أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة القارعة، فهيا بنا مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على دراستها وتفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:1-11].
قوله تعالى: الْقَارِعَةُ [القارعة:1] أي: يوم القيامة.
لم قيل في القيامة قارعة؟ لأنها تقرع القلوب بأهوالها، تجد قلب الإنسان بل جسمه يرتعد بمجرد أن يسمع القارعة.
ثم عظم شأنها وأعلن عن حالها وقال: مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:2].
من يستطيع أن يصفها لك؟ كيف تقدرها وهي فوق ما تطيق وفوق ما تدرك؟
وزاد الأمر تعظيماً وتهويلاً فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:3] أيها السامع.
قلت لكم مرات: ذقنا معنى القارعة في الحرب العالمية، إذا حومت الطائرات المقاتلة وتجيء دائماً مع المساء، والله يخرج الناس من بيوتهم، وقد خرجنا من البيت وتركنا الخبز على التنور .. تسمع دوي الطائرة في قلبك، ثم تفهم معنى القارعة، القارعة تقرع القلوب وتضربها بأهوالها.
قال تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]، اليوم الذي يكون فيه الناس على علمهم وعتوهم وذكائهم وقدراتهم وعلومهم كالفراش المبثوث.
(الفراش): غوغاء الجراد المنتشر.
وقد قلت لكم أيضاً: إذا أطلقت القذيفة ترى الناس كالفراش المبثوث، هذا طالع وهذا هابط، لا يدري إلى أين يهرب، بل يدخلون السراديب والأنفاق ويخرجون بدون شعور.
يكون الناس مع علمهم وذكائهم وفطنتهم في خفة عقولهم وضياع رشدهم كالفراش، كالجراد المنتشر، كما قال الله: كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4].
الأولى: تكون يوم القيامة كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]. والعهن: الصوف المصبوغ من أجل النسيج، أحمر، أصفر، أخضر، أبيض.
والمنفوش: المندوف بالمنداف.. والمنداف كان عندنا، يضرب به الصوف فينتشر، فندفه يندفه بالمنداف فينتفش.
إذاً: الحالة الأولى للجبال: كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5] تتحلل فتصبح قطعاً كالصوف.
الثانية: تصبح كالرمل تسيل.
الثالثة: تصبح هباءً منثوراً.
ثلاث مراحل ذكرت في القرآن:
أول مرحلة: تصبح كالصوف المنفوش قطعاً.
ثاني مرحلة: يزداد القرع والهول وإذا بها كما في سورة المزمل: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل:14] كثيب الرمل عندما يتساقط يسيل، لكن ما زالت متماسكة.
وآخر مرحلة: تصبح هباءً منثوراً إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:1-6].
إذاً: يوم القيامة تكون الجبال كالعهن المنفوش، فإذا حدث هذا جاءت القارعة.. قامت القيامة، ثم بعثرت القبور بعد ذلك، وحصل ما في الصدور وتم قضاء الله وحكمه في الخليقة.
الموازين: جمع ميزان. والمراد من الموازين: أعمالك التي توزن لك.. أعمالنا.. أقوالنا.. نياتنا..
ما عليه الناس من أعمال تصبح أجساماً وتوزن في الميزان، فمن ثقلت موازينه ورجحت نجا؛ لأن موازين السوء والسيئات خفت فارتفعت؛ لأنها كمية قليلة فينجو.
ومن خفت موازينه .. حسناته طارت فوق كأنها ورق أو هباء، وقناطير الذنوب والآثام رجحت، وقد بين تعالى ذاك بهذا الإيجاز العجيب: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6].
أي: استوت ورضيت، وأصبحت هي راضية.. أفرشة.. أسرة.. أطعمة.. أشربة.. قصور.. حور .. أمور لا نقوى على وصفها، ولا نقدر على بيانها، ومن أراد أن يقف على مظاهرها فعليه بسورة الرحمن وسورة الواقعة بالذات، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:10-24].
هذا جزاء بما كانوا يعملون وليس بما كانوا كسالى يلعبون، فقد يجاهدون ويرابطون، يصومون ويصلون، ينشرون الهدى ويفيضون المعروف على الناس. إذاً: فهم في عيشة راضية.
هذا ما له؟ أخبر عنه يا رب؟! قال تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]. والمراد من الأم هنا النار وليس الأم التي ولدته، بل قد تكون أمه في الجنة وهو يهوي في النار.
والحقيقة أن المراد من الأم هنا: النار؛ إذ فسرها بقوله: نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:11].
لم سميت أم؟ لأنها تحضنهم وتضمهم وتجمعهم وتعيش معهم، فهي أمهم، وأمك التي تلمك وتجمعك، والنار تفعل بهم كذلك.
إذاً: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9] أي: نار هاوية، أو هي الهاوية وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة:10] أنت أيها السامع.
أي: جزء من سبعين، نارنا هذه التي نوقدها للاصطلاء والتدفئة والطبخ عبارة عن جزء من سبعين جزءاً، فيبقى تسعة وستون. وقالت: يا رب! لا تعدني إليها، ناركم في الدنيا خافت من نار جهنم، وسألت الله ألا يردها إليها بعدما أخذها منها.
والله تعالى أسأل أن يقينا والمؤمنين والمؤمنات نار يوم القيامة ونار الدنيا، اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر