يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد وصل المؤلف رحمه الله في كتابه: (الدر النضيد) إلى القول: بتحريم اتخاذ القبور مساجد.
قال رحمه الله: [ ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) ].
فـ(مساجد): مفعول به، وهو ممنوع من الصرف؛ لأنه جمع على صيغة مفاعل.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبياءهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك).
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) وأيضاً احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وقوله: (واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد).
وأيضاً ذكر قصة الكنيسة من حديث عائشة أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم الكنيسة التي رأتها في الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولئك إذا مات فيهم الرجل، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا يوم القيامة).
ولكن لما كانت اللفظة موهمة للتساوي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً؟)، حسماً لمادة الشرك، وسداً لكل طريق يصل بالإنسان إلى تعظيم مخلوق، ورفعه إلى مكانة تعظيم الله جل في علاه، ولو كان المخلوق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما دخل صلى الله عليه وسلم على القوم فقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، أو أنت سيدنا وابن سيدنا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان)، أي: حتى لا تغلو.
وكان يقول: (لا تطروني)، وهذا نهى عن الغلو في الدين فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وذلك سداً لباب الشرك، وسداً للذريعة.
وأيضاً: سداً للذريعة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من اتخاذ القبور مساجد.
وكان أيضاً يقول: (تسرولوا واتزروا، فإن اليهود تتزر ولا تتسرول). وهذا كله مخالفة لليهود والنصارى، وقال منكراً على الأمم المتأخرة التي تتشبه باليهود والنصارى، وتحذوا حذوهم: (والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة)، وفي رواية قال: (شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضباً لدخلتموه).
وهذا إنكار منه عليهم هذا السير على نهج السابقين.
وأيضاً لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين على أقوام ينيطون أسيافهم على أشجار، -أي: يعلقونها بها ويتبركون بذلك- فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قاطعاً لدابر التشبه بهؤلاء: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم مثل ما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). وذلك حسماً لهذه المادة، ومنعاً للتشبه بهؤلاء، الذين كان فيهم أول الكفر والشرك أنهم عظموا أولياءهم وصالحيهم، وبنو على قبورهم المساجد، وجعلوا عليها السرج، وجعلوا الورود والزهور على هذه القبور، فعبدوهم من دون الله جل وعلا بعدما انطمس العلم.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن هذا). ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في المسجد الذي فيه قبر.
الوجه الأول: الزيارة، وكان الأصل في الزيارة الحرمة، ثم نسخ هذا الحكم، وأصبح الأصل في الزيارة الحل والإباحة، بل الاستحباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فزوروها، فإنها تذكركم بالموت).
وأيضاً من الزيارة الشركية: زيارة الأولياء للذبح لهم، وهي من الشرك الأكبر.
فلما منع النبي صلى الله عليه وسلم البناء على القبور، أو بناء المساجد على القبور، منع أيضاً الوسيلة إلى هذا، فمنع الزيارة للقبور، ومنع الزيارة للمساجد التي فيها قبور، وذلك إن كانت من هذه الأنواع.
الحالة الأولى: أن يكون القبر خلف القبلة، أي: في خلف المسجد.
الحالة الثانية: أن يكون القبر أمام القبلة.
ولو كان هناك تفصيل لفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وترك التفصيل في مقام يحتاج إليه الناس دلالة على أن العموم هو المراد.
فنقول: إن الاستفادة من هذا المسجد تتفرع عن أصل، وهو: معرفة الذي بني أولاً، المسجد أو القبر؟
فإن كان المسجد بني أولاً، ثم أدخل فيه القبر كما يحدث الآن في كثير من الأمصار، من أن باني المسجد إذا كان رجلاً طيباً صالحاً تقياً خيراً متصدقاً، فإن مات فإنه يدفن في المسجد الذي بناه.
فالصحيح الراجح في هذه الحالة: أن ينبش القبر ويهدم وجوباً. ولكن بشرط إذن ولي الأمر، فإن لم يفعل بعد ما علم فحسابه على الله، وتبرأ ساحتنا بالتبيين فقط.
إذاً: إذا ادخل القبر إلى المسجد وجب هدمه، ونبش القبر، وإخراج العظام، ووضعها في مقابر المسلمين، وتصح بعد ذلك الصلاة في هذا المسجد؛ لأن الأصل صحة الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا).
ومن الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة واشترى أرضاً؛ ليبني عليها المسجد، فلما علم أن فيها قبوراً نبشها، ثم بنى المسجد؛ لأنه لو بناه على القبور لكان يجب عليه أن يهدم المسجد.
وأيضاً من الأدلة على هدم المسجد إذا بني على القبر: أن بناء المسجد على القبر ليس من عمل المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: فهو باطل. فلا بد أن يهدم لأنه ليس من عمل المسلمين بحال من الأحوال.
والدليل على أنه ليس من عمل المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم).
وأما الدليل العملي على ذلك: فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة فوجد قبوراً، فنبشها أولاً؛ حتى يبني المسجد.
فإذاً: إذا بني المسجد أولاً نبش القبر، وإذا بني المسجد على القبر هدم المسجد، وإن كان فيه إتلاف مال المسجد، ولا نقول: إنه تعارضت مفسدتان، نرتكب الصغرى من أجل دفع الكبرى؛ لأن الهدم ليس فيه إلا إتلاف المال، وأما البناء فيكون فيه ضياع الدين، وفيه وسيلة للشرك بالله جل وعلا، وعبادة غير الله جل في علاه، وتعظيم غير الله جل في علاه، وتعظيم الأولياء، ودعائهم وعبادتهم من دون الله جل في علاه، وحفظ الدين مقدم على حفظ المال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر