أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا لله ربكم، وأطيعوه في سركم وعلنكم، وراقبوه في جميع زمنكم، واشكروه أن وفقكم لإكمال شهر الصيام، فلقد مضى وانقضى، وهو شاهد للمحسنين بإحسانهم، وعلى العاصين بعصيانهم، اللهم اجعله شاهداً لنا وشفيعاً، ولا تجعله حجة علينا يا رب العالمين!
عباد الله: ودَّع المسلمون شهر رمضان المبارك، بعد أن صاموا نهاره، وقاموا ما تيسر من ليله، وأقبلوا على تلاوة كتاب الله، ولازموا فعل الخيرات، وعمل الصالحات قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] .
إنه إنْ ودَّع المسلمون أيامَ هذا الشهر الكريم، فينبغي ألا يودِّعوا ما أودَعوا فيه من الأعمال الصالحة؛ وذلك يكون باستشعار آثار الصيام على الفرد وعلى الأمة.
فالتقوى! تلكم الكلمة الجامعة التي ختم الله بها آية الأمر بالصيام، يجب ألا يُغفَل عنها بعد انقضاء شهر الصيام، وأن تبقى شعاراً لأعمال الأفراد والأمم، إن ما يعطيه الصيام من دروس في الصبر والتضحية والوحدة والمواساة، والتضامن والإخاء والألفة والمودة، والعطف وغيرها، يجب أن يستمر عليها المسلمون، وأن تُرى متمثلةً في حياة الأمة الإسلامية، وما تدنَّى واقعُ الأمة إلا لَمَّا جعلت للطاعة وقتاً وللمعصية أوقاتاً، وللخير والفضيلة زمناً، وللشر والرذيلة أزماناً، عند ذاك -يا عباد الله- لم تعمل مناسبات الخير ومواسم الرحمة والبر عملها في قلوب الناس، ولم تُجْدِ في حل مشكلات الأمة، والإصلاح من حالها، والرفع من مستواها.
إخوة الإسلام: إن استقامة المسلم على عبادة الله ليس لها غاية إلا الموت، فلا تخصَّص بزمان ولا مكان، ولا مرحلة من العُمُر، قال الحسن البصري رحمه الله: لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، ثم قرأ قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] .
فاحذروا -إخوة الإسلام- الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان، فالإله الذي يُصام له ويُعبَد في رمضان هو الإله في جميع الأزمان، وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، فإذا انسلخ هجروا المساجد، واعتزلوا المصاحف، وأعرضوا عن طاعة الله عزَّ وجلَّ، وأقبلوا على معاصيه.
أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تهدموا ما بنيتم في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن من علامة قبول الحسنة: إتباعها بالحسنة، ومن أمارات ردها: إتباعها بالسيئة.
فاحذروا -عباد الله- عدوَّكم وأعوانَه من شياطين الجن والإنس، وجاهدوه وقاوموه في السَّنَة كلها، بل في العُمُر كله.
ومما يخص هذا الشهر: صيام ستة أيام بعده، فقد جاء في السنة بترغيب الناس في ذلك، وبيان الثواب العظيم فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) أخرجه الإمام مسلم وغيره عن أبي أيوب رضي الله عنه.
وذلك لأن صيام شهر رمضان عن صيام عشرة شهور في الأجر، وصيام ستة أيام من شوال عن صيام شهرين، فبذلك يحصل لمن صامها أجر صيام الدهر كله، ولا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها في الشهر، ولا بأس أن يصوم سنة ويترك أخرى، فالأمر لا يعدو كونه سُنَّة.
أيها المسلمون: لا تفوتوا على أنفسكم هذه الفضيلة، فلا يدري أحدُنا هل يدركه عام آخر أو لا، وكلنا بحاجة ماسة إلى سد ما نقص من صيامنا بصيام التطوع.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وبارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وقنا برحمتك عذاب الجحيم، وثبتنا على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وتوبوا إليه واستغفروه، واشكروه على آلائه، واستقيموا على طاعته في جميع الأزمان، وتذكروا -رحمكم الله- بانقضاءِ شهرِ رمضان، ومرورِ الليالي والأيامِ بلوغَ آجالِكم، وتصرُّمَ أعمارِكم، وقدومَكم على ربِّكم يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39-40] .
فاتقوا الله أيها المسلمون! واتقوا الله يا من عزمتم على المعاصي بعد رمضان، فربُّ الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب ولها مشاهد، وإن العودة إلى ارتكاب المحرمات وترك الواجبات بعد رمضان جحود بنعمة الله سبحانه؛ حيث وفق للطاعة، وإكمال عدة الصيام، ومَن عَزَمَ على العودة إلى المعاصي فذلك دليل على ضعف الإيمان، وأمارة على رد عمله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] .
واعلموا -عباد الله- أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واستعمل على المسلمين في كل زمان ومكان خيارهم، يا أرحم الراحمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدِهِم سبل الرشاد، يا أرحم الراحمين!
اللهم جنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم أعزه بالإسلام، اللهم اجعل عمله في رضاك يا أرحم الراحمين!
اللهم هيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير إذا ذكر وتعينه عليه، وتحذره من الشر، يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى العودة السابقة إلى دينك القويم، يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكـروا الله يذكركـم، واشكـروه على نعمـه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر