وبعــد:
فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع: نبي، وصدِّيق، وشهيد .. وكان ذلك في الصدر الأول من هذه الأمة المرحومة المكرمة بهذا النبي العظيم.
روى هذه القصة الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث الصحيح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعةٍ لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه
وفي رواية مسلم : (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ فإذا هو بـ
(... قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ...) وهذا فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات .. (... فقال لهم: فانطلقوا إلى منزل
قال أبو هريرة : (وكان رجلاً كثير النخل والشاء -والشاء هي الغنم، جمع شاةٍ- ولم يكن له خدم، فما وجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبكِ؟ ...) وفي رواية مسلم : (... فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ فقالت: خرج يستعذب لنا الماء ...) : أي: يطلب لنا الماء العذب الذي لا ملوحة فيه.
(... ثم بعد ذلك جاء
فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم هشَّ له غاية الهشاشة، والتزمه وعانقه وضمَّه إلى نفسه، ثم انطلق بهؤلاء الثلاثة الضيوف الكرام إلى حديقته، الروضة ذات الشجر، فجاء بقِنْوٍ وهو: العِذْق من الرُطَب، فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمْر ورُطَب، ولما جاء به وضعه بين أيديهم (... فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا تنقَّيت لنا من رُطَبه؟ -أي: اخترتَ لنا من الرُطَب- فقال
(... ولما أكل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة ...) وفي رواية مسلم : (... فلما أن شبعوا وروَوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ
ولما أراد الرجل أن يذبح لهم شاةً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحنَّ ذات دَرٍّ ...) أي: ذات لبن، وفي رواية مسلم : (إياك والحلوب، فذَبَح لهم عَناقاً -وهي الأنثى من أولاد المَعْز- أو جَدْياً -وهو الذكر من أولاد المَعْز- وقدَّمه إليهم، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ -لأن هذا المال يحتاج إلى من يخدمه- قال: لا، فقال: فإذا أتانا سبي -أي: مِن أسارى المشركين- فائتنا، فجيء للنبي عليه الصلاة والسلام برأسين من العبيد، وجاء
فأشار عليه الصلاة والسلام إلى واحدٍ منهما وقال: (خذ هذا، فإني رأيته يصلي ...) ظهر على هذا الأسير آثار الصلاح، وكان يصلي، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعطاه هذا الرجل، وقال له: استوصِ به معروفاً... أي: اصنع به معروفاً، وأحسن إليه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه هذا العبد، رجع إلى بيته فقال لامرأته: (إن النبي عليه الصلاة والسلام أوصاني بأن أستوصي به خيراً. فقالت المرأة: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه -أي: أحسن شيء تستوصي به خيراً أن تعتقه- فقال الرجل: هو عتيق ...) متى ما تلفظ الإنسان بالعتق وقع العتق.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام على إثر ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفةً إلا وله بطانتان ...) والبطانة: هم خاصة الرجل الذين يعرفون أسراره لثقته بهم، شبَّههم ببطانة الثوب؛ لأن البطانة مما يلي الجسد من الداخل، فشبه الخاصة -المجلس الخاص للإنسان، أصحاب سره وأهل ثقته- شبههم بالبطانة مِن قُرْبِهم للرجل ومِن علمهم بباطنه وحقيقة أمره وأسراره، هؤلاء هم البطانة.
قال: (إن الله لم يبعث نبياً إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف -وهو ما عرفه الشرع وحكم بحسنه- وتنهـاه عن المنكر -وهو ما أنكره الشرع ونهى عن فعله- وبطانة لا تألوه خبالاً ...) أي: لا تقصِّر في إفساد أمره، كقوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118] يأمرونه بالشر، ويسعون في إفساده. (... ومن يوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) .
هل النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبي له بطانتان؟
قيل: إن المراد بالبطانتين في حق النبي: الملَك، والشيطان، وشيطان النبي عليه الصلاة والسلام قد أَسْلَمَ، أعانه الله عليه فدخل في الإسلام، وقيل: أَسْلَمُ، أي: أَسْلَمُ مِن شره، فما من نبي ولا غيره من الخلفاء إلا وله بطانتان.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من ولِي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكَّره، وإن ذكَر أعانه) ولو أن الإنسان لم يوجد له بطانة من الشر، فإن نفسه أمارة بالسوء (... ومن يُوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) الذي يَمنعه الله من بطانة السوء ويعصمه الله من بطانة السوء فقد وُقِي الشر كله.
ففيه جواز أن يشتكي الإنسان لصاحبه، وأن يخبر الإنسان بما عنده من الألم؛ من مرض، أو جوع، أو فقر، إذا لم يكن على سبيل التسخط على القضاء والقدر، وإذا لم يكن على سبيل شكاية الخالق إلى المخلوق، إذا لم يكن على سبيل التضجر والتبرم من قضاء الله وقدره، وإذا لم يكن على سبيل الشحاذة، فإذا كان كل واحد يخبر أصحابه أو صاحبه بظرفه لعلَّه يساعده في رأي، أو لعله يسليه، أو يعطيه كلمة طيبة؛ فهذا لا بأس به.
إذاً شكوى الأخ لإخوانه مما لقيه من صعوبة، أو بلاء، أو فقر، أو ألم، أو مرض يكون على حالَين:
الحالة الأولى: أن يخبرهم بذلك لكي يُسَلُّوه ويصبروه، فهذا لا بأس به، وهو من باب التواصي.
الحالة الثانية: إذا كان على سبيل التشكِّي والتبرُّم والتضجُّر من قضاء الله وقدره، والشكاية للمخلوقين، وإذلال النفس، والطلب، ومد اليد؛ فهذا مذموم.
هؤلاء أعظم الناس على الإطلاق في ذلك الوقت، والنبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس في كل وقت، ومع ذلك ما عندهم شيء، الإمام الأعظم ووزيراه ما عندهم في بيوتهم شيء، هذا شيء عجيب! إنه فعلاً يستدعي الانتباه والوقوف .. قائد الأمة وإمام الأمة ما عنده شيء في بيته، ووزيره الأول أبو بكر الصديق ما عنده شيء في بيته، والوزير الثاني عمر بن الخطاب ما عنده شيء في بيته، كلهم خرجوا من بيوتهم في ساعة لا يخرج الناس في مثلها، ما الذي أخرجهم؟! إنه الجوع.
إذاً: فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش.
فمِن الأخوة أنه إذا جاع أتى أخاً له ليس بينه وبين كُلفة ولا حرج ولا رسميات -كما يقولون- فيطعَم عنده، وهذا يسميه العلماء: الإدلال على الأخ أو على الصاحب، ما دام أن بينه وبينه مَعَزَّة كبيرة، وأخوَّة عالية، وصاحبه لا يتضجر إذا أتاه، ولا يثقل عليه، فإنه لا بأس بأن يأتي إليه.
وكفى شرفاً بـأبي الهيثم بن التَّيْهان أن يكون ضيفه النبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الرابعة: أن الإنسان إذا ذهب إلى شخصٍ لطعامٍ، وكان يعلم أن هذا الشخص لا يتحرج من إتيان آخرين، فإنه لا بأس أن يصطحبهم ..
فلو دعاك شخص وكان معك واحد أو اثنان أو أكثر، وأنت تعلم أن الذي دعاك لا يمانِع ولا يتحرج ولا يثقل عليه، ولا يتضجر من أن تصطحب معك بعض أصحابك إلى هذه الدعوة، فإنه لا يعتبر شيئاً مذموماً أن تأخذهم معك، مادام أنك تعلم رضاه، وأنه لا يثقل عليه، ولا يُحرج، وأن عنده ما يكفي الجميع، فلا حرج من أن تذهب بهم إليه.
وأما إذا ذهب الإنسان ومعه شخص ولا يدري هل يأذن صاحب البيت أو لا يأذن، فإنه يستأذن لهذا الشخص، فيقول: يا فلان يا صاحب الدار! أنا مدعوٌّ عندك، ومعي واحد لم يُدْعَ، هل تسمح له فيدخل أو ينصرف فيرجع؟ فإذا أذِنَ صاحب البيت بدون إحراج، فإنه لا بأس أن يدخل هذا الشخص ولو لم يُدْعَ.
ولذلك فرح أبو الهيثم بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام يعتنقه، وقال: مَن أكرم أضيافاً مني؟! لا أحد اليوم أكرم أضيافاً منه؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر ، مَن بقي أكرم أضيافاً من هؤلاء؟! من هو أكرم من هؤلاء؟! لا يوجد، ولذلك كان فرحه عظيماً.
فيُسَر المؤمن ويفرح إذا قدم إلى بيته أحد الصالحين أو العلماء، وهذا من علامات الإيمان، أن الإنسان يُسَر ويفرح بقدوم أهل الْخَير إلى بيته، وبالذات إذا جاءوا من غير دعوة، إنها مفاجأة سارة جداً، أن يقْدُم أهل الْخَير إلى بيته.
إذا كان بغير فتنة، ولا محذور شرعي، فإنه لا بأس على الإنسان أن يتكلم مع المرأة الأجنبية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى هذا الرجل قال للمرأة: ( أين صاحبكِ؟ ) والصاحب هو الزوج، وما هو الدليل على أن الزوج يسمى صاحباً والزوجة تسمى صاحبة؟
قال الله تعالى: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12] إذاً: الزوجة تسمى صاحبة، والزوج صاحبها؛ لأن بينهما مصاحَبة، فهو يصاحبها في هذه الحياة بالعشرة الزوجية.
فقال: (أين صاحبكِ؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فرحَّبَت بهم وتركتهم يدخلون).
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جاء ومعه أبو بكر وعمر ، هؤلاء جماعة من الصالحين، لا يُخشى من دخولهم إلى البيت، لكن لو كانوا فَسَقَة فربما يتعاونون على المرأة.
ولذلك ينبغي الحذر الشديد من إدخال الأجنبي أو الأجانب إلى البيت، إلا إذا كانوا أناساً صالحين، والزوجة تعرف يقيناً أن الرجل لا مانع لديه من دخولهم، وكانوا صالحين، فهنالك يدخلون، أما أن يدخل واحد فقط فلا يجوز أن يخلو بالمرأة ولو كان من أصلح الصالحين.
وقول عائشة رضي الله عنها: [ولا والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، ما بايَعَهن إلا كلاماً] أي: مِن بعيد، وما مَسَّتْهُنَّ يدُه، مع أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولم تمس يدُه في بيعة يد امرأة، ومع وجود الحاجة لمس اليد في البيعة؛ لأن المبايِع يضع كفَّه في يد المبايَع، ويعاهده بالله أن يفعل كذا وكذا ولا يفعل كذا وكذا، فمع الحاجة لوضع اليد في البيعة إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بايع النساء مصافحةً، إنما بايعهن كلاماً، قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ ... [الممتحنة:12] إلى آخر الآية، قال فيها: فَبَايِعْهُنَّ [الممتحنة:12].
فالمبايعة كانت بالكلام، وعائشة تقول: [ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط].
إذاً: لا خلوة، لا مع صالح ولا مع غير صالح، ولا مصافحة؛ لا من صالح ولا من غير صالح، المصافحة حرام.
أما دخول البيت فيكون بإذن الزوج، أو من كانت تعلم يقيناً أن الزوج لا يمانع في دخولهم، وكانوا صالحين، لا يُخشى منهم؛ لأن الفاجر إذا دخل:
أولاً: قد يُفضي دخوله إلى حرام مع المرأة.
ثانياً: قد يسرق من البيت.
ثالثاً: قد يضع فيه سحراً، أو يضع فيه شيئاً، وكم من الناس ابتُلوا في بيوتهم من جراء دخول أناس فَجَرَة فَسَقَة لا يؤمَنُون إلى البيوت!
وقد يطَّلعون على أسرار في البيوت وأشياء؛ ولذلك لا يُدخل الإنسان بيتَه إلا من يثق به، خصوصاً في هذا الزمن، الذي يجب أن يتحرى الإنسان في دخول بيته أكثر من أي زمن آخر، لأن الفتن فيه عمَّت، وكثرت فيه المحرمات والفُحش والفسوق والعصيان، فيجب الحذر التام من إدخال الأشخاص إلى البيوت.
فإذا جاءك ضيف مفاجئ، وأنت لم تستعد بطبخ وليمة ولا ذبيحة ولا شيء، فالسنة ما فعله هذا الصحابي، أولاً: أتى لهم بعِذْق تَمْرٍ ورُطَبٍ وبُسْرٍ، يأكلون منه؛ لتسكين جوعتهم في البداية؛ ريثما يصنع لهم طعاماً.
وبعضهم استدل به على تقديم الفاكهة على الخبز واللحم، وأن الله يقول أيضاً: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21] فقدَّم الفاكهة على الطعام؛ لكن الصحيح أنه ليس في هذه الآية ما يدل على ذلك، هذا كلام عن نعيم أهل الجنة، ونعيم أهل الجنة يختلف بطبيعته عن أهل الدنيا، والفاكهة سواء وُضِعت قبل الطعام أو بعد الطعام حسب مصلحة الناس، وما تعود عليه الناس، فلا بأس بذلك.
وربما بعض الناس لو وضعت له فواكه وأشياء في البداية لقال لك: هاتِ الدسم، هاتِ الخلاصة، هاتِ الشيء المهم، أتريد أن تشغلنا بالأشياء الجانبية؟!
فإذاً: الناس على ما تعودوا، ويكون إكرام الناس على ما تعودوا عليه؛ لكن الإنسان قد يفاجأ بضيف، فماذا يقدم له لتسكين جوعته؟ يقدم له ما يقدمه الناس في الغالب، مثلاً: تَمْراً وقهوةً، ريثما يأتوا بالطعام.
فـأبو الهيثم بن التَّيْهان رضي الله عنه لما فوجئ بهؤلاء الضيوف الكرام قدَّم لهم -أولاً- هذا الرُطَب والتَمْر ريثما يذبح لَهُم ويطبخ لَهُم.
وهذه هي المشكلة الكبيرة؛ لأننا إذا كان سنسأل عن المباحات فما بالك بغيرها؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الآية بهذا الشيء الواقعي الذي حصل: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] فقال لهم: (ظلٌ بارد، وماءٌ بارد، وفاكهة، ولحم لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]) فهذا هو الذي يُسأل عنه يوم القيامة.
والقضية -يا إخوان- أنه كم مرة حصل للنبي عليه الصلاة والسلام ظلٌ بارد، وماء باردٌ، وفاكهة، ولحم، في وجبة واحدة؟! قليلٌ جداً، هذه إحدى المرات النادرة في حياته التي حصلت له، أما نحن -والحمد لله- كل يوم تقريباً عندنا ظل، وماء بارد، وفواكه، ولحم، إذا لم يكن دجاج فسمك أو لحم أحمر أو غيره.
الصحابة حصل لهم هذا الأمر مرة واحدة -التي نقلت إلينا- وحصل لهم مرات أخرى، ربما وجد في بعض الأحاديث أنهم أكلوا؛ لكنها قليلة، والأكثر أنهم ما عندهم كل يوم لحم وفاكهة، لذلك قالت عائشة : (كان يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال -ثلاثة أهلة في شهرين- وما يوقد في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم نار) لا يوجد طبخ، ولا يوجد غيره؛ لأنه ليس هناك شيء يُطبخ.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحن ذات دَرٍّ) أي: ذات لبن، خَلِّها واتركها لِلَّبن؛ لتستفيد منها في الحَلْب، اذبح شاةً ليست ذات لبن، دع الحلوب ليستفاد منها، واذبح شيئاً آخر، فيرشد المضيف إلى أن ينتقي له ما لا يضر بمصلحته، أو ما لا يحرمه من الانتفاع به.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طعم عنده سأله وقال له: (هل لك خادم؟ قال: لا. قال: فإذا أتانا سبيٌ فائتنا) ولما أتاه سبيٌ أعطاه، وكافأه بعبدٍ على هذه الوجبة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُحْضِر له الرأسان وأتاه أبو الهيثم قال عليه الصلاة والسلام: (اختر منهما. فقال: يا نبي الله! اختر لي) أي: أنت أبصر مني وأخبر، وأخير مني وأنصح لي، وأعلم بمصلحة نفسي من نفسي، فاختر لي.
فيأخذ الإنسان رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء، مع أنها أشياء دنيوية، قد تكون سيارة، وقد تكون امرأة، وقد يكون بيتاً، وقد تكون سلعة، وقد تكون غير ذلك.
لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حقوق الإخوة: (وإذا استنصحك فانصح له) فهذا أمر يدل على الوجوب، أي: لا بد أن تبذل له الوسع في نصحه، وتجتهد، ولا تختر له اعتباطياً وعشوائياً، وإنما يجب أن تفكر وتجتهد وتبذل الوسع في الدلالة على الخير، لتخبره: هل هذا أفضل له أم ذاك؟ وهذه مسألة تحتاج إلى تحرٍ ونظر وتفكير، وليس شيئاً عشوائياً، ما دام أنه استشارك لا بد أن تبذل له الرأي مجاناً .. (وإذا استنصحك فانصح له) هذا يدل على وجوب إعطاء النصيحة للأخ المسلم من قبل أخيه المسلم وجوباً شرعياً.
وما هي الأشياء التي تجعل المستشار يؤدي النصيحة بشكل سليم؟
أولاً: أن يعرف ظرف المستشير وما حوله وحاله وإمكاناته.
ثانياً: أن يفكر وينظر في المسألة.
ثالثاً: أن يستشعر بأن القضية أمانة.
رابعاً: لا تكون الإشارة هذه صحيحة إلا إذا كان لم يكتم شيئاً من المصلحة، لا أن يقول: هذا أعطاني فكرة، أنا الآن أدله على أي شيء وأسبقه إليه، كما يفعل بعض الناس، يقول: أنا أوصله إلى أي شيء استثماري، قد لا يكون مفيداً أو فائدته بسيطة، وأنا أسبقه إليها، وبعض الناس من خيانتهم في الإشارة إذا جاء واحدٌ وقال له: أنا عندي صفقة مع فلان كذا ومع فلان كذا، فيقول له: لا، خذ هذه، ويدله على الأقل، ثم يذهب هو ويأخذ تلك ويسبقه إليها .. هذه من الخيانة.
إذاً: من خيانة المستشار أن يكتم المصلحة، ومن خيانة المستشار ألا يُعْمِل الجهد في الرأي، بل يعطي رأياً اعتباطياً عشوائياً.
فالمستشار مؤتمَن، أي: أنه يجب عليه أن يتوخَّى الأمانة في إخبار المستشير.
المرأة هذه لما كانت نِعْم البطانة لزوجها أشارت عليه بأن يعتق العبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يُوْقَ بطانة السوء فقد وُقِي) .
إذاً: بطانة الشخص من الأهمية والخطورة بمكان؛ لأنهم :
أولاً: يعرفون أسرار الإنسان.
ثانياً: لأن العادة والغالب أنه يتأثر بهم، ويمشي على حسب إشارتهم وقولهم، ويعمل برأيهم؛ فإذا كانوا بطانة خير كانت الأشياء التي يعملها الشخص في الغالب خيراً؛ لأن البطانة يشيرون عليه بالخير، وإذا كانوا أهل سوء فهو يتأثر بهم؛ لأنهم ندماؤه وجلساؤه وأهل ثقته وخاصته والمقربون إليه، فإذا دلوه على شر فإنه سيفعل الشر في الغالب .. (ومن وُقِي بطانة الشر فقد وُقِي) .
الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان لا يكاد يسلم من بطانة سوء ..
إما صديق سوء، أو قريب سوء، أو زوجة سوء، أو سكرتير سوء، لا يسلم من بطانة سوء، ولذلك قال: ( إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان ) الشخص العظيم صاحب القدر الكبير إلا وله بطانتان، وإذا لم يوجد إنس فالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
الفائدة السابعة عشرة: أن السعيد من وُقِي بطانة السوء، وأنه يجب على الإنسان أن ينقِّي بطانته، فينخلهم نخلاً، وينظر في هؤلاء المقربين إليه جلسائه، أصدقائه، ندمائه، أصحاب سره، وأهل ثقته، مَن منهم الصالح فيحتفظ به، ويشتريه ويضعه على رأسه، ومَن منهم صاحب السوء فيتخلص منه ويستغني عنه ويبيعه، لأنه لا خير للإنسان في الاحتفاظ ببطانة السوء، ولا يكاد يوجد فينا واحد إلا وهو محتك بأشخاص سيئين وأشخاص طيبين، لكن قد يكون عند الواحد -مثلاً- الطيبون أكثر، وعند الآخر السيئون أكثر؛ لكن لا يخلو أن يكون لك تعرض بوجه من الوجوه إلى شخص سيئ، فينبغي نبذه وتركه وهجره ومقاطعته ومنابذته والاستغناء عنه.
الفائدة الثامنة عشرة: أن بعض الناس غرضهم الإفساد..
ماذا يعني (لا يألونه خبالاً) أي: أنَّهم لا يقصِّرون في إفساده، يبذلون المحاولات الشديدة في إفساده، قال عليه الصلاة والسلام: (وبطانة لا تألوه خبالاً) أي: أن هذه البطانة ليس تأثيرها عليه تأثيراً عشوائياً وبفعل وجودهم فقط، وإنما هم يخططون لإفساده، (لا يألون) أي: يجتهدون، ولا يتركون وسيلة لإفساده إلا سلكوها، وهذا يدل على وجود تعمد وتخطيط، وعلى وجود تواطؤ منهم.
ولذلك فإن هذه المسألة في غاية الخطورة، فهناك أناس نذروا أنفسهم للشر، يندسون للإفساد، ويعملون، ويشتغلون ليلاً ونهاراً، مكر الليل والنهار.
فمما يثير الانتباه أن هؤلاء جاعوا معاً وخرجوا معاً بدون توافق، كل واحد خرج من بيته، ثم اتضح في النهاية أن أسباب الخروج واحدة عند الجميع بدون توافق، فتجد أن الناس القريبين من بعض أو الأصدقاء والخلان -أحياناً- تتواطأ مشاعرهم على شيء واحد.
أهمية أن يكون الخادم من المصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختار له واحداً منهم اختار بناءً على الصلاة، وقال: ( خذ هذا، فإني رأيته يصلي ) فلو عُرض على أحد خادمة تصلي وخادمة لا تصلي، أو سائق يصلي وسائق لا يصلي، أو موظف يصلي وموظف لا يصلي، فعليه أن يختار الذي يصلي، لأن الغالب أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .. نعم، قد يوجد كافر عنده أمانة، ومسلم مصلّ لكنه خائن، لكن الأكثر والأغلب أن المصلي أكثر أمانة من غيره، وعلى الأقل هناك بينه وبين الله صلة، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] .
إذاً: يؤخذ من الحديث: انتقاء المصلين في الأعمال.
ولا يعني هذا أنك لا تنظر إلى الصفات الأخرى، وتقول: المهم أنه مصلٍّ؛ سواء كان غبياً أو لا يفهم، بل عليك أن تنظر إلى الصفات الأخرى.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26] فالأمانة من ضمنها الصلاة؛ لأن الصلاة أمانة وعبادة، والأمانات كثيرة: أمانة بين العبد وربه، وأمانة بين العبد والعبد، والقوي، أي: الخبير، القادر.
إذاً: الإنسان يعتمد المصلي كأساس، ويبحث -أيضاً- عن الصفات الجيدة في المصلين.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) .
وضيافة المسلم المسافر المجتاز واجبة على النازل به مجاناً يوماً وليلة .. فإذا كنتَ في طريق مسافرين، وكان عندك مزرعة أو بيت ونزل عليك مسلم، فإنه يجب عليك أن تبذل له ضيافة يوم وليلة مجاناً على قدر الكفاية، وهذا الحق الذي يمكن أن يطالب به عند القاضي، يذهب إلى قاضي البلد ويقول: نزلت عند فلان في طريق السفر وهو قادر، فأبى أن يضيفني، والقاضي يرغمه شرعاً على ضيافته.
فالمسألة إذاً واجبة، ويأخذ القاضي من صاحب المكان مالاً بقدر الضيافة ولو بغير إذنه ويعطيه للضيف.
ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه .. فلا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت بعد ثلاثة أيام من غير استدعاء من صاحب البيت وإذن منه ورغبة، أما أن يجلس عنده حتى يحرجه فلا، فإن الناس -مثلاً- يسكنون مكة والمدينة، فيأتي أناس من الخارج، ويجلسون عندهم أسبوعاً أو عشرة أيام أو شهراً، ضيف ثقيل دم، ولذلك فإن هذا المكث حرام؛ لأنه فيه إحراجاً؛ إلا إذا كان الإنسان طيبة نفسه بالضيف، ويأنس به، ويرغب أن يجلس عنده، أما أن يأتي ويجلس ويضع عنده أولاده وأهله فهذا فيه حرجٌ وضيق، ولذلك فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك.
وكذلك فإن الإنسان يكرم من نزل عليه حتى علف الدابة، وكل ما يحتاجه الضيف على حسب القدرة والطاقة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: [من السنة إذا دعوتَ أحداً إلى منزلك أن تَخرج معه حتى يَخرج، وهذا من مكارم الأخلاق] .
وكذلك السنة للضيف: ألا يقعد في صدر المجلس إلا إذا أذن صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت أحق بصدر مجلسه وصدر دابته من غيره.
وكذلك فإن الضيف إذا جلس في مكان فلا يجلس في المكان الذي يرى فيه الباب، ويرى ما وراء الباب إذا انفتح، وما وراء الستارة؛ حتى لا يطَّلع على عورات صاحب البيت.
وقد حدثت قصة لطيفة بين أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله والإمام أحمد .
أبو عبيد القاسم بن سلام من كبار أئمة اللغة، والإمام أحمد معروفٌ مَن هو.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت الإمام أحمد، فلما دخلتُ قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، فقلت: أليس يُقال: صاحب البيت أو المجلس أحقُّ بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم، يَقعُد ويُقعِد مَن يريد .. إذا كان هذا حقه فآثرَ به آخر فإن له الحق أن يُجلسه. قال: قلتُ في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة .. أبو عبيد كان يظن أن صاحب البيت فقط هو الذي يجلس في صدر البيت، والإمام أحمد أجلسه في صدر البيت، ولما سأله أبو عبيد قال: صاحب البيت أَولى؛ لكن إذا هو آثَر الضيف بصدر المجلس فإنه يَجلس. قال: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة، ثم قلت -يقول أبو عبيد للإمام أحمد -: لو كنتُ آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم .. أي: أنت يا إمام أحمد يستحق الواحد أن يأتيك كل يوم، لما يوجد عندك من الفائدة، وأنه يجب أن نقدرك. فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم .. يقول: هناك أناس بيني وبينهم علاقات ما ألقاهم في السنة إلا مرة أعز عليَّ من أناس أراهم كل يوم، فالمسألة ليست بكثرة الترداد إنما بالمنازل التي في القلوب. قال: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد -الفائدة الثانية- فلما أردتُ القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! فقال: قال الشعبي : مِن تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ برِكابه. قلت: يا أبا عبد الله ! مَنْ عَنِ الشعبي ؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي قلت: هذه ثالثة يا أبا عبيد أي: هذه الفائدة الثالثة.
وهكذا كان السلف رحمهم الله تعالى يتعلمون، يذهب بعضهم إلى بعض من أجل أن يتعلموا الفوائد.
هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة مِن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام؛ فتعالَوا بنا نُنْهِي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل عليه السلام :-
أولاً: أنه قرَّب الطعام إليهم، ولم يأمرهم أن يتقدموا إلى الطعام ..
وهذا واضح من قوله تعالى: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27] حتى يكفيهم مئونة الإتيان إلى الطعام، وهو من مزيد التكريم، أن تقدم الطعام للضيف؛ لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم، يمكن أن يجلس الواحد نصف ساعة وهو يقدم الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهَّز السُّفْرَة ثم قربهم إليها، فلا بأس بذلك.
ثانياً: من آداب الضيافة: السرعة في الإتيان بالطعام ..
أخذناه من قوله تعالى: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] ( فَجَاءَ ) بحرف الفاء، ولم يقل: ثم جاء، ولكن ( فجاء ).
ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم أو بدون استئذانهم لئلا يُحرَجوا ..
وبعض الناس يقول: هل نأتي لكم بغداء؟! معنى ذلك أنه لا يريد أن يأتي لهم بشيء؛ لأنه لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يستأذنهم أو يستأمرهم، وهكذا فعل إبراهيم الخليل؛ فإن الله تعالى قال عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [الذاريات:26] و(راغَ) أي: ذهب خفيةً لئلا يحرجهم، وما أحسوا به لما ذهب من الباب، فانسل خفيةً وأتاهم بالطعام.
رابعاً: اختيار أحسن الطعام ..
قال تعالى: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] والآية الثانية: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69] والحنيذ هو اللحم المشوي على الرضخ، والرضخ هي الحجارة المحمَّاة، وهو ألذ الطعام وأصحُّه، فاللحم المشوي على الحجارة المحماة أصح شيء، وهو في القمة واسأل به خبيراً! وليس ذلك أنا، فإني لم أشوِ على الحجارة أبداً، لكن المقصود أنك تسأل الذين يشوُون على الحجارة، ويقال: إن طعام الكبراء من هذا النوع، أكثره على الحجارة المحمَّاة، فهو جيد من ناحية الصحة، ومن ناحية اللذة والنضج على الحجارة.
سادساً: أسلوب العرض جميل ..
قال تعالى: قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] لما قربه إليهم ما مدوا أيديهم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] أسلوب في غاية اللطف.
سابعاً: حُسن الاستقبال ..
فإبراهيم كان بابه مفتوحاً .. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] والكريم دائماً بابه مفتوح.
ثامناً: أنهم لَمَّا قالوا له: سَلاماً، قَالَ: سَلامٌ..
سلاماً: جملة فعلية، وسلامٌ: جملة اسمية.
سلاماً: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نسلم سلاماً.
سلامٌ: خبر سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ [الذاريات:25].
قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] .
تاسعاً: لم يسألهم عن أسمائهم، إنما أشعرهم بأن قال: سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] أي: أهلاً بالضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكرم الجميع، فقد جاء بعجلٍ حنيذ لأناس لا يعرفهم، وهذا من إكرام أبي الأنبياء عليه السلام.
عاشراً: أن الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يأتيه أو يعينه على المقصود ..
قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود:70] وفي الآية الأخرى: قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] فإن الإنسان يراعي أحوال الضيف: ماذا ينقصه؟ ربما ينقصه ماء، ربما ينقصه شيء؛ والآن بعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدري عن الضيوف ماذا ينقصهم، وماذا يحتاجون، فتفقُّد أحوال الضيوف على المائدة من إكرام الضيوف.
الحادي عشر: المبالغة ..
ذَبَح لهم عجلاً، لم يذبح لهم ثوراً، أو جاموساً قاسي اللحم، إنما ذبح العجل الذي هو صغار البقر، وهذا يكون لحمه طرياً طيباً.
الثاني عشر: من إكرام الضيف أن الإنسان يحادثه :-
يحادث ضيفه؛ ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في السمر للمصلي والمسافر والذي عنده ضيف، لا بأس أن يسمر معه الإنسان في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره السهر، إلا لمصلٍّ، أو مسافر، أو صاحب ضيف يسمر معه ويحادثه.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر