قال الله تبارك تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح:8].
قوله: (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا )) الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، ومن غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاهداً، وقد جاءت آيات كثيرة تبين بعض ما يتعلق بمنصب الشهادة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، منها: قول الله تبارك وتعالى:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] فهذه الآية الكريمة من سورة النساء تبين أن كل أمة يأتي شاهد ليشهد عليها، ألا وهو رسولها، روى
البخاري عن
عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي؟ -يعني: قرآناً- قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث أخرجه أيضاً
مسلم وليس فيه قوله: (حسبك)، وفيه أنه قال: (
فرفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جانبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه صلى الله عليه وسلم تسيل) وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لتعظيم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيداً:
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فهذا تعظيم لهذا الموقف العظيم المهول، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون في منصب الشاهد، فإذا كان الشاهد يشفق من هول هذا المطلع، وفظاعة وعظم هذا الموقف، فكيف بالمشهود عليه؟ وإذا كان الشاهد نفسه يبكي تعظيماً لهذا الموقف فلا شك أن غيره أولى أن يتفتت كبده.
وقوله:
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ يعني: كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خصهم بالذكر؛ لأن العذاب أشد عليهم من غيرهم؛ لأن هؤلاء رأوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة ( إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )؟! أمعذبون أم منعمون؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ، وقيل: الإشارة إلى جميع أمته: ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ ) يعني: على جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أمة الدعوة أو أمة الإجابة.
( شَهِيدًا ) قال
الألوسي : يعني: شهيداً تشهد على صدقهم؛ لعلمك بما أرسلوه، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا: (( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ))؛ لأن بعض الأدلة تدل أيضاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون شاهداً على الأنبياء أنهم بلغوا أممهم حين تنكر الأمم الكافرة ذلك، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومهم قد أبلغوهم.
ومن الآيات التي لها تعلق بالشهداء قوله تبارك وتعالى:
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ *
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر:71-70] واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الشهداء: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) فقال بعض العلماء: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمال الناس في الدنيا، واستدل من قال هذا بقول الله تبارك وتعالى:
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] أي: شهيد من الملائكة، والجمع شهداء، فقوله: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) يعني: الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم.
وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
وقيل الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الشهداء: هم الرسل من البشر (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) يعني: بالنبيين والمرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم؛ فالمعلوم أنه لا يقضى بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما قال تبارك وتعالى في سورة يونس:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [يونس:47]، فلا يقضى بين الأمة حتى يجاء برسولها، وكما قال تعالى أيضاً:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، وقال تعالى:
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6].
فأيضاً يشير إلى نفس هذا المعنى قول الله عز وجل: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ))، وهو رسولها الذي أرسل إليها، فإذاً: شهيد كل أمة هو رسولها.
وقوله: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ )) هذا يبين أن الشهيد يكون من نفس هذه الأمة، وهو ليس من الملائكة، فهذا القول يترجح على قول من قال: إن الشهداء في قوله: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) هم الملائكة، بدليل قوله: (( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ))، والآية الأخرى بينت أنه لا يكون قضاء حتى يجاء بالنبي شاهداً على أمته.
وقال تعالى:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ [النحل:89] ولا شك أن الرسل من أنفس أممهم، كما قال عز وجل في نبينا صلى الله عليه وسلم:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164].
أمة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على كل الأمم
أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط
قوله عز وجل: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )) الوسط: العدول، (( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )) هكذا أثنى الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالخيرية والوسطية وبالعدالة، فمن مفاخر الإسلام ومحاسنه هذا التوسط في كل باب من الأبواب، فهناك طرفان: طرف قابل للغلو، وطرف آخر قابل للتقصير والجفاء والتفريط، فهذه الأمة في كل الأمور هي أوسط الأمم وخيارها وأعدلها؛ فلذلك يقول شاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الأحداث حتى أصبحت طرفا
دائماً في أي شيء يوجد وسط وطرفان، طرف لأقصى اليمين، وطرف لأقصى الشمال فمن حاد عن هذه الوسطية التي هي شريعة الإسلام وأحكام الإسلام إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار فهذا هو الذي أخذ بأطراف الأمور، فهذا هو الذي يطلق عليه المتطرف، فالمتطرف هو الذي يأخذ بأطراف الأمور إما بالغلو وإما بالجفاء، إما بالإفراط وإما بالتفريط، فهذا هو المتطرف، فكل من انحرف عن هدي الإسلام فهو متطرف، وكل من تمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هديه خير الهدي- فهو الوسط والعدل، وهو الخيِّر بشهادة القرآن الكريم وبشهادة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن اللعب بالألفاظ إطلاق كلمة المتطرف أو المتزمت أو غير ذلك من الألقاب التي يطلقونها بألسنتهم وأقلامهم على أهل الحق والإسلام، وأهل السنة والجماعة، وهذا تجن على الحقائق؛ لأن الخلاف بيننا وبينهم في تحديد الوسط، فممكن يأتي شخص ويعتبر أحد الطرفين هو الوسط، فإذا اعتبر ما هو عليه وسطاً فبلا شك بالنسبة إليه سيكون هو الوسط أو العدل، فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فكل من حاد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو المتطرف بشهادة القرآن؛ لأن القرآن يصف الأمة بهذه الصفة، فنحن الذين في الوسط، وكل من يخالفنا فهو المتطرف سواء كان على مستوى الأديان أو على مستوى الفرق داخل دائرة الإسلام، سواء أهل الشهوات أو أهل الشبهات، فبالنسبة لمن عدا أهل الإسلام فكل من ليس مسلماً فهو متطرف، وهم الآن يحاولون غسل أدمغة بعض الناس، يقولون: قام مجموعة من اليهود المتطرفين بفعل كذا وكذا، أو يقول لك: الأحزاب الدينية المتطرفة عند عصابة اليهود، لا، هذا تلفيق وجهل فاحش؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه وسط والثاني متطرف، كل يهودي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل وثني بوذي مثلاً أو مجوسي متطرف، وهكذا كل من ليس مسلماً فهو خارج عن دائرة الاعتدال أصلاً، فهذا أحق الناس بوصف التطرف، فكل من يخرج من ملة ودائرة الإسلام فهو متطرف، وداخل دائرة الإسلام كل فرقة متطرفة ما عدا أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
جميع الفرق إما في غلو وإما في جفاء، أخذوا بالأطراف، فالخوارج -مثلاً- على أحد الطرفين من الغلو والجور والإفراط، فيكفرون أهل المعاصي، ويعتقدون بخلودهم في النار، وعلى الجهة المقابلة المرجئة، يقولون: الإيمان هو المعرفة ولا يزيد ولا ينقص ولا نفاق ولا يضر مع الإيمان شيء.
كذلك في مسألة القدر القدرية والجبرية على طرفي نقيض، وهكذا في عامة مسائل الدين مثل مسألة الموقف من الصحابة، نجد المبطلة الذين يعبدون الصحابة، ونجد الطرف الآخر الشيعة الذين يسبونهم وهكذا، فكل باب من الأبواب هو قابل للغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، ما عدا أهل السنة والجماعة، فهم أهل الاعتدال والتوسط والاتزان والخيرية.
ونخلص من ذلك أن أولى الناس بوصف التطرف هو الكافر، فأي كافر متطرف، ولا يوجد شيء اسمه: يهودي معتدل، ويهودي متطرف، ماذا يعني يهودي معتدل؟
كيف نقول: يهودي معتدل وهو يؤمن بأن محمداً عليه السلام افترى على الله الكذب، وأنه ادعى أن الله أوحى إليه؟ هل هذا ممكن أن يكون معتدلاً؟! هذا لا يمكن أن يوصف بالاعتدال، فكل كافر متطرف وخارج عن دائرة الإسلام والنجاة.
كذلك كل مسلم مبتدع متطرف؛ لأنه خارج عن دائرة أهل السنة والجماعة.
إذاً: كل من ليس مسلماً من أهل السنة والجماعة فهو متطرف، وما عدا ذلك فهو تلاعب بالألفاظ، فالمتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها حادت عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر المرأة بالحجاب، فهي انحرفت وخرقت أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت هدي بناته ونسائه والمؤمنات، فلذلك هي متطرفة لأنها متبرجة، وليس التي تستر نفسها تسمى متطرفة.
الذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأن هدي محمد عليه السلام خير الهدي، فهذي حيدة وانحراف عن هدية، ومخالفة لأمره.
وهكذا كل مخالف للشريعة فهو الأحق بوصف التطرف، وليس أهل الحق أهل السنة والجماعة، وأسلوب التلاعب بالألفاظ، وإلباس المعاني الصحيحة ثياباً منفرة من الألفاظ المبتدعة؛ أسلوب قديم قدم تاريخ البشرية، وإلى الآن أهل الباطل يحاولون أن يأتوا بالباطل، ويلبسونه ثياباً زاهية جميلة، ويأتون بالحق، ويحاولون أن يكسونه بالألفاظ المنفرة التي تنفر من هذا الحق، كما أشار إلى هذا التلاعب بالألفاظ أحد الشعراء بقوله:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تُعب قلت ذا قيء الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما فارقت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
فنفس العسل الشهي ممكن أن ينفر الناس منه فيقال: هذا القيء الذي تتقيؤه الزنابير! ويأتي آخر فيقول: لا، هذا جنى النحل الشهي الذي فيه دواء للناس وشفاء، والحقيقة واحدة، لكن يمكن أن ينفر عنها باستعمال هذه الألفاظ، وبلا شك أن أعداء الإسلام وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بمصطلحاتهم المنفرة هذه، وقد نجحوا إلى حد كبير في إقامة الحواجز النفسية، وصد كثير من الناس عن دين الله وعن سبيل الله بسبب هذا الأسلوب الرخيص، وهذه الخصومة التي لا تعرف رائحة الشرف، فقد دأبوا على طعن المسلمين، والتنفير من الدين والمتدينين بوصف التطرف، وما فطن القوم أنهم إنما يريدون أن ينتهوا بهم إلى أن الإسلام نفسه هو التطرف كما صرحوا بذلك في آخر المراحل بعدما فات الأوان، وانطبع في قلوب الناس أن الإسلام هو التطرف، وأن الإسلام هو دين الإرهاب وفيه بذور الإرهاب.. إلى آخر هذه الأراجيف.
ثناء هذه الأمة على الميت
هل النبي صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته بعد موته؟!
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه تحذيراً شديداً، وكثير من الناس الذين يسلمون برسالته مع بشريته، تبقى عندهم نقطة ضعف يريدون دائماً أن يرفعوا صفة البشرية عنه، فيقولون: هو خلق من نور،..... إلى آخره.
ويقولون: أنتم تقولون: حدثنا فلان عن فلان عن فلان. فأين فلان؟ قلتم: مات، فكلامكم كله ميت عن ميت، أما كلامنا نحن فنأخذه مباشرة عن الحي الذي لا يموت! فعندهم الكثير من الضلالات والانحرافات لأنهم يزدرون العلماء.
الله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني: الموت، فلم يجعل الله لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، أما هم فقد خالفوا الآية وجعلوا لها أجلاً وهو الوصول إلى بعض هذه المقامات!
وهم يزعمون أنهم بغلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم وبمدحه أنه أول خلق الله، وأنه نور عرش الله! وأنه كذا وكذا.. من هذه الفضائل المزعومة التي يخترعونها؛ أنهم بذلك يرفعون قدر النبي صلى الله عليه وسلم!
من أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فليمدحه بما مدحه به ربه، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي علمنا بقوله: (
من تواضع لله رفعه الله) فإذا أردت أن تمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فامدحه في دعوته واجتهاده إلى أقصى مدى في العبودية لله سبحانه وتعالى، التي معناها: غاية الحب مع غاية الذل والانقياد والقبول، فيمدح الرسول عليه السلام بالعبودية لله عز وجل، ولا يصح أن ننفي عنه صفة العبودية، ونرفعه إلى رتبة الألوهية كي نمدحه أو نشرفه، فالذي يشرفه هو أن تمدحه بالعبودية، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تواضع لله رفعه الله) هذا منطوق الحديث، ومفهوم الحديث دلت عليه آية في سورة الأعراف:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [الأعراف:13] اهبط لأنك تكبرت، فالذي يتكبر يضعه ويذله الله، ويهينه الله، أما الذي يتواضع فإن الله يرفعه، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد رفع على جميع العالمين فما رفع إلا لأنه بلغ أعلى مقامات الذل والحب لله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يمدحه بالعبودية في أشرف المقامات: ففي مقام الدعوة يقول:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وفي مقام الإسراء يقول سبحانه:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] إلى آخره، وفي مقام التحدي يقول تعالى:
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23].
إذاً: عبودية الرسول عليه الصلاة والسلام شرف ورفعة له، فسبب هذا المقام العظيم الذي تبوءه عند الله أنه وصل إلى مقام لا يبلغه غيره في الخضوع والتذلل والانقياد لشرع الله سبحانه وتعالى.
وما هذا الذي يمارسه الصوفية وأشياعهم من الغلو في شخص رسول الله عليه السلام والمبالغة في تصور محاسنه: يا أحمر الخدين! يا أكحل العينين! إلا حيدة ومحاولة للتعويض عن التقصير في الانقياد والاتباع، والحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى لما رأى الناس كلهم يدعون محبة رسوله صلى الله عليه وسلم امتحنهم امتحاناً فقال:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]؛ لأنه ليس الشأن في أن تحب أنت الله سبحانه وتعالى؛ لأنه شيء لازم أن تحب الله لاتصافه بصفات الكمال والجمال والجلال، ولما أسدى إليك من النعم، فبالضرورة أنك تحبه، لكن الشأن في أن يحبك الله ويكافئك على اتباع رسوله، فهذا هو الشأن، وهذا هو الشيء العظيم أن يحبك الله، لكن هناك علامة على هذه المحبة قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فالاتباع هو علامة المحبة الحقيقية، وليس بالتغزل في صورة النبي عليه السلام كما يفعل هؤلاء الناس، ليس الموضوع مجرد عاطفة غير رشيدة، وإنما بالاتزان والوسطية والاعتدال، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فحينما تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية ليس هذا انتقاصاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما أشرف ما يمدح به رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تصفه بالعبودية لله، لا تشرك به مع الله، وكما نجد للأسف اليمين المصرية الشائعة في كل البلاد المصرية (والنبي)! فكلمة (والنبي) هذه قد نهانا عنها النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (
من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (
من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، أما أنك تحلف بالنبي، وبعض الناس يبلغ في الغلو أنه إذا أراد أن يقوم يقول: يا رسول الله! يطلب المدد من الرسول عليه السلام! هل يفرح بك رسول الله إذا علم أنك تستغيث به من دون الله، وتطلب منه المدد دون الله سبحانه وتعالى؟! فبعضهم يقوم وجسمه ضعيف مثلاً أو ثقيل فيقول: يا رسول الله! ويظن أنه هكذا يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام! الرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من هذا الفعل؛ لأن هذا شرك، فلا يطلب الإنسان المدد من غير الله سبحانه وتعالى، كذلك الحلف شرك كأن يقول: ورسول الله كذا وكذا.. ويظن أنه معظم لرسول الله، كل هذه السلوكيات انحراف عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فرسول الله عليه الصلاة والسلام لما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت. غضب، هذا ليس احتراماً للرسول، بل هذا خدش للرسالة التي جاء بها في التوحيد، لما قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (
أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، والأحاديث في ذلك كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يرد الناس إلى الصواب، فيجب مدحه بالعبودية لله، ومن أراد أن يعبر عن حب النبي عليه السلام فليتبعه في قوله عليه الصلاة والسلام: (
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد رمي الجمرات الحصيات الكبيرة، وأمر أن تكون الحصى مثل حصى الخذف يعني: ما بين حبة الحمص وحبة الفول، فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: (
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: هات! القط لي -يعني الجمرات- قال: فلقطت له نحو حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: مثل هؤلاء! (ثلاث مرات) وإياكم والغلو في الدين! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) وهذا الذي حذرنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم نحن نشاهده الآن في منى، فبعض الناس يأتي بالأحذية ويضرب بها الشيطان! ونرى الحجارة الكبيرة وغيرها من الأشياء ملقاة في الجمرات، وتسمع الشتائم التي تلقى، فتأتي المرأة وتشتم الشيطان وتقول له: أنت الذي تحرض علي زوجي، وأنت الذي تفعل كذا.. وكأنها ترى الشيطان، ونفس هؤلاء الناس هم الذين يرجعون إلى التلفاز والفيديو، وقد تعود النساء متبرجات كما كن في سيرتهن الأولى ولم يغير الحج من أخلاقهن شيئاً!
والرسول عليه الصلاة والسلام جعل رمي الجمار مسألة رمزية، الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته، وليست حقيقة يراد بها قتله وإماتته، فعلى المسلم تحقيق الأمر، ومنابذة الشيطان عدو الإنسان اللدود بالعداء ليس غير.
صاحب البردة وغلوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم
الغلو في الدين والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أمر وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
هذا كلام
البوصيري في قصيدته المشهورة المشحونة ببعض الشركيات الشنيعة، فهو يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فهل يرضى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجل من أمته ويقول له: مالي من ألوذ به سواك؟!
هل أنت تقرأ: قل أعوذ برسول الله! من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، أم تتعوذ بالله وحده؟! فهذا يتعوذ بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: لا يوجد أحد غيره أعوذ به.
فالرسول عليه الصلاة السلام لا يرضى بأقل من هذا، فكيف بهذا الضلال المبين؟!
ويقول أيضاً:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
يعني: لولا الرسول عليه الصلاة والسلام لم تخلق الدنيا، فكأن الآية عندهم: وما خلقت الجن والإنس إلا من أجل محمد عليه الصلاة والسلام! ما هذا الغلو؟!
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]
أيضاً يقول
البوصيري :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
يعني: من جود الرسول عليه الصلاة والسلام الدنيا وضرتها التي هي الآخرة، فهما من كرمه وجوده!
وعلم اللوح والقلم من علومه!
وأيضاً يقول
البوصيري معتمداً على فهم مغلوط لهذا الحديث : (
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله):
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
ففهم أن الحديث ينهى عن أن نقول: محمد ابن الله أو ثالث ثلاثة، فيقول: دع هذه، وقل بعد ذلك ما شئت، وامدحه بأي شيء، ففهم الحديث فهماً عجيباً جداً، فكان المفهوم عنده: اطروني بما شئتم ما عدا قولكم: محمد ثالث ثلاثة أو محمد ابن الله.. ونحو ذلك، وهذا الشاعر يعظمه كثير من المسلمين، وقصيدة البردة للأسف الشديد أعرف من يحفظها ولا يحفظ شيئاً من القرآن، وهذه لها وضع مميز عند الصوفية، وكأنها شيء من الوحي، فهم يحفظونها ويهتمون بها اهتماماً شديداً جداً، ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعدون ذلك قربة إلى الله عز وجل، ودليلاً على محبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث منصباً على الادعاء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ابن الله، فنهى عن هذه المقولة، ودعا إلى قول أي شيء آخر مهما كان، ولا شك أن هذا غلط بالغ، وضلال مبين؛ ذلك لأن الإطراء المنهي عنه في الحديث له معنيان اثنان:
الأول: (لا تطروني) هذا نهي عن مطلق المدح، يعني: لا تمدحوني أبداً؛ لأنكم لن تقووا على مدحي بأعظم مما مدحني به الله عز وجل، من أني رسول الله، وأني على خلق عظيم.. وغير ذلك مما امتدحه الله سبحانه وتعالى به.
الاحتمال الثاني: النهي عن مجاوزة الحق في المدح، والمراد المدح بالصور الموجودة الآن، فهي صناعة لم تكن معروفة عند السلف؛ لأن السلف رحمهم الله كانوا مشغولين بالاجتهاد في اتباع رسول الله عليه السلام، وإحياء سنته، وتجديد دينه، ولم يشتغلوا كما اشتغل هؤلاء بهذه المدائح.
إذاً: يمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقاً من باب سد الذريعة، واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً وحبيباً وخليلاً، وبما أثنى سبحانه وتعالى عليه في قوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟! وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟!
وإن أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، فهذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم.
والصوفية يغضبون جداً إلا لم تقل: (سيدنا رسول الله)، ويعتقدون أنك مقصر، والمفروض عندهم أن تقول: سيدنا محمد!
فنقول: هل قول القائل: (سيدنا محمد) مثل قوله: (محمد رسول الله أو نبي الله؟ فـ(سيد) تطلق على أناس من البشر، لكن رسول الله لا تطلق إلا على من اصطفاه الله لذلك؛ لكن بعضهم يتشبث بها، ويرى أن من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولها حتى داخل الصلاة، ونسمع بعض العوام في الصلاة يقول: اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم.. إلى آخره، فنقول لهذا: هل ينفع أن تقرأ القرآن وتقول مثلاً: (وآمنوا بما نزل على سيدنا محمد)؟ الله يقول:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، فهل يجعلها: (وما سيدنا محمد إلا رسول)؟ بلا شك الرسول صلى الله عليه وسلم له هذه السيادة على البشر أجمعين؛ لأنه قال: (
أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لا شك في ذلك، فنحن لا نتشدد كثيراً في ذلك، لكن الأذكار المأثورة ينبغي أن نحافظ عليها، ولكنهم يعتبرون التنازل عن هذا تنازل عن تشريف كبير جداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما التشريف للرسول عليه الصلاة والسلام أن تمدحه بالرسالة فتقول: (رسول الله) عليه الصلاة والسلام، و(نبي الله)، فأعظم مدح للرسول عليه السلام أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، هذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى وهو في أعلى درجات وأرفع تكريم من الله تعالى له بصفة العبودية، فقال في المعراج والإسراء:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] وأيضاً قال ذلك في مقام التحدي ومقام الدعوة كما سبق ذكره.
ويمكن أن يكون المراد من الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، وعلى هذا يفتح الباب في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا تبالغوا في مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه من بعض خصائص الله تبارك وتعالى، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، وهو أن هذا نهي عن مطلق المدح الخارج عما مدحه الله سبحانه وتعالى، بدليل تمام الحديث: (
إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، يعني: اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من جعلي عبداً له ورسولاً صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام
الترمذي ذكر هذا الحديث تحت ترجمة باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق، وهذا هو الذي ينسجم مع معنى التواضع، وعن
أنس قال: (
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم) رواه
مسلم ، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآخر: (
لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ لأنه بلا شك حتى في هذه الجزئيات قد قطع الوحي، وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء على الإطلاق، وأنه خير الأنبياء وسيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.