وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود، في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الركع السجود، وعلى أصحابه الداعين إلى التوحيد، الساعين للنصح للقريب والبعيد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقال: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله ما كان؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه). هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي وابن مردويه والبيهقي .
قول أبي هريرة رضي الله عنه: (قالوا) يعني: قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) إنما قيدوا الرؤية بيوم القيامة للإجماع على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية، وهذا الاستفهام للاستعلام والاستخبار، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟) يعني: إذا اجتمعتم وأردتم أن تنظروا إلى الشمس هل يحصل لكم تزاحم وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض من شدة الزحام حتى تتمكنوا من رؤية هذه الشمس ليست دونها سحابة؟ بل الرؤية تكون واضحة، فيستطيع الإنسان في أي مكان أن يراها دون زحام أو ضرر.
و(الظهيرة): هي نصف النهار.
وقوله: (ليست في سحابة) يعني: ليست في غيم تحجبها عنكم، وهذا الاستفهام للتقرير، والمقصود منه حمل المخاطب على الإقرار؛ لأنهم لا يضارون في ذلك، لذلك قالوا: لا، (قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا) أي: أنكم لا تضارون. ولفظ: (تضارون) بتشديد الراء، وهناك لفظ آخر: (تضارون) بالراء المخففة، وهذا مشتق من الضير، أي: تكون الرؤية جلية لا تقبل مراء ولا مرية، أي: هل إذا اجتمعتم ونظرتم إلى الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكذلك القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، هل يخالف بعضكم بعضاً في رؤيتهما، ويكذب بعضكم بعضاً في ذلك؟
فكما لا يشك في رؤية الشمس والقمر في هاتين الحالتين، فكذلك لا يشك يوم القيامة في رؤية الله سبحانه وتعالى.
والمقصود من هذا الحديث: تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه: الوضوح التام الكامل في الجلاء والظهور الذي لا نزاع فيه، وليس المقصود تشبيه المرئي بالمرئي، أي: ليس المقصود منه تشبيه الشمس أو القمر بالله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لكن المقصود: أن رؤية الله في الآخرة تكون مثل رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، ومثل رؤية القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب في الوضوح، فوجه الشبه: الوضوح والجلاء وعدم الخفاء.
وفي لفظ آخر: (هل تضامون) بتشديد الميم، أي: هل ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤية القمر لإشكاله وخفائه؟ فإن الناس عند استطلاع الهلال مثلاً ينضم بعضهم إلى بعض؛ لاستشكال رؤية الهلال كما في بداية مولده، فلذلك يجتمعون حتى ينضم بعضهم إلى بعض طلباً لرؤيته، فالمقصود: أنكم حينما تريدون رؤية القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب -أي: أن السماء صافية- فإنكم لا تحتاجون إلى أن ينضم بعضكم إلى بعض حتى تستوثقوا من هذه الرؤية، وكذلك الشمس في وسط النهار، أو أن المقصود: لا يضمّكم شيء يحول دون رؤيته كبناء أو سقف، أي: هل هناك شيء يحول بينكم وبين رؤية الشمس في الظهيرة، أو القمر في ليلة البدر؟ الجواب: لا. فهذا على رواية: تضامون بتشديد الميم، أما على رواية تخفيف الميم فإنها تكون من الضيم، أي: لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم ولا يراه البعض، بل أنتم تشتركون في ذلك كلكم، فكل هذه الألفاظ المقصود منها تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح والجلاء وعدم الخفاء.
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استقررهم على هذا الأمر: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) يعني: في هذه الهيئة، وكان الظاهر أن يقال: لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما، ولكنه أخرج مخرج قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فهو هنا يمدح قوماً مدحاً في صورة الذم، فهو من المدح الذي ظاهرة الذم، لكنه في الحقيقة مدح عظيم، أي: أنه ليس في هؤلاء الناس غير عيب واحد، وهو: أن سيوفهم بهن فلول أي: أنها مثلمة من صراع الكتائب، فهو يريد أن يصفهم بالشجاعة، لكن بصورة غير مباشرة، أي: أنه لا عيب فيهم، كذلك قوله هنا: (فوالذي نفسي بيده! لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) المقصود: كما أنكم لا تضارون في رؤية أحدهما فكذلك لا تضارون في رؤية الرب سبحانه وتعالى. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيلقى العبد ربه فيقول الله له: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) قول الله تعالى: (ألم أكرمك) يعني: ألم أفضلك على سائر الحيوانات. (وأسودك) أي: جعلتك رأساً لقومك.
(وأزوجك) يعني: امرأة من جنسك، وأمكنك منها، وجعلت بينك وبينها مودة ورحمة، وألفة وسكينة.
(وأسخر لك الخيل والإبل) يعني: أذللها لك، وخص الخيل والإبل بالذكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات.
(وأذرك ترأس) يعني: وأدعك تكون رئيساً على قومك.
(وتربع) قال بعض العلماء: معناه: تأخذ رباعهم، والرباع: هي ربع الغنيمة، فقد كان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم، وقيل: تركتك مستريحاً لا تحتاج إلى مشقة وتعب، وذلك من قولهم: اربع على نفسك، أي: ارفق بها، (فيقول: بلى أي رب!) أي: فيقول العبد بعد ذكر كل هذه النعم: قد أنعمت علي بهذه النعم كلها.
والمقصود أنه يقول بعد كل واحدة منها: بلى يا رب! أو بعد ذكر كل النعم.
فيقول: (أفظننت أنك ملاقي؟ يعني: أفعلمت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) أي: أتركك من رحمتي، فنسيان الله له أن يتركه سبحانه وتعالى من رحمته.
قوله: (كما نسيتني) يعني: كما تركت في الدنيا طاعتي.
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
أي: أنهم عرضوا عليه أن يقترح عليهم شيئاً من طعام يجيدون له الطبخ، فأجابهم قائلاً: قلت: اطبخوا لي جبة وقميصاً، والمقصود: خيطوا لي؛ لأن الجبة والقميص لا يطبخان، لكن لما حصل الاقتران في اللفظ ذكر الطبخ في نفس السياق، وهذا نوع من المشاكلة، فاستعمل الكلمة في غير معناها، فاستعمل هنا كلمة (اطبخوا) مكان كلمة (خيطوا)؛ لوجود المشاكلة في النظم.
ومثال ذلك أيضاً قول جرير :
هذه الأرامل قد قضَّيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وهذا على القول بأن الأرامل في اللغة العربية لا تطلق إلا على الإناث، فالرجل لا يسمى أرمل، فهنا أيضاً استعمل المشاكلة بناء على أن الأرمل لا تطلق إلا على النساء.
وقد وجدت المشاكلة في كثير من آيات القرآن وفي كثير من الأحاديث كالحديث السابق: (إني أنساك كما نسيتني) فهذا من باب المشاكلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، فقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] هذا عدوان في الحقيقة، لكن هل مقابلة العدوان بمثله يسمى عدواناً؟ هو ليس بعدوان في حقيقة الأمر، بل هو انتصار أو عقوبة عاجلة، لكن سماها سبحانه وتعالى اعتداء، فقال: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فسمي عدواناً على سبيل المشاكلة.
وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، وفي الحقيقة أن السيئة التي يفعلها الإنسان على وجه المقابلة هي من العدل، ومن الانتصار من الظالم، لكن لأجل اقترانهما في النص، جرت هذه المشاكلة دون أن يقصد أنها سيئة، فمعاملة الظالم بما يستحقه هي في الحقيقة حسنة وليست سيئة.
ومن ذلك أيضاً: قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، فهل العقوبة بمثل ما عوقبتم به يسمى عقوبة؟ لا، فإذا بدأ الإنسان بأذيتك فلك أن تعاقبه بمثل ما أساء إليك، فسمى هذه الإساءة عقوبة من باب المشاكلة أيضاً.
ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60] يعني: بمثل ما أسيء إليه ابتداء وليس مقابلة، وهو أيضاً من باب المشاكلة.
والمقصود: أن قوله سبحانه وتعالى حينما يسأل العبد: (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني) هو من المشاكلة، والمقصود: إني أنساك، أي: أتركك من رحمتي كما نسيتني، يعني: كما نسيتني في الدنيا من طاعتي، ثم يلقى رجلاً ثانياً فيقول له مثل ذلك، يعني: من سؤال الله سبحان وتعالى له، ويجيب الثاني بنفس هذا الجواب، ثم يلقى شخصاً ثالثاً من الناس فيقول له مثل ذلك، فيقول: (آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع) يعني: يمدح نفسه بما استطاع من الخير، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فأنت تدعي هذه الدعوة وتنكر وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] أي: ما كنا نعمل من سوء، ويحلفون على ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى له: (ألا نبعث شاهدنا عليك؟) فيفكر هذا العبد الكذاب في نفسه، ويقول: من الذي يشهد علي؟ (فيختم على فيه) أي: على فمه (ويقال لفخذه: أنطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان)، وقوله: وعظامه أي: العظام المتعلقة بالفخذ.
قوله: (وذلك ليعذر من نفسه) ليعذر أي: من الإعذار، والمعنى: يزيل الله عذره من قبل نفسه؛ لكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتحجج به بعد شهادة أعضائه.
قوله: (وذلك المنافق) يعني: ذلك الرجل الثالث الذي يقول: صمت، وصليت، وتصدقت.. وكذا، لا يقول كما قال الأول والثاني عندما سأل الله كل واحد منهما (أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا)، أما هذا المنافق فيدعي ويزعم أنه صام، وصلى، وأطاع الله سبحانه وتعالى، فهذا يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه).
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً مع أصحابه رضي الله عنهم فضحك) وفيه إيماء إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يضحك إلا لأمر غريب، أو لحكم عجيب، فلهذا الحكم العجيب ضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، يعني: ألم تؤمّنّي من الظلم في قولك: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)، وقوله سبحانه وتعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي فيها أن الله لا يظلم شيئاً.
(فيقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى) يعني: بلى أجرتك من الظلم، (فيقول: فإني لا أجيز على نفسي) يعني: لا أقبل ولا أجيز شهادة أحد علي، بل لا أقبل إلا شهادة نفسي.
فيقول: (فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني) أي: من جسمي، وهنا يومئ هذا العبد الظالم إلى أن الملائكة تنبئوا علينا الفساد قبل الإيجاد، فيقول من أجل ذلك: لا أقبل شهادة الملائكة علي؛ بناءً على أن الملائكة قالوا عنا قبل أن نوجد في هذا الوجود: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فمن أجل ذلك يزعم هذا الظالم أنه لا يقبل إلا شاهداً من نفسه، ولا يقبل شهادة الكرام الكاتبين، فيعطيه الله تعالى ما طلبه وأراده، فيقول له: (كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً) أي: سوف أجعلك تشهد على نفسك، ثم زاد الله سبحانه وتعالى هذه الشهادة تأكيداً وتقريراً فقال: (وبالكرام الكاتبين شهوداً) يعني: الكاتبين لصحائف عملك شهوداً. وهذا يدل على أن الظالمين سوف يزعمون بعض الدعاوى، ويتكلمون في بداية الأمر كما جاء في قوله تعالى: قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] أي: ما كنا ندعو من دونك من شيء، وكقولهم: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل:28]، فيتبرءون مما كانوا يعملون، وآخر يقول: قد صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت كذا وكذا...
فحينما يطلبون الشهادة من أنفسهم على أنفسهم يختم على أفواههم، ويحول الله سبحانه وتعالى دون فم العبد ودون الكلام.
قال بعض العلماء: إنه يختم على فيه لكن يخلق الله تعالى في لسانه إرادة ونطقاً، بحيث ينطق اللسان والفم مطبق، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى.
وبعضهم يقول: إن بعض الذنوب يختم بسببها على فم الإنسان وتنطق أركانه وأعضاؤه كما يأتي إن شاء الله فيما شاكلها من الآيات.
قوله: (ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه -يعني: لأعضائه وجوارحه-: انطقي، قال: فتنطق بأعماله) يعني: كل عضو ينطق بالعمل الذي باشر العبد به هذا العمل بهذه الأعضاء والأركان.
قال: (ثم يخلى بينه وبين الكلام) يعني: يترك، وتعاد إليه القدرة على الكلام، فيُرفع الختم عن فيه حتى يتكلم، وشهادة الألسنة ثابتة كما في قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، والمقصود كلام يأتي على خرق العادة، وليس كلاماً بإرادة الإنسان كما في كلامه الطبيعي، وحينما تعاد إليه القدرة على النطق ويرفع الختم من على فيه يقول: (بعداً لكن وسحقاً) أي: هلاكاً لكن أيتها الأعضاء! (فعنكن كنت أناضل) أي: من أجل خلاصكن من العذاب كنت أناضل، أي: أجادل وأخاصم وأدافع، وأصل المناضلة المراماة بالسهام، والمراد بالمناضلة هنا أي: المحاجة بالكلام، وأما جواب الأعضاء فمحذوف، وتقديره دل عليه قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:21-23]، فكان هذا جواباً لهذه الأعضاء كما دلت عليه آيات سورة فصلت.
وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النور:23]، وكذلك الحديث الذي فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر منها: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، بأن المراد بذلك: الأنفس، فتعم الرجال والنساء، فقذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعني: قذف الأنفس المحصنات الغافلات المؤمنات، سواء كانت هذه النفوس المحصنات من المؤمنين أو من المؤمنات، من الرجال أو من النساء، وهذا يدل على أن القذف كبيرة في حق الرجال والنساء، لكنه يكون أشد في حق النساء.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في حق هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات أنهم لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم، ثم قال سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، فذكر أن الألسنة أنفسها تشهد، والجمع بين ذلك وبين الختم على الأفواه أنه يختم على الفم، فينطق اللسان بقدرة الله سبحانه وتعالى والفم مختوم عليه، فيشهد بما عمله.
وسياق الآيات في سورة النور في الإنكار على من افترى حديث الإفك، فمن أجل ذلك كان مناسباً أن تنطق ألسنتهم التي باشرت وتداولت حديث الإفك، وخاضت فيه.
وقد بين سبحانه وتعالى في سورة (يس) أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه غير اللسان، كقوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
وقال سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:19-21].. إلى آخر الآيات.
ومن الآيات المتعلقة بهذا الحدث العظيم قوله سبحانه وتعالى في أحداث يوم القيامة والحساب: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:42] فيتمنون أن يستووا بالأرض فيكونون تراباً مثلها.
قوله: (لو تسوى بهم الأرض) يعني: بأن يكونوا تراباً مثل تراب الأرض، ويشهد لذلك قوله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] يتمنى أن يكون تراباً.
قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) بين الله سبحانه وتعالى أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم، فعدم الكتمان ليس بإرادتهم، وليس كلاماً عادياً منهم، لكن المقصود به ما أتى في سورة (يس)، وسورة (النور)، وسورة (فصلت) من أن أعضاءهم تنطق وتعترف بكل فعل وذنب اقترفوه في الدنيا، (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) أي: رغماً عنهم، وذلك بقدرة يخلقها الله سبحانه وتعالى في أعضائهم، فتصرح وتفشي، ويفتضح أمرهم على رءوس الخلائق، وبين يدي الله سبحانه وتعالى.
فالمقصود: أن عدم الكتم المذكور هنا إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا وذلك عند الختم على أفواههم، فحينئذ يتكلمون بقدرة الله، وتنطق جوارحهم، ولا يكتمون الله حديثاً، فهم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وقالوا: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أو يقول المنافق: صمت، وصليت، وتصدقت، وفعلت وفعلت، فحينئذ يختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحهم، يقول سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فلا يتنافى قول الله سبحانه وتعالى: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) مع قوله عز وجل حاكياً عن المشركين أنهم يقولون: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) هذا في بداية الحساب، أعني: حلفهم وتبرئهم من أفعالهم، وكذلك قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)، وقولهم: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [غافر:74]، فهذا يكون أولاً، وحينئذ يختم الله على أفواههم ثم لا يكتمون الله حديثاً، وهذا على الوجه الذي بيناه من نطق الأعضاء والجوارح.
فإذا كان هذا في حق الكافر وفي حق المنافق فكيف يكون حال المؤمن يوم القيامة؟
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن) أي: يقرب المؤمن يوم القيامة، (فيضع عليه كنفه ويستره، ثم يقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟) أي: يذكّر الله سبحانه وتعالى المؤمن بكل ذنب اقترفه في الدنيا، فيعرض عليه ذنوبه كلها، (فيقول: نعم أي رب! حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال له: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن ويضع عليه كنفه) أي: ستره ولطفه وإكرامه، فيخاطبه الله خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: (هل تعرف؟)، (فيقول المؤمن: نعم أي رب! أعرف)، فيقر ويعترف، ولا يكذب كما يفعل الآخرون، فيقول الله ممتناً، ومظهراً فضله لديه: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا) أي: فلم أفضحك بهذه الذنوب فيها، (وأنا أغفرها لك اليوم)، فليبشر كل مؤمن ومسلم بارز الله يوماً بالمعصية وستر الله عليه، فإذا كان الله قد ستر عليه في الدنيا فليبشر بالستر عليه في الآخرة أيضاً، فالله سبحانه وتعالى ستير يحب الستر، فقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله حيي ستير يحب الستر، ويحب الحياء) سبحانه وتعالى، فمتى ابتلي العبد بذنب فلا ينبغي له أبداً أن يجهر به في الناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ووصف هؤلاء المجاهرين بأن الشخص منهم يبيت وقد عمل معصية من المعاصي، ثم يصبح وقد ستر الله عليه، فيقول: قد فعلت وقد فعلت.
إذاً: فالجهر بهذه المعاصي التي سترها الله عليك من الكبائر، فما أعظم رحمة الله سبحانه وتعالى بنا! فالله يحب الستر.
فلا شك أن الصحف والمجلات التي تسخِّر صفحات طويلة وعريضة للكلام في هذه الأمور، وإشاعة الفاحشة بين الناس، أنها واقعة في الكبائر التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فتراهم يحكون وينشرون هذه الفواحش: فلان فعل، وفلان فعل، وفلانة قتلت زوجها، وأشياء أخرى تؤذي مشاعر أي إنسان ولو كان غير مسلم، فلا شك أن هذا من إشاعة الفاحشة، فالمسلم لا يحكي هذه الحوادث أبداً، ومتى شعر أن مسلماً ارتكب ذنباً فإنه يستر عليه؛ فالله سبحانه وتعالى ستير يحب الستر.
وبعض الناس يظنون أن إشاعة هذه الأمور من إنكار المنكر، بل هذا من إشاعة الفاحشة، وهتك ستر المسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، فهذا التنبيه من باب شيء يذكر بالشيء، وقد خرجنا عن موضوعنا الأصلي.
هناك تخاصم آخر يقع من أهل النار يوم القيامة، فحينما يعاين أعداء الله الكفرة ما أعد لهم من العذاب، وما هم فيه من الأهوال، فإنهم يمقتون أنفسهم -أي: يكرهون أنفسهم- كما أنهم يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا، بل كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان فإنها تنقلب في ذلك الوقت إلى عداء، قال الله سبحانه وتعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال أيضاً: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25]، فعندئذ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]، وحينئذ يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً، ويحاج بعضهم بعضاً، فيقع كثير من التخاصم والتجادل بين أهل النار، فيخاصم العابدون المعبودين، ويخاصم الأتباع السادة المتبوعين، ويخاصم الضعفاء المتكبرين، ويخاصم الإنسان قرينه، ويخاصم الكافر أعضاءه، بل تخاصم الروح البدن، ويمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم.
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فهذا مدح لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من عبد بغير رضاه كالملائكة، والصالحين، والأنبياء فإنهم يتبرءون من عابديهم، ويكذّبون زعم هؤلاء العابدين، ويبينون افتراءهم، فالملائكة لم تقبل هذه العبادة، ولم ترض بها، والذين طلبوا هذه العبادة هم الجن؛ كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عابدون للجن لا للملائكة كما قال سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]، وعيسى بن مريم عليه السلام -كما بينا آنفاً- يتبرأ من كل من عبده واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل عن جميع هؤلاء: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل:86-87].
وقال سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:28-30].
فتحصل الملاومة، والعتاب الشديد، والندم بين أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا هذا الباطل، وأنتم الذين كنتم تؤزوننا إلى مخالفة الحق، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، فكل من حرف الناس عن نور الوحي وعن دين الإسلام إلى هذه الظلمات فهو طاغوت؛ لأنه طغى وتجبر وزاد عن حده بأن رفع نفسه إلى مقام الألوهية، ونازع الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته، إلا أن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا حينما يقول لهم الأتباع: أنتم الذين أضللتمونا، أنتم الذين أغويتمونا، أنتم الذين قلتم لنا: ما أريكم إلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فحينئذ يرد عليهم هؤلاء الزعماء قائلين: بل أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم؛ لأنكم اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، فطغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية.
الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال له السجان يوماً: هل أنا من أعوان الظلمة؟ قال: لا، بل أنت من الظلمة!
فتجد كل إنسان يرتكب نوعاً من الظلم يقول: أنا عبد مأمور، فيعترف بهذه العبودية لهؤلاء المعبودين، ويظن أن هذا مبرر، وأن هذا يسوغ له ظلمه للناس، وإعراضه عن الحق، فهؤلاء هم الضعفاء، وأما القادة والزعماء وأصحاب الرتب فكل هؤلاء هم السادة المستكبرون الذين يتسلطون على العباد، ولولا أن هؤلاء الضعفاء يشدون أزرهم لما كان لهم أن يتمكنوا من ظلم العباد كما قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]، فهؤلاء الضعفاء يعينونهم على باطلهم بالنفس والمال، يقول الله سبحانه وتعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]، ثم نجد أن المستضعفين كثرة، وأن الطواغيت قلة، فمن الذي طيّع هذه الكثرة للقلة؟! لقد طيّعها ضعف الروح، وسكون الهمة، وقلة النخوة، فهذا الاستذلال لا يحدث إلا من قابلية، كما يقول الشيخ ناجي بن ناجي رحمه الله حينما كان يتكلم على ظاهرة الاستعمار في البلاد الإسلامية، فقال: ليست المشكلة في الاستعمار، ولكن المشكلة في القابلية للاستعمار، وذلك بأن توجد في الإنسان قابلية للتذلل والاستعباد، فهذه القابلية هي التي يعتمد عليها هؤلاء الطغاة؛ فمن هنا يقولون لهم يوم القيامة:
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم:21]، فيظنون أن هذا يغني عنهم يوم القيامة من عذاب الله من شيء، أي: نحن اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأسود الأليم فهل تنفعوننا الآن بشيء؟ فيرد الذين استكبروا: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21].
وفي موضع آخر يذكر الله سبحانه وتعالى تخاطب السادة المتكبرين مع المستضعفين فيقول: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:47-48].
ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ [العنكبوت:12]، وما أكثر الذين يصنعون مثل هذا الصنيع في هذا الزمان، فترى أحدهم يقول مثلاً للمرأة المنتقبة: اخلعي الحجاب والذنب علي، افعل كذا وأنا أتحمل الإثم! فهذا نفس ما حكاه الله عن هؤلاء الهالكين: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:12-13].
ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:31-33]، فالأتباع والضعفاء يتهمون السادة والزعماء قائلين لهم: أنتم الذين حُلتم بيننا وبين الإيمان، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل الله إلينا، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة، ويقولون: بل أنتم المجرمون، فكل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا عليكم من سلطان، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة: بل إن مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب، فالمؤامرات والمؤتمرات ووسائل الإعلام في مختلف العصور هي التي تصور الحق باطلاً والباطل حقاً، وكذلك أيضاً ما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم ضالة، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله تعالى، ونشرك به، والحق أن الجميع خاطئون، وأنهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم.
وأما عند دخول النار فيصف الله سبحانه وتعالى هذا التخاصم أيضاً قائلاً: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:55-64]، فهؤلاء الذين كان يرحب بعضهم ببعض في دار الدنيا، ويوقر بعضهم بعضاً، يتحول ويتغير حالهم في ذلك اليوم، فيقول بعضهم لبعض: لا مرحباً بكم، ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد هؤلاء الذين كانوا يحبونهم في الدنيا من العذاب والآلام، فيدعو كل فريق على الآخر: رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص:61]، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك فيه، فهذا قول الله سبحانه وتعالى، وهذا حكمه سبحانه وتعالى.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هناك تخاصماً يكون بين الروح والبدن، فيقول ابن عباس : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سولت، فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما -يعني: الروح والجسد- كمثل رجل مقعد بصير -أي: لا يستطيع المشي؛ لأنه مقعد، لكنه بصير يرى-، وآخر ضرير -يعني: لا يرى، لكنه يستطيع أن يمشي- دخلا بستاناً، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً ولكن لا أَصِل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملَك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. فالمقصود أن الجسد للروح كالمطية، فهي تركبه.
هذه الآيات تبين التخاصم الذي وصفه الله بقوله: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:64]، وقمة الخصام يكون بين الإنسان وبين أعضائه كما ورد في سورة يس في قوله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، وقد بينا صوراً أخرى من هذا الخصام كخصام العابدين والمعبودين، وخصام الأتباع للسادة المتبوعين، وخصام الضعفاء للمتكبرين، وخصام الإنسان لقرينه، وخصام الكافر لأعضائه، بل وخصام الروح والبدن، وكيف أنه ينتهي بهم الأمر إلى أنهم يمقتون أنفسهم، ويمقتون أنصارهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر