أيها الإخوة.. غاية ما يصبو إليه كل مؤمن في هذه الدنيا هو: أن يحصل على السعادة المطلقة في الدارين، وأي مطمحٍ أو مطمع يتمناه الإنسان أكثر من أن يمنحه الله في هذه الدنيا الرضا والسعادة في قلبه؛ ثم أن يصير بعد الموت إلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟!
والرسول عليه الصلاة والسلام قد بيَّن لنا الطريق إلى ذلك بعبارات شتى. فنوع في القول وأبدأ وأعاد، حتى تكتمل الحجة على كل إنسان.
ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حدثنا في أحاديث كثيرة؛ مبيناً أن الوسيلة إلى تحصيل هذا المطلب: هي أن يحقق العبد الرضا بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً.
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وجبت له الجنة} وهذا الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن، فرتب على قول هذه الكلمة: الجنة دون أن يقيد ذلك بوقت معين، فمن قال: رضيت بالله رباً، أي: ولو قالها مرةً في عمره، على ظاهر هذا الحديث، وقد وردت أحاديث أُخر في هذه الكلمة مقيدة بأوقات خاصة... منها ما رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ما من عبد أو إنسان أو مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة} وهذا الحديث رواه ابن ماجة بإسناد حسن، وروى أبو داود والنسائي نحوه.
فقيَّد قول هذه الكلمة بأن يقولها حين يصبح وحين يسمي -وهو كما سمعتم حديث حسن- فهو يدل على أنه يشرع لكل مسلم أن يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة:رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
وفي حديث ثالث بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية قول هذه الكلمة عند سماع الأذان؛ فروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، غفر له ذنبه} فقيَّد قول هذه الكلمة عند سماع الأذان، ولعل المقصود أن يقولها بعد سماعه للشهادتين؛ لما ورد في رواية أخرى لـمسلم أنه قال:{من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله}.
أن يرضيه الله تعالى يوم القيامة، ومنها أن يدخله الجنة، ومنها أن يغفر له ذنبه؛ وكل هذه أشياء ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، فإذا وعد قائل هذه الكلمة بهذه الوعود الثلاثة من غفران الذنوب، وإدخال الجنة، والرضا عنه وإرضائه؛ فلابد أن يؤمن المسلم بهذا الوعد، ويعلم أن الله تعالى من كرمه وجوده أنه إذا وعد المسلم -على عمل صالح- بوعد؛ فإنه يحققه له.
أما إذا توعده على ذنبٍ بوعيد؛ فإنه قد يغفر ويعفو ويسامح؛ تكرماً منه وفضلاً.
ولذلك ذكر الإمام الخرائطي في كتابهمكارم الأخلاق"أن رجلاً من المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد- جاء إلى الإمام المقري القاري اللغوي أبي عمرو بن العلاء، فقال له:يا أبا عمرو أرأيت إذا وعد الله عبده وعداً على عمل صالح، فهل يمكن أن يخلفه الله، قال أبو عمرو: لا. لا يمكن أن يخلف الله وعده، قال:فإذا وعد عبداً على معصية بعقوبة فهل يمكن أن يخلف وعده، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنما أوتيت من جهلك بلغة العرب؛ لأن العرب تطلق الوعد على الأمر الصالح وعلى الخير، وعلى العِدة بالرضوان أو بالجنة أو بالعطاء، أو بما أشبه ذلك، أما ما كان عقوبةً فإن العرب تسميه وعيداً، ولا تسميه وعداً.
ألم تسمع إلى قول الشاعر -وهو عامر بن الطفيل- حيث قال:
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أختتي من سطوة المتهدد |
يعني: لا أخاف، ولا أبالي، ولا يتغير لوني من سطوة المتهددين.
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي |
فالعرب تقول الوعد فيما كان من الوعد بخير، أما ما كان بشر فتسميه وعيداً.
فمن كرم الله وجوده أنه إذا وعد العبد -على عمل صالحٍ- بجزاء؛ فإنه لا يخلف هذا الوعد... وهذا فيما يتعلق بالدار الآخرة.
أما فيما يتعلق بالدنيا فقد روى مسلم في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ذاق طعم الإيمان! من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً}.
ومن ذاق طعم الإيمان، فإنه يجد السعادة في قلبه وفي حياته في هذه الدنيا؛ ولذلك فإنك تجد من هذه النصوص أن هذه الكلمة فيها سر السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
أفلا يجدر بك أيها المسلم وأنت تسمع هذا الوعد -على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام- من الله الذي لا يخلف وعده؛ أن تتأمل في هذه الكلمة؟ ولماذا رتب الرسول صلى الله عليه وسلم على قولها وتحقيقها هذه الوعود العظيمة؟
بلى، إنه لجدير بنا أن نتأمل هذه الكلمة، ونعمل على تحقيق معناها في واقع حياتنا، فأول ما ينبغي للمسلم: وهو أن يدرب نفسه ويعودها على قول هذه الكلمة مع ورده في الصباح والمساء؛ لأن النطق بها -بلا شك- فضيلة؛ لكن النطق المجرد لا يكفي -كما هو معروف- والأمور الشرعية لم يكن ترتيب الجزاء المطلق عليها بمجرد النطق بها؛ بل لا بد من أمور أخرى وراء ذلك، وسأبين بعض هذه الأشياء حسب ما يتسع له الوقت.
والرضا بالله عز وجل يشمل عدة أمور:
ومع الأسف أن يوجد من ذراري المسلمين في جميع البلاد الإسلامية -من الشباب الأغرار- من تلقفوا هذه المبادئ الكافرة، ورضعوها وآمنوا بها وتحمسوا لها، وأصبحوا دعاةً على أبواب جهنم، من أجابهم إلى هذه المبادئ قذفوه فيها.
النوع الثاني ممن لم يؤمنوا بالله رباً:هم من يعتقدون أن هناك مصرفاً مع الله عز وجل -كما يعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام- كـالصوفية مثلاً، الذين يعتقدون أن من الأولياء والأقطاب والأبدال والأوتاد من لهم تصرف في شئون الكون: في الرزق، والإحياء، والإماتة، وغير ذلك.
ومثلهم -بل أشد منهم وأكثر- الرافضة الذين يعتقدون أن لأئمتهم خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات الكون، كما يقول طاغوتهم الأكبر الخميني في كتابهالحكومة الإسلامية : إن لأئمتنا خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات هذا الكون. فهم يعتقدون أن هؤلاء الأئمة مشاركون لله تعالى في ربوبيته.
فلا بد من الإيمان بأن الله تعالى وحده هو الرب لا شريك له في ذلك؛ ثم لا بد من تحقيق الأمر الآخر المترتب على إيمانك بربوبية الله، وهو: أن ترضى بهذه الربوبية، وأعتقد أن هناك وفرقاً بين مجرد الإقرار وبين الرضا.
فالأمر الأول: نوعٌ من الإقرار بأن الله هو الرب؛ لكن الثاني: هو الرضا بربوبيته، وقد يقول قائل:إن من أقر بأن الله هو الرب، وأن تصريف الأمور كلها بيده، لا بد أن يرضى بذلك؛ لأنه ليس له مفر من ذلك. ولكن الواقع أن الأمر ليس كذلك؛ فإن كثيراً من الناس -مع اعترافهم بأن الله تعالى هو الرب- لم يحققوا الرضا بهذه الربوبية، أرأيتم من أصيب بمصيبة في نفسه أو أهله أو ماله: من فقر أو مرض أو موت قريبٍ أو حبيب أو عقم عن الإنجاب أو فقد مال، أو ما أشبه ذلك من المصائب التي تنتاب الناس في كل حين، ففرقٌ بين أن يقر في قرارة نفسه بأن الذي قدر وقضى عليه هذه المصيبة هو الله، ثم يسخط ويتجزع ويقلق، وبين أن يرضى بالله رباً، ويعلم أن هذه المصيبة هي بإذن الله، فيرضى ويسلم.
ففرق بين هذا وذاك، بين من يقر بأنها من عند الله ولا يرضى بها -فهذا حقق الإقرار لكنه لم يحقق الرضا- وبين من يقر أنها من عند الله، ثم يرضى ويسلم.
فلا بد أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره في نفسه، وأهله، وماله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] فمن سلم بذلك، وآمن به ورضي هدى الله قلبه حين نـزول المصيبة، ومنحه من الاطمئنان والرضا والسكون ما قد يحول هذه النكبة والنقمة إلى نعمة.
ويقول سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23] فالإيمان بقضاء الله وقدره، والرضا به والتسليم، يمنح الإنسان الطمأنينة والهدوء والسكون عند نـزول المصائب، ويمنحه -أيضاً- الأمن قبل نـزولها؛ ونقص ذلك أو عدمه هو نقصٌ في الرضا بربوبية الله تعالى.
وحين نتأمل واقعنا وواقع كثير من المسلمين من حولنا، نجد أن كثيراً من المسلمين يرهبون المصائب قبل نـزولها، فتجد الإنسان منهم قلقاً خائفاً حتى ولو كان في نعمة، خائفاً أن تنـزل به المصيبة، فهو يتوقع نـزول مصيبة تفجعه صباحاً أو مساء، وهذا نوع من التشاؤم أو الاكتئاب، ومن أهم أسبابه ضعف الرضا بالله رباً.
ثم إذا نـزلت المصيبة وجدت من كثير من المسلمين التسخط والجزع والتبرم بالأقدار الشيء الكثير، وقد يصاب الإنسان بمصيبة في أهله، أو في ماله، يترتب عليها لشدة جزعة أن يجلب على نفسه مصيبةً أخرى؛ كمن يفقد المال فيصاب بهمٍ وغمٍ شديد، حتى ربما كان سبباً في فقد عقله أو في إصابته بمرضٍ في جسده، وربما في موته أيضاً.
فأين الرضا بالله؟! أين الرضا بالله الذي يجعل الإنسان يحس بأنه عبدٌ لله تعالى يقضي الله تعالى فيه ما يشاء؟ وأين الدعاء الذي نردده في كل مناسبة، خاصة في القنوت في رمضان أو غيره: {اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك}.
فمن كان يؤمن بهذه المعاني في قلبه؛ لا بد أن يتقبل قضاء الله وقدره في كل شيء بالرضا والتسليم، مع أنه سواء قبله بالرضا والتسليم أم بغيره. فالقدر النازل لا مفر منه؛ لكن من رضي بالله وسلم منح الرضا في قلبه والأنس، وحُفظ له أجره؛ ومن لم يفعل ضاع أجره، ولم يدفع شيئاً من هذه الأقدار التي نـزلت به.
فمثلاً العقل، ليس للإنسان قدرة أن يزيد من عقله أو ينقصه، وكذلك الأشياء الخلقية الطبيعية التي لا يمكن تغييرها، فهذه الأشياء ليس للإنسان يدٌ فيها، بل هي من عند الله تعالى، فلا بد أن يرضى الإنسان بالله رباً؛ فيقنع بهذه الأشياء؛ ولذلك قال الله عز وجل في سورة النساء: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] يعني: إذا رأيت إنساناً فضل عليك -مثلاً- بالجسم أو بالعقل أو بأي أمر آخر ليس مكتسباً يمكن التنافس فيه؛ وإنما هو هبة من الله عز وجل؛ فلا تتمنى ما أعطى الله فلاناً، أو تتسخط مما أعطيت، بل اسأل الله من فضله.
ولذلك قال سبحانه: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] ولذلك على ضوء الآية كون المرأة ترى ما فضل به الرجال، فتسخط كونها خلقت امرأة، وتتمنى أن تكون رجلاً؛ فهذا ينافي كمال الرضا وحقيقة الرضا بالله رباً؛ لأنه لا سبيل إلى تغيير ذلك، ومثل ذلك كون الإنسان رجلاً أو امرأة يتمنى -من هذه الأشياء الفطرية- ما عند فلان وفلان؛ مع أنه لا سبيل إلى تغيير هذه الأمور، فهي أمور ممنوحة من الله تعالى.
فهذا الأمر الأول: هي أشياء خلقية من الله تعالى.
والأمر الثاني: أمور دنيوية:من المال، ومن الجاه، ومن المنـزلة، ومن السلطان , ومن المكانة الاجتماعية، ومن غيرها.
فقد تجد إنساناً فضل عليك بهذه الأشياء هو أغنى منك، وأوسع منك في الدنيا، وأحسن منك في المكانة الاجتماعية؛ وقد ترى المرأة امرأةً أخرى فضلت عليها بأشياء من هذه الأمور الدنيوية؛ فأيضاً يقنع الإنسان بما أُعطي من هذه الأمور ويرضى بها، ولا ينظر إلى من هو فوقه.
ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:{انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} فأنت في أمور الدنيا إذا نظرت إلى من هو دونك -وجرب ذلك- شعرت بحقيقة النعمة التي أنت فيها؛ لكن إذا نظرت إلى من هو فوقك شعرت بالحسرة على أنه فاتك ما عنده.
ولذلك من نظر إلى من هو دونه؛ رضي بما أعطاه الله، وأذكر في هذه المناسبة قصة وقعت لأحد الناس، وهي أنه كان رجلاً لا يولد له إلا الإناث، فسخط من ذلك وضاق به صدره، حتى إن زوجته لاحظت عليه هذا الأمر، وتمنت من أعماق قلبها أن تلد ذكراً، لكن الأمر ليس بيدها، ففي أحد المرات أُدخلت زوجته المستشفى للولادة، وكان عازماً على أنها إن ولدت أنثى أنه سيطلقها ويتزوج غيرها، أو ما أشبه ذلك.
وكانت زوجته خائفةً من ذلك، فلحظت عليها القابلة هذا الأمر، فسألتها فأخبرتها بالخبر، فأخبرت هذه المرأة الطبيب بذلك، وكان الزوج في الغرفة ينتظر خبر الولادة، فولدت المرأة أنثى، فقال الطبيب للمرأة: اطمئني لن يقع -إن شاء الله- إلا كل خير، فذهب إلى زوجها، وقال له: أبشر! قد ولد لك غلام، فتهلل وجه الرجل وفرح واستبشر، فقال له: ولكن هذا الغلام مشوه، فيه ارتجاج في المخ، وفيه تشويه في وجهه وفي يديه وفي رجليه، وفي سائر جسده، وبدأ يعدد له -من العيوب الخلقية في هذا الطفل المزعوم- أشياء كثيرة، حتى انقلب هذا الفرح في نفس الأب إلى حزن عميق، وعاد على نفسه يلومها، ويقول لنفسه: هذه عقوبة من الله عز وجل لي؛ حيث لم أرض بما رزقني من الإناث فعاقبني بهذه العقوبة، ونبهه هذا الأمر -الذي سمعه- وهذا الخبر، إلى تقصيره في السابق، وأن الواجب أن يرضى بما كتبه الله له، والخير فيما اختاره الله تعالى.
فوطَّن نفسه على الصبر والرضا والتسليم، وبعد أن هدأت نفسه وركن إلى الله عز وجل ورضي به، قال له الطبيب: إنما ولدت لك أنثى ليس فيها عيب؛ وإنما أحببت أن تضع نفسك في موضع من هو دونك، فتصور نفسك في موقع رجل لا يولد له إلا أولادٌ مشوهون، فيهم من العاهات والآفات الشيء الكثير، فتحمد الله عز وجل؛ أو تجعل نفسك في موقع إنسان لا يولد له ألبته، فترضى بما قسمه الله لك.
فلا بد أن يعرف الإنسان أن من كمال وتحقيق الرضا بالله رباً؛ أن يقنع الإنسان بما كتب له في هذه الدنيا، ولا ينظر إلى من هو فوقه في الأمور الدنيوية.
أما في القضايا الدينية: من عبادة وطلب علم، ومسابقة إلى الخيرات، فينبغي أن ينظر إلى من فوقه حتى يزيده ذلك إقبالاً وحرصاً على الخير، في حين أنه لو نظر إلى من دونه لقال:أنا في خير ونعمة، وأنا أحسن من فلان وفلان، فبقي على ما هو عليه، وربما قصر في بعض الطاعات.
وكذلك أنت حين تقول: رضيت بالله رباً؛ فإنك تعني: أنك لا تطلب الأمور حقيقةً إلا من الله تعالى؛ ولذلك ورد في صحيح مسلم وغيره في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنه رأى أمته وقيل له: إن فيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منـزله، فبات الناس يدوكون ليلتهم في هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. فقال بعضهم:فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يدركوا الجاهلية، وقال بعضهم أشياء، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذي لا يسترقون، ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون
فبين أن أساس فضيلة هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هي: أنهم حققوا التوكل الكامل على الله عز وجل -وعلى ربهم يتوكلون- حتى إنهم من شدة توكلهم على الله تعالى لا يسترقون، يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم فيقرأ عليهم إذا مرضوا، ولا يتطيرون أي: لا يتشاءمون أو يتفاءلون بهذه الطيور؛ لمعرفتهم بأن كل شيء بقضاء وقدر، ولتوكلهم على الله تعالى.
فتحقيق التوكل على الله تعالى هو من الرضا بالله رباً، يعني: أنك رضيت بالله في تحقيق ما تحب، ودفع ما تكره؛ وحين تستعين بالناس في أمر من أمور الدنيا، فلا بد أن تدرك أن هؤلاء الناس إنما هم أسباب يحقق الله على أيديهم ما يشاء.
فلا بد -حين تستعين بأحد في أمر من الأمور- أن تعرف أن هذا الإنسان الذي استعنت به؛ إنما هو وسيلة يحقق الله تعالى على يديه ما أراد لك من خير، أو يدفع بسببه عنك الشر. وهذا من الرضا بالله رباً.
الأمر الأول:الكفر بالطواغيت
وليست الطواغيت -كما يتصور كثير من السذج- محصورة في الحجارة التي كان الناس في الجاهلية ينحتونها ويسجدون لها ويعبدونها، فهذه صورة بدائية ساذجة من صور عبادة غير الله والإيمان بالطواغيت؛ فهناك مئات أو آلاف الصور التي قد يعبد الإنسان فيها هذا الطاغوت، أو يؤمن بالطاغوت غير هذه الصورة، منها مثلاً: الصورة الموجودة في كثير من البلاد الإسلامية من تقديس الأولياء، ودعائهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، ودفع الضر وغير ذلك، وهذا موجود في كثير من البلاد الإسلامية.
ومنها ما يقع فيه كثير من الشباب من ذريات المسلمين من اعتناق المذاهب الأرضية البشرية المناهضة لدين الإسلام، كمن يؤمنون بـالإشتراكية مثلاً، أو بـالقومية، أو بـالبعثية، أو بـالعلمانية، أو بغيرها من المذاهب والنظريات التي وضعها الناس لتنظيم حياة البشر؛ فهي دين آخر غير دين الإسلام، يعبد الناس فيها رباً غير الله تعالى.
ومن صور الإيمان بالطاغوت:تحكيم القوانين الوضعية في الأنفس والدماء والأموال والأعراض في بلاد المسلمين.. وهذا بلاء عم وطم، ومع الأسف أن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم لا يفرقون بين الإسلام وبين هذه القوانين، وربما فضل بعضهم هذا القانون على دين الله عز وجل وشرعه، لأن في هذا القانون -مثلاً- مصلحة شخصية له، أو تسهيلاً عليه في أمر من الأمور، أو لأنه يعتقد أن في الإسلام قسوة أو شدة أو أحكاماً لا تتناسب مع هذا الواقع، وهذا كله كفر بالله العظيم، مؤدٍ إلى الردة الكاملة، وخروج معتقد ذلك وفاعله عن دين الإسلام إلى دين الطاغوت والعياذ بالله.
ومن الإيمان بالطاغوت: أن يفضل الإنسان في واقع حياته الأشياء الدنيوية على الأمور الأصولية التي لا قيام للإسلام إلا بها.. فمثلاً: تجد من الشباب من يسمع منادِ الله عز وجل في كل يوم -حي على الصلاة حي على الفلاح- وبيته مجاور للمسجد، فلم تحدثه نفسه يوماً من الدهر أن يجيب هذا المنادي، ويقول: لبيك يا رب، ويأتي إلى المسجد ليصلي مع المسلمين، أو حتى يصلي في بيته، لكنه يسمع خبراً في الإذاعة أو في الجريدة أو في غيرها أن هناك دورة ألعاب تقام في مشرق الأرض أو في مغربها أو في أي أرض من الدنيا؛ فيتجشم الصعوبات، ويزيل العقبات! فإن كان عنده اختبار أجله، أو عنده ظروف تغلَّب عليها، ولو كان أهله أو أقاربه في أمس الحاجة إليه، ضرب بذلك كله عرض الحائط، وذهب من أجل هذا الأمر!
فهذا يؤكد لك: أن هذا الشاب الذي استجاب لنداء الشيطان -في هذا الأمر- ولم يستجب لنداء الله تعالى -الذي يطرق أذنه خمس مرات- أن هذا الإنسان مؤمنٌ بهذا الطاغوت الذي ملأ قلبه حتى لم يعد في قلبه محلٌ لغيره، ولذلك يترك الصلاة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وفي الحديث الآخر في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} -وكل هذه أحاديث صحاح- ويرضى بالكفر، في حين أنه يرتكب أشد الصعوبات من أجل حضور مباريات رياضية.
وقل مثل ذلك في أمور أخرى كثيرة.
ومن صور عدم تحقيق العبودية لله والكفر بالطاغوت:أنك تجد كثيراً من الناس قد أصبحوا عبيداً للدرهم والدينار والقرش والريال.
ولا يلزم من ذلك أن يصنعوا تمثالاً من ذلك، لكن أصبح هذا القرش أو الريال هو المعبود في قلوبهم؛ ولذلك في الصحيحين عن أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة.. إلى آخر الحديث}.
فسماه عبداً لهذه الأشياء، فنحن نجد أناساً عبيداً لهذه الأشياء إما عبودية مطلقة، أو عبودية جزئية، فمن عبيد هذه الأشياء عبودية مطلقة: من فضلوها على الأصول التي لا قوام للإسلام إلا بها، كمن يشتغل بالدنيا بالحلال والحرام وبالمضاربات الربوية، وبكل وسيلة... وبالختل والغش والخداع ومع ذلك تجد أنه في سبيل هذه الأشياء، قد يهزأ بالأمور الدينية، فقد يسخر بمن يحرمون الربا أو يمنعونه، أو بمن يوجبون الزكاة، أو بمن يذكرونه بالله عز وجل، وقد يعتبر من الجنون: أن يفوت الإنسان صفقة تجارية مراعاةً لحكم شرع، فهذا عبد العبودية المطلقة لهذا القرش والريال.
وقد تكون عبودية جزئية، كمن يكون قائماً بفروض الإسلام لكن قد غلب على قلبه حب هذه الأشياء، والاشتغال بها حتى فضلها على بعض الواجبات.
فكل هذه الأنواع هي نوعٌ من الإيمان بالطاغوت، والمسلم لا بد أن يكفر بالطاغوت أولاً، ثم لا بد أن يؤمن بالله تعالى ثانياً، فلا بد من أن يخلي قلبه من عبادة الطاغوت والإيمان به، ثم يملأ قلبه بالإيمان بالله تعالى، وعبادته، والتوجه إليه.
ولذلك كانت كلمة الشهادة -لا إله إلا الله- فيها نفي وإثبات؛ نفي الألوهية عن غير الله -وهذا يعني الكفر بالطاغوت- وإثبات الألوهية لله وحده، وهذا كقوله تعالى:لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256].
إذاً فتحقيق العبودية لله تعالى والكفر بالطاغوت هو من الرضى بالله تعالى ربا.
فهذه الأشياء كلها لا بد أن يعلم المسلم أنها داخلة ضمن قوله: رضيت بالله رباً، يعني آمنت به خالقاً رازقاً محيياً مميتاً لا شريك له في ذلك، ورضيت بقضائه وقدره على نفسي وأهلي ومالي وكل ما يتعلق بي، وقنعت بما رزقني وأعطاني فلا أتسخط على ذلك ولا أجزع منه، وتوجهت إليه بالعبادة فلا أعبد معه غيره.
فكل هذه الأشياء هي داخلة ضمن حقيقة الرضا بالله تعالى رباً.
وأما الرضا بالإسلام ديناً فيعني أموراً:
أولاً: الإيمان بالإسلام وأنه هو النظام والدين الوحيد الذي لا يقبل الله تعالى من أحدٍ ديناً سواه، ولا ينجو في الآخرة ويدخل الجنة إلا أهله.
فمن اعتقد أن هناك طريقاً آخر إلى مرضاة الله والجنة غير الإسلام -مع الإسلام، أو من دونه- فهو مرتد، وهذا كما يوجد عند كثيرٍ من المنتسبين إلى الإسلام -مع الأسف الشديد- من اعتقادهم أن دين اليهود بالنسبة لليهود حق، ودين النصارى بالنسبة للنصارى حق، ودين المسلمين بالنسبة للمسلمين حق، فكأنهم يقولون: كل هذه طرق موصلة إلى الله تعالى، وأنت تجد مثل هذه الكتابات في بعض ما تكتبه مجلة العربي وتجد هذه الكتابات واضحة في فكر ذلك الكاتب المغربي المسمى: محمد أركون.
فتجد التشكيك في أن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، الذي لا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه، فلا بد لمن رضي بالإسلام ديناً أن يعرف أن الرضا بالإسلام ديناً يقتضي أن تدرك أنه من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وأنه لا طريق إلى رضوان الله والجنة إلا الإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: تطبيق هذا الإسلام في واقع حياتك تطبيقاً عملياً، أما من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يرضى في واقع حياته بدينٍ آخر، أو بأديان شتى؛ فهذا من التناقض الذي لا يرضاه الله للمؤمنين.
أرأيتم من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يتعامل بالربا ويرضاه ويقر به؟! أين الرضا بالإسلام؟ أين الرضا بحقيقة الإسلام؟
أرأيت من يقول رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقر نظاماً اجتماعياً مخالفاً للإسلام، فيطالب بمنع الطلاق إلا عند القاضي، بحيث لا يقع الطلاق -ولو نطق به الزوج- إلا عند القاضي ووفق ضوابط معينة، أو يطالب بمنع تعدد الزوجات، أو يطالب بأشياء اجتماعية في قضايا المرأة والعلاقات الاجتماعية، تناوئ وتناقض دين الإسلام؟
هل يرضى الله عز وجل من إنسان أن يقول بلسانه: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقول في واقع حياته بصورة عملية -فيقول حاله إن لم يقل مقاله- إنه رضي بـالاشتراكية ديناً، أو بـ القومية، أو بالقانون الفلاني، أو بالنظرية الفلانية، أو بالنظام الفلاني ديناً؟! هذا لا يكون.
بل هذا إن قال: رضيت بالإسلام ديناً؛ فإن دين الله وشرعه يقول له: كذبت، أنت لم ترض بالإسلام ديناً؛ فالذي يرضى بالإسلام ديناً يعني أنه اختار طريق الإسلام على غيره، ولو ترتب على ذلك بعض الخسائر الدنيوية.
فالإسلام له تضحيات، ومن يرضى بالإسلام سيضحي بأشياء، فقد يضحي ببعض المال، وقد يضحي ببعض المكانة، وقد يضحي ببعض العلاقات في سبيل تحقيق الإسلام، والرضا به، ولو كسب ذلك غيره ممن لم يرض حقيقة الرضا بدين الإسلام.
ثالثاً: أن تجعل الإسلام هو الحكم في علاقتك بالناس، فتوالي وتعادي فيه، فمن كان من أهل الإسلام أحببته وواليته، وإن كان من غير جنسيتك أو من غير بلدك أو من غير طبقتك، ولو لم ينفعك بأمر من الأمور؛ ومن كان عدواً للإسلام مناوئاً له حاربته وأبغضته، ولو كان أقرب قريب، ولو كان جارك أو أخاك أو ابنك، ولو كان ينفعك في أمور كثيرة من أمورك الدنيوية؛ فالمقياس عندك في علاقتك مع الناس هو الإسلام.
وهذه القضية مهمة -أيها الإخوة- ونحن نرى اليوم في مجتمعنا أعداداً من الشباب قد انسلخوا من هذا الدين والعياذ بالله وتطلعوا إلى غيره من الأديان البشرية الأرضية، والنظم الوضعية، والمذاهب الإلحادية وغيرها. وأصبحوا يتكلمون عن ذلك في المجالس ويجاهرون به، وقد يجتمع أفراد العائلة كباراً وصغاراً، فينبري من بينهم شابٌ حدث السن، قليل العلم غراً، فيهجم على قضايا الدين، وعلى أهل الإسلام؛ وقد يتكلم في الله تعالى أو في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في بعض نظم الإسلام وتشريعاته بملء فمه؛ ثم لا يجد من هؤلاء من ينكره عليه، أو يبين وجوب البراءة من هذا الإنسان ومحاربته بعد إقامة الحجة عليه، فقد لا تجد ذلك أحياناً.
فالواقع أننا اليوم ونحن نجد هذه البوادر الخطيرة من انسلاخ بعض ذراري المسلمين من هذا الدين، يجب أن نتنبه أن من الرضا بالإسلام ديناً أن نحكم الإسلام في علاقتنا بالناس.
فكم من أبٍ حارب في الله ابنه وكم من أخٍ حارب في الله أخاه!!
وهذا أيضاً يشمل أموراً منها:
فلابد أن تؤمن بالنبوة والرسالة، فهو نبيٌ صلى الله عليه وسلم مكلفٌ بتبليغ هذه الدعوة إلى جميع الناس، ولا يمكن أن يوجد معه أو بعده نبي آخر ينسخ دينه عليه الصلاة والسلام.
ومثله من يعتقد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست واجبة، فليس ضرورياً أن نطيعه، فنحن نصدقه لكن لا نطيعه، فهذا غير مسلم بل هو كافر؛ فمن لم يلتزم بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، كافر ولو اعترف بنبوته، واعترف برسالته وأحبه، فهو كافر إذا لم يعترف بوجوب اتباعه وطاعته ولم يلتزم بذلك.
ولذلك روى مسلم في كتاب الحيض من صحيحه عن ثوبان {أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا محمد! إني سائلك، قال
بل في رواية عند الترمذي وغيره، أنهما كانا رجلين فقبلا يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه، وقالا له: إنك لنبي، ولكن مع اعترافهم بنبوته لم يطيعوه؛ إما لأنهم ينتظرون نبياً آخر بعده من بني إسرائيل -كما زعم بعضهم- أو لأنهم يخافون أن تقتلهم اليهود، أو للتعصب، وهذا هو الغالب.
والمهم أنهم لم يلتزموا بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ولذلك فإن التزام وجوب طاعته شرطٌ أساسي في صحة الشهادة.
ولذلك قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله، واليوم الآخر فله مقنعٌ وكفاية بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه في دقيق الأمور وجليلها.
فكثير من الناس يقرءون ما يكتبه المستشرقون، ومن سار على خطاهم من المرتدين المنسلخين عن هذا الدين، فقد يسبق إلى قلوبهم شيء من ذلك، أو لا تنكره قلوبهم؛ والذي رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغضب من النيل منه أو الحط من قدره أو التعرض لشخصيته؛ أكثر مما يغضب لو تعرض أحدٌ لشخصيته هو، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن أنس: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان -و ذكر منها- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما}.
فالواحد من الناس قد يغضب لو سمع سباً أو شتماً في جدٍّ من أجداده أو في قبيلته؛ ولكنه قد يسمع -أحياناً- أو يقرأ في الصحف، أو في بعض الكتب، أو في بعض الأجهزة الإعلامية نيلاً من الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة مباشرة أو غير مباشرة فلا يغضب كما يغضب من ذلك؛ فقد ينـزل في السوق -أحياناً- كتاب يتكلم عن أنساب بعض القبائل، ويكون في هذا الكتاب نوعٌ من الأخطاء العلمية كنسب قبيلة إلى غير نسبتها الصحيحة، أو أخرج عائلة من القبيلة الحقيقة التي تنتسب إليها، فتجد هؤلاء الأفراد المنتسبين إلى هذا البطن أو الفخذ أو القبيلة تثور ثائرتهم، ويغضبون ويوصلون الأمر إلى الأجهزة العليا، حتى يسحب هذا الكتاب ويعاقب صاحبه ويعاد الحق إلى نصابه -وهذا لا يلامون فيه- لكن الشيء الذي نطالب به: هو أن يكون غضبنا لله ولرسوله ولدينه أشد من غضبنا لأشخاصنا، أو لأنسابنا، أو لقبائلنا، أو لأمورنا الدنيوية المتعلقة بنا، من فعل هذه الأشياء السابقة.
أولاً: أن يمنحه الله إيماناً يجد لذته في قلبه، وهذا أغلى ما يطمح إليه إنسان في هذه الدنيا.
ثانياً: أن تغفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن يرضيه الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ويجعله من أهل الجنة، وأي مطلب يبحث عنه إنسان فوق هذا!
لكن هذه الأشياء لا تجعل الإنسان ينكص عن قول هذه الكلمة، بزعم أني أخشى أن أكون لم أحققها! لا، قل هذه الكلمة، وافهم معناها، واحرص على تطبيق مقتضاها بكل ما تستطيع، ولا يمنعك الضعف في تطبيق أمرٍ من الأمور عن غيره، فلا شك أن المحافظة عليها صباحاً ومساءً باللسان أمرٌ مشروع.
فلا ينبغي أن يفهم من إيضاح معناها: أن يترك الإنسان النطق بهذه الكلمة؛ لأنه يقول لم أحقق معناها.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده رسولنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: مقولة كفر دون كفر هذه، ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] فقال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، أي: الخوارج، وإنما هو كفر دون كفر، وهي صحيحة كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، كل هذه الأشياء صحيحة، بمعنى أن الكفر كفران:
أولاً: كفر أكبر ينقل عن الملة: وذلك كعبادة غير الله أو دعائه، أو الشرك بالله تعالى، أو اعتقاد أن هناك نظاماً خيراً من نظام الإسلام، أو مثله، أو اعتقاد أن الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا العصر مثلاً، أو تحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين ودمائهم وأموالهم، واستباحة ذلك.
فكل هذه الأشياء هي من الكفر الأكبر الناقل عن الملة.
أما النوع الثاني: فهو كفر دون كفر، وذلك كما ورد في نصوص كثيرة أنه: {أيما عبد أبق من مولاه فقد كفر حتى يرجع إليه} أو أن: {من أتى امرأة في دبرها فقد كفر} أو {من انتسب إلى غير مواليه، أو إلى غير أبيه فقد كفر} أو قوله عليه الصلاة والسلام: {ثنتان من أمتي هما بهم كفرٌ، الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت} إلى غير ذلك من الأمثلة.
فكل هذه الأشياء هي من كفر المعصية -الكفر الأصغر- فهو كفر لا يخرج عن الملة، وقل مثل ذلك في الفسق، فالفسق قد يطلق على الكفر كما في قوله تعالى:أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقا [السجدة:18] يعني كمن كان كافراً، لقوله بعد ذلك: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة:20].
فالفسق قد يكون فسقاً أكبر، يعني: كفراً مخرجاً من الملة، وقد يكون فسقاً دون ذلك كسائر المعاصي التي يرتكبها الإنسان.
وكذلك الظلم قد يكون ظلماً أكبر بالكفر، كما في قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وقد يكون ظلماً دون ذلك كظلم الإنسان نفسه بألوان المعاصي.
الجواب: ما دامت أختك محافظة على الصلاة فصلتها حقٌ، وكونك تصلها بالزيارة والمساعدة والمال وغير ذلك؛ فكل ذلك مشروع.
أما ولدها فلا تعطه شيئاً، ولا تساعده في هذه الأمور.. إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحافظ على الصلاة.
وأما الحق الذي عليك له -إن استطعت- فهو: أن تناصحه في الله تعالى، وتبين له عظم شأن الصلاة ووجوب أدائها وما أشبه ذلك؛ فإن لم يُجدِ فيه شيئاً؛ كان عليك أن تبين لأختك الطريقة الصحيحة في معاملة هذا الولد، بالضغط عليه حتى يصلي، أو هجرانه ومباعدته وإبعاده عن المنـزل -متى كان ذلك ممكناً- وأما صلتك لأختك فلا شيء فيه.
الجواب: أحبك الله كما أحببتني فيه، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياك وجميع إخواننا المستمعين وجميع المسلمين ممن رضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأن يميتنا على ذلك.
أما مسألة تمني هذه الخصال الحميدة، فسبق الكلام عنها خلال الكلمة السابقة، فهذه من الأمور الخيرة والصالحة التي ينبغي للإنسان أن ينظر فيها إلى من هو فوقه، ويحرص على الوصول إلى ما وصل إليه؛ فإن هذه الخصال من الإسلام، والحرص على تحقيقها أمر مشروع، ولا ينافي الرضا بل هو أمر مطلوب كما ذكرت.
الجواب: وجهنا الله تعالى إلى ذلك حيث قال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32] فسؤال الإنسان ربه من فضله أمر من العبادة، والدعاء هو العبادة: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وكون الإنسان كلما نـزلت به حاجة أنـزلها بالله، فهذا من ثقته بالله، فحسن بالإنسان أن يسأل الله تعالى كل ما يحتاج من الأمور:
لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب |
لكن عليك ألَّا تنظر إلى من هو فوقك فتحسده على ما هو فيه، كمن تقدم عليك في الدراسة أو في المال أو في غير ذلك؛ ثم عليك أن تتطلع إلى الآخرة أكثر من أن تتطلع إلى الدنيا، فلا تجعل همك الدنيا، وسؤالك الله أموراً دنيوية بحتة؛ بل احرص على أن تسأل أموراً أخروية أكثر من أن تسأل هذه الأمور الدنيوية.
الجواب: إن كان السائل يقصد: زيادة وبالقرآن إماماً، فلا تشرع هذه الزيادة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رضيت به رسولاً أرشدك على أن تقتصر على هذه العبارات الثلاث: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.. وإلا فقد يتطلب منك الأمر -إذا أردت الدخول في التفاصيل- أشياء كثيرة، تبين أنك رضيت بها، كأن -مثلاً- ترضى بالصحابة مبلغين للدين، أو ترضى بالإٍسلام في منهج كذا أو في منهج كذا، أو ما أشبه ذلك، لكن رضاك بالله تعالى وبالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن رضاك بالقرآن؛ لأن الذي جاء بالقرآن هو الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، فالقرآن كلام الله، ومادمت رضيت به فقد رضيت بكتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وما دمت رضيت به فقد آمنت بهذا البلاغ الذي جاءك به، والدين الذي قرره القرآن هو الإسلام؛ ولذلك -مثلاً- الإيمان بالآخرة وبالجنة وبالنار وبالملائكة وبغيرهم... كل هذا في الجملة داخل في العبارة السابقة، بدون حاجة إلى التفصيل؛ لأنك إذا رضيت بالله وبالرسول عليه الصلاة والسلام، وآمنت به فالمعنى أنك آمنت بكل ما جاء به، آمنت بالبعث، وآمنت بالجنة بالنار، وبالملائكة، وباليوم الآخر، وبالقدر، وبالنبيين، وبالكتب السابقة، كل هذا داخل في العبارة التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
السؤال: فضيلة الشيخ: ما مدى صحة ثبوت ذكر هذا الدعاء في أذكار الصباح والمساء، مع ذكر من صححه من العلماء؟
الجواب: ذكرت أن الحديث ورد بعدة ألفاظ منها: {من قال: رضيت بالله ربا...} الحديث وهذا في رواية أبي سعيد، ومنها: {من قال حين يمسي} وهذا قد لا أكون ذكرته في حديث ثوبان: {من قال حين يمسي...} وفيه ضعف؛ لأن فيه أبو سعيد سعد بن المرزوبان، وهو ضعيف مدلس.
وفي اللفظ الثالث في حديث أنس من قال: {أيما عبد أو إنسان أو مسلم قال حين يصبح وحين يمسي... وهذا عند ابن ماجة بسند حسن، وهو أيضاً عند أبي داود والنسائي وغيرهما بلفظ مقارب.
الجواب: خيرة أي: لعل ما نـزل بك خيرٌ لك، وإن كنت لا تحبه ولا تتمناه.
أما حزن الإنسان على ما فاته من أمور الخير، فهو من الحزن المحمود الذي ينبغي أن يدفعه إلى أن يعوض وينشط في مستقبل الأيام ويتدارك ما فاته، فهذا الحزن هو أمرٌ جبلي وطبيعي؛ بل هو محمودٌ لأنه يدفع الإنسان إلى المسارعة في أعمال الخير في المستقبل.
أما إن كان هذا الحزن مدعاة لأن يقعد الإنسان، ويقول: فاتني الركب ولا أستطيع! فهو حينئذٍ ينقلب إلى نوع من التحسر المذموم.
الجواب: هذه العبارة لا شك أنها خطأ! لأن قصد القبور للدعاء غير مشروع، بل هو من البدع المحدثة، ثم دعوى أن فلاناً يجاب الدعاء عند قبره؛ فهو الآخر غير صحيح، والذي أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأدعية هو: أن هناك أوقاتاً فاضلة للدعاء، وأحوالاً فاضلة ينبغي للإنسان أن يتحراها؛ وكذلك أرشدنا إلى ألفاظ وعبارات وأدعية يحرص الإنسان على معرفتها والدعاء بها.
أما قصد قبر أحد، فهو بدعةٌ محرمة، ودعوى أن الدعاء يستجاب عند قبره هي خطأ وغير صحيحة وكلٌ يأخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: كونه محبوباً من جميع الناس، فهذا يطلب المحال! لكن يكون محبوباً من أهل الخير والصالحين، فهذا قد يكون ممكناً، ومن أعظم وسائله: أن يصلح ما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الله إذا رضي عن العبد أحبه، وإذا أحبه كتب محبته في قلوب عباده الصالحين -كما ورد في الحديث الصحيح- ومن أهم وسائله: الإحسان إلى الخلق.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم |
وليس المقصود أن يستعبد الإنسان قلوب الناس؛ إنما المقصود: أن الإحسان سببٌ في توجه قلوب الناس لهذا الإنسان بالمحبة.
الجواب: أما دفع الضر: فهو مطلوب، والإنسان وغير الإنسان بطبيعته يحاول أن يدفع الضر عن نفسه ما استطاع.
فدفع الضر عن الإنسان مطلوب! بل لا يسع الإنسان شرعاً أن يعلم أن هناك ضرراً سيصيبه وهو يستطيع دفعه فلا يدفعه؛ فهو كغيره من الأسباب المشروعة.
أما من لا يعرف هذه الكلمة ولا يعلم معانيها ولا يحاول التغيير؛ فينبغي أن يعلم -وقد بينت- أن قول هذه الكلمة بحد ذاته هو ذكر لله تعالى، يؤجر عليه الإنسان إذا صلحت نيته.
الجواب: هذا الكلام ليس في مجلة اليقظة فحسب، بل في كثير من هذه المجلات التي أصبحت تغص بها مكتباتنا بل وبقالاتنا، وهذا الكلام بطلانه لا يحتاج إلى أمر، ونحن لسنا نتلقى الحكم على هذه الأشياء من مجلة اليقظة، أو مجلة سيدتي أو غيرها؛ بل نحن -بحمد الله- قد عرفنا طريقنا، فلا نأبه بهذه الأشياء؛ لكن هناك كثير من المغفلين من المسلمين تتسلل هذه الأفكار إلى عقولهم ذكوراً وإناثاَ!
ولذلك أقول: إن الواجب على كل فرد منا، أن يجعل من نفسه جندياً عند باب بيته، فيفتش البضائع التي تدخل: كل مجلة، أو فكرة، بل وكل كتاب أو شريط أو أشياء معينة حتى لا يدخل إلا المواد النافعة، ويكون في يقظته وانتباهه كالجندي الذي يمسك بالمدفعية في قلب المعركة، فهو يتوقع الهجوم في كل لحظة!
وبهذه الصورة يمكن أن يحافظ الإنسان على بيته.
ثم إن هناك واجباً عاماً علينا تجاه المجتمع: وهو أن الإنسان إذا وجد مثل هذه الأشياء ورآها؛ يحاول أن يكتب عنها سواء كتب في الصحف أو كتب للمشايخ والعلماء، أو كتب للمسئولين في وزارة الإعلام، لأنه مع كثرة الضيق والتبرم من هذه الأشياء وكثرة الشكوى، ينتبه من كان غافلاً.
ولذلك فقد قرأت اليوم في إحدى الصحف: أن وزارة الإعلام قد منعت دخول ثلاثة وعشرين مجلة من هذه المجلات الفنية المتخصصة؛ وهذه خطوة طيبة كان يجب أن تتم منذ زمن طويل، لكن ربما تكون -مثل- هذه الخطوة بسبب جهود بعض الناس في الكتابة عنها، والتنبيه عليها.
وكذلك بعض الأفلام: علمت أنها منعت بسبب أنه كتب عنها، فلو أن كل إنسان اطلع على مثل هذا الشر كتب عنه للمشايخ والعلماء أو للمسئولين في الإعلام أو لغيرهم، وردَّ عليها في الصحف، فسيصبح هناك رأي عام عند الناس معارض لهذه الأشياء.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر