إسلام ويب

كيف تريد أن تموت ؟للشيخ : محمد حسين يعقوب

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ في خطبته عن حقيقة الموت، وحسن خاتمة الشيخ/ صفوت نور الدين رحمه الله، وذكر أن وفاة العلماء العاملين انتقاص في الدين، ثم حث على اقتفاء آثارهم، والقيام بمهمتهم؛ إحياءً للدين ونشراً للعلم، وتكلم عن صفات مطلوبة في القدوة الصالحة فذكر: التواضع، وعلو الهمة، والإخلاص، والفهم أي: الفقة في الدين، وحسن الخلق، وأخيراً تحدث عن التوازن في شئون الحياة جملة وتفصيلاً.

    1.   

    حقيقة الموت وحسن الخاتمة

    إن الحمد لله؛ أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

    اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وإن خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

    ثم أما بعد:

    فأيها الإخوة في الله: إني والله أحبكم في الله، وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

    اللهم اجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحدٍ غيرِك شيئاً.

    أحبتي في الله: مَن منكم يشتهي أن يموت الآن؟! من يشتهي، يتمنى بصدق أن يموت الآن؟!

    إن قضية الموت هي القضية التي ينبغي أن لا تفارق رأسك، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، اللهم لا تتوفنا إلا وأنت راضٍ عنا.

    نعم، كثر الموت هذه الأيام، وأخطر ما فيه موت الفجأة، أن تجد رجلاً يمشي على قدميه، فإذا به في لحظةٍ واحدة تخرج روحه ويموت، اللهم إنا نعوذ بك من سوء الخاتمة، اللهم إنا نعوذ بك من ميتة السوء.

    ولكن هناك فرقٌ كبير بين من يموت في رضوان الله، ومن يموت في سخط الله، تجد من الناس: من يموت وهو ساجد، أو يموت وهو صائم، أو يموت وهو يعتمر أو يحج، أو يموت وهو قائمٌ في الليل يصلي، أو يموت وهو يرفع يديه إلى السماء يدعو، أو يموت وهو يحمد الله، وتجد آخرين: يموت أحدهم وهو يشرب الخمر، أو يموت وهو يزني، أو يموت في شَمَّة، أو يموت في نظرة، أو يموت في شرقة من طعامٍ حرامٍ يأكله -فاللهم ارزقنا حسن الخاتمة-.

    كيف تريد أن تموت؟!

    إن اشتهيت أن تموت فلك أن تتصور كيف تريد أن تموت!

    وفاة الشيخ صفوت نور الدين

    في الجمعة الماضية منذ سبعة أيام تماماً مات رجل، بعد أن اعتمر وأدى العمرة، وهو يجلس في المسجد الحرام، عند الكعبة، في بيت الله، بعد صلاة الجمعة، وهو صائم، وقف في الثالث عشر من رجب، أول الأيام البيض، يوم الجمعة، وهو صائم، بعد عمرة في رجب، في الأيام البيض، عند الكعبة، سبحان الملك! مَن الذي يرتب هذا الترتيب؟! ليس أحدٌ إلا الله، إنه شيخنا ووالدنا الشيخ صفوت نور الدين عليه رحمات الله وبركاته، مات في الجمعة الماضية هذه الميتة، وهي ميتةٌ يُحسد عليها والله، ثم دفن بجوار الشيخ ابن باز ، هل بعد ذلك فضل؟! ووقفت أتساءل: لو أن إنساناً أراد أن يرتب لنفسه ميتةً كهذه، هل يستطيع هذا التجميع؟ قلت: رَتَّب الرجلُ علاقته مع الله فرتب الله له، رَتَّب حياته مع الله وعاش معه، وعاش له، دعوةً إلى التوحيد..، فرَتَّب الله وفاته كأحسن ما يكون، سبحان الملك! قارِن بين ميتةٍ كهذه، وبين رجلٍ آخر مات على المسرح، وفي يده العود وهو يدندن، تَعْرِف الفرق أن من عاش على شيءٍ مات عليه -اللهم ارزقنا حسن الخاتمة- من عاش على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيءٍ بعث عليه، وكن لله كما يريد يَكُنْ لك فوق ما تريد.

    اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وأعنا ولا تعن علينا.

    اللهم أكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا.

    وفاة العلماء

    نعم. أحبتي في الله! إخوتي في الله! في مسلسل موت العلماء مات الشيخ.

    اللهم ارحم علماءنا، ودعاتنا، ومشايخنا، وأئمتنا، وكل من له فضلٌ على أمة المسلمين بعدك يا رب!

    أحبتي في الله! هذا المسلسل منذ سنتين والقضية خطيرة، يموت الأكابر، ويموت العلماء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال في حديث معاوية بن أبي سفيان : (كيف بك إذا أُخِذَ خيار الناس فخيارُهم، وبقيتَ في حثالة من الناس)، يموت الأخيار، وتبقى الحثالة! إنا لله وإنا إليه راجعون!

    اللهم اؤجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيراً منها.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض هذا العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور العباد، بل يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، (حتى إذا لم يُبْقِ عالماً)، هذه نهاية المطاف، هذا آخر المسيرة، أن لا يبقى على ظهر الأرض عالم، وهنا يحصل الضلال، وتقوم الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، لا تقوم الساعة إلا على لُكَع بن لُكَع، لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله .. الله ..!).

    اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، اللهم اسبق بنا الفتن، اللهم إنا نسألك أن لا تجعلنا ممن تدركهم الساعة وهم أحياء.

    يموت العلماء، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).

    هذا ميراث الأنبياء يورَّث، فهل لك في هذا الميراث؟! ألا تريد أن تنال منه شيئاً؟! هؤلاء العلماء يتساقطون، يموتون، يفنون، وأنت أُخَيَّ! يا من أحبك في الله! كيف حالك مع الله؟! هؤلاء يموتون وفي صدورهم عِلْمٌ؛ الأمةُ أحوج ما تكون إليه، وأنت تجري خلف المال والدنيا: تريد شقَّة بالسيراميك والنجف والستائر، وتريد عروساً ذات مؤهلٍ عالٍ وجمال ورشاقة، وتتمنى سيارة فخمة، وهاتفاً محمولاً يتغير كل أسبوع، أو كل شهر، هذه همومك؟! ومتطلباتك؟! وأمنيتك؟! والعلم يُنْتَزَع، وأنت رضيت بالجهل، والمالُ ماذا يصنع لك؟! أرأيت إن ملكت الملايين، ثم وقف ملك الموت عند رأسك، أيدفع عنك مالُك؟! أيغني عنك جاهك؟! أتنفعك مؤهلاتك؟! سبحان الملك!

    أخي في الله: رتب حالك مع الله ليُرَتِّب لك ميتةً ترضاها.

    هذا الرجل الفاضل -أسأل الله أن يتغمده بواسع رحماته- مات واقفاً لم يمرض ساعة، لم يشتكِ لحظة، لم يدخل مستشفى، لم يعبث بجسده طبيب، لم يرحمه أحد، ولم يعطف عليه أحد، ولم يشفق عليه أحد، بل فرح به كل أحد، رتِّب علاقتك مع الله، واعلم أن هناك آخرين يقطعهم قطار، أو تسوي رءوسهم في الأرض سيارة، أو مَلَّ من مرضهم الناس -اللهم اشفِ كل مريضٍ مسلم، وعافِ كل مبتلىً مسلم- وتجد هذا الرجل الكريم -أسأل الله أن يرحمه- يموت وهو واقف في لحظةٍ واحدة قبل أن يشفق عليه أحد، غَيْرَةُ الله على عبده المؤمن، الله غيور يغار -اللهم ارحمنا رحمةً تغنينا بها عن رحمة مَن سواك- أتريد أن يرتب الله لك كمثل هذا؟! اعمل له سبحانه.

    1.   

    أوصاف القدوة الذي تحتاج إليه الأمة

    إننا بحاجةٍ -إخوتاه- إلى أن يعمل جميع المسلمين لدين الله، أن يحمل كل المسلمين راية الإسلام، أن يرفعوا راية الدعوة، كلهم عن بكرة أبيهم، الإسلام اليوم بحاجةٍ إلى كل لسانٍ يدعو إليه، وكل عقلٍ يفكر له، وكل يدٍ تدفع عنه، وكل قلبٍ ينبض بحبه.

    أمة الإسلام! أمتي! أين أنتم لتحملوا هذه الراية؛ راية العلم والدعوة إلى الله؟! أين أنتم؟!

    أخذت الناسَ الدنيا -اللهم إنا نعوذ بك من الدنيا وهمومها-.

    التواضع

    أولاً: نريد رجلاً في البداية متواضعاً يرضى أن يكون مغموراً، غير مشخوص، ولا يشتهي ذلك، ولا يتمنى ذلك، ولا يعمل لذلك، ولا يسعى إلى ذلك، لا يسعى إلى الشهرة، ولا إلى المجد، لا يتمنى، ولا يرضى أن تكون له أشرطة، ولا كتب، ولا أن يثني الناس عليه، نريد رجلاً غني القلب بالله، هذا هو الرجل المطلوب في هذه الأيام، يعمل للدين دون أن يشعر به أحد، ولا أن يعرفه أحد، يعلِّم الناس العلم، ويكون حالُه كحال الإمام الشافعي عليه رحمة الله حين قال: وددت أن الناس كلهم تعلموا مني هذا العلم، ثم لم ينسب إليَّ منه شيء، لا يقال: قال الشافعي .

    قال أيوب السختياني : ما صدق الله عبدٌ أحبَّ الشهرة.

    وهذا كان دأب العلماء؛ الألباني ، وابن باز ، وابن عثيمين ، وأيضاً شيخنا الشيخ صفوت عليهم جميعاً رحمات الله، لا تجد أحدهم يشتهي أن يُعْرَف، بل كان يفر من الناس، ولذلك عاشوا سنين طويلة، عقوداً طويلة، عشرات من السنين يتعلمون ويعلِّمون، ولا يسمع بهم أحد، أين هذا الشاب؟!

    وأول ما ينبغي له: أن يكون متواضعاً لا يحتقر جهود الآخرين، ولا يزدري بعقول الآخرين، ولا يثبط الآخرين عن العمل، إنه لا يشهد لنفسه بالفضل، ولا يرى له حقاً، بل هو يسير في الركب، يتمنى أن يرحمه الله، هذا هو الرجل الذي نريده؛ لينفع الله به المسلمون في هذه الأيام، فيكون متواضعاً جداً يعمل للدين حيث ما أراده الله أن يعمل.

    علو الهمة

    ثانياً: علو الهمة -اللهم ارزقنا علو الهمة في طلب الجنة-:

    نعم. إخوتي في الله! أحبتي في الله! إنك لتتعجب من رجلٍ يخرج من بيته في الصباح الباكر منذ السادسة أو السابعة أو الثامنة، ثم يظل في عمله إلى العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً، طيلة نهاره وليله.. تليفونات.. وفاكسات.. وعمل ليلاً ونهاراً.. سعي دائم.. وكلام.. وتفكير، و... و... و... بحثاً وراء الدنيا، وليته ينالها، بل يصيبه كَرْبٌ ونَكَدٌ، وهَمٌّ وضَنْكٌ، وغَمٌّ وعدمُ رضا.

    أريدُ أن أسأل: مَن له همةٌ عالية في خدمة الدين كتلك الهمة العالية في السعي للدنيا؟! مَن يضحي بوقته، وصحته، وقوْته، وأولاده، وزوجته، من يضحي بهؤلاء من أجل أن يخدم دينه ويرفع راية هذا الدين؟! مَن يقول لي؟! وأين...؟!

    سبحان الملك!

    إنني كثيراً ما أردد هذه الجملة، إن الذي يسأل: ماذا أعمل؟ لا يريد أن يعمل شيئاً، فالذي يريد أن يعمل يعرف ماذا يجب عليه أن يعمل، القرآن حفظته؟! علِّمه الناس، الفقه درسته؟! فعلِّمه الناس، العقيدة تعلمتها؟! علِّمها الناس، تقول لي: لم أدرس، ولم أحفظ، ولم أعلم، تعلَّم، نعم أُخَيّ! إن لم تكن حفظت القرآن فمتى ستحفظ؟! وإن لم تكن تعلمت العقيدة فمتى ستتعلم؟!

    سبحان الملك!

    إننا بحاجةٍ -إخوتاه- أن نبث في أنفسنا هَمَّ الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

    وقفة مع بعض آيات الله

    اسمع! أخطر أربع آيات سمعتها في حياتك، قال الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15]: يريد هاتفاً محمولاً.. سيارة.. لبساً مميزاً فاخراً.. نساءً.. بيتاً.. شقة، وعمارةً، -(زينتها)- وأكلاً.. وشرباً.. ونقوداً.. وأرصدة.

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [هود:15]: خُذْ مقابل سعيك.

    نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]: لن تُبْخَس حقك، اجرِ جري الوحوش، وسيعطيك وزيادة، وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16]: بالحصر والقصر، ليس إلا.

    لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]: يقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:28-30].

    والآية الثانية يقول الملك جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18] آيات مخيفة، ترعب، لمن يريدون الدنيا ، لمن ليس لهم همٌ إلا الدنيا، ويسعون ويعملون ويحلُمون ويتمنون الدنيا، ولا يرضيهم إلا الدنيا، ويعيشون للدنيا، الدنيا! -لعنة الله على الدنيا- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة، ملعونٌ كل ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً، أو متعلماً).

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:18]: تريد دنيا؟!

    عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا [الإسراء:18]: الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلذلك هي هيِّنَة، حقيرة، ملعونة، يعطيها لأي أحدٍ يريدها، سواء كان كافراً، فاجراً، فاسقاً، ملحداً، ظالماً؛ يعطيه، من الدنيا! -اللهم إنا نعوذ بك من الدنيا-.

    مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]: تَحَكُّم، مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيْدُ [الإسراء:18], يعني: الذي نريد أن نعطيه نعطيه، وقد يسعى أحدهم عشرين ساعة في كل اليوم ولا يعطَى، وهذا واقع، ما نشاء [الإسراء:18]: القدر الذي نشاءُه للعبد الذي نريده.

    يا مسكين! عمَّ تبحث؟! أجهدت نفسك! ضيعت آخرتك! يا مسكين! أبغضك ربُّك! مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيْدُ [الإسراء:18].

    سبحان الملك!

    ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18].

    الآية الثالثة: قال الله جل جلاله سبحانه العلي الأعلى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] اختر لنفسك يا عبد الله! دنيا أو آخرة؟!

    قال الملك سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]: تجده بمجرد أن يصلي يفتح الله عليه، فيصوم الاثنين والخميس، ثم عفي لحيته، ثم حفظ القرآن.. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]، يزيده من الأعمال التي تنفع في الآخرة.

    وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [الشورى:20]: ولـيس نؤتـه الدنيـا، بل نُؤْتِهِ مِنْهَا [الشورى:20]، (من) للتبعيض والجزئية.

    وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] في الآخرة لا شيء البتة، تريد الدنيا أم الآخرة؟! اختر لنفسك يا عبد الله!

    الآية الرابعة: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَـأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].

    سألتكم في أول الخطبة: من يشتهي أن يموت؟! وقد يكون بينكم رجل يقول: أنا.

    أقول له: لماذا؟! لماذا تشتهي أن تموت؟! هل عليك ديون؟! أأنت مكروب؟! هل أنت مريض؟! هل تخشى شيئاً؟!

    إن الذي يشتهي أن يموت بحق مَن اشتاق قلبه لرؤية وجه الله الكريم -اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة- شوق، فهو مشتاق أن يرى الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) فهو يشتهي أن يموت ليرى الله، هذا هو، أما الذي يقول: إن شاء الله أموت وأرتاح منكم، يريد أن يموت زهقاً من زوجته، أو من أولاده، أو من عمله، أو من الديون، أو من الفتن، أو.. أو..، ليس هذا هو المقصود عندنا، قال الملك سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [يونس:7]: ترجو لقاء الله؟! ماذا عندك تقابله به؟! قبرك؟! ماذا وضعت فيه؟!

    نعم، إننا بحاجة أن نصنع لله شيئاً نرجو به لقاء الله، نصنع شيئاً يحببنا في الموت، ويجعله أشهى غائبٍ إلينا، فنقول كما قال معاذ : [مرحباً بالموت مرحباً]، وكما قال حذيفة :

    [

    غُطَّ يا موتُ غَطَّك

    وشُدَّ يا موتُ شَدَّك

    أبَى قلبي إلا حُبَّك
    ].

    هذا الذي صنع لله شيئاً، له عند الله يد، هو الذي يرجو لقاء الله، أما العاصي -اللهم تب على كل عاصٍ مسلم، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا والمسلمين والمسلمات توبةً نصوحاً- العاصي كيف يرجو لقاء الله؟! إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس:7]، اكتفى! بالشقة، والزوجة، والنقود؟! وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس:7]، إذا وجد بيده عدة آلاف اطمأن قلبه، واستراح ضميره، وهدأ عقله، واطمأن للمال، ولم ينفعه المال يوم يأتي عذاب الله.

    إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس:7] أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8]: لذا تجد هؤلاء العلماء الذين ماتوا -اللهم ارحمهم رحمةً واسعةً- تجد أن كلاً منهم، وهذا هو المراد من الشباب الذين يراد لهم أن يحملوا الراية، كان لكل منهم حال مع الله: عبادة وتقوى وعلاقة سِر مع الله.

    الإخلاص وأثره في الأعمال الظاهرة

    أيها الإخوة: كل شيءٍ ظهر من عملك لا تعده، فالقلب أضعف من أن يخلص والناس ينظرون: الخطبة، والدرس، والإمامة، والدعوة، وتحفيظ القرآن، والسعي في خدمة الناس، ومساعدة الخلق..؛ كل هذه الأعمال يصعُب أن تحقق فيها الإخلاص، يصعب؛ لأن فيها شهوة نفس، وحظ نفس، ورياء، وسمعة، وطلب حمد الناس، ووثناءهم وحبهم وخدمتهم، كل هذه إذا تعلقت بالقلب لم يكن العمل خالصاً لله.

    جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (يا رسول الله! أرأيت الرجل غَزَا يلتمس الأجر والذكر، فما له؟ قال: لا شيء له قال: يا رسول الله! رجلٌ غزا يلتمس الأجر من الله والذكر عند الناس، فما له؟ قال: لا شيء له. فأعادها عليه ثلاثاً، ورسول الله يقول: لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتُغِي به وجهه)، الإخلاص..! لذلك هذه الأعمال الظاهرة قَلَّ ما يكون لها أجر عند الله، إن خرجنا منها لا أجر ولا وزر فهو ذاك، إذا سلمت أعمالنا الظاهرة: خطبة الجمعة، ودرس، وإمامة في الصلاة، وتعليم قرآن، وصدقات ظاهرة، وسعي في خدمة مسلمين.. كل هذا العمل الظاهر إذا سلم من الرياء، وحظ النفس، وطلب حمد الناس، والفرار من ذمهم، ثم سلم من العُجْب، والرضا عن النفس، والغرور، والكبر على الخلق..؛ لو سلم لخرجت لا أجر ولا وزر، وهو لا يسلم -قَلَّما يسلَم- فلذلك كان لهؤلاء العلماء حال مع الله، وعلاقة سر مع الله، تجد الشيخ -وقد صحبتُ هؤلاء المشايخ كلهم سنين، ابن باز ، وابن عثيمين ، والشيخ صفوت ...- منهم إذا خلا بينه وبين الله فمصحفه، وصلاته، ودموعه تسيل على خده، ذكره لله، ودعاؤه، وقلبه يرجف كأنه فرخ، هكذا يكون العلماء، بينما تجد الشاب لَمَّعَ لحيتَه، وأتقن عمامتَه، ولبس الشال الأحمر، وتراه مغروراً معجباً، وهو لا يصلي الصبح، ولا يقوم الليل، ولا يقرأ ورده من التلاوة؛ تلاوة التعبد، فلن ينفعك ما تعمل، لا بد أن يكون بينك وبين الله علاقة سر: عمل، حيث لا يراك أحد، -اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله- أنت حين يكون بينك وبين الله حيث لا يراك أحد، لا زوجتك، ولا أولادك، ولا أبوك وأمك، ولا جيرانك، ولا تلاميذك، ولا مشايخك، ولا أحد، حين تقف وحدك تناجي ربك الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219] -اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله-.

    هذه أيضاً مهمة: تصوم حيث لا يدري بك أحد، وكان أحد السلف يصوم سنين، ولم يدر به أهله، يأخذ إفطاره معه، فيتصدق به، وإذا رجع عند المغرب أو العشاء أكل فكان إفطاره وسحوره -اللهم إنا نعوذ بك من الدنيا وهمها-.

    الفهم والفقه في الدين

    أيضاً من عوامل نجاح الداعية، وما قام به صيت هؤلاء العلماء، وما نرجوه في إخوتنا الشباب الذين أوكل إليهم في هذه الأيام هم الدعوة: الفهم -اللهم ارزقنا الفهم-:

    السؤال: هل نحن نملك فهماً عميقاً للإسلام ندعو إليه الناس؟! هل نحن فهماء للدين؟! وهل نحن عالمون ماذا يريد ربنا منا؟! عَزَّ الفهم في هذه الأيام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) قال العلماء: الفقه: الفهم، فَقِهَ كفَهِمَ وزناً ومعنىً، الفهم في الدين، إن أكثر الشباب رأى أن القضية سطحية، لكن عليكم بالفهم في الدين، وهذا لا يكون إلا بالجلوس على الركب أمام العلماء، بين أيديهم العلماء، اجلس سنين، تعلم وافهم وركز، ليست القضية أن تقول: هذا هو الدليل، ليست القضية أن تحفظ النصوص، بل القضية أن تفهم، وهذه يسميها العلماء الدُّرْبَة على الْمَلَكَة، التدريب على أن تكون لك مَلَكَة، مَلَكَة يعني موهبة، موهبة أن تفهم الدين، أن تقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فتفهمه، موهبةَ أن تقرأ حديث رسول الله فتفهمه، وأن تقرأ الآية فتفهمها في سياق الدين كله، لا في هذه الجزئية وحدها.

    قال العلماء في الأصول: أن السياق والسباق واللحاق من المقيدات.

    السياق: سياق الآية في أي سياق صيغت فيه، والسباق: ما سبقها من آيات، واللحاق: ما جاء بعدها من آيات.

    كله يقيد المعنى، افهم.

    وكم ضَلَّ وأضَلَّ أناسٌ بسبب ضلال الفهم، والعجز عن الفهم، وخلط الأوراق عنه، الفرق بيننا وبينهم -الصحابة والسلف- أننا الآن نبحث في أحاديث الباب، أما الأُوَل فكانوا ينظرون للمسألة في سياق الدين كاملاً.

    فلذلك -أُخَيّ- هذا الشاب الذي يكلمني يريد أن يترك كلية الهندسة ويتفرغ للدعوة.

    لماذا؟! كلية الهندسة تخدمك في تنمية قدراتك العقلية، ومواهبك الذهنية، ثم تستغل هذه القدرات والمواهب العقلية في خدمة الدين، إننا نريد مهندساً، ونريد طبيباً، ويكون عقلُه مصبوغاً بالصبغة الإسلامية، هذا هو المطلوب، أن نفهم ديننا، لا تقليد أعمى، ولا تعصب مُجَرَّدٌ للأشخاص والأسماء، وإنما فَهماً في دين الله، قيل للإمام علي رضي الله عنه: [هل خصكم رسول الله بشيء؟ -يعني من الرسالة، ومن الوحي- قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً أوتيه أحدنا في كتاب الله] قال: الرسول لم يخصنا بشيء، كان كلامه لنا ككلامه للأمة جمعاء؛ غير أننا نفهم وكثيرٌ من الناس لا يفهمون، هذا هو الفرق، الفهم في دين الله.

    حسن الخلق

    أيضاً أريد منكم يا شباب، وأريد لكم يا شباب حُسْن الخلق:

    لقد كان أهم ما يميز هؤلاء العلماء، والدعاة، والأكابر: حسنُ خُلُق ظاهر، سبحان الملك!

    تجد الشيخَ أدباً، وتواضعاً، ولطفاً في الخطاب، واحتمالَ أذى الناس، وصبراً، ثم تجده خدوماً يُكرِم الناس، سبحان الله! حُسْن خُلُق، تجد الشيخ لا كبرَ، ولا غرورَ، ولا عُجْبَ، ولا حُبَّ ذاتٍ وأنانية، هكذا يكون العلماء، وهذه أخلاق الأمة.

    قال بعض السلف: الدين كله خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين. الدين كله خُلُق، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليبلغ بحُسْن خُلُقه درجة الصائم القائم)، حُسْن خُلُق، تجد بعض الشباب إذا التزم يمتلئ غروراً، وينظر إلى الحليق أو المدخن نظرة احتقار وازدراء، وإذا كلَّمه الآخرون لا يقبل.

    يا بُنَيّ! إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، و(التقوى هاهنا)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).

    بُنَيَّ! لكي تبلغ درجة العلم والدعوة كُن ذا خلق، وإن أساءوا إليك، وإن آذَوك وآذوك، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نبيٍّ من الأنبياء: (أن قومه أدموه فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، فإنهم لا يعلمون! سبحان الملك!

    قال الله جل جلاله حاكياً عن نبي الله نوح، ونبي الله هود:

    لما قالوا لنوح: ما نـراك إلا في ضـلالة، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:61].

    وقالوا لهود: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:66-67].

    وقفتُ والله وأنا أتأمل هذه الآيات متعجباً! يقولون لنوح العبد الشكور، نبي الله: أنت ضالّ، ما نراك إلا في ضلالة، فقال، ماذا قال؟! هل قال لهم: بل أنتم الضُلاَّل، وأنا على هدى؟! أبداً! قَالَ يَا قَوْمِ [الأعراف:61] بالأدب والحنو، والرفق، والرحمة، واللين، وكرم الخلق، يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ [الأعراف:61]، لا والله، ما أنا بضال، وَلَكِنِّي رَسُولٌ [الأعراف:61].

    والآخر هود عليه السلام، إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف:66] سفيه، كذاب، فبمنتهى البساطة يرد قائلاً: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ [الأعراف:67]، لم يقل: بل السفهاء أنتم وآباؤكم أيها المجرمون، أنتم كفرة، لم يقل ذلك أبداً، بل قال بمنتهى الرفق واللين: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ [الأعراف:67].

    فعليك أيها الأخ الكريم! يا من تعد نفسك لحمل الراية أن تكون: كريم الخلق، عفيفاً عن أموال الناس، وعما في أيدي الناس، وعن الشهوات، ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة، فذكر منهم: (عفيفاً متعففاً ذا عيال) -اللهم ارزقنا العفة في القول والعمل، عفةً في القلب واللسان- هذه من أصول الأخلاق.

    وأن تكون سمحاً، يعني: إذا استُرْضِيت ترضى، وإذا استُرْحِمت ترحم، وإذا طُلِب منك تعطي، وإذا استُسْمِحت تسامِح، وإذا استُعْفِيت تعفو، هذا خلق السماحة، (رحم الله رجلاً سمحاً..).

    وأن تكون هيِّناً ليِّناً، قال الله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، نعم أُخَيّ! كن هيِّناً ليِّناً، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتي الجارية -والجارية تطلق على البنت الصغيرة أو على الخادمة الأَمَة- فتأخذ بيده، فيمشي معها حتى يقضي حاجتها) صلى الله عليك يا رسول الله، الجارية تأخذ بيده وهو رسول الله.

    هكذا يكون حاملُ الدعوة، يكون حاملُ الراية، يكون مَن يريد وراثة الأنبياء، ذا خُلُق حَسَن، مَدَح الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أبلغ مدح فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    أسأل الله جل جلاله أن يستعملنا وإياكم لنصرة الدين، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يرزقنا حسن الخاتمة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    التوازن سمة بارزة في حياة العظماء

    إن الحمد لله، أحمده تعالى وأستعينه وأستهديه، أؤمن به وأتوكل عليه، أثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأخلع وأعادي من يفجره.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صلِّ على محمدٍ النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

    أخوتي في الله: إني والله! أحبكم في الله.

    أيها الإخوة: العلماء يتساقطون، والدعاة يموتون، وحَمَلة الراية ينقَضُون، فيا تُرى في يد مَن ستسقط هذه الراية؟!

    أعدَّ نفسك، وكن من أهل الدين، واعلم -أُخَيّ- أن الداء العضال هو: الخبث، وإذا ما كنتَ لا عباً فلا تلعب بدينك، الداء العضال هو: الخبث، أن تكون خبيثاً تخدع الله والذين آمنوا، وتخادع، وتمكر، وتكذب على ربنا، الداء العضال هو: الخبث، اللهم طهِّر قلوبنا، اللهم إنا نعوذ بك من الخبث والخبثاء والخبائث.

    نعم، أيها الإخوة! إن كنت لاعباً فلا تلعب بدينك، إياك أن تلعب بدينك، قال الملك: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً [الأنعام:70]، كثيرٌ من الناس يتخذ الدين لهواً ولعباً، يلعب في دين الله، الدين كله جِدٌّ، قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14].

    لذا أريد لأخوتي الشباب التوازن في الحياة، هكذا كان المشايخ، والعلماء، والدعاة، يعيشون الحياة في توازنٍ وعدل، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17]، فأهل الحق يعيشون الحياة بالميزان.

    دخل سلمان فوجد زوجة أبي الدرداء متبذلة، قال: (ماذا؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له فينا شيء، يقوم الليل، ويصوم النهار، فقال سلمان لـأبي الدرداء: إن لأهلك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه فنقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره)، هذا هو التوازن، هذا هو الدين، هو التعامل في الحياة بالميزان، لا ظُلْم، إننا لا نقدم شيئاً على شيء، حتى لو كان ذاك الشيء مهماً، بل لكلٍ حدود، وضوابط، وعليك أن تعيش الحق بجميع أجزائه.

    إن كثيراً من الناس في زماننا أعوصٌ، أعورُ البصيرة، ينظر إلى الدين بعينٍ واحدة، فلا يرى نصف الدين، بعض الناس عنده حَوَلٌ في البصيرة، يرى الأشياء بالعكس.

    من أراد أن يكون من أهل الدين فلا بد أن تكون عنده بصيرةٌ صادقة، نعم! يعمل بيده؛ ليكسِب أكل عيشه من حلال، فلا يتطلع إلى أن يعطيه أحدٌ شيئاً.

    كان عالمٌ من العلماء يجلس في الجامع الأزهر -أعزه الله بالعلماء- ويمد رجليه، ودخل أحد السلاطين، فقام كل الناس يهرولون إليه، وظل العالم جالساً واضعاً رجلاً على رجل، ومر هذا السلطان فرآه يمد رجليه، فأخرج من جيبه صرة مملوءة بالذهب ومدها إليه، فنظر إليه العالم وقال: إن الذي يمد رجله لا يمد يده. والذي يمد يده لا يمد رجله ولا لسانه، لأنه مد يده فلا يستطيع أن يمد لسانه بكلمة تخالف مَن أعطاه.

    فلذلك أريدك أن تكون عزيزاً غنياً قوياً بالله، لا تمد يدك، ولا عينك، ولا تشتهِ شيئاً من الدنيا، وما هذا إلا بالتوازن، تعملُ وتأكلُ من عمل يدك رزقاً حلالاً، وتتزوجُ فتكفُّ نفسك، وتغضُّ بصرك، وتسترُ نفسك، فلا يعلم أحدٌ شيئاً عن حالك، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، هذا هو المراد، إنك لا تدري هؤلاء الدعاة على مَن طوت جوانحُهم؟ وعلامَ أُغْلِقت أبوابُهم؟ ودارت بيوتُهم، قد يبيت أحدهم لا يجد في بيته شيئاً من النقود، وهو يسأل الله أن يغني المسلمين من فضله، لا تُسوِّف، ووازن بين حياتك: اعمل، وكُلْ، واشرب، والبس نظيفاً، وتزوج، واكتفِ بزوجتك، أكرمها، وصِلْ رَحِمك، وأكرم أهلك، وبِرَّ جيرانك، وساعد المسلمين على قدر ما تستطيع، حياتك أيها المسلم بين التنازع والتوازن.

    كانت ميزة هؤلاء العلماء التوازن في الحياة، فتجد الواحد منهم يعيش الحياة بكل فروعها، ليس منقطعاً خلف مكتَبِه، وفي مكتبته عن واقع الناس، بل يعيش واقع الناس، يعيش حياتهم، فلذلك يجيب لهم عن مشاكلهم الحياتية، لا يعيش في أبراجٍ عاجية، بل في وسط الخلق.. التوازن صفةٌ مطلوبة.

    بقي تمام هذه الصفات للرجل المراد، حامل الراية؛ ولكن حتى لا أشق على إخوتي الذين يجلسون في الشمس -أسأل الله أن يظلنا ويظلهم بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله- أكتفي بهذا، وأرجو العمل، ونضع عَوْدَنا على بَدْئنا، وبَدْءنا على عَوْدِنا: رتِّب مع الله ليُرَتِّب لك أمر الوفاة، عِشْ له تَمُتْ له، كُنْ له يَكُنْ لك، اعملْ له يعملْ لك، الجزاء مِن جنس العمل، وكما تدين تدان.

    اللهم يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! صلِّ على النبي محمدٍ، وآله، وسلِّم تسليماً كثيراً.

    اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147] .. وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193].

    ربِّ ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وتولَّ أمرنا، وأحسن خلاصنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، يسر أمورنا، واهدِ قلوبنا، واشرح صدورنا، اللهم ثبت على الإيمان قلوبنا.

    اللهم عافِنا من كل بلاء، ونجنا من كل فتنة، ولا تتوفنا إلا وأنت راضٍ عنا، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وامحُ خطيئتنا، وارفع درجتنا، وسدد ألسنتنا.

    اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ كل مريضٍ مسلم، وعافِ كل مبتلىً مسلم، واجعل شفاءنا والمسلمين سهلاً ميسوراً، اللهم ارفع البلاء، وأنزل الشفاء.

    اللهم إنا نسألك أن تقضي الدَّين عن كل مدينٍ مسلم، فرِّج الكرب عن كل مكروبٍ مسلم، أزِل هم المهمومين من المسلمين، فرِّج كرب المكروبين، فكَّ أسرى المأسورين، اللهم أطلق سراح المأسورين من المسلمين، اللهم فك أسرهم، واربط على قلوبهم، اللهم ومتع بهم أهلهم.

    اللهم إنا نسألك أن تنصر المستضعفين من المؤمنين، قَوِّ شوكتهم، وأعلِ رايتهم، وسدد رميتهم، وانتقم من عدوك وعدوهم.

    اللهم احفظ بلاد المسلمين، اللهم احم بلاد المسلمين، اللهم انتقم من أعداء المسلمين، اللهم أنزل على أعداء الإسلام والمسلمين بلاءً تشغلهم به عن المسلمين، برحمتك وقوتك وحولك وطولك، أنت القوي المتين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد، وآله.

    والحمد لله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756637520