اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: (باب استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح، وتقبيل ولده شفقة، ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء.
وعن أبي الخطاب قتادة قال: قلت لـأنس : (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) رواه البخاري .
وعن أنس رضي الله عنه قال: (لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة) رواه أبو داود .
وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) رواه أبو داود .
هذا آخر باب من كتاب السلام يذكره الإمام النووي في كتابه العظيم (رياض الصالحين).
وفيه استحباب المصافحة عند اللقاء، والمصافحة مأخوذة من الصفحة، أي: صفحة اليد وراحة اليد ووجه اليد، بمعنى أنه تلتقي صفحة يدك مع صفحة يد صاحبك حين تسلم عليه.
فيستحب المصافحة، وجاء في القرآن: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] والتحية: هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتحيي بأحسن منها وتردها، سواء تسلم دون أن تمد يدك أو تسلم وتمد يدك، والأفضل أن تمد يدك وتصافح؛ لأن هذا فيه ثواب كما جاء في هذه الأحاديث.
وكان العرب يظنون أن مد اليد والمصافحة من أخلاق العجم، ولذلك جاء عن البراء (أنه سلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فمد يده مصافحاً) فـالبراء رضي الله عنه يقول: كنت أظنها من أخلاق العجم، يعني: أنا كنت أظن هذا من أدب العجم؛ لأنه لم يكن عند العرب هذا الشيء أو لم يكن مشهوراً عند العرب أنه كلما قابل الرجل أخاه مد يده وصافحه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه ويسلم عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فهنا يقول أنس وقد سئل: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم).
ففي مسند الإمام أحمد عن أنس أيضاً: قال: (لما أقبل أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أرق قلوباً منكم) يعني: يذكر لهم أن الوفد الذين جاءوا من أهل اليمن هم أرق قلوباً منكم.
وفي حديث آخر: قال: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) فمدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليمن الذين قدموا، وكانوا وفد الأشعريين، ومنهم: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فهؤلاء الذين مدحهم النبي صلوات الله وسلامه عليه وقومهم الذين من ورائهم هم أرق قلوباً وأرق أفئدة رضي الله تعالى عنهم، وأكثر قبولاً لهذا الدين من غيرهم.
وفي مسند الإمام أحمد أيضاً عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيقدم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) كأنه يقول لهم: أنتم لما دعوتكم في مكة إلى الإسلام بقيت فيكم ثلاث عشرة سنة، ومع ذلك لم يسلم إلا عدد قليل جداً، لكن أهل اليمن مجرد ما سمعوا بهذا الدين دخلوا في دين الله، وجاءوا بشوق للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي مسند الإمام أحمد يذكر لنا ذلك فيقول أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيقدم عليكم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) يعني: أسرع استجابة لدين الله عز وجل من أهل مكة وأهل المدينة، قال أنس : (فقدم الأشعريون منهم أبو موسى الأشعري ) فلما قدم وفد الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقربوا من المدينة، فهم مع تلهفهم وشوقهم للقاء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون الرجز، وهو نوع من الشعر، فكانوا يرتجزون ويقولون:
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه
من شدة شوقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللقائه ولقاء أصحابه.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أحدثوا المصافحة، فهم عندما جاءوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصافحون، فكأنهم نشروا هذا الشيء الذي كان قبل ذلك قليلاً، كان موجوداً ولكنه قليل، فهم نشروا المصافحة، فيقول أنس رضي الله عنه: (وكانوا هم أول من جاء بالمصافحة)
وفي رواية لهذا الحديث من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله أن يحضر دعاءهما، ولا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما) هنا حق على الله عز وجل أن يحضر الدعاء، والله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فكل إنسان سواء كان مسلماً أو كافراً يقول شيئاً أو يفعل شيئاً فالله عز وجل يشهد ذلك، ولكن هنا كأن الحضور له معنى آخر، يعني: إما حضور لرحمة هؤلاء، وإما حضور لتعذيب هؤلاء، أو شهادة على هؤلاء، فهنا أن حضور الله سبحانه وتعالى يكون على المعنى الخصوصي لهؤلاء بمغفرته وبرحمته، فهو شاهد يشاهد كل شيء، ويحضر مع كل واحد، والله سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب إلينا بفعله سبحانه وبقوته وقدرته، فحضوره سبحانه وتعالى هنا برحمته، فهو سبحانه وتعالى يرحم ويغفر، ويستجيب لدعاء أحدهما لصاحبه، ولا يفرقا بين أيديهما حتى يغفر لهما.
يعني: أن من السنة أنك إذا لقيت أخاك أن تسلم عليه، إما أن تقول: السلام عليكم وأنت مار، وإما أن تقف وتسلم عليه: السلام عليكم وتصافحه بيدك، فهذا أفضل.
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن ينحني الرجل لصاحبه، فلا ينحني أحد لأحد إذا قابله.
كذلك الالتزام والتقبيل هذا ليس من السنة، وهذا كثير بين المسلمين، فتجد الآن كلما يقابل صاحبه يقبله، هذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الالتزام والمعانقة هذا يكون إذا كان الإنسان مسافراً وقدم من سفره، فهذا تلتزمه وتقبله، لكن الذي تقابله بين فترة وأخرى كلما قابلته قبلته وعانقته، ليس ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: يحرم ذلك ولكن يكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك قال له: لا تفعل هذا الشيء، فهو قال: يلتزمه ويقبله؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، فماذا يعمل؟ أيصافحه؟ قال:نعم.
إذاً: السنة إذا قابلت أخاك المصافحة، ولا نزيد شيئاً ليس له أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، حتى لا تصير بين الناس عادة من العادات التي يمكن أن يعملها الإنسان، فقد يلقى أخاه ويسلم عليه ويقبل شماله ويمينه وقد لا يكون في القلب محبة؛ ولكن لأنه قد تعود على هذا الشيء، ولأنه إذا ما عمل كذا فسيقول: هذا يكرهني.
إذاً: السنة أن تسلم وتصافح، والإسلام ليس فيه تمثيل، ولا داعي للمبالغة في الشيء، فإذا قابلت أخي أسلم عليه وأصافحه باليد أو ألقي عليه السلام، وهذا هو الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمبالغة في الشيء تؤدي إلى البدع في دين الله سبحانه وتعالى، فترى الناس يفعلون الشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يخترعون شيئاً جديداً غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما ورد في الحديث: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فيفشي المسلمون السلام؛ لأن إفشاء السلام يغيظ أعداء الإسلام، ويحسدون المسلمين على ذلك، لكن اليوم لا يسلم المسلم على أخيه إلا إذا كان يعرفه، وتراه يزهد في السلام على أخيه كلما لقيه!
والتسليم باليد فيه ثواب عظيم وفيه مغفرة وحب، فأنا حين أسلم عليك وأقول: السلام عليكم، فهذا فيه مغفرة من الله عز وجل.
كذلك بعض الناس يخترعون شيئاً في أمر السلام، فبدل أن يسلم بعضنا على بعض عند الافتراق، يقول الأول: لا إله إلا الله، ويردد الثاني ويقول: محمد رسول الله، نقول: الشهادتان هما أعظم كلمة في دين الله عز وجل، لكن ليس هذا وقتها، هذا من البدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخرى) أي: إذا لقيت أخاك فسلم عليه، فإذا افترقتما فسلم عليه؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسلم حين الافتراق، أن أدعو لك وتدعو لي بالسلامة وبالحياة الكريمة الطيبة وبالبركة من الله، فلا داعي للبدع التي كثرت بين الناس.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، وإسناد الحديث رجاله ثقات، غير التابعي الذي روى هذا الحديث فالحافظ ابن حجر ذكر أنه صدوق، ولكنه تغير حفظه أو ساء حفظه، فعلى ذلك يكون فيه ضعف يسير.
والقصة التي ساقها الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن سلمة ، وعبد الله بن سلمة هو الذي قال عنه الحافظ : صدوق، ولكن كبر فتغير حفظه، وحدث عن صفوان بن عسال وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]).
وفي رواية أخرى يذكر أنه قال: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فنسأله عن هذه الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101] فقال الآخر للأول: لا تقل: إنه نبي؛ فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، وهنا الظاهر أن راوي الحديث حصل له شيء من الخلط في تفسير الآية مع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل آتى موسى تسع آيات بينات منها: اليد والعصا، لكن الحديث ذكر أشياء أخرى، فكأن راوي الحديث ظن أنهما أرادا أن يذهبا ويسألا النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات، مع أنهما سألاه عما حرم الله عز وجل على بني إسرائيل، فاختلطت عليه الآية مع الحديث فذكر ذلك.
ولكن القصة أنهما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهما ما آتى الله عز وجل لموسى من أوامر ونواه لبني إسرائيل، فاليهوديان لما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله).
كأن هذه الأمور من الشريعة التي جاءت لموسى نزلت ليأمر بني إسرائيل بها، وليس في الحديث تفسير التسع الآيات التي جاء بها موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقد آتاه الله عز وجل تسع آيات قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] هذه خمس آيات، وآتاه الله عز وجل اليد والعصا، اليد تخرج بيضا، والعصا تصير كالحية تسعى، هذه من الآيات التي آتاها الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ولما نجى الله بني إسرائيل من فرعون، أنزل الله عز وجل على موسى آيات بينات واضحات مثل هذه الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر بعضها في آية وبعضها في آية أخرى، وبعضها مما جاء أو فهم من القرآن، لكن هنا كأن السؤال عما أَمر موسى بني إسرائيل به من الشريعة التي هم تركوا منها أشياء، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى أمرهم وقال: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله) كأنه كان فيهم هذا الشيء، من أنهم يذهبون بالبريء ويشهدون عليه زوراً فيقتله السلطان وغير ذلك مما ذكر في الحديث.
ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: (وأنتم يا يهود، عليكم خاصة ألا تعملوا في السبت) أي: أن مما أمر الله عز وجل موسى أن يبلغ بني إسرائيل عقوبة لهم ألا يعملوا في السبت يعني: لا تعتدوا في السبت، ولا تعملوا عملاً في يوم السبت، كان عقوبة من الله عز وجل لهم؛ لأن الله سبحانه جعل لهم يوم الجمعة فقالوا: لا نريد الجمعة بل نريد يوم السبت، فقال لهم: يوم السبت هو عيدكم وممنوع عليكم أن تعملوا فيه، بخلافنا نحن أهل الإسلام فإن الله عز وجل جعل يومنا الجمعة ورضينا وقبلنا ذلك، وأباح لنا في هذا اليوم كل شيء، إلا ما هو حرام علينا في غيره من أيام الأسبوع، لكن اليهود رفضوا الجمعة فجعل عيدهم السبت وحرم عليهم أشياء.
كذلك النصارى رفضوا الجمعة وطلبوا الأحد، أما المسلمون فرضوا بعيد الله سبحانه وتعالى يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم، وأنزل فيه آدم إلى الأرض، وتقوم الساعة في هذا اليوم، فكان عيداً لأهل الإسلام.
فنحن الآخرون ولكن يوم القيامة نحن السابقون؛ لأننا قبلنا دين الله سبحانه وتعالى كما أمر، ولم يبدل المسلمون ولم يغيروا، بل أخذوا دين الله على ما أراد الله سبحانه وتعالى.
الغرض في هذا الحديث لما قال اليهودي لصاحبه: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فقال الآخر للأول: لا تقل: نبي؛ لأنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) يعني: كأنه يقول: إنه تقر عينه ويفرح بهذا القول، وحين تقول: فلان هذا حار العين، فهذا يعني: أن عينه حارة من الحزن ومن الغيظ، أما لو قلت: فلان بارد العين، فهذا يعني: أن عينه قارة باردة راضية، كأنه تقر عينه وتفرح.
فاليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فلما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأجابهما قبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: (نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟) هناك فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبين أن يقول: أشهد أنك نبي، كأنهما قالا له: نحن صدقنا أنك نبي، لكن لا نسلم ولا ندخل في دينك، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قالا، فقال لهما: (فما يمنعكما أن تتبعاني؟) يعني: ما دام أنكما عرفتما أني نبي فلم تتركان اتباعي؟ فقالا يتمحلان لعدم الدخول في هذا الدين، مع أنهما يعرفان أنه الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ولا نبي بعده، وعلى فرض أنهما لا يعرفان أنه الخاتم، مهما قالا: نشهد أنك نبي فالنبي معصوم وصادق، فإذا شهدا له بالنبوة فقد شهدا له بالعصمة وأنه لا يكذب، فهو يقول لهما ولغيرهما: أنا رسول إليكم فالواجب عليهما أن يؤمنا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وأنه رسول رب العالمين، وأن يدخلا في دينه، ولكن اليهود عرفوا أنه نبي وقال له بعضهم: نشهد أنك نبي ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فتمحلا بهذا القول وقالا: (إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي) لكن بعد ذلك أظهرا حقيقة الأمر وقالا: (إنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود) يعني: الذي منعهما من الدخول في دين الله سبحانه تبارك وتعالى الخوف من أن تقتلهما اليهود .
الشاهد في هذا الحديث أنهما قبلا يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله، ولم ينكر عليهما صلوات الله وسلامه عليه ما فعلا، فلذلك ذكر الإمام النووي جواز مثل ذلك.
هنا الحديث رواه أبو داود والترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد ، ويزيد بن أبي زياد ضعيف، وهو أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه (أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص) يعني: يذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في غزوة من الغزوات في سرية من السرايا فحاص الناس حيصة كأن الأعداء كانوا كثيرين والصحابة كانوا قلة، فحاص الناس أي: رجعوا وهربوا، قال: وكنت فيمن هربت مع الذي هربوا، فـابن عمر رضي الله عنه هذا الرجل الصحابي الفاضل لم يقل: الناس هربوا وأنا ثبت، لا، حاشا له رضي الله عنه أن يكذب، ولكن يخبر ويقول: حاص الناس فكلنا هربنا ورجعنا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن وهم في الطريق راجعين قال: (فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16] فقالوا: ندخل المدينة ونختبئ فيها، ننظر في أمرنا، قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون) قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن هربنا وجئنا تائبين لله عز وجل، نحن الفرارون، فماذا كان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ قال: (فأقبل إلينا فقال: لا، بل أنتم العكارون) يعني: أنتم لستم فرارين بل أنتم العكارون، ما هو الفرق بين الفرار والكرار والعكار، الفرار هو الذي فر وهرب من المعركة، والكرار هو الذي يقدم على العدو وهو شجاع، أما العكار فهو الذي يقدم ثم يخاف ويرجع ثم يكر مرة ثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم الأمل بأنهم سيرجعون ويقاتلون مرة ثانية، فقال: (بل أنتم العكارون)
فإذاً: العكار هو الذي قد يولي دبره في المعركة ثم يرجع فيكر مرة أخرى، هذا العكار فقال: (لا، بل أنتم العكارون، ففرحوا بذلك بعد ما كادوا ييئسون، قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة كل مسلم) فهذا الحديث فيه بيان أنهم قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث أخرى في هذا المعنى لا يخلو بعضها من مقال، ولكن بمجموعها تفيد جواز تقبيل اليد، ومنها: ما جاء عن أبي لبابة وكعب بن مالك أنهما لما تابا وتاب الله عز وجل عليهما، ذهب أبو لبابة فقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كعب بن مالك وصاحباه ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم وقبلا يده.
وأيضاً جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم فعل مع بعض مثل ذلك، منهم: أبو عبيدة فإنه لما قدم على عمر قبل يد عمر رضي الله تعالى عنه، وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة.
كذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه قبل يد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـزيد بن ثابت الذي كان يكتب القرآن العظيم رضي الله تعالى عنه، وهذا عبد الله بن عباس الذي كان يفسر القرآن العظيم كلاهما عالم من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل زيد وهو أكبر من ابن عباس يد ابن عباس رضي الله عنهما، والسبب في ذلك أن زيداً أراد أن يركب الفرس فـعبد الله بن عباس نظر إلى زيد فقال في نفسه: هذا كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر مني سناً، فتقدم إليه ابن عباس وأمسك بركابه من أجل أن يضع زيد رجله في الركاب، هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما، فلما فعل ذلك إذا بـزيد يأخذ يده ويقبلها رضي الله تعالى عنهما، فهذا تواضع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض.
وجاءت آثار كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري بهذا المعنى: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك معه صلى الله عليه وسلم، فقبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم، فقد جاء عن علي أنه قبل يد العباس عمه رضي الله تعالى عنهما، وجاء عن ثابت أنه قبل يد أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وجاء عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لـابن أبي أوفى : ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فناولنيها فقبلتها.
يقول الإمام النووي رحمه الله: تقبيل الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك لا يكره، بل يستحب إذا كان لأمر من الأمور الدينية، فإن كان لغناه أو لشوكته أو لجاهه عند أهل الدنيا فمكروه كراهةً شديدة.
وقال أبو سعيد المتولي : لا يجوز إلا إذا كان على وجه التقرب إلى الله عز وجل.
لكن لا يكون على وجه العادة، كلما قابل واحداً من أهل العلم أو من كبار السن قبله، لا، يجب ألا يكون مثل النصارى ، ولأنه قد يقوم الخسيس ويقابلهم ويمد لهم يده ويقول: قبلوا يدي.
إذاً: يجب ألا يكون هذا منتشراً بين المسلمين، ولكن الذي كان لو عددنا هذه القصص بأنها قليلة بجنب عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظل مع الصحابة ثلاث وعشرين سنة في الدعوة إلى الله عز وجل، فلو كان هذا يحدث كل يوم لجاءت أحاديث كثيرة في ذلك، ولكن الأحاديث منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فعلى ذلك يقول أهل العلم: إن ذلك يجوز، ولكن لا يكون عادة.
إذاً: الإنسان يقبل يد أمه وأبيه هذا جائز، ويقبل يد من يعلمه، لكن على وجه الندرة، ولا تزكوا أنفسكم، فالله عز وجل أعلم بمن اتقى.
وفي رواية أخرى قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) يعني: أنت تفرح بأنه لا توجد رحمة في قلبك.
هذا الحديث فيه أنه يجوز أن يقبل الإنسان أولاده، وأن هذا مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله مع ابنته فاطمة ، كان يذهب إليها فتقوم له صلى الله عليه وسلم وتقبله وتجلسه في مكانها، وهي حين تأتي إليه صلوات الله وسلامه عليه كان يقوم لها ويقبلها ويجلسها بجواره عليه الصلاة والسلام.
ففيه تقبيل الأب لأولاده ولبناته، وتقبيل الإنسان للقادم من السفر بأن يعتنقه وأن يقبله، لكن لا يكون هذا مع من يلتقي معه في كل صلاة أو في كل يوم، يعني: ينبغي ألا تكون هذه عادة لا بين الرجال بعضهم مع بعض، ولا بين النساء بعضهن مع بعض، إلا على ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر