أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:21-23].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الزمر:21]. هذا الخطاب يتناول الكافرين بوجود الله، وبالبعث وما يتم فيها من جزاء، ويتناول ضعفة الإيمان المصابين بالشك والارتياب.
يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الزمر:21]. هو ماء المطر، فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ [الزمر:21]. والينابيع: جمع ينبوع، والماء بعضه يكون تحت الأرض، فتحفر في الأرض فيخرج، وأحياناً يخرج بدون حفر، والذي فعل هذا ليست الأصنام التي تعبد ولا الأحجار ولا عيسى ابن مريم ولا غيرهم ما فعله إلا الله.
وقوله: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا [الزمر:21]. أي: مما يزرع من البر والشعير والذرة والأرز وما إلى ذلك، مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [الزمر:21]. أي: هذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا بين ذلك، وهذا أسود، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا [الزمر:21]. أي: ينمو بسرعة، ثم يجف وييبس.
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21]. أما فاقدوا القلوب والعقول، وفاقدوا البصيرة فلا يرون في هذا شيئاً، فهذه الأطعمة التي نتناولها، وهذه المياه التي نشربها، لا بد لها من موجد، ومستحيل أن توجد بدون موجد! ومستحيل أن يوجد الشيء بدون موجد ولو إبرة! فالله هو من أوجد هذه العوالم، فكيف ينكر وجود الله ويكذب به؟ من أجل أن تستمر الأهواء والشهوات والمفاسد، عجب هذه الآية.
إن في هذا الذي سمعتم لذكرى وعظة وعبرة ينتفع بها أصحاب القلوب الحية أما القلوب الميتة ما تنتفع.
إذاً: فلنحمد الله نحن أصحاب الصدور المنشرحة الذين انشرحت صدورهم للإيمان والإسلام، وملايين من الناس ما انشرحت صدورهم ولا انفتحت ولا اتسعت أبداً للإسلام، فما استطاعوا أن يؤمنوا بالله، وما قدروا أن يؤمنوا بلقائه، وهم ملايين في الأرض.
فالمسلم يمشي على نور، ويأكل على علم، ويشرب على علم، ويلبس ويبني على علم وبصيرة، من هذا النور والإيمان والقرآن نور، يقول تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. والذي لا يقبل على كتاب الله ولا يقرأه ولا يتدبره ولا يسمع تفسيره ولا ما جاء فيه، ميت وفي الظلام ووالله لن يهتدي.
ثم قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]. والويل: كلمة عذاب، وواد في جهنم لا يعرف قدره ولا اتساعه ولا ما فيه من نار، وهي أيضاً كلمة تدل على عذاب مطلق، نعوذ بالله من قسوة القلوب، ونسأل الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، وأن يطمئن نفوسنا، وأن يزكي أرواحنا. وتعرف قساوة القلب بأن يأتي رجل إلى امرأة مؤمنة في بيتها ويذبحها، أو يذبح طفلاً صغيراً،فهذا قلبه قاسي، وذو القلب اللين الحي لا يقوى على أن يؤذي إنساناً في الأرض؛ لأنه يخاف من ربه، فقلبه لين، وأصحاب القلوب القاسية لا يسمعون كلام الله، وإن سمعوه لا ترق قلوبهم، ولا تدمع أعينهم، ولا تقشعر جلودهم، والعياذ بالله، والمفروض أنه إذا ذكر الله يقشعر الجلد، وتدمع العين.
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ ، أي: البعداء، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22]. وقساوة القلب سببها الشهوة والدنيا والفساد والباطل والمنكر، وأكبر سبب هو الجهل بالله، فهم ما عرفوا ربهم ولا خالقهم ولا آمنوا به ولا بما عنده ولا بما لديه.
فلهذا تقدم معنا أن الإيمان له أدلة عجيبة كثيرة يؤمن بها كل ذي عقل، والكفر لا دليل له أبداً، ومع هذا يكون الكافرون أكثر من المؤمنين.
والقرآن العظيم متشابه في قصصه، وفي أحكامه، وفي آياته،وفي حروفه، وفي كلماته.
وقوله تعالى: مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23]. معنى مثاني: أي: متكرر فيتكرر فيه الحكم، وتتكرر فيه القصة وتعاد مرات عديدة، وهذا لا يوجد إلا في القرآن الكريم.
وقوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23]. أي: الذي يخاف الله إذا سمع القارئ يقرأ يقشعر جلده، وتدمع عينه. ثم قال: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]. ومعنى تلين جلودهم: أي: ترق ولا تقسو، ومثلها قلوبهم.
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23]. فيا طلاب الهداية اطلبوها من الله فهو مالكها، ولا تطلبوها من أي كائن، والذين يشاء الله هدايتهم: هم الذين بكوا بين يديه واطرحوا بين يديه ساجدين داعين باكين، يطلبون الهداية طول حياتهم. وأما المعرضون، المستكبرون، الكافرون، المكذبون فهم الذين لم يشأ الله هدايتهم أبداً.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]. أي: ومن أراد الله أن يضله فما له من هاد، ولو اجتمع أهل القرية كلهم على أن يهدوا ضالاً والله لن يهتدي إلا إذا أراد الله هدايته، بل لو اجتمعت البشرية كلها على هداية من أضله الله لن يقووا ولن يقدروا على هدايته.
ومن هنا نطلب الهداية من الله، ونعوذ به من الضلال والغواية.
وقد روى الترمذي الحكيم حديثاً عن ابن عمر رضي الله عنهما، يفسر هذه الآية تفسيراً واضحاً، يقول: إن رجلاً في جلسة قال: يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ أي: أكثر كياسة ولياقة وأدب، وكمال ووعي وبصيرة،
فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أكثرهم للموت ذكراً ). فالذي يكثر من ذكر الموت دائماً وأبداً أكيسنا، والذي ينسى الموت ولا يتحدث عنه ولا يذكره ما هو بكيس أبداً، بل هو أحمق ثم قال: ( وأحسنهم له استعداداً ). أي: للموت، وقد ورد أن لكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، ثم قال: ( وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ). أي: القلب، وإذا ما دخل النور لم يتسع ولم ينشرح بحال من الأحوال.
( قالوا: فما آية ذلك يا رسول الله )؟ أي: ما علامة ذلك؟
قال: ( الإنابة إلى دار الخلود ). أي: الرجوع إلى دار الخلود، وهي دار يوم القيامة.
وهي علامة على أن القلب مستنير، و( والتجافي ). أي: التباعد ( عن دار الغرور )، وهي الدنيا ( والاستعداد للموت قبل نزول الموت ). أما إذا نزل فليس هناك وقت للاستعداد.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: مظاهر العلم والقدرة الإلهية الموجبة للإيمان به وبرسوله ولقائه ] ومن مظاهر قدرة الله خلق هذه الكائنات، وإنزال الماء من السماء، وسلكه في الأرض، وتفجير الينابيع، وإنبات النباتات على اختلافها، كل هذا يدل على وجود عليم حكيم، قوي قدير، لا إله إلا هو ولا رب سواه، فهي من أعظم الآيات الدالة على وجود الله وعلمه وحكمته.
[ ثانياً: بيان أن القلوب قلبان: قلب قابل للهداية، وآخر غير قابل لهداية ] فالقلب القاسي مظلم ولا يعرف صاحبه الهداية للحق والخير أبداً، وقلب مستنير بنور الإيمان والقرآن، فهو حي يبصر ويأخذ ويعطي.
[ ثالثاً: بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن؛ إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل ] فأحسن ما تسمعه وتتحدث به هو القرآن الكريم، فقصصه، وأحكامه، وشرائعه، وآدابه، وكل ما فيه نور، وهو النور الكامل، والمعرضون عنه يعيشون في الظلام والكفر والعياذ بالله.
قال الشيخ في النهر غفر الله له ولنا ولوالدينا أجمعين: [ روي أن سعد بن أبي وقاص قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: لو حدثتنا فأنزل الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:23]، وهذا كما قالوا يوماً لو قصصت علينا فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، وقولهم: لو ذكرتنا فنزل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، وفي هذا دليل على أنه لا يليق بأمة القرآن أن تلهوا بالتمثيليات والروايات وأندية اللهو واللعب ].
[ رابعاً: فضيلة أهل الخشية من الله، إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده ] اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.
[ تقشعر أي: تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد، وتلين قلوبهم عند سماع آيات الرحمة، وتطمئن إلى ذكر الله تعالى يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنا أعلم متى يستجاب لي ] أي: في الدعاء،[ وذلك إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي ] أي: خاف واضطرب، [ وفاضت عيناي ] أي: بالدموع
أما الدعاء والقلب قاسي والجلد ما يتحرك فهذا لا يستجاب له.
[ وهو مروي عن ثابت البناني وأم الدرداء أن الوجل في القلب كاحتراق السعفة ] وهي تحترق بسرعة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر