البشير ويخوفه العليم، ويبصره الحكيم وهو مصر، هذا لن يهتدي، هذا الذي يعني الله تعالى بقوله: (إن الله لا يُهدَى من يُضل) كما في قراءة.
فالله لا يضل العبد عمداً ظلماً وعدواناً، ولكن العبد إذا توغل في الخبث والشر والفساد تقول له: تعال لتصلي فيضحك منك، ومثلنا للعوام أمثلة حية من هذا النوع، شخص شرب الخمر ليلة واحدة، ثم وجد من يعظه ويرغبه فيما عند الله فهل يترك أو لا يترك؟ يترك، وشخص مضى عليه سنة كاملة وهو يشرب الخمر، ثم عثر على صلحاء وجالسهم فعرف الطريق فإنه يتوب، لكن إذا توغل عشرين أو ثلاثين سنة وهو يشربها، فهل يتركها؟
هذه السيجارة المنتنة الخبيثة التي تتنافى مع ذكر الله والفم الطيب إذا توغل فيها العبد خمسين سنة وهو يدخن فإنه يقول لك: ما نستطيع تركها، لكن لو قارفها يومين أو ثلاثة وفي العام الأول فممكن أن يتركها.
ومثال آخر: ائت إلى امرأة متحجبة وزين لها الشيطان كشف وجهها ومحاسنها، وبالتغرير من المعلمات ومن الإذاعة والصحف، وكشفت عن وجهها وخرجت في القرية، فقلت لها: أما تخافين الله، يا بنت! غطي وجهك، فوالله تستحي، وتغطي وجهها، لكن إذا قضت خمسين سنة وهي متبرجة، فقل لها: أما تخافين الله يا أمة الله؟ فتخرج لسانها وتضحك منك تقول: أنت متأخر.
والله! إن ذلك لحق في كل من توغل في جريمة، في التلصص فقط قال علماء النفس: إذا رأيت السارق والحبل في يديه أو الحديدة وهو يساق إلى المحكمة أو إلى السجن، هو في ذلك الوقت يفكر كيف يسرق، هو ماش إلى السجن بالسرقة في يد العسكري، هو يمضي ويفكر إذا انطلق كيف يسرق هذا الدكان أو هذا؛ لأنه أشبع به! هذا معنى: (إن الله لا يُهَدى من يُضل)، إذا أضل الله بحسب سنته من توغل في الشر والفساد فلن يهتدي أبداً، ويكفي ثلاث عشرة سنة والرسول مع أبي جهل وابن أبي معيط وفلان وفلان وفلان من الطغاة يشاهدونه، يسمعون كلام الله، هل اهتدوا؟ ما اهتدوا، هلكوا كلهم في بدر إلى جهنم، وهكذا يقول تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ [الأعراف:186].
إذاً: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:186]، نتركهم في طغيانهم يعمهون، الطغيان: مجاوزة الحد، دعهم في فسقهم وفجورهم وهم يتخبطون حيارى حتى تأتي الصاعقة من الله والنقمة الإلهية فتأتي عليهم، ولا إله إلا الله.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -والعلم ينفع- أن كل آية من كتاب الله لها هداية تهدي بها، والله! لا توجد آية لا فائدة منها قط، مثل عرجون كله رطب فهل فيه رطبة تنفع وأخرى ما تنفع؟ كلا. كله على حد سواء نافع، فالآيات القرآنية كل آية لها هداية، يهدي الله بها من يشاء، فلهذا نوجد دائماً خلاصة الآيات في بيان هدايتها.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى إن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]، أخذنا منه: عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم خاصة، حتى إن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم، فمن درجة إلى درجة حتى يهلك.
[ ثانياً: أكبر موعظة، وهي أن على الإنسان أن يذكر دائماً أن أجله قد يكون قريباً وهو لا يدري، فيأخذ بالحذر والحيطة؛ حتى لا يؤخذ على غير توبة فيهلك ويخسر ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185].
[ أكبر موعظة ] في هذه الآيات [ وهي أن على الإنسان ] العاقل [ أن يذكر دائماً أن أجله قد يكون قريباً وهو لا يدري ] فمن هنا [ يأخذ بالحذر والحيطة ]، يعني: ما يترك واجباً أوجبه الله ولا يغشى حراماً حرمه الله، هذا هو الحذر، [ حتى لا يؤخذ على غير توبة فيهلك ويخسر ] خسراناً أبدياً.
[ ثالثاً: من لا يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر والعظات والعبر لا يتعظ بغيره ] أبداً، يغنون ويرقصون ويأتون بشطحات ويقولون: للموعظة، ولا يقرءون القرآن ولا يجتمعون عليه، أما تعرفون مدائح المتصوفة؟ بالدفوف أحياناً، يقول لك: تزيد في إيماننا، ويتهتكون، والقرآن ما يقرءونه ولا يجتمعون عليه، من صرفهم عن القرآن إلى الأغاني؟ الشيطان وأعوانه، بدلاً أن يجتمعوا على آية تتلى وهم يبكون والدموع تسيل، والقلوب ترق، بدل ذلك يرقصون: يا هو يا هو! لا إله إلا الله، ماذا فعل بنا العدو الثالوث الأسود المكون من ثلاث طوام: المجوسية، واليهودية، والنصرانية، هذا الثالوث هو الذي أفسد أمة الإسلام وهبط بها وما زال يراقبها ويدمرها، وما أفاق المسلمون ولا عرفوا بعد.
[ رابعاً: من أعرض عن كتاب الله مكذباً بما فيه من الهدى فضل لا ترجى له هداية أبداً ].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر