أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة النمل: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [النمل:54-58].
هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها باختصار قصة لوط على نبينا الصلاة والسلام مع قومه إشارة، فقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، فلوط أرسله الله عز وجل إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه أتى قومه ودعاهم إلى عبادة الله، وذكرهم به، وذكرهم أنهم يقعون في الفاحشة التي لم يسبقوا بها قبل ذلك قط، ولم تكن تعرف هذه الفاحشة قبل هؤلاء الملاعين، لعنة الله عليهم، فقال لهم هنا: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، وذكر الله عز وجل في سورة الشعراء أنه جاءهم يدعوهم إلى الله سبحانه، وأن يعبدوا الله ويتقوه سبحانه، وقال لقومه عن هذه الفاحشة إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف:81]، أي: يأتون الرجال ويتركون النساء، فذكر أنهم قوم يجهلون، وأنهم قوم يفتنون، وأنهم يفعلون ذلك وهم يبصرون، فقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ [النمل:54]، الهمزة للاستفهام والإنكار على هؤلاء، أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [النمل:54]، الفعلة القبيحة والشنيعة والعظيمة أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، وكان لوط عليه الصلاة والسلام، وهو ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد هاجر من العراق إلى الشام، فسكن إبراهيم في الشام، وتوجه لوط إلى قرية من قراها وهي سدوم في فلسطين؛ ليدعو الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، فوجدهم يأتون الفاحشة مع كفرهم بالله سبحانه وتعالى، فقال لهم: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، يعني: طريق الحق، أي: وأنتم تعرفون الحق من الباطل، وتعرفون أن هذا ليس محل النسل وليس محل الولد، وإنما تفعلون ذلك مكابرين مجاهرين بمعصيتكم لربكم، وأنتم تعلمون ذلك يقيناً؛ لأن الإنسان الذي يعلم قد يعلم مشاهدة، وقد يعلم غيباً، وهو لما قال لهم: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، يعني: تعلمون يقيناً كما أنكم ترون بأعينكم، فتعرفون أن هذا حرام، وتعرفون أن هذه فعلة شنيعة قبيحة لا يحل لكم أن تأتوها، قال: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل:54]، أنها فاحشة، وأنها من أعظم ذنوبكم.
وقرأها هشام بالوجهين، (آئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء)، وأَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [النمل:55]، وهذه الأخيرة قراءة الجمهور. أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً [النمل:55]، أي: تضعون شهوتكم في رجال مثلكم دون النساء اللاتي خلقهن الله عز وجل من أجلكم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]، فهو قد دعاهم إلى الله عز وجل وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تكن هذه المعصية هي معصيتهم الوحيدة، ولكنها كانت أشنعها، فذكرهم بها، ومنعهم منها، ونهاهم عنها.
ولم يكونوا يكتفون بفعل هذه الفاحشة مع أهل بلدهم، ولكن كانوا ينتظرون الغرباء أن يأتوا، فيستولون عليهم ويفعلون معهم هذه الفاحشة، لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، فقال لهم: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]. أي: أهل جهل، كما يقال عن إنسان: فلان جاهل، يعني: أخلاقه سيئة، أي: فحشت أخلاقه، وكذلك هؤلاء، فعندما قال لهم: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]، فإن الجهالة بمعنى: الفحش، وبمعنى: الوقوع في السيئات من الأعمال، وإلا فهم يعرفون أنها حرام؛ ولذلك ذكر الله عز وجل أن من صفات عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فالمؤمنون عباد الرحمن إذا مروا بجاهل ابتعدوا عنه، فإذا خاطبهم الجاهلون بلسان الأذى ردوا عليهم: سلاماً، أي: مسالمة ومتاركة بيننا وبينكم، فما لكم عندنا من شيء، فيتركونهم ولا يجيبونهم بمثل فحشهم وجهلهم وصخبهم واعتدائهم، وإنما يقولون: سَلامًا.
إذاً: فهنا الجهل الذي هم فيه ليس هو عدم المعرفة، فهم يعرفون أنها حرام، ولكنها عدم معرفة من نوع آخر، وهو عدم معرفة الله سبحانه وتعالى، وعدم تقدير الله حق قدره كما قال الله سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، أي: أنهم عرفوا الله ولكن لم يعبدوه سبحانه حق العبادة، ولم يخافوا منه سبحانه وتعالى الخوف الحقيقي الذي يبعدهم عن معصيته سبحانه، وهذا من الجهل، وذلك مثل بني إسرائيل عندما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، فـتَجْهَلُونَ هنا ليس معناها: لم تعرفوا ربكم؛ فهم عرفوا ربهم، وهم يدعونه. ولكن وصل الأمر بهم إلى أنهم لم يقدروا الله حق قدره، فأرادوا شيئاً مجسداً أمامهم حتى يعبدوه من دون الله سبحانه.
إذاً: فقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55]، من جنس هذه الجهالة، أي: أنهم لم يقدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى، ففعلوا هذه الفاحشة، وجهلوا ما وراء ذلك من عقوبة، أو تناسوا هذه العقوبة، فكأنهم كالجاهلين بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل:55].
ففتنهم الله عز وجل فتنة عجيبة، وذلك بأن أرسل ملائكة في صورة شباب حسان الوجوه؛ ليفتن بهم هؤلاء القوم، وكانوا ثلاثة فمروا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما علم أنهم ملائكة جادلهم قائلاً: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، فما زال ينزل معهم إلى أن قال: أتهلكون قرية فيها مؤمن واحد؟ قالوا: ل،. قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [العنكبوت:32]، فلما أتوا إلى لوط نظر إليهم وقال: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]، أي: ماذا سأعمل لهم وأنا وحدي، وليس معي جيش يدافع عني، وليس معي إلا بنتان؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فكأنه نسي ذلك، أو كأنه يقصد جيشاً من البشر المؤمنين؛ ليجاهد بهم هؤلاء القوم.
فلما أبوا إلا الدخول عليه قال من غضبه ومن ضعفه في هذه الحالة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، فلما ضاق به الأمر أظهر له الملائكة أنفسهم بأنهم رسل الله، فلا داعي للخوف من هؤلاء، فقالوا: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81]، أي: هم يطرقون عليك الباب من أجل أن يدخلوا، دعهم يدخلون، فلما فتح الباب ألقوا في وجوههم شيئاً، فعميت أبصارهم، فرجعوا متقهقرين وهم يتوعدون لوطاً. ولو كان عندهم عقل، أو شيء من البصر لعلموا أن هذا مؤيد من ربه، ولآمنوا وانتهوا، ولكن أبوا إلا أن يتوعدوا لوطاً بأنهم سيرجعون له مرة ثانية، فلما خرجوا خاف لوط عليه الصلاة والسلام، فطلبت منه الملائكة أن يخرج، فكأنه تعجل الانتقام من هؤلاء، فقالوا: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]، أي: نحن الآن بالليل، وفي الصبح سيأتي عذابهم، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]. وأمروه بالخروج هو وأهله، إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود:81]، والمعنى: أنها لا تخرج معك، أو ستخرج معك، ثم سترجع للعذاب مع قومها.
وقدَّرناها هذه قراءة الجمهور، وقرأها شعبة عن عاصم : قَدَرْنَاها من الغابرين، فخرج لوط ومعه ابنتاه وامرأته، وخدرت الملائكة لوطاً: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود:81]، أي: أنها هي التي ستلتفت، فالتفتت فرأت العذاب ينزل من السماء، فصرخت على قومها، فأتاها عذابها من عند ربها، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83]، أي: حجارة من نار نزلت على هؤلاء فأهلكهم الله سبحانه، مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82] إلى قال: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]، يعني: لا أحد سينجو من عذاب الله سبحانه، فإن هؤلاء ظلموا فجاءهم العذاب، ومن يظلم بعد ذلك فليس عذاب الله سبحانه بعيداً منه، قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا [الأعراف:84]، أي: نزلت عليهم حجارة من نار جهنم كالمطر من السماء، وكان كل إنسان تأتيه حجارته فيهلكه الله سبحانه، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [الشعراء:173]، أي: بئس مطر المنذرين، فكان المطر بئيساً سيئاً على هؤلاء الذين أنذروا فلم يعتبروا، وذكروا فلم يتذكروا، فأهلكهم الله، ثم عقب ذلك بقوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل:59]، أي: احمد ربك سبحانه على أن أهلك الظالمين، ومكن للمؤمنين.
نسأل الله عز وجل أن يهلك الظالمين، وأن يمكن للمؤمنين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر