وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
بدأ المؤلف رحمه الله بخصال الإيمان توطئة لأمر مهم ألا وهو الرد على المرجئة، وذكر أن من خصال الإيمان البذاذة، ويستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البذاذة من الإيمان) ، وهذا الحديث وإن ضعفه بعض العلماء فقد حسنه آخرون، وآخرهم الشيخ الألباني حيث حسن هذا الحديث أو صححه، ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن الإرفاه، وكان يحتفي أحياناً) يعني: كان يمشي حافياً أحياناً، وهذه مآلها إلى الزهد، والزهد من علامات الإيمان، والتمسك بالدنيا ليس من علامات الإيمان، بل من علامات نقص الإيمان عند العبد، ولذلك ورد بسند صحيح عن عمر أنه كان ينصح إخوانه ويقول: اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم. وليس الزهد في أن الإنسان لا يمتلك المال، بل الزهد أن يزهد قلبه من المال والدنيا، ولذلك سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزهد فقيل: هل الغني يكون زاهداً؟ قال: يكون زاهداً على شرط أنه إذا خرج منه درهم لا يتأثر به قلبه، وإذا دخل آخر لا يتأثر أيضاً به قلبه، فهذه دلالة على أن الدنيا لو كانت في اليد فليس فيها مسبة أو ملامة، لكن إذا تمكنت من القلب فهذا هو النكران وهذه هي محل الملامة.
ثم انتقل المؤلف فتكلم عن المرجئة، وهجم على أهل البدعة والضلالة، والمرجئة قال فيهم بعض السلف: هؤلاء هم يهود هذه الأمة، أو: يهود أهل القبلة المرجئة، وقال بعضهم: مجوس هذه الأمة المرجئة.
والمرجئة مشتقة من الإرجاء، والإرجاء معناه التأخير، كما قال الإمام الطبري.
والحسن بن محمد بن الحنفية الذي كان أول من قال بالإرجاء، إذ كان يقر بخلافة الشيخين أبي بكر وعمر ويقول: نرجئ إمامة عثمان وعلي إلى الله جل وعلا، فكان لا يقر بإمامة الإمامين الشيخين عثمان وعلي ، فقال: نرجئ أمرهما إلى الله جل وعلا، ولذلك سمي من اتبعه بالمرجئة، ثم ندم ورجع عن ذلك.
و
أهل السنة الجماعة لا يخالفون الحسن بن محمد بن الحنفية في قوله، وليس هذا محل نزاع بينه وبين أهل السنة والجماعة، لكن من جاء بعده كـذر الهمداني وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة هم الذين اختلف معهم أهل السنة والجماعة؛ لأن هؤلاء يقولون: الإيمان شيء واحد، لا يتبعض ولا يتجزأ، وهذا هو محل النزاع بيننا وبينهم، فهؤلاء لا يتصورون أن يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، أو نفاق وإيمان، ويقولون: إما إيمان وإما كفر، إما إيمان وإما نفاق، ولا يجتمع هذا وهذا، وهذا أيضاً أصل من أصول الخوارج، فالمرجئة تتفق مع الخوارج والمعتزلة في هذا الأصل، إلا أن الخوارج غلوا وأفرطوا، فنظروا إلى أحاديث الوعد فقالوا: من فعل المعصية أو الكبيرة فقد خرج من الإيمان؛ لأن بعض الإيمان إذا انتفى انتفى الإيمان كله؛ لأنه شيء واحد، وأما المرجئة ففرطوا وجفوا وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، ونحن الآن بصدد الكلام على المرجئة، وبينا أن دائرة المرجئة مع المعتزلة مع الخوارج دائرة واحدة ظهرت في أواخر القرن الأول. فأصَّل المرجئة أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، ولا يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، ولا إيمان ونفاق، وترد عليهم أدلة الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، فأثبت لهم الإيمان وأثبت عليهم الكفر، ولكنه كفر دون كفر، وأصرح من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، فقد أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه صفة من صفات النفاق مع أن أصل الإيمان معهم، وإنما ينتفي عنه الإيمان المطلق ويبقى مطلق الإيمان، بمعنى: ينتفي الإيمان الكامل ويبقى أصل الإيمان، مع أن فيهم شعبة من الكفر وشعبة من النفاق، لكن معهم أصل الإيمان، فهذا رد صريح على المرجئة. والمقصود أن المرجئة ضلال وأهل بدعة، وهم الذين قالوا: إن الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعض، وأيضاً قالوا: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان.
وأيضاً قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فتحكيم شرع الله غير الإيمان، فالإيمان محله القلب، والتحكيم محله الجوارح وهو اعتقاد القلب بأن الرب هو السيد الآمر الناهي المطاع، وجعل التسليم أيضاً غير الإيمان، فالتسليم عمل من أعمال القلوب، وهذا فيه رد على غلاة المرجئة الذين ينفون أيضاً أعمال القلوب من مسمى الإيمان، وإن كان غالبهم من مرجئة الفقهاء يدخلون أعمال القلوب في مسمى الإيمان، فهذا رد شيخ الإسلام وابن حزم على هؤلاء المرجئة، ولقد رد ابن تيمية بنفس طويل في كتاب الإيمان على المرجئة في ذلك، وبين أن الأعمال متلازمة مع الإيمان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأوضح ذلك بضرب الأمثلة على ذلك منها قوله: لا يتصور في رجل يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ثم بعد ذلك لا يسجد لله سجدة، ولا يتصدق لله بدرهم، ولا يطوف حول البيت، بل هذا ليس في قلبه إيمان البتة، وكذلك قال: إن الإيمان الذي في القلب إن كان تاماً ظهر ذلك على الجوارح، ثم نقل تأكيداً لكلامه عن الحسن أنه قال: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، وهذه المضغة هي مضغة القلب.
قال الله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]، فالإيمان هنا بمعنى التصديق، والأعمال ليست من التصديق.
الدليل الثاني: أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فإذا قلنا بأن الأعمال من الإيمان للزم انتفاء الإيمان بالكلية عند انتفاء بعض الأعمال.
الدليل الثالث: قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فاستشهدوا بهذه الآية على أن محل الإيمان هو القلب فقط، فعمل الجوارح لا تدخل في القلب، ولذلك إذا كان الإيمان التصديق فمقابله الكفر وهو التكذيب، فدائرة الإيمان والكفر عندهم هي على القلب، فلو سجد رجل للصنم، أو سب الله، أو سب الرسول، لا يكفر حتى يستحل بقلبه؛ لأن مظان الكفر والإيمان عندهم يلازم هذا القلب، مستدلين بقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فقالوا: محل الإيمان أو محل الكفر هو القلب.
الدليل الرابع من أدلتهم: العطف، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، والأصل في العطف المغايرة، فدل بذلك على أن الأعمال الصالحة غير الإيمان.
ومن الأدلة أيضاً أن الآية صرحت بأن الصلاة إيمان فقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، فإنه باتفاق المفسرين أن المعنى: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، ويدل عليه حديث: (فمن تركها فقد كفر)، فسلب الإيمان بترك عمل من أعمال الجوارح، وهو الصلاة، وسماها الله إيماناً، بل جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حداً فاصلاً بين أهل الإيمان وأهل الكفر.
ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحياء شعبة من شعب الإيمان) فالحياء هنا عمل قلبي، وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان، وإماطة الأذى سماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من شعب الإيمان، فهذه دلالة على أن هذه الأعمال من الإيمان لا تخرج عنه، فإذا اعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح فلابد أن نرد على أهل البدع الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان. فنقول: فساد هذا القول تعرفه من لازمه، إذ لازم هذا القول أن كل تارك للصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد في سبيل الله، والذكر، وتلاوة القرآن، مؤمن كامل الإيمان، بل إيمانه مثل إيمان أبي بكر الذي كان يقوم الليل، ويصوم النهار، وينفق ماله للدعوة في سبيل الله، بل إيمانه إيمان جبريل!
أولاً: لا نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، فإن الإيمان في اللغة يتعدى بنفسه، ويتعدى بالباء، ويتعدى باللام، فله ثلاثة معان في اللغة: يتعدى بنفسه فيكون بمعنى التأمين ضد التخويف، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وتقول: أمنته، ضد خوفته، فهذا معنى من معاني الإيمان في اللغة، ويأتي أيضاً متعدياً بالباء فيكون معناه التصديق، قال الله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى [البقرة:136]، إلى آخر الآيات، آمنا بالله أي: صدقنا بالله جل وعلا، صدقنا بوجود الله، صدقنا بربوبية الله، صدقنا بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، صدقنا بألوهية الله جل وعلا، وصدقنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله، كما قال الشافعي : آمنت برسول الله، وبما جاء على لسان رسول الله، على مراد رسول الله، أي: صدقت بأن محمداً أرسل من قبل الرب جل وعلا، وأنه أوحي إليه بهذه الرسالة، وأن القرآن كلام الله جاءنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فيتعدى بالباء فيكون معناه: التصديق الذي فرغتم كل هذه المعاني إلى هذا المعنى فقط.
ويتعدى باللام فيكون معناه الاتباع والانقياد والاستسلام.. تقول: آمنت لله، أي: استسلمت لله، استسلمت لأمر لله، وتقول: آمنت لرسول الله، أي: استسلمت لأمر رسول الله واتبعت شرعه، ودليل ذلك قول الله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] يعني: اتبعه لوط على ما هو عليه من الخير، فاستسلم له لوط وانقاد له. فيكون الإيمان في اللغة له أكثر من معنى، فلا تسلم مقدمتكم.
ثانياً: نقول: نتنزل معكم ونقول: نحصر معنى الإيمان بالتصديق في اللغة ثم ننظر هل له معنى آخر في الشرع؟ فنجد أن الإيمان في الشرع معناه التصديق المستلزم للانقياد والاتباع والاستسلام، وإذا خالف التعريف في الشرع التعريف في اللغة قدم تعريف الشرع.
ونظير ذلك الصلاة، فإن الصلاة في اللغة معناها: الدعاء، لكن معناها في الشرع: أفعال مخصوصة في أوقات مخصوصة، فيقدم التعريف الشرعي على اللغوي، فإذا قيل لك: قم فصل ركعتين، فليس المعنى: قم فادع الله، إلا أن تأتي قرينة أحالت من مفهوم الشرع إلى مفهوم اللغة.
إذاً: مفهوم الشرع عندنا يقدم على مفهوم اللغة، ومفهوم الشرع هو التصديق المستلزم للانقياد، والانقياد هنا يكون بعمل القلب وعمل جوارح، وعليه تكون أعمال القلوب وأعمال الجوارح دخلت أيضاً في مسمى الإيمان.
ويمكن أن نرد عليهم أيضاً في تعريف اللغة وقولهم: بأن الإيمان التصديق، والأعمال لا تدخل في التصديق، فنقول: نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، لكن من قال لكم: إن الأعمال تخرج من مسمى التصديق، نحن نقول بقولكم: الإيمان هو التصديق، وندخل الأعمال في التصديق، وعندنا دليل من الشرع في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي) إلى آخر الحديث، ثم قال: (والفرج يصدق هذا أو يكذبه) ، فالتصديق أيضاً على عمل الفرج وهو الوطء، وينسحب بعد ذلك على عمل اليد، وعمل العين.
ومن أعمال القلوب: الانقياد والخوف والحياء والرجاء، وهي داخلة في مسمى الإيمان.
ومن أعمال الجوارح: الصلاة، والزكاة، والحج، فمنها عبادات بدنية كالصلاة، ومنها عبادات مالية كالزكاة، ومنها عبادات بدنية مالية كالحج، وهذه كلها تدخل في مسمى الإيمان بإجماع السلف. وهناك آيات كثيرة تدل على ذلك منها قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]، وقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، فكل هذه من أعمال القلب، ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ [المائدة:55]، وهذه أيضاً أعمال، ثم ختم الآية بقوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، فهنا صريح الكتاب يثبت أن المؤمن الحق هو من أتى بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، ضاماً إلى ذلك تصديق القلب وقول اللسان بالشهادتين. أما الأحاديث فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت) ـ يعني بالإيمان وعمرت ـ (صلح الجسد) فالجوارح تابعة للقلب. فالقول بأن الإيمان حقيقة مركبة من قول وعمل مضاد لما قالته المرجئة: بأنه جزء واحد لا يتبعض.
ومما يستدل به عليهم في ذلك قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ، فالله جل وعلا نفى عنه الكفر بعد أن نطق بالكفر؛ لأنه كان مكرهاً، فمفهوم المخالفة في هذه الآية أنه إذا لم يكن مكرهاً وقد نطق بكلمة الكفر فحكمه أنه كافر بدليل الخطاب من الآية. ومثل هذا ما قاله عمار بن ياسر من كلمة الكفر فاشتكى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد) ، مفهوم المخالفة: إن لم تكن مكرهاً ونطقت بهذه الكلمة التي هي كلمة الكفر فحكمك أن تكون كافراً أصلاً. فالمرجئة يلزمون بهذه الآية؛ لأنهم يقولون: محل الكفر القلب، والآية تدل على أن هناك كفراً بالقول، ومع أن الآية نزلت في شأن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن السبب لا يخصص، لكن هو مؤثر في هذه الأحكام. إذاً: فالآية دليل عليهم، وتدل على أن الإيمان محله القلب والجوارح واللسان.
الثانية: عطف شيء على شيء يتلازم معه، حتى لو كانت الأجناس مختلفة، مثال ذلك قول الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] فطاعة الله وطاعة الرسول متلازمان، فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهنا عطف طاعة مستقلة لله وعطف طاعة مستقلة للرسول، لكن هذه الطاعة المستقلة لله والطاعة المستقلة للرسول متلازمان؛ لقول الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، والإيمان والأعمال الصالحة تدخل في هذا القسم؛ لأن من لوازم الإيمان القلبي عمل الجوارح.
ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، فالمحبة عمل قلبي ومع ذلك استلزمت عمل الجوارح وهو الاتباع، يعني: اتباع الرسول في صلاته، ونومه، وفي إتيانه لنسائه، وفي سنن العبادات والعادات، فإنك إن عملتها اتباعاً أجرت عليها.
ومن ذلك أيضاً حديث في الصحيحين وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب)، فالقلب إذا صلح بالإيمان ظهر هذا الصلاح على الجسد وهو الجوارح، فإذاً: الأعمال إذا عطفت على الإيمان يمكن أن تدخل من هذا الباب وهو باب التلازم، يعني: عطف اللازم على الملزوم، من أنه إذا وجد الإيمان في القلب لزم أن يظهر على الجوارح، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن وجد في القلب إيمان تام فلابد أن يظهر على الجوارح، فإذا انتفت أعمال الجوارح انتفى إيمان القلب، فإن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، فالعطف هنا يدخل من باب التلازم، وبهذا يرد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، فنقول: بل هي من الإيمان، فهي إما في دائرته وإما متلازمة معه، وإن كانت الدائرة غير الدائرة لكن هناك تلازم، بمعنى: أنه لو انتفى سقطت الدائرتان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
النوع الثالث في العطف: عطف خاص على عام، كقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، لكنه خص بالذكر للتأكيد.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فالصلاة الوسطى هي صلاة من الصلوات، فعطف الخاص على العام؛ ليدل على التأكيد، يعني: أؤكد على هذه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد وتر أهله) أي: قطع أهله، ولم تكن فيه بركة، أو حبط عمله كما في بعض الروايات.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) مع أن النساء من متاع الدنيا كما قال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ .. [آل عمران:14]، إلى أن قال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، فهو عطف خاص على عام للتأكيد.
ونقول: الإيمان أيضاً يمكن أن يدخل من هذا الباب، فقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة)، فهو يدل على أن هذه الجزئيات كلها جزء من كل، فكأن الإيمان شجرة كبيرة وكل غصن من هذه الأغصان جزء من هذه الشجرة، فإذا أفردت الحياء فقط وعطفته على الشجرة، فجزء من الشجرة عطفته على الشجرة، وهو الخاص على العام. إذاً نقول: العطف الذي احتجوا به في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277]، خاطئ ولا دلالة لهم فيه؛ فإن هذا العطف إما عطف تلازم وإما عطف خاص على عام، وهذا أيضاً لا يخرج الأعمال من دائرة الإيمان. فهذا هو الرد على المرجئة، وهم مع ذلك أقرب الطوائف إلى أهل السنة خاصة مرجئة الأحناف.
والخلاف اللفظي الثاني هو في شأن أهل الكبائر، فهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، لكن قالوا: إن الذي فعل الذنب مستحق للعذاب، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهذا قول أهل السنة والجماعة، فقد اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في المآل واختلفوا في اللفظ، فهم يسمون أهل الكبائر مؤمنين، أما أهل السنة والجماعة فيسمون صاحب الكبيرة مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، ولا تقول: هو مؤمن فقط، ويمكن أن تنزله من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام.
فهاتان نقطتان اتفق أهل السنة والجماعة مع المرجئة فيهما، والخلاف صوري ولفظي بينهم، أما النقطة الحقيقية في الخلاف فهي أنهم حصروا الإيمان والكفر في القلب، وأهل السنة والجماعة يختلفون معهم في ذلك؛ لأن محل الإيمان عندهم القلب والجوارح واللسان، والإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، أما المرجئة فحصروا الإيمان في القلب.
النقطة الثانية: أنهم حصروا الكفر في التكذيب، وهذا خلاف كبير لأهل السنة والجماعة، إذ إن الكفر عندنا كفر إعراض، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، وكفر إباء واستكبار، لقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، وكفر استهزاء، لقوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، فأنواع الكفر كثيرة، وقد عددناها ستة أو سبعة من أنواع الكفر، وهم حصروا الكفر في التكذيب، ونحن نخالفهم في ذلك ونقول: بل الكفر أكثر من التكذيب والاستحلال؛ لأن كل مرجئ يقول: إذا فعل المؤمن ما يكفر به فليس بكافر حتى يستحل بقلبه ما فعل، وأهل السنة يخالفونهم في ذلك فإن الرجل إذا ألقى المصحف في الحشوش قلنا: هذا الفعل فعل كفر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبه كما فصلنا، فالمقصود أنهم يقولون: إن الذي ألقى المصحف في الحشوش لا يكفر إلا أن يستحل بقلبه، أو يقولون: إن العمل هذا ليس كفراً بذاته، بل هو علامة على الكفر الذي في القلب، وعلامة على التكذيب والاستحلال الذي في القلب، وهذا خلاف ما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأن من الأعمال ما هو كفر بذاته، وهناك من الأقوال ما هو كفر لذاته، يخرج به الشخص من الملة بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة منه، فهذه هي النقاط التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة اختلافاً حقيقياً مع المرجئة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر