إسلام ويب

تفسير سورة الكهف [27-31]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يدعو الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو خطاب لجميع أمته- أن يصبر نفسه مع المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. ثم يخبر الله تعالى عن حال الكافرين في النار وما أعد لهم من العذاب الأليم، ويثني بذكر ما أعد للمتقين من نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ...)

    قال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:27-28].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف:27]، أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل.

    وقوله: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27]، عن مجاهد: مُلْتَحَدًا [الكهف:27] قال: ملجئاً. وعن قتادة: ولياً ولا مولى. قال ابن جرير: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] .

    وقال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.

    وقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً من عباد الله, سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء ].

    سبب نزول قوله تعالى: (واصبر نفسك)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كـبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليخرج أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52] الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28]، الآية، قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا..، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]) . انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ].

    بيان تطبيق الرسول العملي لقوله تعالى: (واصبر نفسك ...)

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب) .

    وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة ].

    يعني واعظاً يعظ.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان قاص العامة بالكوفة يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أعتق أربع رقاب) ].

    يعني في مجلس الوعظ.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصاً.

    وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً) فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفاً وهاهنا من يقول: أربعة من ولد إسماعيل، والله ما قال إلا (ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً).

    وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم) ].

    يعني: هذا كله في تأويل قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] أي: الذين يدعون الله ويذكرونه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم وإذا كان هذا في الذين يدعون الله ويذكرونه فمجالس العلم أولى وأفضل، ومجالس الذكرهي: التي يُذكر الله فيها ويسبح ويُهلل ومجالس العلم هي: التي يُقرأ فيها القرآن، ويقرأ فيها العلم ويدرس، ويتعلم فيها الأحكام والحلال والحرام. فهذا من أفضل المجالس فينبغي للإنسان أن يصبر نفسه فيها وأن يحرص على مجالس الذكر.

    وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه في حلق -والرسول عليه الصلاة والسلام هو أول من جعل حلقاً للعلم- فجاء ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما الأول فأوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه).

    فلا ينبغي للإنسان أن يكون معرضاً عن حلقات العلم، وعن أن يتعلم فيها الحلال والحرام والأحكام، من الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح ومن أن يسمع إلى قال الله وقال رسوله، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم.

    فحلق الذكر ومجالسه والحلقات والدروس العلمية تدخل دخولاً أولياً في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] .

    وتعلم العلم أفضل من الذكر المجرد، وأفضل من أن يجلس الإنسان يذكر الله وحده أو يقرأ القرآن وحده إلا إذا تدبر وتأمل فيه؛ لأن هذا ذكر خاص، وهذا نفعه متعدٍ؛ لأن تعلم العلم أفضل العبادات ولهذا قال الإمام أحمد : تعلم العلم لا يعدله شيء.

    وقال العلماء: إن تعلم العلم أفضل من نوافل العبادة، فهو أفضل من نوافل الصلاة، ومن نوافل الصيام وغيرهما؛ لأن نوافل الصلاة ونوافل الصيام نفعها قاصر على الشخص, وأما تعلم العلم فنفعه متعد للغير.

    والذكر الجماعي ليس له أصل، ولا دليل عليه؛ وإنما كان كل أحد يذكر الله وحده.

    الأمر بصحبة الأخيار

    والآية فيها: الأمر بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد مالا يحصى، لأن الجليس الصالح يرغبك في الخير ويحثك عليه ويزهدك في الشر، أما الجليس السوء فإنه يزهدك في الخير ويرغبك في الشر, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة) . يعني: أنك مستفيد منه على كل حال فهو إما أن يرغبك في الخير ويدعوك إليه، أو يزهدك في الشر.

    قال صلى الله عليه وسلم: (ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهة) أي: أنك متضرر على كل حال من جليس السوء. فهو يحسن لك الشر ويزهدك في الخير فأنت متضرر منه على كل حال، ولا شك أن مصاحبة الأخيار ولو كانوا فقراء ولزومهم فيها فوائد عظيمة.

    وجملة: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، في موضع الحال ومن قال: إن وجه الله هنا مجاز، وهو كناية على إقباله على العبد كـالأشعري فقوله غلط فإن الآية فيها: إثبات الوجه لله عز وجل وهي مثل قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] فيها إثبات الوجه وإثبات الذات جميعاً، والصواب: أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة.

    فإن المجاز لم يعرف إلا بعد الأئمة الأربعة، وحتى الأئمة الأربعة لم يتكلموا في المجاز ولم يكن العرب يعرفون المجاز، ولم يعرفه الصحابة، ولا الأئمة الأربعة وإنما تعلق المتأخرون بكلمة قالها الإمام أحمد ، عندما قال: المجاز عن كذا. وهو لا يريد بها المجاز، وإنمان يريد بها جواز الشيء، والمقصود: أن لله وجهاً حقيقياً والذين أولوه هم الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام.

    فالآية فيها إثبات الوجه والذات جميعاً كما قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] والذين ينكرون الصفات أو يتأولونها يقولون: ويبقى ذاته.

    وقصدهم من ذلك إنكار الوجه ونفيه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر مرسلاً, وحدثنا يحيى بن المعلى عن منصور حدثنا محمد بن الصلت حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا (جاء رسول الله ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم) .

    وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) . تفرد به أحمد رحمه الله ].

    والحديث الأول الذي فيه الرجل الذي يقرأ وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أصبر نفسي مع هذا)، دليل على: أن حلق الذكر والحلق العلمية تدخل في هذه الآية دخولاً أولياً؛ لأن القرآن هو منبع العلوم وأصلها.

    والذكر هنا عام يشمل: ذكر المصلي والصائم وقارئ القرآن ومتعلم العلم ومعلمه وهكذا.

    والذكر في المسجد أفضل؛ لحديث: (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم). فلا شك في أن المساجد أفضل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: (نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28]، الآية. فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم) .

    عبد الرحمن هذا ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة، وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم ].

    قال في الحاشية: [ وتعقبه ابن الأثير بقوله: ولا يصح. وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة ، وله رؤية ].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قوله: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم، يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.

    وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28] أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعاً له ولا محباً لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29] ].

    وهذا إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إرشاد لأمته في أنه ينبغي للإنسان أن يصحب الأخيار ويصاحبهم ويجالسهم ويصبر نفسه معهم، وأنه لا ينبغي له أن يركن إلى أصحاب الدنيا والذين غفلوا عن الآخرة, والذين صار أمرهم فرطاً، وصارت أهواءهم تبعاً للدنيا وإنما يلزم الأخيار ويصاحبهم، ويصاحب أهل الذكر والعلم؛ حتى يستفيد منهم وألا يطع أهل الدنيا والمغفلين, والذين ركنوا إلى الدنيا واطمأنوا إليها، وكانت أمورهم فرطاً، وأهواؤهم تبعاً للدنيا.

    ولكن إذا زارهم للتذكير وللدعوة فلا بأس، وأما كونه يصحبهم ويركن إليهم ويكون واحداً منهم فهذا معناه أنه يكون كأمثالهم فيغفل عن الآخرة ويركن إلى الدنيا، فيؤثرون عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ...)

    قال الله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] .

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: إِنَّا أَعْتَدْنَا [الكهف:29] أي: أرصدنا لِلظَّالِمِينَ وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه. نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] أي: سورها. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة) ].

    وهذا الحديث ضعيف السند؛ لأن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه: دراج عن أبو الهيثم وهو ضعيف أيضاً.

    بيان أنه لا يستحق الإمامة إلا أهل الإيمان

    وقد دلت الآية على أنه ينبغي أن يطاع ويصير إماماً للناس من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه فلهج بذكر الله وقدم مراضي ربه على هواه، فحفظ بذلك وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه فحقيق بذلك أن يتبع ويجعل إماماً، والصبر المذكور في هذه الآية هو: الصبر على طاعة الله الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه يتم باقي الأقسام.

    وأما الغافل المعرض المشتت فهو الذي ركن إلى الدنيا، وهو الذي نهانا الله عن طاعته بقوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] .

    قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] فيه استحباب الذكر والدعاء, والعبادة طرفي النهار؛ لأن الله مدحهم بفعلها. والغداة والعشي طرفي النهار، فالغداة طرف، والعشي طرف وهما أول النهار وآخره وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130].

    وكل فعل مدح الله فاعله دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا أحبه فإنه يأمر به ويرغب فيه، وهذا من أساليب توحيد العبادة، فإذا مدح الله الشيء أو أثنى على صاحبه فقد أمر به في المعنى.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وأخرجه الترمذي في صفة النار وابن جرير في تفسيره من حديث دراج أبي السمح به.

    وقال ابن جريج: قال ابن عباس: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] قال: حائط من النار.

    قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية حدثني محمد بن يحيى بن يعلى عن صفوان بن يعلى عن يعلى بن أمية ].

    ويقال: ابن منية فينسب إلى أمه وينسب إلى أبيه فأمه منية وأبوه أمية.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية أو قرأ هذه الآية: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] ثم قال: والله لا أدخلها أبداً، أو: ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة) ]..

    وهذا ليس بصحيح وهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، والبحر لا بأس بدخوله، ولا بأس بإصابة شيء منه، وقد جاء ما يدل على أن البحار تكون جزءاً من جهنم فإنها تسجر يوم القيامة وتكون من جهنم ولكنه في الدنيا ليس جزءاً من جهنم، ولا بأس في دخوله والسباحة فيه.

    معنى المُهل

    قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] .

    قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت ].

    يعني: أنه ثخين مثله.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وقال مجاهد: هو كالدم والقيح, وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره، وقال آخرون: هو كل شيء أذيب، وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل، وقال الضحاك: ماء جهنم أسود, وهي سوداء, وأهلها سود ].

    فهو كالشيء الأسود الثخين -نسأل الله السلامة- وإذا استغاث أهل النار -والعياذ بالله- يغاثوا بماء كالمهل, أي: بماء أسود ثخين كالعكر من الزيت نسأل الله السلامة والعافية.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرديئة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار، ولهذا قال: يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، أي من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه, وحتى يسقط جلد وجهه فيه ].

    فهو أسود ثخين ذائب حار وغليظ منتن الرائحة, والعياذ بالله.

    ومن شدة حرارته أنه إذا قربه إلى وجهه سقط لحم وجهه، والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية.

    قال المؤلف رحمه الله: [ كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء كالمهل, قال: كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه) وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشيدين بن سعد ].

    و رشدين ضعيف.

    قال: [ عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين ، وقد تكلم فيه من قبل حفظة هكذا ].

    يعني: أنه ضعيف، سيء الحفظ.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم، عن حسن الأشيب عن ابن لهيعة عن دراج والله أعلم.

    وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بشر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ [إبراهيم:16-17] قال: (يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعائه يقول الله تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ [الكهف:29]) .

    وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلبت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل ].

    الأقرب: أنها يسلط عليهم العطش فيستغيثون, يعني: يبتلون بالعطش فإذا ابتلوا بالعطش استغاثوا, فيغاثون بهذا الماء، والعياذ بالله.

    وفي تعليق للشيخ عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] قال: هذه الآية فيها تهديد ووعيد, والأمر للتهديد.

    فالأمر يأتي لعدة معان, ومنها التهديد، كما في هذه الآية: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] .

    أي: أن الحق واضح فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] والله تعالى قد بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر, فمن آمن فله الجنة والكرامة, ومن كفر فله النار والإهانة، والعياذ بالله.

    قوله: (فاختلبت جلود وجوههم) وفي نسخة أخرى: فاجتثت جلود وجوههم وهو الأقرب.

    وقول ابن جبير : (ثم يصب عليهم) بمعنى: يسلط عليهم العطش.

    واجتثت: من الاجتثاث وهو: السقوط يعني: سقطت جلود وجوههم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره، لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.

    ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: بِئْسَ الشَّرَابُ [الكهف:29]، أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، أي: حارة كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:44]

    وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق كما قالت الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66] ].

    وهذا بسبب كفرهم، والعياذ بالله؛ لأنهم جحدوا توحيد الله, وصرفوا محض حقه الذي لا يستحقه غيره إلى مخلوق ضعيف فوقعوا في أظلم الظلم, وأقبح القبيح, وعدلوا غير الله بالله, وماتوا على الشرك، وعلى الكفر فكان جزاؤهم النار نسأل الله السلامة والعافية لأن من مات على الكفر لا حيلة تنفعه. كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48].

    نجاسة المشرك

    ونجاسة المشرك نجاسة عينية لا يطهرها الماء, ولا تطهرها النار وهذا بخلاف العصاة الذين يدخلون النار بسبب معاصيهم، فإن معاصيهم كالنجاسة الطارئة التي تصيب الثوب ثم تغسل, فيطهرون بالنار إذا لم يعف الله عنهم, ثم يخرجون منها وأما الذين ماتوا على الشرك وعلى الكفر فلا حيلة فيهم, ونجاستهم نجاسة عينية, فيلقون في النار ويستمرون فيها أبد الآبدين نسأل الله السلامة والعافية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:30-31] .

    قال المؤلف رحمخه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن والعدن: الإقامة, تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، أي: من تحت غرفهم ومنازلهم قال فرعون: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، الآية يُحَلَّوْنَ [الكهف:31]، أي: من الحلية، فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31] وقال في المكان الآخر: وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف:31] فالسندس: ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها وأما الإستبرق: فغليظ الديباج، وفيه بريق.

    وقوله: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31] الاتكاء: قيل: الاضطجاع وقيل: التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث الصحيح (أما أنا فلا آكل متكئا) فيه القولان.

    والأرائك: جمع أريكة. وهي: السرير تحت الحجلة والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالبشخانة. والله أعلم ].

    فهذه الآية الكريمة فيها: بيان جزاء الموحدين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن لهم الجنة فالله تعالى أعد دار كرامته وجنته للمؤمنين الموحدين, وحرمها على الكافرين, فمن مات على الشرك وعلى الكفر فالجنة عليه حرام، كما قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] .

    وثبت في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في بعض غزواته: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) .

    وكذلك بعث مؤذنين عليه الصلاة والسلام, يؤذنون في الناس في منى في الحج في السنة التاسعة: (لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ومن كان له عهد فهو إلى عهده, ومن ليس له عهد فمدته أربعة أشهر) كذلك بعث أبو بكر أبا هريرة مع المؤذنين ينادي في الناس في منى في السنة التاسعة من الهجرة.

    فالجنة أعدها الله للمؤمنين الموحدين, فمن مات على التوحيد والإيمان فله الجنة والكرامة، ومن مات على الشرك فالجنة عليه حرام. نسأل الله السلامة والعافية.

    ولهذا قال في سورة الكهف: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107] وقال هنا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:30-31] فهذا جزاء من آمن بالله ووحده, وأخلص له العبادة وبقى على التوحيد الخالص الخالي من الشرك والبدع والكبائر ومات عليه، فإنه يدخل الجنة من أول وهلة, فضلاً من الله وإحساناً. والذين يدخلون الجنة من أول وهلة صنفان من الناس.

    الصنف الأول: السابقون المقربون، الذين وحدوا الله وتقربوا إليه بأداء الفرائض, ونشطوا أيضاً فابقوا في نوافل العبادات وتركوا المحرمات، ونشطوا أيضاً فتركوا المكروهات وفضول المباحات.

    والصنف الثاني: أصحاب اليمين الذين أدوا الفرائض والواجبات، ولم يكن عندهم نشاط في فعل المستحبات والمندوبات, وتركوا المحرمات، ولم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات وفضول المباحات.

    وأما الصنف الثالث: فهم الظالمون لأنفسهم الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقعوا في الشرك ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة، فهذا مات على الزنى, وهذا على السرقة, وهذا على شرب الخمر, وهذا على عقوق الوالدين, وهذا على قطيعة الرحم, فهؤلاء على خطر, فمنهم من يعذب في القبر كما في قصة الرجلين الذين رآهما النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان كما في حديث ابن عباس في قبريهما؛ لأن أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يستتر من بوله، وقد يعفى عنه كما قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] فقد يعفو الله عنه بالتوحيد والإيمان والإسلام، وقد يعذبه فقد ثبت أن بعض أهل الكبائر لا تأكل النار وجوههم، ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة فهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، ثم في النهاية يخرجون منها إلى الجنة والكرامة ولا يبقى في النار إلا الكفرة.

    فأهل التوحيد هم أهل الجنة والكرامة، فأما السابقون والمقربون فيدخلون الجنة من أول وهلة، وأما المقتصدون فمنهم من يدخلها من أول وهلة ويعفى عنهم, ومنهم من لا يعفى عنه, ومنهم من يعذب في قبره, ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد, ومنهم من يشفع فيه فلا يدخل النار, ومنهم من يدخل النار ثم يخرج منها في النهاية بعد أن يطهر من هذه النار. وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31] والجنات: البساتين, وعدن: إقامة، قال تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، أي: أنهار اللبن, وأنهار الماء, وأنهار الخمر, وأنهار العسل. قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31] ويحلون: يلبسون الحلي في الجنة، ولو كانوا رجالاً, وأما في الدنيا فالحلية للنساء, وفي الجنة يحلى المؤمن ولو كان رجلاً, فيحلى في يديه، كما قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ [الكهف:31]، أي: يلبس في يديه أساور من ذهب, قال تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا [الكهف:31] أي: ثياباً حريراً, وفي الدنيا يحرم على الرجل أن يلبس الحرير, وأما في الآخرة فله ذلك, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) .

    وقوله: خضراً هي نوعان من الحرير: نوع رقيق، ويقال له: السندس، ونوع غليظ، ويقال له: الإستبرق، وله بريق ولمعان، قال تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31] وقد ذكر الحافظ رحمه الله هنا أن الاتكاء إما اضطجاعاً وإما تربعاً. وقد ذكر بعض أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا آكل متكئاً) , أن الاتكاء هو: التربع. كما فسرها الخطابي ، وقال بعضهم: هو أن يتكئ إما على يده اليمنى وإما على يده اليسرى. وهذا هو الأقرب فيكون معنى متكئاً: معتمداً على شيء.

    والأرائك: جمع أريكة وهي كما قال الحافظ: معروفة وتسمى بشخانة باللغة الفارسية وهي: الحجلة، أي: قبة في وسطها سرير، وقد ذكرها ابن القيم رحمه الله في النونية الكافية الشافية, وتسمى في اللغة العربية الأريكة، نسأل الله من فضله.

    قال المؤلف رحمه الله: [ قال عبد الرازق أخبرنا معمر عن قتادة عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31] قال: هي الحجال، قال معمر: وقال غيره السرر في الحجال.

    وقوله: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31]، أي: نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31] أي: حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29] وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66] .

    ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:75-76] ].

    وفي هذه الآية الكريمة دليل على: أن الجنة أعدها الله للمؤمنين, وأن المؤمنين الموحدين هم أهل الجنة والكرامة, وفي الآية السابقة دليل على أن النار أعدها الله للكفار.

    فالمؤمنون الموحدون أعد الله لهم الجنة, والعاصي بين بين، فهو من أهل الجنة لكنه قد يعذب بمعاصيه إذا مات على الكبائر, وقد يعفى عنه، وقد يعذب في النار ثم يخرج منها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767477448