وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع هذه الآيات من سورة الشورى، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:42-46].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:42].
طريق الانتقام والقتل هي طريق الذين يظلمون الناس في أعراضهم، وأبدانهم، وأموالهم، ودينهم، هؤلاء سبيل الله مفتوحة إليهم ليُقتلوا ويعذبوا، أما الذين لا يظلمون ولا يبغون فليس لنا أن نؤذيهم بحال من الأحوال، لكن الذين نقاتلهم ونردهم إلى الصواب ونشدد عليهم الضغط حتى يتوبوا ويرجعوا هم الذين يخرجون عن طاعة الله ورسوله ويفسقون عن أمرهما، فيعتدون على أعراض المسلمين وعلى أبدانهم وأموالهم، فهؤلاء فتح الله الطريق لنا لنأخذهم: إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى:42] سبيل القتل والتدمير عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42] موجع، ألا وهو عذاب الآخرة وعذاب الدنيا أيضاً.
فعلى الحاكم المؤمن إذا وجد جماعة تظلم وتعتدي وتقتل أن ينتقم منها ويضربها بهذه الآية الكريمة: إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى:42] سبيل القتل والتعذيب على من؟ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42]، فإذا ظهرت جماعة تضرب وتعتدي وتظلم وتقتل فعليه أن يقاتلهم وأن ينتقم منهم بإذن الله في هذه الآية الكريمة.
واسمع النص: إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى:42] أي: سبيل القتل والتعذيب، عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42] فيجوز قتلهم وقتالهم، وعذابهم في الآخرة موجع ومؤلم.
إذاً: هناك فرق بين جماعة تقتل المسلمين وتذبحهم وتدمرهم، وبين شخص يعتدي على شخص، فالجماعة التي تقاتل المسلمين وتبغي عليهم ظلماً وعدواناً يقاتلون، أذن الله في قتالهم، وفتح السبيل إليهم، ومؤمن ظلم آخر لجهله أو فسقه؛ فإن صبر ولم ينتقم فذلك خير له، ولكن لو أخذ حقه -كما تقدم- فيجوز له ذلك، أخذ شاتك تأخذ شاته، أخذ إزارك تأخذ إزاره، ومع هذا لو صبرت لكان خيراً.
إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى:42] الموصل إلى القتل والتدمير عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:42] هؤلاء أذن الله لنا في قتالهم وتعذيبهم وتشريدهم؛ لأنهم ظلموا وبغوا واعتدوا.
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42] زيادة على عذاب المؤمنين الذين قتلوهم وآذوهم، فهناك عذاب أليم يوم القيامة.
ويبقى مؤمن آذى مؤمناً، لا جماعة متلصصة مجرمة، بل مؤمن آذى مؤمناً فسبه، شتمه، سلبه ريالاً من جيبه؛ فهنا له أن يأخذ بحقه، ما في ذلك شك، وله أن يتنازل ويصبر ويفوض أمره إلى الله، لقول الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43] الأمور التي يرغب الله تعالى فيها.
يقول تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى:42] للقتل والتدمير على من؟ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى:42] يسلبون أموالهم، يقتلون أطفالهم، يذبحونهم، يأكلون أموالهم.. هؤلاء فتح الله الطريق لنا وقال: اقتلوهم ولا ترحموهم.
ويبقى مؤمن جاهل اعتدى على مؤمن؛ فللمؤمن أن يأخذ بحقه عند الحاكم أو بيده ولا حرج، ولكن لو صبر وغفر لكان خيراً له، فيقول: سامحناك وعفونا عنك.
هذا معنى قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42] هذا عذاب الآخرة والدنيا، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].
يقول تعالى: إذا أضللت عبداً من عبادي فلن يهتدي ولن يجد من يهديه، إذا أضل الله عبداً فلا تكرب ولا تحزن، ما يقبل الهداية ولا يهتدي، وهذه عامة في كل زمان ومكان.
فعلى الدعاة الهداة أن يدعوا، فإذا ما استجاب هذا الشخص لأن الله أضله فلن يهتدي، ولن يقوى أحد على هدايته، ومن يضلل الله من عباده فما له من ولي بعد الله يهديه، ومعنى هذا: أن الهداية تطلب من الله.
فيا عباد الله! يا إماء الله! أكثروا من طلب الهداية من الله، فمن هداه الله فلن يضل ومن أضله الله فلن يهتدي، ومن هم الذين يضلهم الله؟
الذين يتعمدون الفسق والفجور والظلم والشر، ويتوغلون في الكفر والفساد، هؤلاء ما يهتدون، فطرهم ما تقبل الهداية، حيث توغلوا في الشر والظلم والفساد، وأما من طلب الهداية فوالله! لا يحرمه الله، بل يهديه.
وعلى سبيل المثال: شخص يشرب الخمر، فلو شربها يوماً أو يومين أو أسبوعاً فقد يستطيع أن يرجع، لكن إذا توغل فيها سنين ليلاً ونهاراً فلن يرجع، ولن يهتدي، وشخص توغل في الظلم والخبث والشر والفساد وطغى، فلن يقبل الهداية مهما بكيت أمامه ودعوته.
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه المشركين ولم يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم.
وشيء آخر أخبر تعالى عنه: والله! لو أحياهم وردهم لفسقوا، لو فرضنا أن الله ردهم إلى الحياة الدنيا وطلب منهم الهداية فوالله! لا يهتدون؛ لأنهم مصرون على المعاصي، ثم يقولون: ها هو يردنا مرة ثانية! لكن الله عز وجل خلق الحياتين الأولى والثانية، انتهت الأولى فما يمكن أن يرد الناس إليها من جديد.
وَتَرَى الظَّالِمِينَ [الشورى:44] من هم الظالمون؟ الفسقة الفجرة الخارجون عن طاعة الله ورسوله السفاكون للدماء، المنتهكون للأعراض، العابدون للشيطان، المطيعون للأباليس من الإنس والجن، هؤلاء هم الظالمون الذين خرجوا عن طريق الهدى وسبيل الصلاح، فهؤلاء حين يشاهدون العذاب يقولون: هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44]؟ يتمنون ولا يستجاب لهم، ويلقى بهم في جهنم.
وهذا تسمعونه وسوف تشاهدونه: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:44-45] ما يستطيع أن ينظر هكذا، كما إذا كان في يد أحد سيف يريد أن يضربك به، فما تقوى على أن تنظر في السيف، بل تغمض عينيك، فكذلك هؤلاء.
هكذا يعلنها المؤمنون في الجنة: وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45] لا يزول ولا يتبدل ولا يتغير، عذاب أبدي.
فهل عرفتم ما يقول المؤمنون؟ وأنتم منهم إن شاء الله في الجنة، يعلنون فيقولون: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45] دائم لا يزول ولا يتبدل، فالله نسأل ألا نكون من الظالمين، وألا نؤيد الظالمين، وألا نحب الظالمين، وألا نشاركهم في أعمالهم.
والظلم أوله: ظلمك لله بعبادة الله تعطيها لغيره، وهذا هو الشرك والعياذ بالله تعالى، فهو أعظم الظلم.
ثم ظلمك لنفسك، تصب عليها أطنان الذنوب والآثام، ما حملك على هذا؟ نفسك نفخها الملك فيك طاهرة نقية كهذا النور، فلم تخبثها وتلوثها يا عبد الله بالشرك والكفر والذنوب والآثام؟
ثم ظلمك لغيرك بسفك الدماء، بانتهاك الأعراض، بقتل العباد، وهذا هو الظلم الفاحش والعياذ بالله، هؤلاء هم الظالمون: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [الشورى:45] لا يزول ولا يحول أبداً.
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الشورى:46] ما دام الرب تعالى قد حكم بعذابهم وأدخلهم دار العذاب، فمن ينصرهم؟ من يقول: لا أو يمد يده لهم؟
وختم تعالى هذا السياق بقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:46]، من أضله الله فلا طريق إلى هدايته، لا تبك يا رسول الله ولا تحزن ولا تكرب، يا عبد الله الداعي، يا أمة الله الداعية! ادعي، اسألي، اطلبي، ولكن إذا لم يستجب لك فلا تكربي ولا تحزني؛ لأن الله أضل هذه المرأة فلن تقبل الهداية أبداً.
فالآية تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات؛ لأنه يصرخ وينادي ويطلب وما يستجيبون؛ لأن الله أضلهم، ومن يضلل الله فما له من هاد.
وقد عرفنا سبب إضلال الله للعبد، وهو توغله في الشر والفساد والظلم والشرك والكفر، فيصبح غير قابل للهداية، ما يريدها أبداً، فلهذا من أذنب ذنباً يجب أن يتوب، ما نقيم عاماً ولا شهراً على معصية الله، خشية أن يتوغل ذلك في النفس ونصبح غير قابلين للهداية، فتعظنا وتذكرنا فنضحك ونسخر منك كما نشاهد.
فالتوغل والإكثار من الشر والفساد ومواصلة الظلم -والعياذ بالله تعالى- يصبح صاحبه غير قابل للهداية، تدعوه، تعظه، تذكره، بل تخوفه فما يستجيب، هذه سنة الله عز وجل في عباده.
هكذا يقول تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:46] أي: من طريق إلى هدايته أبداً.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وأياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه ]؛ فلا سبيل على من انتصر لنفسه بعد ظلمه، إذاً: فعلى من السبيل؟ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى:42]، لا سبيل إلى أذية مؤمن أوذي فانتقم ممن آذاه، لا سبيل إلى الانتقام منه أبداً؛ لأنه ظلم فرد ظلمه، لكن السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير حق.
[ ثانياً: وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه ].
وجوب معاقبة الظالمين والضرب على أيديهم، يجب على المسئولين، على الحاكم، على البيت، على الجماعة أن يعاقبوا الذين يظلمون ويفسدون في الأرض، ولا يسكتوا عنهم.
فهنا وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه حتى يتوب، ويكف من أذى المؤمنين والمؤمنات.
[ ثالثاً: فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل ].
فضيلة الصبر والتجاوز عن مؤمن أساء إليك وهو غير باغ ولا ظالم، لكن لجهله اعتدى عليك، فصبرت وعفوت عنه، فهذه حسنة عظيمة، ويرغب الله تعالى فيها المؤمنين.
[ رابعاً: لا أعظم خسراناً ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم ].
فما هناك خسران أعظم ممن يفقد الجنة ويستقر في النار أبداً، أي خسران أعظم من هذا؟ والله! لا خسران أعظم منه، فالذين يدخلون جهنم ويعيشون فيها بلايين السنين هذا الخسران لا يعادله خسران أبداً.
فلهذا يصبر المؤمن على الجوع، على المرض؛ لأنها أيام فقط وينتقل إلى الجنة دار السلام ليسعد فيها ويكمل، فما يحمله الفقر أو العجز على الفسق والفجور فيخسر خسراناً أبدياً، بل يصبر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر