يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
ما زلنا مع الجزء السادس من هذا الكتاب المبارك العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي .
انتهينا من الكلام على البعث وأدلته التي بينها لنا الله جل وعلا، ثم تكلمنا على العرض والحساب، وكيفية عرض الناس يوم القيامة ليحاسبوا أمام ربهم، ثم ختمنا بالحديث عن اليهود والنصارى وأنهم إذا ماتوا على غير ملة الإسلام فهم من أهل النار خالدين فيها.
ومن باب التذكير بما مضى نقول: كل منا يؤمن ويستيقن ويعلم أنه سيقف أمام ربه، ويحاسب على ما قدم، وأن الله جل وعلا سوف يجازيه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عقاباً إن شاء ذلك وإن شاء غفر له ذلك، وقد بين الله لنا الأدلة على البعث والنشور، فإذا قال لك كافر: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا فبم ستجيبه؟ هل ستقنعه بالضرب؟ كلا، ولكن لابد أن تبين له قولك بالدليل والحجة والبرهان على أدلة البعث التي تعتقد أنت بها، وأنك ستبعث وستحاسب على ما قدمت.
نذكر أولاً تصنيف الأدلة إجمالاً ثم نفصل:
ضروب الأدلة هي: قياس جلي هذا الضرب الأول وهو قياس الأولى، والضرب الثاني من الأدلة: قياس المثلية وهو قياس الغائب على الشاهد، ثم نبين أن البعث نفسه قد ظهر لنا جلياً في الحياة الدنيا.
ومعنى قياس الأولى: أنه إذا كان الحكم متوفر في الأدنى فهو في الأعلى من باب أولى، ودليل ذلك قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، فالله جل وعلا أمر العباد أن ينظروا في خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان؛ فمن باب أولى أن يخلق الإنسان مرة ثانية.
والصنف الثاني من الأدلة هو العقيدة، فهي فرض عين على كل إنسان أن يتقنها، قال الله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، فقاس الإعادة على البداءة، وهذا ظاهر جداً، فإن كان قد ابتدأ شيئاً فأيسر عليه أن يعيده، مثال ذلك: الرجل لو صنع صنعة وسهلت عليه هذه الصنعة، فإذا أراد أن يعيدها كانت أسهل وأسهل.
الصنف الثالث من الأدلة: هو الحكم على اليهود والنصارى، فحكمهم أهل كتاب، فإن أسلموا فحكمهم مؤمنون، فإن ماتوا على ما هم عليه فحكمهم في الآخرة أنهم في النار، وتعاملنا معهم في الدنيا كأهل كتاب، هذا هو التفصيل.
فأما حكمهم في الدنيا فهم كفار بدليل قول الله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] والنصارى يقولون بذلك، وكذا قول الله في آية أصرح من ذلك تدل على أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من أحد غيره يقول تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] .
والدليل على أنهم لو ماتوا على ذلك فهم أصحاب النار قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]فإذا مات اليهودي أو مات النصراني على ملته فمآله إلى النار، ثم لا يخرج منها أبداً، والدليل على هذا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء:48]، وجه الاستدلال من هذا الشاهد: أن اليهود قد أشركوا وقالوا: عزيرٌ ابن الله، ونسبوه لله، هذا هو وجه الشاهد ووجه الاستدلال بالترتيب العلمي الذي قد تستدل به.
إذاً: الكفار من المشركين، والله لا يغفر لمشرك، وأيضًا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صرح بأنهم خالدون فيها ولن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا أرحامهم، قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) يعني: خالداً مخلداً فيها.
أولاً الميزان من علم الغيب، وعلوم الغيب أمرنا جميعاً أن نؤمن بها، والله جل وعلا قد علق الفلاح على من آمن بالغيب، فقال عمن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، فالإيمان بالغيب هو معقد الفلاح، ومن الغيبيات الميزان، وهو لغة: ما توزن به الأشياء، وشرعاً: الميزان الحقيقي الذي له كفتان توزن فيه أعمال الناس يوم القيامة.
أما ثبوته بالكتاب فقد قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، وقال جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9].
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في مسند أحمد- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة: (فتوضع السجلات في كفة والبطاقة المكتوب فيها (لا إله إلا الله) في كفة أخرى) فدلل بالنص الصريح أنه ميزان حقيقي له كفتان: يمنى ويسرى.
ونحن نوافقهم على ذلك إن قصد بهذا الميزان العدل في التعامل البشري في الدنيا، لكن الله ذكر الميزان، والميزان لفظ صريح، فلا بد علينا لزاماً أن نثبت ما أثبته الله، فهو ميزان حقيقي الله أعلم بكيفيته، فنثبت أولاً حقيقة ما أثبته الله وهو الميزان، ثم نثبت تبعاً لهذا لازم الميزان وهو العدل، فيكون في ذلك رد على المعتزلة.
ونحن نثبته حقيقية ونقول: الله أعلم بكيفيته، ونثبت أن له كفة يمنى وكفة يسرى توزن فيهما الأعمال، وبذلك يظهر العدل.
إذًا: من أهل السنة والجماعة من قال بقول المعتزلة، ويغفر الله لهم ذلك؛ لأنه اجتهاد أخطئوا فيه، فلهم -بإذن الله- أجر، ونحن مع ما دل عليه الكتاب من أن الميزان له حقيقة يوم القيامة، وله كفتان كفة يمنى وكفة يسرى.
الإجابة: لتوزن الأعمال أو الصحائف أو البشر، أقوال اختلف فيها العلماء.
وسيكون يوم القيامة ميزان على مرأى من الناس، لتوزن أعمال العباد فيه، لكن هل العمل شيء حسي أم معنوي؟
معلوم أن الأعمال كلها معنوية، فكيف ستوزن؟
أقول: إن الله صادق، فإن الله جل وعلا سيظهر لنا قدرته يوم القيامة، والأعمال ستجسم وتصور وتوضع في الميزان، يدل على ذلك ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما يوم القيامة)، فالله جل وعلا يجعل البقرة وآل عمران وكأنهما غمامة تظلل صاحبها، وتحاج عنه، بل تتكلم، فهي ليست فقط ظلة فوق المؤمن، وهذه كرامة للقارئ بين يدي الله.
فالأعمال إذاً ستجسم وستوزن كمال قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان للرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذه الكلمتان ستوضعان يوم القيامة في الكفة لتزن وترجح بها، فهي ثقيلة جداً في الميزان.
وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في ميزان العبد: حسن الخلق)، فحسن الخلق شيء معنوي، ومع ذلك فإن الله سيجسمه يوم القيامة، ثم يوضع على الميزان فيكون أثقل شيء فيه. فهذه دلالة واضحة على أن الأعمال ستجسم وتصور وتوزن يوم القيامة لتفرق بين العاملين. هذا هو القول الأول لأهل العلم، وهم من أهل السنة والجماعة.
القول الثاني: أن الذي سيوزن هو العامل، وهذا القول يلزمه الدليل؛ إذ لا يقبل قول أحد إلا بدليل، وإلا يرد على صاحبه حتى يأتينا بالحجة والبرهان.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
ودليل أصحاب هذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء البدين الجسيم يأتي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، إهانة واحتقاراً وسخرية وتبكيتاً وتوبيخاً لهذا المرء الجسيم البدين أمام أعين الخلق من لدن آدم إلى آخر الخليقة نعوذ بالله من الخسران، ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة. هذا الرجل الذي ملأ الأرض، وكان يمشي كأنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً، وكان ممتلئاً بالكبر، يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قال الراوي: فاقرءوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وأيضاً حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى صحابته فرآهم يضحكون، فسألهم عن ذلك، فقالوا: نضحك من دقة ساق ابن مسعود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقولة تبين لك أنك إذا أردت أن تقدر الناس حتى ولو بشيء فيه ضحك أو ابتسامة فلا تبتسم حتى تنزل الناس منازلهم وتعطيهم قدرهم، فرسول الله ما ابتسم كما ابتسموا وما أنكر عليهم، ولكنه بين لهم عظم قدر الرجل فقال لهم: (والذي نفسي بيده! إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد)، ومعنى هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سيوزن كله، وعليه فالبشر أيضًا سيوزنون في هذا الميزان يوم القيامة، والكيفية يعلمها الله جل وعلا، وهذا القول الثاني لأهل السنة والجماعة.
القول الثالث: إن الذي سيوزن هي الصحائف، فلله جل وعلا ملائكة يتعاقبون فينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار يلتقون في الفجر والعصر، ثم يصعدون إلى الله ..) إلى آخر الحديث، والملائكة وصفهم الله بقوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، كل شيء مكتوب ومسطر، وكل شيء قد كتب في الزبر من قبل، ولكن الملائكة تكتب وتصعد لتقارن بين ما في الصحيفة وبين ما في اللوح المحفوظ فلا يخطئه في شيء، فالله جل وعلا يجعل الملائكة يكتبون السيئات والحسنات في الصحائف، ثم هذه الصحائف هي التي ستوزن يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (توضع السجلات في كفة) السجلات هي التي تكتب فيها الحسنات اليومية والسيئات، ثم توضع في الميزان، فهذه دلالة على أن الصحائف توزن، وهذا أيضاً قول صحيح لأنه مستند لدليل.
إذا دققت النظر ستقول: لا منافاة بين الأقوال الثلاثة بل ستجتمع بينها بقول واحد وهو: يصح أن نصرح بأن الأعمال توزن يوم القيامة، ولدينا الدليل على ذلك من السنة، وأيضاً العامل سيوزن يوم القيامة، وعندنا دليل ذلك من السنة، كما أن الصحائف ستوزن للدليل الوارد في السنة، وإذا نظرت ودققت النظر بالتدبر في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلا تجد أن لكل شيء حكمة من الله جل وعلا، فالمرء يوزن والحكمة في ذلك: أن يظهر الله جل وعلا لنا مقدار كرامة هذا المؤمن الذي سارع بالخيرات عند ربه، ويبين للناس ثقل ميزانه، وإن كنتم تحتقرونه في الدنيا ولا تسمعون له، (ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ..) وإن كنتم تنظرون إليه نظرة لا تساوي حقه فهو عندي ثقيل، وأنا سأكرمه على رءوس الأشهاد، فيوزن وتظهر مكانته وكرامته على الله جل وعلا يوم القيامة، وما أجلها من حكمة! وما أروعها من كرامة يكرم الله بها عباده المؤمنين! كما أكرم الله جل وعلا نبيه بأن جعل حاجة كل البشر إليه في الشفاعة، فهذه حكمة من الحكم التي ستظهر.
أيضاً هناك حكمة أخرى تظهر في الأعمال إذا وزنت، حيث يبين الله لنا يوم القيامة أنها تأتي مجسمة مصورة، وفي هذا أيضاً دلالة على قدرة الله جل وعلا، وعلى عظمة الله جل وعلا بأن جعل المعنوي حسياً مادياً أمامنا؛ تقريراً لقول الله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
ومن الحكم أيضاً: أن هذه الصحائف ستميز بين الحسنات إذا كثرت على السيئات ويكون مآله إلى الجنة -نسأل الله أن نكون منهم- وإذا السيئات كثرت فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وأدخله الجنة.
وحسن الخلق هو إفشاء السلام، وبذل الطعام، وأن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تحسن للناس حتى وإن أساءوا إليك، ومن تمام حسن الخلق الذي يثقل الموازين ذكر الله أكثر من ذكر نفسك وولدك، وروى البيهقي في الشعب -ويظهر على الحديث الوضع-: (اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون) إذا رآك الناس وأنت تذكر ربك وأنت نائم وقائم وجالس وما عندك إلا ذكر قالوا عنك: مخبول. فذكر الله جل وعلا هو أثقل شيء في الميزان بعد حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الرجل الذي قال: إنه كثرت عليه الشرائع، فقال له: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله جل وعلا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم) نسأل الله جل وعلا أن يثقل موازيننا.
آخر ما يستنبط في تثقيل الميزان: الصدقة الجارية، وهي تثقل الميزان، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث منها الصدقة الجارية، الصدقة الجارية تثقل الميزان؛ لأن صاحبها بعد مماته تكتب له حسناتها، وعمله ممتد إلى يوم القيامة، فالصدقة الجارية والوقف هو الذي يثقل ميزانك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من حبس فرساً له في سبيل الله -يعني أوقفه- فإن بوله وروثه وشبعه وريه في ميزانه)، يعني: في ميزان العبد، حتى البول والروث والطعام والشراب في ميزانه إلى يوم القيامة، فما بالك بمن أوقف مالاً معيناً للمجاهدين، أو لأهل العلم، أو للفقراء أو المساكين، هذه كلها تثقل الميزان يوم القيامة.
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قولين فهما طرفان، وقول ثالث هو وسط، والوسط هو التفصيل وهو الراجح.
الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما سألوه عن النجوى فقال: (يدني الله المؤمن منه حتى يضع عليه كنفه، ثم يقرره بأعماله يقول: عبدي تذكر يوم كذا وكذا، وتذكر يوم كذا وكذا، فالعبد يقول: أعرف ربي، أذكر ربي، ثم يقول الله جل وعلا: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، -محل الشاهد- أما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويتساقطون في نار جهنم- وفي آخر الحديث قال- ثم ينادى : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين) ففي الحديث دلالة على أن الله جل وعلا لا يدني الكافر ولا يضع عليه سترة كما فعل مع المؤمن، بل ينادى بهم فقط: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة على الظالمين.
الدليل الثاني: ما ورد في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما بين لهم أنهم يرون ربهم ولا يضامون في رؤيته قال: (فينادي المنادي: ليلحق كل واحد ما كان يعبد، فأهل الأصنام يلحقون بأهل الأصنام، وأهل الطواغيت يلحقون بالطواغيت، ومن كان يعبد الشمس يلحق بالشمس، ومن كان يعبد القمر يلحق بالقمر، وكل ذلك يكور ويتساقط في نار جهنم ، ثم قال: ويبقى من كان يعبد الله من مؤمن بار أو فاجر ومنافق كان يعبد الله رياءً حتى يحاسبوا، وغبرات من أهل الكتاب) فظاهر الحديث أن الذي سيحاسب هم المؤمن البر والفاجر وغبرات من أهل الكتاب والباقي يتساقطون ولا حساب عليهم، فالكفار بهذه الأدلة لا يحاسبون.
الدليل الأول: قول الله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40]، وهذا وجه الشاهد، فعموم اللفظ يدل على أن عليك البلاغ مثل كل رسول وعلينا الحساب لكل هذه الأمم التي أرسلت إليهم الرسل.
الدليل الثاني: حديث عدي بن حاتم في الصحيح قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، فكل هذه عمومات تبين الحساب لأهل الكفر.
كما يذكر الحساب ويراد به زنة الأعمال والفرق بين الحسنات والسيئات، وهذا له نظران:
النظر الأول: إن أريد به كفة حسنات وكفة سيئات حتى يرى سبيله إلى النار أو إلى الجنة فقطعاً هم غير محاسبين، لم؟ لأنه لا يمكن أن يرى له سبيل إلا سبيل النار، وليس لهم سبيل إلا الخلود في نار جهنم، فإن أريد بذلك أنه سيرى وزن الحسنات والسيئات فهم غير محاسبين؛ لأنه لا سبيل لهم إلا النار.
النظر الثاني: إن أريد به أنه ينظر في السيئات وتجعل حسنات أهل الكفر هباء منثوراً فنعم، فهم لهم حسنات قد عملوها في الدنيا، من صلة الأرحام، والعطف على المسكين والبهائم، وإن كانوا أضل منهم، ويقولون: حياة الغوريلا! ويدققون النظر في حياة الغوريلا، وكيفية العطف عليها، وقربها من البشر، ثم هم يقتلون المسلمين في العراق! ويالها من قلوب طيبة تقتل الأطفال والشباب والمسلمين وتعتني بالبهائم!
أي تعمية هذه على البشر بهذه الطريقة؟! فهذه الحسنات التي يقدمونها يعجل الله جل وعلا لهم بها هذه الطيبات في الدنيا، كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فلا حسنات لهم، فإنما تكون زنة الحسنات والسيئات لتفاوت الدرجات، وهم لا حسنات لهم، وإنما يتفاوتون في الدركات لا في الدرجات، فهم محاسبون، وبقدر ما صنع يوضع في الدرك الأولى أو الثاني ثم المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
أما قول الله تعالى: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:26]، فهو ليس نصاً قطعياً على أنه سيحاسب.
أما بالنص الصريح فهو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال: (ويضرب الجسر -والجسر هو الصراط- بين ظهراني جهنم)، وأيضًا: النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: (أين أجدك؟ قال: تجدني على الصراط، قال: فإن لم أجدك على الصراط؟ قال: تجدني عند الميزان، قال: وإن لم أجدك عند الميزان؟ قال: تجدني عند الحوض، ولا تخطئني في هذه الثلاث)، يعني: إن لم تجدني على الصراط فستجدني عند الميزان، وإن لم تجدني عند الميزان فستجدني عند الحوض عندما تشرب منه، فهذا فيه تصريح بالصراط من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
المؤمنون في ذلك الموقف يخافون على إخوانهم ويذهب منهم الغل والحقد إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] فينظرون إلى إخوانهم يريدون من الله أن ينقذ هذا الرجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (والمؤمنون منهم كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ثم قال: حتى يكون آخرهم يسحب سحباً -إلى أن يصل سالماً إلى الجنة- ومنهم من تخطفه الكلاليب فيكردس في نار جهنم).
أول من يمر على الصراط هم هذه الأمة الخيرية الكريمة المكرمة بكرامة نبيها صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز على الصراط) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقف على الصراط ويقول: يا رب سلم سلم، ويرتجف قلبه على أمته كما قال (خبأت دعوتي شفاعة لأمتي) فتمر هذه الأمة، ثم تأتي بعد ذلك أمم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته أول الأمم محاسبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون) يعني: نحن الأولون في القضاء وأول من نحاسب، وكرامة لهذه الأمة فإن أول من يعبر على متن الجسر على جهنم هذه الأمة، جعلنا الله ممن يمر عليه كالطرف أو كالبرق إلى الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
هذا آخر ما تكلم عنه المصنف في باب الغيبيات، ثم يدخل بعد ذلك في باب جديد، ونحن بإذن الله على مشارف الانتهاء من الجزء السادس من شرح أصول الاعتقاد لأهل السنة والجماعة، وبعده الكلام على الفتن التي كانت بين الصحابة، وكيف نتكلم عنها ونتأدب مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر