اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:71-83].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى حال أهل الجنة وما متعهم الله عز وجل به في جنات النعيم، وذكر أهل النار وما حدث لهم في جهنم والعياذ بالله، وكيف أنهم تسببوا في ذلك بكفرهم بالله سبحانه، واستكبارهم عن عبادة ربهم سبحانه وتعالى؛ ختم ذلك بقوله: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70].
هذا هو التقليد الذي قلد هؤلاء الجاهليون من سبقهم في كفرهم وفي شركهم بالله سبحانه، واتخاذهم من دون الله أولياء يوالون عليهم، ويعادون في محبتهم، هؤلاء ألفوا آباءهم ضالين، ولم يعملوا عقولهم، ولم يتفكروا فيما جاءت به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام، فهم على آثار آبائهم يهرعون، فهم وجدوا آباءهم ضالين بعيدين عن الحق تائهين متحيرين متشككين يشركون بالله ويعبدون غيره سبحانه وتعالى واتبعوا الأهواء، واتخذوا الأنداد من دون الله، قال تعالى: فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:70] والإهراع بمعنى: الاندفاع، فهم مسرعون على آثار الآباء من غير تفكير، يقال: أهرع الرجل وهرع أيضاً الرجل بمعنى: اندفع أو قيد إلى شيء وتلفه إلى هذا الشيء الذي يندفع إليه، فأهرع الرجل بمعنى: خف وجرى، وأسرع وتغير على هيئة فيها رعب، فهو قد هرع إلى ذلك الذي ساقه إلى ذلك الهوى والضلال والشيطان، وهم يهرعون ويستحثون على اتباع الآباء فيما هم فيه من ضلالات، وزين لهم الشيطان أن آباءهم أصحاب عصمة، وأن آباءهم يعرفون كل شيء، وأنهم لا يفهمون إلا ما فهمه الآباء، ولذلك كبر عليهم أن يأتيهم رسول من عند الله عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى مخالفة ما كان عليه الآباء، فيتعجبون: هل أنت خير أم أبوك؟ يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت العادة عندهم أن يسأل كل واحد منهم الآخر عن ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا الكلام الباطل الذي يريدونه، فكان ينصرف عما يريدون من هذا القول الذي لا معنى له، ويدعوهم إلى الله وإلى كتاب الله، ويحاجهم بالحجة السليمة، والآراء المستقيمة فلا يفهمون، ولا يزالون يتعجبون مما يقول ويقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
قال الله عز وجل: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات:71] ليس هم الذين ضلوا فقط، ولكن ضل قبلهم أقوام وصدوا عن الهدى، وابتعدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، واتخذوا آلهة من دون الله فضلوا وأضلوا غيرهم بأن دعوهم إلى غير الله سبحانه.
فقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ [الصافات:72] يعني: في السابقين، أرسلنا إليهم الرسل لينذروهم ويخوفوهم من يوم القيامة ومن حساب رب العالمين، ومن عذابه ومن عاقبة أعمالهم السيئة، ومن عقوبة الله عز وجل لهم على ذلك، وقراءة الجمهور: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ [الصافات:72] وقراءة يعقوب : (فيهُمْ) وهم الرسل ينذرون القوم من شركهم، ويخوفونهم من عبادتهم لغير الله، ويخوفونهم بعذاب الله.
قوله تعالى: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ [الصافات:73]، وإذا وقف على هذه الكلمة وغيرها من الكلمات التي هي على جمع المذكر السالم وما ألحق به يقف عليها يعقوب بخلفه بهاء السكت فيقول: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَه * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينه [الصافات:39-40].
وهنا استثناء يستثني الله عز وجل عباده المخلصين، وهؤلاء ليس عاقبتهم عاقبة سيئة، وهذه الكلمة فيها قراءتان في القرآن كله الْمُخْلَصِين [الصافات:40] و(الْمُخْلِصِين)، يقرؤها على اسم المفعول المدنيان نافع وأبو جعفر ، والكوفيون: عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، وباقي القراء يقرءونها على اسم الفاعل: الْمُخْلِصِين [الصافات:40] والمعنى قريب، مخلصين: اجتباهم الله واختارهم، واصطفاهم هؤلاء المخلَصون، واختارهم الله عز وجل لكونهم في قلوبهم الإخلاص فهم المخلِصُون: أخلصوا العبادة لله ووحده سبحانه وتعالى ولم يشركوا به شيئاً، ولم يوجهوا العبادة والطاعة لغيره سبحانه فهم مخلِصون لله فاستخلصهم الله وانتقاهم من الخلق وجعلهم أحباءه وأهل جنته سبحانه وتعالى.
وهذه السورة كما ذكرنا من السور المكية التي تؤكد معاني التوحيد، وفيها تفصيل قواعد العقيدة في قلب الإنسان، وذكر الله سبحانه وتعالى هنا توحيده والأمر به، وحذر من شرك المشركين وكيف أنهم ضلوا وأضلوا واستحقوا العقوبة والنار، ثم ذكر رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأن دعوتهم هي دعوة التوحيد يدعون إلى عبادة الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، وليس شيئاً جديداً حادثاً، ولكن كل الرسل قبله عليه الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى توحيد ربهم سبحانه.
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ [الصافات:75] أي: استغاث بنا، وجأر إلينا وطلب نصرنا، قال تعالى: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75] سبحان الله وتعالى، فيبين لنبيه صلى الله عليه وسلم أننا لم نعجل بعقوبة هؤلاء الأقوام ليس لكوننا لا نستجيب لك، ولا لغيرك من المؤمنين، ولكن لحكمة من الله، فنحن نعم المجيبون، ونعم المجيب الله سبحانه، فهو يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صفراً، ولكن الإجابة من الله بحكمة، ولها وقت فالله عليم حكيم، وهو أعلم بما يستحق العباد، ولعلك تدعو على إنسان والله يعلم أنه سيهتدي بعد ذلك، فلا يستجيب لك في ذلك، ولعلك تدعو لإنسان بالهداية، والله يعلم أنه سيموت ضالاً كافراً، فالله أعلم بخلقه، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
قال سبحانه: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:76] مع أن من أهل نوح ابنه وقد أغرقه الله سبحانه وتعالى، ولما سأل نوح ربه سبحانه: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] أي: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي، فوعدك الحق وهذا ابني من أهلي، فقال تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] أي: هذا لا ينتمي إليك، أهلك المؤمنون، وأولياؤك الصالحون، هذا كافر بالله سبحانه فلا يستحق أن يكون من أهلك، قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] إذاً: قوله سبحانه: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ [الصافات:76] أي: أهل دينه من المؤمنين الذين آمنوا معه، وكان عددهم ثمانين رجلاً وامرأة، أسلموا وعاشوا مع نوح ثم بعد ذلك ركبوا معه السفينة، وأنجى الله عز وجل من فيها، وجعل من ذرية نوح الخلق كلهم بعده عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء:76] الكرب العظيم هو: ما حدث، وأي كرب أفضع وأعظم من ذلك أن يجد السماء تنفتح بسيول تنزل على الأرض، والأرض تنفجر بعيون تطفو على الأرض، وهو في السفينة ومعه هذا العدد القليل من خلق الله سبحانه، وحمل فيها من كل زوجين اثنين بأمر الله سبحانه وتعالى من المخلوقات التي تستحق أن تحيا، وتستحق أن تكون معه دون البشر الذين كفروا بالله وكذبوا بالله سبحانه وتعالى، فقد ركبوا سفينة صنعها نوح بأمر الله سبحانه، واتسعت لهذا العدد العظيم من خلق الله، قال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40] إذاً: عدد من فيها من خلق الله من غير البشر أكثر بكثير من هؤلاء البشر، فما آمن معه من البشر إلا قليل، لكن الأكثرية من غيرهم، قال تعالى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود:40] وما آمن مع نوح إلا العدد القليل كما ذكر.
قوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:76] أي: من الغرق ومن هذا الجو البشع ومن هذه العقوبة الصعبة الأليمة التي نزلت وأخذت هؤلاء الكفار، ونجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأهله من الكرب العظيم، والكرب: الشيء الذي يغم الإنسان ويحزنه ويجعل الإنسان في ضيق شديد، فقد نجى الله عز وجل نوحاً ومن منعه من الكرب العظيم.
كذلك من معانيها: تركنا عليه الذكر الحسن والتسليم معه، إذاً: من يذكره يذكره بأحسن ذكر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كذلك إبراهيم كما سيأتي بعد ذلك، وقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ[الصافات:79] قد يكون معناها: سلامة له من أن يذكر بسوء، يعني: سلمنا ذكره من السوء.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر