التعقيب الأول: يتعلق بمذهب الصحابة في هذه المسألة:
فقد ذكر أهل العلم من القائلين بعدم القطع بمرور هذه الأشياء من الصحابة ابن عمر، وحديثه في الموطأ وغيره وسنده صحيح كما أسلفت .
وذكروا منهم عمر نفسه رضي الله عنه وأبا بكر كما روى ذلك الدارقطني في السنن، وكذلك في العلل -كتاب العلل له- وسنده ضعيف جداً، لكن الدارقطني بعدما ساقه صحح الموقوف، يعني: الدارقطني نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فضعف المرفوع وصحح الموقوف، فصحح الدارقطني في العلل وقفه وكأنه يرى أنه ثابت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعثمان وعلي ثبت ذلك عنهما في سنن سعيد وذكرته سابقاً.
حذيفة رضي الله عنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، وأثر حذيفة رواه ابن أبي شيبة وسنده لا بأس به.
أبو سعيد الخدري نقل عنه ذلك، عائشة رضي الله عنها نقل عنها ذلك، كما عند عبد الرزاق في مصنفه أنها قالت: (لا يقطع الصلاة شيء).
ابن عباس رضي الله عنه نقل عنه أنه: (لا يقطع الصلاة شيء) من طريقين فيهما ضعف يقوي أحدهما الآخر، فالأثر عن ابن عباس حسن أنه قال: (لا يقطع الصلاة شيء)، وفي رواية: أنه تلا قول الله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
ابن سيرين يقول: قلت لـعبيدة، وعبيدة -بفتح العين- السلماني، يقول ابن سيرين : (قلت لـعبيدة : ما يقطع الصلاة وما يستر المصلي؟)، سؤال: (ما يقطع الصلاة وما يستر المصلي؟ فقال له: يقطع الصلاة الفجور، ويسترها التقوى)، وهذا إشارة من عبيدة إلى أنه لا يرى شيئاً يقطع الصلاة. والحديث خرجه وكيع .
يقول ابن رجب رحمه الله في كتابه فتح الباري : وقد عمل الصحابة بأن الصلاة لا يقطعها شيء، رُوي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم.
إذاً: نص ابن رجب على أن هذا مروي عن الصحابة والخلفاء الأربعة.
ومثله الترمذي قال: وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وكذلك أبو داود، فقد نقلت كلمته فيما مضى أنه قال: إذا اختلف النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخذ بما عمل به أصحابه من بعده. وكذلك النووي ذكر هذا ونسبه للجمهور من السلف والخلف.
إذاً: نسبة القول بعدم القطع لجمهور الصحابة ليست أمراً غريباً، بل قال به الترمذي وأبو داود والنووي وابن رجب .. وغيرهم من أهل العلم، وكذلك شرَّاح الحديث، لو رجعت إلى شرَّاح أبي داود كـالمباركفوري وغيرهم لوجدت أنهم يصرحون بهذا، وهكذا شرَّاح الترمذي، فهو مشهور عند أكثر أهل العلم أن الصحابة غالبهم يقولون بعدم القطع.
نقل أيضاً عن ابن عباس رواية أخرى أنه قال: تقطع الصلاة هذه الأشياء، أو في رواية أنه قال: (المرأة الحائض).
ابن عمر رضي الله عنه نقل عنه أنه قال بالقطع، وأعاد الصلاة من مرور جرو كلب أمامه.
معاذ بن جبل نقل عنه ذلك، وفي سنده ليث بن أبي سليم وهو فيه كلام.
وكذلك عائشة رضي الله عنها نقل عنها أنها تقول بأن هذه الأشياء تقطع الصلاة.
أقول: ما يقال في معنى الحديث يقال في أقوال الصحابة، ما يقال في معنى الحديث المرفوع يقال في معنى ما قال الصحابة، فإذا قال أبو هريرة مثلاً أو ابن عباس : (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) قلنا: نعم، لكن ما مراد ابن عباس أو أبي هريرة في قوله: (يقطع الصلاة)، هل مراده: يبطلها ويوجب استئنافها، أو مراده ما ذهب إليه الجمهور من أنه ينقص من أجرها، أو يقلل من ذكرها أو خشوعها.. أو ما أشبه ذلك؟
فالإشكال الوارد على الحديث من حيث المعنى هو وارد على أقوال الصحابة.
ولذلك مما يؤكد هذا الكلام أنك تجد الصحابي الواحد ينقل عنه في المسألة قولان، ابن عباس مثلاً مرة يقول: يقطع الصلاة كذا وكذا، ومرة يقول: لا يقطع الصلاة.
فنقول: لا داعي لأن نضرب كلام ابن عباس بعضه ببعض، بل نقول: إن مراد ابن عباس بالقطع ليس الإبطال، وإنما مراده إما نقصان الأجر أو نقصان الخشوع.. أو ما أشبه ذلك، والله أعلم.
إذاً: نقول: ما نُقل عن الصحابة من القطع يشكل عليه نفس الإشكال الوارد على الحديث المرفوع من حيث المعنى، أنه هل المراد بالقطع فعلاً إبطال الصلاة وأنه يجب أن تُستأنف من جديد، أم أن المقصود نقصان الأجر أو نقصان الذكر أو الخشوع؟ هذه واحدة.
النقطة الثانية: أنني أقول: إن بعض الإخوة من طلبة العلم يأتون إلى حديث مرفوع مثل أبي ذر الآن نُقل عنه -كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه يقطع صلاة الرجل المسلم المرأة والحمار والكلب الأسود )، بعد ذلك نجد رواية أخرى عن أبي ذر أنه نفسه يقول: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)، مع أن الرواية الموقوفة على أبي ذر فيها -كما ذكرت لكم- راو ضعيف وهو علي بن زيد بن جدعان .
فنقول: إن الحديث المرفوع في صحيح مسلم عن أبي ذر يقوي الحديث الموقوف، هل هذا المسلك جيد أم ليس بجيد؟ أن نقوي الحديث الموقوف على أبي ذر من كلامه هو بالحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا المسلك هل هو صحيح وحسن؟
هذه ملاحظة، وهي: أن علماء المصطلح أحياناً يُعِلُّون الحديث المرفوع بالموقوف، أو يعِلُّون الحديث الموقوف بالمرفوع، يعني: إذا جاء الحديث من طريقين: مرة مرفوعاً ومرة موقوفاً، قد يقولون: إن المرفوع ضعيف والصحيح الموقوف، وقد يعكسون، بمعنى: أن الحديث واحد لكن مرة جاء مرفوعاً ومرة جاء موقوفاً، فمن أهل العلم من يقول: الرفع زيادة ثقة فيقبل المرفوع، ومنهم من يرجح فيقول بحسب قوة الإسناد.
وإذا نظرنا وجدنا أنه في هذا الموضع المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصح، وفيه زيادة، أما أنه أصح فإنه ليس فيه راو ضعيف، بل أخرجه مسلم، بخلاف الموقوف فإن فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. هذه واحدة.
الوجه الثاني: أن المرفوع فيه زيادة ثقة، فيه زيادة رواها ثقة، وهو أنه قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الآخر فإنه ليس فيه: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإنما هو من كلام أبي ذر .
إذاً: فالمرفوع حينئذ هو الراجح، وبناء عليه يُضعَّف الموقوف، فيكون المرفوع يزيد الموقوف قوة أو يزيده ضعفاً؟ يزيده ضعفاً، وهذه طريقة معروفة عند العلماء، فلا يقوَّى به الموقوف.
وأنا أكرر عليكم ما قلت لكم سابقاً: هذا ما أدى إليه بحثي بعد التقصي بقدر ما أستطيع، والتفكير الطويل في الموضوع، فإن أصبت فالحمد لله ومن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله تعالى ورسوله من ذلك بريئان، ولا يحلُّ لأحد أن يوافقني على هذا الأمر إلا بعد أن ينظر في الأدلة ويقرأ ويراجع، فإن نظر أن الأمر كذلك أخذ به، وإلا رجع إلى ما يؤديه إليه اجتهاده وبحثه أو قلد من يثق به من أهل العلم، ولا أرى أنه يطال البحث في المسألة والأخذ والرد فيها؛ لأنها من مسائل الخلاف المعروفة، والذي رجحته هو مذهب الجمهور كما أسلفت.
ومما أريد أن أضيفه في موضوع الترجيح الآن:
أولاً: ذكرت أن القطع في الحديث: ( يقطع الصلاة ) لا يلزم فيه بطلان الصلاة ووجوب استئنافها، ومما يرجح هذا القول -أن القطع لا يعني بطلان الصلاة- مما يرجحه مرجحات جديدة سوف أضيفها الآن:
المرجح الأول: أن ابن عباس رضي الله عنه جاء عنه روايتان في ذلك كما أسلفت: رواية: أن الصلاة يقطعها كذا، ورواية: أن الصلاة لا يقطعها شيء، فدل على أن القطع عند ابن عباس رضي الله عنه لا يعني الإبطال، بل يعني نقص الأجر أو نقصان الخشوع.. أو ما أشبه ذلك.
المرجح الثاني أن القطع لا يعني إبطال الصلاة ووجوب استئنافها: ما روي عن الصحابة -كـعمر وابن مسعود وغيرهما-: أن القطع يعني نقصان نصف الأجر.
المرجح الثالث -وهو قوي إذا تأملته-: ما رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم بسند صحيح عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته )، والحديث قال العقيلي : حديث سهل ثابت. وقال الإمام أحمد : صالح ليس بإسناده بأس، قال: هذا حديث صالح ليس بإسناده بأس، وقال الحاكم : هو حديث صحيح.
وجه الدلالة من الحديث أنه ليس المراد بالقطع الإبطال، ولفظه -لفظ الحديث-: ( إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ).
أولاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أن الشيطان يقطع الصلاة: ( لا يقطع الشيطان عليه صلاته )، ومرور الشيطان -على ظاهر الحديث- يدل على أنه يقطع صلاة المصلي، وهل يجب على الإنسان إذا مر الشيطان بين يديه أن يعيد الصلاة؟
لا، وما هو الدليل أنه لا يعيد الصلاة إذا مر الشيطان؟ ذكرت سابقاً أدلة أن الشيطان لا يقطع الصلاة، منها:
حديث أبي هريرة : ( فإذا أقيمت الصلاة أقبل حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه )، يعني: أنه يمر من عند الإنسان ويمر من أمامه ويدخل بينه ويخطر بينه وبين قلبه.
أيضاً من الأدلة ( أن الشيطان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته وأقبل عليه بشعلة من نار يريد أن يقطع عليه الصلاة، فأمسك به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقطع صلاته ).
ومن الأدلة القوية -وهذا لم أذكره سابقاً- على أن الشيطان لا يقطع الصلاة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فإنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )، لو مر الرجل -الرجل الآن سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً- هل يقطع الصلاةَ؟ لا يقطع الصلاة، ولا خلاف -فيما أعلم- في هذا، أن الرجل لا يقطع الصلاة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شيطاناً، قال بعض أهل العلم: المعنى: أن معه شيطاناً، وهذا يرجحه قوله في رواية مسلم : ( فإن معه القرين )، إذاً: القرين مر وإلا ما مر؟ مر، وهل قطع الصلاة؟ ما قطع الصلاة، فدل على أن مرور الشيطان من بين يدي المصلي لا يبطل الصلاة، ومع ذلك قال في حديث سهل : ( وليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته )، فدل على أنه ليس المراد بالقطع الإبطال، وإنما المراد إلهاء المصلي وإشغاله أو تقليل الخشوع.. أو ما شابه ذلك من المعاني.
وهذا الدليل -إذا تأملته- فيه قوة، أرى أنه من أقوى الأدلة الصارفة للقطع عن الإبطال إلى النقصان.
ولذلك جاء عند الإسماعيلي بسند فيه نظر عن عمر رضي الله عنه: ( أنه رأى رجلاً يصلي إلى سترة وهو بعيد عنها، فقال له: تقدم لا يفسد الشيطان عليك صلاتك، لا أقول إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فعبر عن ذلك بالإفساد.
ومن الأدلة أيضاً والمرجحات على أنه ليس المراد بالقطع الإبطال؛ ما استدل به ابن رجب في فتح الباري، استدل بحديث رواه أبو داود بسند فيه نظر، وكنت أعرضت عنه في الأسبوع الماضي لهذا النظر، لكن لما رأيت ابن رجب ساقه واحتج به تشجعت على ذكره وهو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في غزوة تبوك إلى سترة وأقبل غلام يسعى حتى مر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سترته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قطع صلاتنا قطع الله أثره، قال: فما قمت عليها بعد )، يعني: استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فما قام على رجله بعد ذلك إلى يومه ذاك.
فقوله: (قطع صلاتنا) ليس المراد أبطلها، وإنما المراد -إن صح الحديث- أنه أنقص خشوعها أو شغلنا عنها.. أو ما شابه ذلك.
يقول ابن رجب رحمه الله في الموضع المشار إليه من فتح الباري كلاماً طويلاً جيداً، رجح ما رجحته من أنه لا يقطع الصلاة شيء، وهذا ما اطلعت عليه إلا في هذا الأسبوع، لكنه ذكر بعد هذا كلاماً طويلاً في تأويل القطع بعدما ذكر الأقوال، رجح أن المقصود بالقطع أن المصلي مشتغل بمناجاة ربه جل وعلا قد خلا به وانفرد به يدعوه ويسأله ويتعرض لرحمته، فإذا جاء الشيطان -والشيطان- كما هو معروف -مطرود مبعد عن رحمة الله جل وعلا-، فإنه يكون سبباً في نقصان هذه الخلوة وهذا الإقبال على الله جل وعلا.
يعني: كأنه قال: إن الشيطان مثلما لو خلا إنسان بحبيبه -ولله المثل الأعلى- فناجاه وسأله، ثم جاء شخص آخر مبغض بعيد فدخل بينهما، فإن هذا ينقص من خشوع الموقف وهيبته وجلاله. هذا مراده رحمه الله.
قال: ولهذا خصت هذه الثلاثة -يعني: المرأة والحمار والكلب الأسود-، قال: فإن المرأة ورد أنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وأنها هي السبب في خروج الإنسان من رحمة الله جل وعلا ومن الجنة، وأما الكلب الأسود فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شيطان، وكذلك الحمار أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الإنسان نهيق الحمار أن يستعيذ بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً، فدل على أن هذه الأشياء الشياطين أكثر تلبساً بها من غيرها؛ ولهذا كانت هذه الأشياء أبلغ في نقصان كمال المناجاة ولذتها من غيرها، وليس ذلك موجباً لإبطال الصلاة وإعادتها، وإنما منقص لكمالها كما نص عليه الصحابة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع الشيطان ومقاتلته، فإذا دفع الإنسان من مر بين يديه فإنه يكون كمن خطرت عليه الوساوس في الصلاة فدفعها واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأقبل على صلاته، أما من ترك الإنسان يمر بين يديه فهو كمن هجم عليه الشيطان بالوساوس فانساق مع هذه الوساوس وغفل عن صلاته. هذا مؤدى وملخص كلامه رحمه الله.
نقطه ثالثة في موضوع الترجيح: أنني ذكرت أنه لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم أنهم كانوا يعيدون الصلاة من مرور هذه الأشياء.
وأزيد الأمر إيضاحاً فأقول: الصحابة رضي الله عنهم كانت دوابهم الحمير، وكانوا يركبون عليها وعلى الإبل والبغال وغيرها، لكن كثيراً ما كانوا يستخدمون الحمر في الركوب والذهاب والإياب، وكانت حمولة الناس كما قال ابن عباس رضي الله عنه، هذا بالنسبة للحمر.
وكذلك الكلاب كانت تكون في الأسواق، بل وفي المساجد، كما في صحيح البخاري حديث ابن عمر: (كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا يعني أن الحمر والكلاب كانت تمر بين أيدي المصلين وكان يصعب أن يتحرزوا منها، فقد يمر الكلب والإنسان راكع أو ساجد أو قائم لم يعلم به يمر بين يديه، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن هذا يقع كثيراً، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه قطع الصلاة أبداً، لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه قطع الصلاة واستأنفها من جديد، إنما الذي نُقل أن اثنين من الصحابة استأنفا الصلاة، يعني: بعدما انتهوا أعادوها، الأول: ابن عمر، نُقل أنه أعاد الصلاة من مرور جرو كلب، وهذا النقل عن ابن عمر -إن صح- ليس فيه دلالة على الإبطال؛ لأنها لو بطلت لكان يجب أن يستأنفها من جديد. هذا وجه.
الوجه الثاني: أن ابن عمر ثبت عنه بسند صحيح كالشمس: أنه لا يرى بطلان الصلاة بهذه الأشياء.
إذاً: نقول: إعادة ابن عمر-إن صحت- محمولة على أن ذلك على سبيل الاستحباب.
الثاني الذي نُقل عنه القطع وأنه أعاد الصلاة هو الحكم بن عمرو الغفاري: (أنه كان في جيش وكانت أمامه سترة، فمر حمار بين يدي بعض الصف فأعاد).
وحديث الحكم -إن صح- أيضاً فيه إشكال من جهة أن الحمار الآن ما مر من بين يدي الإمام، وإنما مر من بيدي يدي المأمومين، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس: (أن الأتان مرت بين بعض الصف، ومع ذلك ما أعاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أعاد الناس، ولم ينكر ذلك عليه أحد)، فهذا يعكر على ما نقل عن الحكم بن عمرو الغفاري.
الخشوع مشتق من خشع، أي: تطامن وطأطأ رأسه، وقريب منه قولهم: خضع أيضاً، سوى أن بعض أهل اللغة -كـابن فارس - ذكر أن الخضوع يكون في القلب، وأما الخشوع فيكون في البصر ويكون في الصوت. قال ابن دريد : الخاشع هو المستكين الراكع.
والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الخشوع يكون في القلب وفي الجوارح، يكون في القلب ثم يفيض من القلب على الجوارح، والدليل على ذلك قول علي رضي الله عنه وقد سئل عن قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، قال علي رضي الله عنه: (الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك بيد أخيك المسلم، وأن لا تلتفت في الصلاة)، فقال رضي الله عنه: (الخشوع في القلب)، وحديث علي هذا رواه الحاكم في مستدركه في التفسير، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه عبد الله بن المبارك, وعبد بن حميد وابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم، فقال علي : (الخشوع في القلب).
ومما يدل أيضاً على أن الخشوع في القلب ما رواه الجماعة إلا البخاري من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ).
فتبين أن الخشوع يكون في القلب، ثم يكون من القلب في الجوارح، كما في قول الله عز وجل عن الكفار يوم القيامة وصفهم بأنهم: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [القلم:43] في مواضع، فخشوع البصر، وخشوع الجوارح، وخشوع الرأس، وخشوع الصوت إنما هو أثر عن خشوع القلب.
ذكر النووي إجماع أهل العلم على أن الخشوع ليس بواجب، وناقضه الغزالي في إحياء علوم الدين فنقل عن جماعة أنهم كانوا يقولون: إن الخشوع في الصلاة واجب بإجماعهم.
والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الماهية مختلف فيها بينهما، يعني: الشيء الذي يريده النووي غير الشيء الذي يريده الغزالي، فإن القول بأن الخشوع ليس بواجب إجماعاً هكذا فيه نظر، بل ينبغي أن يفصل، فإن أريد بالخشوع قدر من الحضور في الصلاة وإدراك الإنسان لما يفعل وما يقول أو بعضه فإن هذا في الأصل مطلوب، وقد يتعلق بالنية، فإنه لابد أن يكون الإنسان ينوي ما يفعل، يفعله بحضور قلب؛ ولذلك قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فنهى عن إتيان الصلاة للسكران الذي لا يعلم ما يقول.
وأما الخشوع الذي هو كمال انكسار القلب وذله وتضرعه لله عز وجل فإنه لا أحد يقول بأن هذا واجب في الصلاة، بل هو من الأشياء المكملة المطلوبة في الصلاة دون إيجاب.
والمصنف ما ساق لفظ البخاري، قال: واللفظ لـمسلم، البخاري رواه بلفظين:
اللفظ الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ( نهي أن يصلي الرجل مختصراً )، (نهي) بلفظ المبني للمجهول.
واللفظ الثاني: ( نهى عن الخصر في الصلاة )، أما اللفظ الذي ساقه المصنف فهو لـمسلم، وقد روى الحديث مسلم في كتاب المساجد باب كراهية أن يصلي الرجل مختصراً.
والحديث رواه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة في صحيحه، وزاد أبو عوانة : ( ووضع يده على خاصرته ) يعني: أبا هريرة أو النبي صلى الله عليه وسلم، ( وضع يده على خاصرته ) وذلك من أجل أن يشرح معنى الاختصار.
والمعنى -كما قال ابن سيرين -: أن يضع يده على خاصرته.
وبهذا التعريف للاختصار جزم أبو داود، ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم، ويؤيده رواية أبي عوانة السابقة: ( أنه وضع يده على خاصرته )، وقد روى أبو داود والنسائي بسند صحيح -كما يقول العراقي رحمه الله- عن زياد بن صبيح قال: ( صليت إلى جنب
وكذلك رواية البخاري عن عائشة التي نقلها: (أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم).
كل هذه الروايات تدل على أن المقصود بالتخصر أو الاختصار: أن يضع الرجل يده على خاصرته.
قال العراقي : وهذا هو الصحيح الذي عليه المحققون من أهل الحديث والفقه واللغة. ورجحه النووي وابن حجر وأكثر أهل العلم، أن معنى التخصر في الصلاة: هو أن يضع الرجل يده على خاصرته.
والخاصرة يقول أهل العلم: هي الشاكلة، وهي معروفة عند العامة، لكن المقصود بالشاكلة: هي أسفل الجنب مما هو فوق عظم الورك، هو أسفل الجنب فوق عظم الورك، من أسفل البطن مما يكون فوق عظم الورك، هذا يسمى الشاكلة أو يسمى الخاصرة.
والمقصود بالتخصر وضع اليد عليه. هذا أصح ما قيل.
وقوله: ( أن يصلي الرجل مختصراً ) يشمل أن يختصر بيديه كلتيهما أو بإحداهما، ويشمل أن يكون في كل صلاته كذلك أو أن يكون في بعضها، وهذا هو الصحيح.
وذهب بعض أهل العلم في تفسير التخصر إلى مذاهب أخرى غير هذه، أذكرها باختصار لأنها مذاهب ضعيفة:
قال بعضهم: إن المقصود بالتخصر: هو أن يحمل الرجل في يديه مخصرة، ذكره الخطابي، والمخصرة هي العصا الذي يعتمد أو يتوكأ عليها الإنسان، وأنكر ذلك ابن العربي وأبلغ في ذلك وأجاد.
وقيل في معنى التخصر: أن يقرأ الإنسان أواخر السورة، يقرأ آيتين أو ثلاثاً من آخر السورة، كما يفعله كثير من الأئمة اليوم أنهم يقرءون أواخر السور، وهذا لم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم لكنه قرآن، فيجوز للإنسان أن يقرأ من أول السورة أو أوسطها أو آخرها لا حرج في ذلك؛ لأنه قرآن، لكن فسر بعض أهل العلم التخصر أو الاختصار بأن يقرأ آيتين أو ثلاثاً من آخر السورة.
وذكر الغزالي في معنى التخصر: أن الإنسان إذا مر بآية فيها سجدة قفزها؛ لئلا يسجد، ففسر التخصر بذلك.
وقيل في معنى التخصر: أن الإنسان لا يتم قيام الصلاة ولا ركوعها ولا سجودها، أي: عدم الطمأنينة.
هذه أهم الأقوال التي قيلت في معنى التخصر، وقد تبين ما هو القول الراجح فيها.
هذا الأثر رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، يُقَيَّد؛ لأن بعض الناس لا يهتدي لهذا الأثر إذا لم يوقف عليه، رواه في كتاب أحاديث الأنبياء؛ باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
العلة الأولى: هي ما ذكرتها عائشة : (أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم)، فيكون نهياً عن التشبه بـاليهود وأهل الكتاب في عباداتهم.
وقيل في العلة: إن ذلك الفعل هو راحة أهل النار، رواه ابن أبي شيبة عن مجاهد، ورواه البيهقي مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن التخصر هو راحة أهل النار )، قال العراقي : وظاهر إسناده الصحة.
وقيل: نهى عن التخصر لأنه صفة الراجز الذي يرتجز أو يقول الشعر، ممكن أن نقول في العصر الحاضر: صفة الراقصات هكذا أحياناً أو المغنيات، وكذلك أهل الشعر قديماً كأن منهم من كان يفعل ذلك، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى ذلك سعيد بن منصور عن قيس بن عباد بسند حسن -كما يقول ابن حجر - من قوله هو.
وقيل: نهى عن التخصر لأنه فعل المتكبرين.
وقيل: نهى عن التخصر لأنه فعل أهل المصائب، أنهم كانوا يصطفون ويضعون أيديهم على خواصرهم.
وقيل: لأنه من باب التشبه بالشيطان؛ فإن الشيطان يفعل ذلك، وكأنه لما أهبط إلى الدنيا كان كذلك.
يقول ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وما روي عن عائشة -أو: قول عائشة رضي الله عنها- هو أعلى ما ورد. ومراده بقوله: (أعلى ما ورد) أحسن ما قيل؛ لأنه تفسير صحابي، وهل كلام ابن حجر رحمه الله: أن قول عائشة أعلى ما ورد الآن صار مسلَّماً أو غير مسلَّم؟ غير مسلَّم؛ لأن عندنا الآن الحديث مرفوع، رواه البيهقي عن أبي هريرة، وقال العراقي : ظاهر إسناده الصحة، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلى علة التخصر وأنه راحة أهل النار.
فنقول: لا، بل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان كلام ابن حجر له وجه فيما ذكر.
وعلى كل حال ابن حجر رحمه الله يقول: لا منافاة بين الجميع. يعني: يحتمل أن تكون كل هذه الأشياء مقصودة.
الوجه الأول: النهي: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً )، والنهي يدل على التحريم.
الوجه الثاني: التشبه؛ فإن التشبه بأهل الكتاب فيما هو من خصائصهم محرم، خاصة إذا كان في عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر، قالوا بتحريم الاختصار في الصلاة.
أما الجمهور فإنهم حملوا النهي على الكراهة، هذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة والنخعي ومجاهد وأبي مجلز ومالك والأوزاعي والشافعي وأهل الكوفة وسواهم، حملوا النهي على الكراهة لا على التحريم، ولا أدري ما هو الصارف للنهي عن التحريم، ومما لا شك فيه أن من اتخذ التخصر هيئة له في الصلاة فإنه مرتكب لأمر محرم، يعني: لو فعله مرة أو غافلاً أو لحظة ثم عاد أو لحاجة فهذا قد يقال بالكراهة، لكن لو اتخذ هذا عادة يصلي وهو مختصر، يعني: بدلاً من أن يضع يديه على صدره يضعهما على خاصرتيه، فلاشك في تحريم هذا العمل.
ولما ساقه البخاري رحمه الله في (باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة) قال: (وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء)، هذا أثر موقوف معلق، رواه البخاري تعليقاً، قال: وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء، وقال أبو الدرداء : (من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وهو فارغ القلب)، يعني: تقضي الحاجة التي معك بحيث تنتهي منها، فإذا أقبلت على الصلاة ما يكون قلبك مشغولاً بالحاجة التي كانت في يدك.
فيقول أبو الدرداء: (من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وهو فارغ القلب)، يعني: فارغ من شغل الدنيا.
ثم ساق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها: ( إذا وضع العشاء فابدءوا به )، وهو أيضاً في حديث مسلم، فهو حديث متفق عليه، وهو شاهد لحديث الباب.
ثم ساق أيضاً حديث الباب عن أنس رضي الله عنه: ( إذا وضع العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب ) وزاد في آخره: ( ولا تعجلوا عن عشائكم ).
ثم ساق أيضاً رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( إذا وضع عشاء أحدكم فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه ).
كل هذه الأشياء ساقها البخاري في الموضع ثم قال: (وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ من عشائه، وإنه ليسمع قراءة الإمام).
وقد جاء في رواية عند ابن حبان ما يدل على أن ذلك كان وابن عمر صائم، جاء في رواية عند ابن حبان : (أنه كان صائماً).
ظاهر الحديث يدل على أن هذا خاص بصلاة المغرب؛ لأنه قال هنا: ( قبل أن تصلوا المغرب )، وكذلك المغرب هو الوقت المناسب للعشاء، وكأن الأولين كانوا يأكلون العشاء قبيل صلاة المغرب، وهذا كان معروفاً عندنا في الزمن الماضي عند أهل القرى والأرياف والفلاحين، أنهم كانوا يأكلون عشاءهم قبيل صلاة المغرب.
فظاهر الحديث يدل على أن هذا الأمر في صلاة المغرب.
بل هناك ما يدل على أنه خاص بالصائم، فقد جاء في بعض الروايات: ( إذا وضع العشاء وأحدكم صائم )، وهذه الزيادة: ( وأحدكم صائم ) رواها ابن حبان والطبراني في معجمه الأوسط.
ولكن الصحيح أن الأمر عام ليس خاصاً بصلاة المغرب وليس خاصاً بالصائم، وإنما هو عام في كل صلاة وعام لكل إنسان صائماً كان أو غيره، والدليل على أنه عام العلة وهي انشغال قلب المصلي، وهناك دليل نصي وهو حديث عائشة في صحيح مسلم : ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان )؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بحضرة طعام ) دليل على أن ذلك عام ليس خاصاً بصلاة المغرب ولا خاصاً بالصائم.
السر في ذلك ظاهر: وهو أن المصلي إذا كان مشتغل الخاطر بالطعام لحاجته إليه فإنه لا يكون مقبلاً على صلاته الإقبال المطلوب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالعشاء حتى يفرغ منه ويزول شغل خاطره فيقبل على صلاته، وهذا هو المتبادر وهو الظاهر.
ومع ذلك فقد اختلف الجمهور في ذلك، فقيده بعضهم بالمحتاج، وهذا ظاهر مذهب الشافعية، أنهم يقولون: هذا خاص بالمحتاج، يعني: إنسان جائع -مثلاً- وقُدِّم له الطعام يأكله ثم يصلي.
أما الإمام أحمد وإسحاق والثوري فإنهم لم يقيدوه بشيء، بل قالوا: هذا لا يختص بمحتاج ولا غيره، بل من قُدِّم له طعامه فإنه يأكله قبل أن يذهب إلى الصلاة، وظاهر صنيع ابن عمر يدل على ذلك كما استظهره بعضهم.
وقد بالغ بعض أئمة الظاهرية فقالوا: تبطل صلاة من صلى وهو بحضرة طعام؛ لقوله: ( لا صلاة بحضرة طعام )، بالغوا فقالوا ببطلان الصلاة في ذلك.
والأظهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر محمول على الندب لمن كان محتاجاً إليه، كما هو ظاهر في الأحاديث وكما هو ظاهر في العلة، وسوف يأتي حديث عمرو بن أمية الذي رواه البخاري وفيه: ( أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يأكل طعاماً فدعي إلى الصلاة، وكانت الذراع في يده يحتز منها فطرح السكين وصلى ولم يتوضأ )، فلم يكمل النبي صلى الله عليه وسلم أكل الطعام بل تركه وقام إلى الصلاة، وهو يدل على أن الأمر للندب وليس للوجوب.
منها: طلب الخشوع في الصلاة، وأنه يكون بفعل الأسباب وإزالة الموانع، يكون بتحصيل الأسباب وإزالة الموانع، وسوف أتكلم عن هذه الفقرة تفصيلاً -إن شاء الله تعالى- بعد الأذان.
الفائدة الثانية: تقديم فضيلة الخشوع على فضيلة أول الوقت، فإن أول الوقت فاضل كما سبق تقريره في باب المواقيت، وخاصة في صلاة المغرب، ومع ذلك فإن النبي صلي الله عليه وسلم قدَّم فضيلة الخشوع وحضور القلب على فضيلة إدراك أول الوقت.
ومن فوائد الحديث: أن وقت المغرب ممتد، خلافاً لما ذهب إليه بعض الفقهاء من أنه قصير جداً لا يتسع إلا لركعتي النافلة وثلاث ركعات الفريضة.. أو ما أشبه ذلك؛ فإن إذن النبي صلي الله عليه وسلم للإنسان بأن يأكل عشاءه، حتى يفرغ منه ثم يقبل على صلاته -صلاة المغرب- دليل على أن وقت المغرب وقت طويل ممتد.
ومن الفوائد: تعلق القلب بشيء يلهي عن الصلاة، وقد روى سعيد بن منصور بسند حسن عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: (أنهما كانا يأكلان طعاماً، وكان في التنور شواء -يعني: لحم يشوى-، فقام المؤذن ليقيم الصلاة، فقال له ابن عباس : لا تعجل؛ لئلا نقوم وفي أنفسنا شيء).
ولذلك لم تكره الصلاة بحضرة طعام للصائم، الصائم إذا كان بحضرته طعام هل يكره له أن يصلي؟ لا؛ لماذا؟
لأن الصائم منقطع الأمل من هذا الطعام؛ لأن لديه مانعاً شرعياً يمنعه، فهو يائس واليأس قوة؛ لذلك لا يتعلق قلبه بهذا الطعام.
ومن فوائد الحديث: أنه متى أكل من طعامه ما يدفع جوعه ويزيل انشغاله استحب له القيام إلى صلاته؛ ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه : (باب إذا دعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل)، ثم ساق حديث عمرو بن أمية الضمري الذي ذكرته قبل قليل.
المصنف يقول: إسناده صحيح. والواقع أن في سنده ضعفاً، فإن في سنده رجلاً يقال له: أبو الأحوص، قال ابن عساكر : لا يعرف اسمه، ولم يرو عنه إلا الزهري، ابن معين يقول عن أبي الأحوص هذا: ليس بشيء، والكرابيسي يقول: ليس بالقوي عندهم، يعني: عند أهل الحديث، وقال ابن القطان : لا يعرف له حال، وقال النووي في المجموع : فيه جهالة.
والعجب أن المصنف نفسه قال في التقريب : مقبول، يعني: أنه ضعيف الحديث إلا إذا جاء من يقويه ويشده، وهاهنا قال: إسناده صحيح. وهذا يتعقب على المؤلف؛ لأنه ما قال: الحديث صحيح، قال: بإسناد صحيح، وهل الإسناد صحيح؟ لا، هل هو حسن؟ لا ليس بحسن، بل هو ضعيف، لكن له ما يشده فيكون الحديث حسناً، لكن السند ضعيف وليس بصحيح؛ لأن فيه أبا الأحوص هذا كما ذكرت.
ولذلك قال معيقيب في الحديث الذي أشار المصنف إليه فقال: وفي الصحيح عن معيقيب نحوه بغير تعليل، قال: ( إن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: إن كنت فاعلاً فواحدة )، فدل على أن المقصود تسوية التراب في الأرض، وحديث معيقيب هذا رواه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، ورواه مسلم في كتاب المساجد.
وقد جاء في المسند عن حذيفة وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، حتى سألته عن مسح التراب في الصلاة؟ فقال: واحدة أو دع )؛ ولذلك قول المصنف رحمه الله هنا: وزاد أحمد : ( واحدة أو دع ) قوله هنا فيه ضعف؛ لأنه المفروض ألاَّ يقول: زاد أحمد ؛ لأن هذا حديث آخر، أحمد ما ذكر أول الحديث، إنما ذكر: ( واحدة أو دع ) بعدما سئل عن هذا.
فهو مكروه عند عمر وجابر ومسروق والنخعي والحسن البصري والجمهور، بل حكى النووي في شرح مسلم وفي المجموع اتفاق العلماء على أنه مكروه، وهذا الاتفاق فيه نظر، فقد ثبت عن مالك أنه ما كان يرى به بأساً، وكان يفعله في الصلاة.
إذاً: مسح الأرض في الصلاة لغير حاجة مكروه عند الجمهور: هو مذهب عمر وجابر ومسروق والنخعي والحسن البصري وجمهور أهل العلم، بل حكاه النووي في المجموع وفي شرح مسلم إجماعاً، وهذا الإجماع فيه نظر، فقد ذكر الخطابي وابن العربي عن مالك: أنه لا يرى بذلك بأساً وأنه كان يفعله، وكذلك ذكره العراقي عن ابن مسعود وعمر : أنهما كانا يفعلانه.
وذهب الظاهرية إلى تحريم ما زاد على المرة، ذهبوا إلى أنه يجوز أن يمسح مرة ولا يجوز أن يمسح ما زاد على ذلك؛ لقوله: ( واحدة أو دع )، يعني: افعل واحدة أو اترك فلا تفعل أبداً.
فقال بعضهم: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح التراب في الصلاة؛ لئلا يشغل المصلي خاطره بما يلهيه عن الرحمة التي تكون في اشتغاله بصلاته.
وقيل: لئلا يغطي الحصى؛ لأنه إذا حرك الحصى غطى بعضه.
وقال بعضهم: كل حصاة تحب أن يسجد عليها.
وقيل: لأن ذلك ينافي التواضع.
وقيل: لأنه ينافي كمال الخشوع ويدعو إلى الاشتغال في الصلاة لغير حاجة، وهذا هو ظاهر صنيع المصنف؛ فإنه ساقه في (باب الحث على الخشوع في الصلاة)، وهو أقوى ما يقال في هذا الباب.
فأقول: أما مسح التراب عن الجبهة في أثناء الصلاة فقد نقل القاضي عياض والنووي وغيرهما عن السلف أنهم كانوا يكرهون ذلك.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما رواه ابن أبي شيبة، قال: (ما أحب أن لي حمر النعم وأنني مسحت مكان جبيني في الصلاة)، ولكن كلام أبي الدرداء -وإن احتج به ابن حجر - إلا أنه يحتمل أنه يقصد التراب في الأرض، مكان جبينه يعني: موضع سجوده.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري في القصة الطويلة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة القدر: ( أنه أري أنه يسجد صبيحتها على ماء وطين، قال: فانصرف وأثر الماء والطين على جبهته وأنفه )، وكأن البخاري أخذ منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح جبهته ولا أنفه، بل ترك أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، وإن كان هذا المأخذ ليس بظاهر.
على كل حال من الظاهر أن مسح الجبهة والأنف في الصلاة خلاف الإقبال على الصلاة، وفيه حركة لا حاجة إليها، وقد يكون ينافي كمال الخشوع وينافي كمال التواضع؛ لأنه إنما يفعله بعض الذين تعودوا على الترف وأن لا يمس التراب وجوههم؛ فلذلك كرهه السلف، أما بعد الصلاة فكونه يمسحه فلا حرج في ذلك.
وقد ذكر الله عز وجل في مواضع من كتابه الكريم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة ما يدل على أن حضور القلب والخشوع في الصلاة من أعظم المطالب والمقاصد، بل هو لب العبادة وروحها:
قال الله عز وجل لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، قال كثير من المفسرين: أي: لتذكرني بها.
إذاً: إقامة الصلاة ليست لمجرد القيام والركوع والسجود حركة فحسب، بل هي لذكر الله عز وجل.
وقال الله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، وقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فدل على أنه ينبغي للعبد أن يحضر قلبه في صلاته.
وقال الله تعالى عن النحائر التي ينحرها الإنسان: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].
إذاً: قيامك وركوعك وسجودك في الصلاة إنما روحه ولبه وسره أن تكون حاضر القلب مقبلاً على صلاتك.
وفي الصحيحين عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ).
(ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه) يعني: بحديث الدنيا، وهذا جاء في بعض الروايات: ( لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا )، والمقصود: أنه لا يسترسل مع الخواطر والوساوس، وإلا فإنه يندر من الناس من لا يحدِّث نفسه بشيء البتة، لكن المقصود أن يقبل على صلاته ولا يسترسل مع الوساوس والخواطر التي قد تهجم عليه وتعرض له في صلاته.
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أيوب الأنصاري، وعند الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الحاكم : صحيح الإسناد، وهو أيضاً عند البيهقي في الزهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهم، كلهم قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليت فصل صلاة مودع )، يعني: كأنك لن تصلي غير هذه الصلاة، وتصور أن إنساناً يعتقد وهو يصلي الآن أن الموت سيهجم عليه قبل أن يدرك الصلاة التي بعدها، كيف سيكون إحضاره لقلبه في الصلاة؟! أرأيت لو أن إنساناً محكوم عليه بالقتل، أو وقع في أيدي الكفار والمشركين فأرادوا أن يقتلوه فاستأذنهم -كما فعل خبيب بن عدي رضي الله عنه- استأذنهم أن يصلي ركعتين، فأذنوا له فقام يصلي، هل ترون أن هذا الإنسان سوف يسيح قلبه في أودية الدنيا يفكر في زوجته ويفكر في أطفاله ويفكر في دكانه ويفكر في وظيفته ويفكر في دراسته؟! كلا، سوف يكون مقبلاً على صلاته، لا همَّ له إلا مناجاة ربه والاستغفار والبكاء والتذلل والتضرع، (صلاة مودع)؛ ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يصلوا صلاة مودع كأنهم لا يصلون غيرها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد لينصرف من صلاته ما كتب له إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها.. إلى قوله: نصفها )، والحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث عمار بن ياسر .
وقد سبق في دروس ماضية أنني ذكرت أن حديث أبي الدرداء وغيره في أول علم ينزع من الأرض وهو الخشوع ( يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً ).
أما حديث: ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ) فهذا الحديث -وإن كان يستدل به بعض الخطباء وبعض الوعاظ- لكنه حديث موضوع، رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وهو حديث موضوع، يعني: نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم حرام لا تجوز، وإنما هو من قول بعض الصحابة أو بعض التابعين، نسبه بعضهم إلى أبي هريرة ونسبه بعضهم إلى بعض التابعين، ومع ذلك فإنه لا يصح لا عن أبي هريرة ولا عن غيره، أما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث موضوع كما ذكرت.
فأقول: دائماً إذا أردت أن تخشع فلابد لك من أمرين:
الأول: تحصيل الأسباب الداعية إلى الخشوع.
الثاني: إزالة الموانع التي تحول بينك وبين الخشوع.
من الأسباب -مثلاً-: أن تبكر إلى الصلاة، فهذا من الأسباب.
من الأسباب: أن تقرأ القرآن قبل الصلاة، تصلي ما تيسر لك بحيث يتجرد قلبك من الخواطر، وإذا تعودت على هذا الأمر وعودت نفسك عليه، على حبس نفسك في المسجد ألفت ذلك، حتى تُقبل على صلاة الفرض وأنت متجرد عن الشواغل والملهيات، فهذا من تحصيل الأسباب.
نقول له: لن نستحضر قلبك في الصلاة ما دامت حياتك كلها أصبحت ضائعة في طلب الدنيا، ولو طردت الهواجس والوساوس بعض الشيء فإنها تعود إليك بعد قليل، فما مثلك ومثل هذه الهواجس والوساوس إلا كمثل إنسان جالس تحت شجرة يريد أن ينام، هذه الشجرة تأوي إليها العصافير والطيور، فأصبحت العصافير والطيور تصيح حتى لا تدعه ينام، فقام هذا الإنسان ورماها بحجر فطارت وابتعدت فآوى لينام، فبعد قليل رجعت هذه الطيور والعصافير وبدأت من جديد تصفر وتصيح، وكلما ضربها طارت ثم بعد قليل تعود، لماذا تعود؟
لأن الأسباب موجودة، هناك أسباب تدعو إلى مجيء هذه الطيور إلى تلك الشجرة.
إذاً: ما هو الحل لهذا الإنسان؟ ما الحل؟
الحل هو أن يقطع الشجرة، وحينئذٍ يستطيع أن ينام قرير العين. طبعاً هذا مثال، لا تأخذ المثال وتأتي تحاسبنا: كيف يقطع الشجرة وهذا يضيِّع عليه الوقت ويزيل الظل؟! دعنا من ذلك، هذا مثال.
نقول: اقطع شجرة التعلق بالدنيا في قلبك تجد الإقبال على صلاتك، أما ما دامت شجرة الانشغال بالدنيا مغروسة في قلبك تأوي إليها الطيور والعصافير, فإنه لا سبيل لك إلى طرد هذه الوساوس والتخلص منها بالكلية.
إما خواطر تأتي من الخارج، وهذه أمرها بسيط، ما هي الخواطر التي تأتي من الخارج؟
مثلاً: ما تراه بعينك، افرض أن في قبلتك أو أمامك أشياء تصرفك عن الصلاة، فهذه تزيلها، مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى
شيء يلهيك في الصلاة تتخلص منه، ومثل ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وفي يده خاتم، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم بالخاتم من يده وقال: إليكم نظرة وإلى الخاتم نظرة )، (نظرة إليكم ونظرة إلى الخاتم)، والحديث يقول العراقي في تخريج إحياء علوم الدين: سنده صحيح. إذاً: لماذا ألقى النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم؟ لأنه ألهاه ينظر إليه.
فإذا كان هناك شيء يلهيك يلهي بصرك تزيله، لا تُصلِّ إلى الشيء الذي يلهيك، ابتعد؛ ولذلك أوصى بعضهم بأن يصلى في الظلام، ليس بالضرورة أن تصلي في الظلام لكن تغض بصرك وتقبل على صلاتك.
إذاً: شيء يلهيك يلهي بصرك تزيله ما أمكن، تزيله، تغض البصر فتنظر إلى موضع السجود، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى موضع السجود، وسيأتي الكلام على ذلك، ولا يكون بصرك ينصرف يميناً وشمالاً وأماماً.. وغير ذلك.
السترة من فوائدها وأسرارها: أنها تجعل الإنسان يتنبه دائماً إلى أنه في الصلاة، وأن بصره ينبغي أن لا يمتد ويطيش يمنه ويسرة.
من الأشياء الخارجية التي تلهي الإنسان أحياناً: الأمور المسموعة، لو كنت تصلي إلى قوم يتحدثون وأحاديث من هنا وهناك ما الذي يحدث؟ أحياناً ينشد الإنسان إلى حديثهم، أرأيت لو كان مجموعة من الناس يتحدثون ويتبادلون النكت وأنت تصلي، ما الذي يحدث؟
أقل ما يحدث أن يبتسم المصلي.
وأذكر أن بعض الصالحين كان يصلي وإلى جواره قوم يتحدثون ويأتون ببعض النكت، فلما انصرف من صلاته أراد أن ينهاهم عن ذلك بطريقة لبقة، فقال: شغلتمونا عن الصلاة ملأ الله قلوبكم نوراً، بدلاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة ملأ الله قبورهم ناراً )، قال: شغلتمونا عن الصلاة ملأ الله قلوبكم نوراً، فنبههم إلى هذا الخطأ بطريقة جيدة، وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية الصلاة إلى القوم المتحدثين؛ لأنها تلهي المصلي، فإذا كان عندك أقوام يتحدثون لا تصل إليهم، إما أن يسكتوا أو تذهب أنت لتصلي في مكان آخر.
مثلاً: إذا كان هناك أصوات مزعجة لا تصل إليها؛ ولذلك سبق كراهية الصلاة في الأماكن التي فيها أصوات، مثلما ذكر بعضهم: الصلاة في الرحى، مثل الصلاة في الورش إذا تيسر ألا يصلي فيها أو المصانع.. أو غيرها مما يكون فيها أصوات مزعجة تلهي المصلي وتشغله عن صلاته ويستطيع أن يتخلص منها.
إذاً: إذا كان هناك أشياء تزعج الإنسان وتشد سمعه فانه يتخلص منها حتى يقبل أيضاً على عبادته، هذه الأشياء ظاهرة مما يرى أو يسمع، وأمرها -كما ذكرت- يسير.
الأول: طريق قريب -وأشرت إليه قبل قليل-: أنك تدفع الخواطر القلبية دفعاً مؤقتاً، فالإنسان المشتغل في الدنيا -مثلاً- إذا قرر أنه من حين يؤذن عادة خلاص، متفق عليه عنده، كما ورد عن بعض السلف أن الواحد منهم إن كان بيده الميزان، فإذا سمع المؤذن وضعه وذهب إلى الصلاة، إذا وضع العيار في كفة لا يضع البضاعة في كفة أخرى، إذا أذن وضع الميزان وذهب إلى الصلاة؛ ولذلك مدحهم الله عز وجل بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].
إذاً: الخير عادة والشر لجاجة، ممكن جداً أن تعود نفسك أنه من حين يؤذن ما هناك شغل إلا بالصلاة، استعداد لها بوضوء أو غسل.. أو ما أشبه ذلك، أما أعمال الدنيا فلا أشتغل بها قط بعدما يؤذن المؤذن، وهذا لابد فيه من الاعتياد، وإلا فالنفس تجر الإنسان: بيدك عمل أكمله، كتاب أو شيء أكمل قراءته، عمل أكمله ثم تذهب إلى الصلاة! وأحياناً يغري الشيطان الإنسان بالتأخر بما يلبسه عليه من مصالح معينة عافانا الله وإياكم من ذلك.
إذاً: التبكير إلى الصلاة هذا يساعد على دفع الشواغل الدنيوية ولو دفعاً مؤقتاً.
الوضوء لكل صلاة مما يساعد على ذلك.
التنفل قبل الصلاة قبل الفريضة يساعد على ذلك.
ثم إذا دخل في الصلاة يحاول أن يشتغل بالصلاة، يشتغل بالذكر.. بالقرآن.. يفكر في معنى ما يقرأ، وإذا دعا دعا بخشوع وحضور قلب، وهذا من الثابت لغة وشرعاً وفطرة وواقعاً، بإجماع الناس أن هذا الأمر من الممكن أن يتم، لكن بالاستمرار، إذا استمر الإنسان على المجاهدة حصَّل خيراً كثيراً، فإذا استمر الإنسان يفكر في معنى ما يقرأ أصبح عادة عنده أنه إذا قرأ شيئاً من القرآن فكر في معناه، ولا يشغله عن ذلك اللهم إلا أمور طارئة تعرض لأي إنسان من البشر، فإذا أقبل على معنى قراءته وعبادته ودعائه وتسبيحه استفاد.
المشكلة أن كثيراً من الناس لو سألته عن معنى ما يقرأ، أو معنى الذكر، يمكن القرآن يكون صعباً؛ لأن بعض الناس يقول: صعب أني أفهم تفسير القرآن، مع أن القرآن كثير منه تفهمه العامة، مثل الآيات الواردة في وصف الجنة والنار وما أشبه ذلك إلى غير ذلك، معانيه ظاهرة، وفيه أشياء تفهمه العرب بلغتها، لكن فيه معان خفية، إنما الأمر الأكثر إشكالاً أنه هناك أذكاراً يرددها الناس في سنواتهم دائماً وأبداً، ومع ذلك لم يسألوا عن معناها، لو تأتي لكثير من الناس تقول له: أنت تقول: سبحانك اللهم وبحمدك، ما هو معنى: سبحانك اللهم وبحمدك؟ قال: والله -يا أخي- ما أدري، علمني، طيب: ما معنى: وتعالى جدك؟ قال: والله ما أدري، طيب. لو تسأله عن تفسير سورة الفاتحة التي يقرؤها في كل ركعة ما عرف، كثير منهم لا يعرفون، لو تسأله عن معنى: (سبحان ربي الأعلى)، أو: (سبحان ربي العظيم) ما عرف، لو تسأله: ما معنى: التحيات لله؟ ما عرف، السلام عليك أيها النبي، السلام عليهم، لو تسأله عن الدعاء الذي يقوله بعد السلام: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد: والله ما أعرف (ولا ينفع ذا الجد منك)، لو تسأل بعض طلبة العلم، لو تقول: ما هو معنى: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)؟ قال: والله ما أدري.
أخي! هذا شيء تقرؤه أنت باستمرار وتقوله، لماذا لا تبحث عنه؟! لا عذر لك في ذلك.
هذه الأشياء تدفع الخواطر وتجعل هناك نوعاً من حضور القلب ولو بشكل مؤقت.
أرجو ألا تفهموا هذا.. يعني: أنا أفتخر بأحبابي من طلاب العلم وأباهي بهم، إنما أقول: إن كثيراً من الناس في الصلاة لا يشتغل بأمور الدين، لا يمكن أن يفكر بأمور دينية في الصلاة اللهم إلا طلبة العلم وقليل ما هم، أما عمر رضي الله عنه فإن شغله في الصلاة شاغل فإنما هو أمر ديني، مثلما يشتغل بتجهيز الجيوش وهو يصلي، أما كثير من الناس فعلى النقيض من ذلك، تجد أنه يشتغل بأمور دنيوية ويفكر في وظيفته أو في صفقة تجارية أو في ترقية.. أو ما أشبه ذلك. هذا جانب.
الجانب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر منهم: ( رجل قلبه معلق بالمساجد )، ما معنى كون قلبه معلقاً بالمساجد؟
معناه -والله أعلم- أن هذا الإنسان إذا خرج من المسجد يحنُّ إليه حتى يعود إليه، وقد ورد هذا بسند لا بأس به مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى يعود إليه )، يعني: إذا خرج من المسجد يفكر في المسجد ويحن إليه حتى يرجع.
إذاً: الإنسان كما قال الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
إذا جعلت نفسك في العبادة والإقبال على الصلاة والذكر وطلب العلم والدعوة؛ تجد الإنسان ولو كان في الدنيا في وظيفته أو عمله أو دراسته أحياناً قد تجده شارد الذهن، تسأله: فلان! ما هو الأمر الذي يهمك؟ في ماذا تفكر؟ قال: والله أفكر في هموم المسلمين، أفكر في المصائب التي نزلت بنا، أفكر في المآسي التي ألمت بإخواننا في بلاد أخرى، أفكر في المنكرات التي شاعت بيننا، أفكر في كذا أفكر في كذا، تجده وهو في الدنيا يفكر بأمور الدين:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلني وإياكم من المؤمنين الخاشعين، إنه على ذلك قدير.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر