وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ها نحن الليلة مع سورة مريم المكية، والسورة المكية -كما قد علمتم وأيقنتم- أنها تعالج العقيدة؛ بإيجادها وتقويتها وإصلاحها إذا داخلها فساد، وتقرر أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، وما يتم فيها من جزاء على الكسب في هذه الدنيا هو حق كذلك.
فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:1-7].
إذاً: فجاء الله تعالى بهذه الحروف التي ما عهدوها في لغتهم، ولا سمعوا أحداً ينطق بها قط، فكانوا إذاً مضطرين إلى أن يلقوا بسمعهم ويسمعون إلى قوله تعالى: طسم [الشعراء:1]، فإن سمعوها سمعوا بعدها: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الشعراء:2]، وعند سماعهم تدخل أنوار القرآن في قلوبهم، وعلى هذا آمنوا ودخلوا في الإسلام إلا من شاء الله.
فقد تحداهم الله عز وجل بعشر سور، كما جاء في سورة هود فقال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، أي: هاتوا عشر سور مفتتحة بهذه الحروف، وأخيراً تحداهم بسورة واحدة، فقال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، فالقرآن الكريم مركب من هذه الحروف، وهذه الحروف تنطقون بها رجالاً ونساءً وأطفالاً، وكل عربي ينطق بالطاء والسين واللام والكاف والهاء، فمن تحداهم الله عز وجل عجزوا أن يكونوا أو يركبوا منها كلاماً ككلامه سبحانه، فتبين أن القرآن كلام الله عز وجل ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام البشر في شيء، ولم تستطع البشرية مهما تعاونت أن تأتي بمثله، فقد مضى ألف وأربعمائة سنة وتسعة عشر وإلى الآن ما استطاعوا؛ لأن الله قال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا [النساء:129].
وهكذا نفهم فواتح السور هذه من هذه الأقوال الثلاثة، أما أن نقول: (ك) بمعنى: الله كريم أو كافي، أو نقول: (ه(، بمعنى: هادي، أو (ع) بمعنى: عليم، أو (ص) بمعنى: صادق، فهذا كله مذكور في التفاسير ولكن لا قيمة له، حتى في تفسير ابن جرير لكن لا يعول عليه، يذكر ما يقولون.
إذاً: كهيعص [مريم:1]، يروون عن علي كان يقول كهيعص [مريم:1]: افعل بكذا وكذا.. يقول: اسم الله، ولكن ما يصح، فـعلي ليس أجهل الناس حتى يقول هذا اسم الله.
فمن أين سيأتيه هذا الوحي إذا لم يكن نبي الله ورسوله؟! ومن أين ستأتيه الأخبار القرآنية؟! ومن أين له أن يعرف أحوال بني إسرائيل وهو لم يعش معهم؟!
إذاً: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية تقرر نبوته ورسالته، فهذا القصص الذي لا يمكن لأحد أن يقصه إلا إذا قرأه في كتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في كتاب، ولم يدرس عند علماء، ولم يعرف أحوال اليهود أو عاش معهم، ولكن وحي من الله تعالى أوحاه إليه، ولن تستطيع اليهودية ولا المسيحية أن ترد كلمة واحدة.
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:2]، أي: زكريا عليه السلام عندما شاهد حنة ولدت مريم ومريم أنجبت عيسى عليه السلام هش وبش، وقال: لِمَ ما أدعو ربي أن يرزقني ولداً، إذ قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]، لأن مريم البتول عليها السلام لما وضعت عيسى بكلمة التكوين (كن) فكان، كان يدخل عليها زكريا المحراب في المسجد فيجدها تأكل فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فتساءل في نفسه: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:37-38]، أي: لما رأى المعجزات والخوارق للعادات، والأسباب لا قيمة لها عند الله، وكان عمره عليه السلام في ذلك الوقت خمساً وتسعين سنة، وهذه المرأة أيضاً عقيم عاقر لا تلد، هنا دعا زكريا ربه، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:38-39].
وهنا من المعلوم أن الدعاء يستحب فيه الإسرار والخفية، واقرءوا قول الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، أي: سلوه حاجاتكم متضرعين وفي خفية عن أعين الناس.
ومن هنا ذهب مالك إلى أن القنوت يسره ولا يجهر به كما هو معروف في المذهب المالكي، وخالفه غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو جهراً والأمة وراءه تؤمن، فلهذا كما علمنا يستحب الجهر به من أجل أن يؤمن المصلون من ورائه، والداعي والمؤمِّن كلاهما واحد، فالذي يدعو كالذي يقول آمين، وكلاهما دعا الله عز وجل، فيستحب الجهر بالقنوت أو بالدعاء في حال الشدة والنكبات والمصائب؛ من أجل أن يشارك في الدعاء المصلون كلهم بقولهم: آمين.
فلهذا النداء يكون بالياء للبعيد، مثل: يا إبراهيم.. يا عثمان! هات كذا.. لكن أمامك تقول: عثمان أعطني كذا، ولهذا تحذف النداء مع الرب تبارك وتعالى فلا يقال: يا رب.
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4] أي: ذكر ضعفه وعجزه وحاله، إذ كان عمره: خمس وتسعون سنة.
وَهَنَ الْعَظْمُ [مريم:4]، أي: لان وهش.
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4]، أي: انتشر الشيب في الرأس.
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ [مريم:4]، أي: يا ربِّ شَقِيًّا [مريم:4]، عودتني أني إذا دعوتك تجيبني ولا تشقيني بالدعاء وتحرمني العطاء.
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ [مريم:4]، أي: يا رب! شَقِيًّا [مريم:4]، بمعنى: أتعب وأدعو ولا تستجيب لي، في هذا توسل إلى الله بفضائله وإحسانه، كان يجيبه دائماً، فالآن أجبني يا رب، وَلَمْ أَكُنْ [مريم:4]، أي: في الماضي يا رب شقياً.
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:5]، والعاقر: هي التي لا تحبل ولا تلد، سواءً صغيرة أو كبيرة، ومن الرجال العاقر كذلك، أي: الذي لا يلد.
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5]، أي: هب لي عطية منك.
(وَلِيًّا): أي: ولداً يكون ولياً، ووليك يا رب يدعو إلى عبادتك وطاعتك، وينشر ملة إبراهيم التي كادت تنتهي.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، أي: اجعل ربِّ هذا الولد الذي تعطيني رضياً مرضياً عنه، صالحاً مؤمناً مستقيماً، ولم يشترط أن يكون نبياً رسولاً، فقط أن يكون مرضياً عنه، بمعنى: أن يكون عبداً صالحاً.
هكذا يقول في مناجاته: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [مريم:4-5]، أي: بعد موتي، وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:5]، إذاً: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5]، أي: ارزقني ولداً من فضلك وإحسانك، يَرِثُنِي [مريم:6] أي: في ديني وملتي وعقيدتي.
ألم يقل البعض: يورث المال كما علمتم؟ الروافض يقولون: نعم، وقالوا: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16].
أهل السنة والجماعة قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم قرر هذه الحقيقة، وقال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة )، فقول الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16]، فلو كان المال فكل الدنيا تتوارث ولا داعي لهذا الكلام، لكن ورثه الحكمة والعلم والدولة والحكم.
كذلك هنا: يَرِثُنِي [مريم:6] أي: لا في المال، لا يخاف على ماله من سيرثه، فممكن لا مال له، بل يرثني في عقيدتي وديني ودعوتي؛ ليقوم مقامي وينشر دعوتك يا رب العالمين، خاف تنقضي دعوة الإسلام بينهم، لما شاهد من العموم وأبناء العموم كيف تنكروا وذهبوا هنا وهناك.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ [مريم:5-6]، أي: اجعله يا رب رَضِيًّا [مريم:6]، مرضياً صالحاً وهو نبياً ورسولاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:6]، أي: يرثني في عقيدتي وديني ويرث من آل يعقوب كذلك دعوة إبراهيم الحنيف.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، أي: مرضياً صالحاً عبداً طاهراً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6].
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، أي: من اسمه يحيى أو من يماثله في الطهر والكمال.
فكلمة: (مِنْ قَبْلُ) تحتها لطيفة، أما من بعد سيأتي وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ [مريم:7]، أي: من قبل يحيى، سَمِيًّا [مريم:7]، من يسامي فيه.
إذاً: ومعنى هذا أن هناك نبياً ورسولاً سيأتي أيضاً ولا يدخل في هذا فهو مستثنى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أسمى من يحيى وأكمل وأفضل، وقد عرفتم أن زكريا ويحيى ولداه مات شهيدين قتلاهما اليهود كلاهما.
أما قوله تعالى: كهيعص [مريم:1]، فإن هذا من الحروف المقطعة، والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى، فنقول: كهيعص [مريم:1]، الله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:2]، فإن معناه: مما نتلو عليك في هذا القرآن يا نبينا فيكون دليلاً على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه، وامرأته عاقر لا ولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية، إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات، نظراً إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس فيهم كفؤ لذلك، بل هم دعاة إلى السوء فنادى ربه نداً خفياً قائلاً: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم:4]، أي: رق وضعف. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4]، أي: شاب شعر رأسي لكبر سني، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4]، أي في يوم من الأيام، بمعنى: أنك عودتني الاستجابة لما ادعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي.
وَإِنِّي [مريم:5]، يا ربي قد خِفْتُ الْمَوَالِيَ [مريم:5]، أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك، وذلك بعد موتي.
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5]، أي: من عندك تفضلاً به على إذ الأسباب غير متوفرة للولد -العقم والكبر- المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم.
وَلِيًّا [مريم:5]، أي: ولداً يلي هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:6]، جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، أي: واجعل الولد الذي تهبني يا رب (رضياً) أي عبداً صالحاً ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم:7]، أي: من سمي باسمه يحيى قط].
أولاً: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره بهذا الخبر].
أولاً من هداية الآيات، إقرار وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ لو لم يكن رسول الله من أين له هذا الكلام؟ مستحيل أن يأتي بهذه الأخبار، فهو دليل نبوته وصدق رسالته.
[ ثانياً: استحباب السرية في الدعاء؛ لأنه أقرب إلى الاستجابة ].
ثانياً من هداية هذه الآيات يا عباد الله! استحباب استخفاء الدعاء وإخفائه عن الناس، سواء كنت في بيتك أو كنت في المسجد أو في أي مكان، يستحب أن تخفي دعاءك، ادعوا الله فيما بينك وبينه وتوسل إليه بما شئت من الصالحات؛ لقوله تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3].
[ ثالثاً: وجود العقم في بعض النساء ].
ثالثاً من هداية الآيات وجود العقم في بعض النساء وبعض الرجال أيضاً وهي سنة الله عز وجل، يوجد رجل ما يلد أبداً وامرأة كذلك العقم والعقر.
[ رابعاً: قدرة الله تعالى فوق الأسباب إن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها ].
قدرة الله تعالى فوق الأسباب، فالأسباب هو مسببها فإن شاء أوقفها وأعطى، لما أعطى زكريا أما بلغ عمره خمسة وتسعين سنة وامرأته ما كانت عاقر؟!
فأعطاه الولد، فالأسباب بيد الله، فلهذا ندعوه ونسأله كل شيء مما هو عنده.
[ خامساً وأخيراً: تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاة والبعير، وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة ].
هذه الحقيقة أشرت إلى أن الروافض غاضبون على أبي بكر رضي الله عنه لعدم إعطاء فاطمة رضي الله عنها إرثها؛ لأنه هو الذي قسم التركة، ثم لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة )، وقلنا: نعم، فهل أبو بكر سيمنع فاطمة من إرثها؟!
والله ما يمنعها، حتى لو يقتل أو يصلب، من هو أبو بكر الصديق حتى يمنع فاطمة من إرثها؟!
وإنما طبق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثله: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ).
وقول الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16]، لو كان الإرث العادي ما الفضيلة التي يذكرها الله لسليمان؟
فكل الناس يتوارثون، لكن هذا الإرث في النبوة والحكم والدولة والعلم، ما هو في المال والشاة والبعير، وبهذا استقر عند أهل السنة والجماعة، أن الأنبياء لا يورثون وما يتركونه صدقة يتصدق بها عليهم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر