يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لإمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتكلمنا عن صفة العلو واستواء الله جل وعلا على عرشه والرد على أهل البدع، واليوم إن شاء الله نتكلم عن صفة من الصفات الفعلية للرب جل وعلا وهي: صفة الكلام.
قال المؤلف رحمه الله: ( باب ذكر تكليم الله لموسى عليه السلام خصوصية خصه الله تعالى بها من بين الرسل، بذكر آي مجملة غير مفسرة، فسرتها آيات مفسرات.
قال أبو بكر: نبدأ بذكر تلاوة الآي المجملة غير المفسرة، ثم نثني بعون الله وتوفيقه بالآيات المفسرات.
الأدلة من الكتاب:
قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] .
فأجمل الله تعالى ذكر من كلمه الله في هذه الآية فلم يذكره باسم، ولا نسب، ولا صفة، فيعرف المخاطب بهذه الآية التالي لها، أو سامعها من غيره، أيَّ الرسل الذي كلمه الله من بين الرسل ).
صفة الكلام هي صفة من صفات الأفعال تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، أي: تتجدد، وهي تتعلق بمشيئة الله، وهذا ضابط صفات الأفعال، يعني: إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، فهي من صفات الأفعال الثبوتية لرب البرية جل في علاه.
إن صفة الكلام صفة جليلة ثبتت لله جل وعلا بالكتاب والسنة وبإجماع أهل السنة وبالعقل أيضاً، أما في الكتاب فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ، فالقول كلام، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] ، وقال جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذا تأكيد للمفعول المطلق.
وقال جل وعلا: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] .
وقال جل وعلا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] يعني: الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وهو الذي تكلم.
وثبتت هذه الصفة أيضاً في السنة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً)، وأيضاً في الصحيح: (كان يتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ووجه الشاهد: (بكلمات الله).
ووجه الدلالة: إِضافة الكلمات لله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: إضافة أعيان، وإضافة معانٍ، والمضاف إلى الله جل وعلا إضافة أعيان، مثل: عيسى روح الله، والكعبة بيت الله، وناقة الله، وإضافة الأعيان هي التي قامت بذاتها لله جل وعلا، وهي إضافة تشريف وتكريم وتعظيم.
وأما إضافة المعاني فإن الله جل وعلا عندما يضيف معنى له هذا من باب إضافة الصفة للموصوف، قال الله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180]، مثل قولك: عزة الله، كرم الله، قدرة الله، رحمة الله، فهذا من باب إضافة صفة إلى موصوف، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله) فهو أضاف صفة كلمات، والكلام صفة من صفات رب البرية من باب إضافة الصفة للموصوف.
أيضاً في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله جل وعلا أن يوحي بأمره تكلم بالوحي) .
وأيضاً في مسألة الاستسقاء بالنجوم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟) الشاهد: (قال ربكم) والقول أيضاً يدل على كلام رب البرية سبحانه وتعالى.
أيضاً أجمع سلف الأمة على أن الله يتكلم، وهي صفة كمال وجلال وعظمة لله جل وعلا.
و أبو بكر رضي الله عنه عندما راهن قريشاً على أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون فسألوه: من أين أتى بهذا؟ قال: من كلام ربي، ثم تلا عليهم قول الله جل وعلا الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:1-3] إلى آخر الآيات.
أيضاً كانت عائشة عندما أنزل الله براءتها من فوق سبع سماوات تقول: (وإن شأني أحقر عند نفسي من أن يتكلم الله في بقرآن يتلى إلى يوم القيامة).
و ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يقول: (من أراد أن يختبر حبه لربه جل وعلا فليعرض نفسه على كلام الله، فإن أحب كلام الله -أضاف الكلام لله- فهو يحب الله جل وعلا). كما سنبين كيف نتعبد لله بهذه الصفة الجليلة العظيمة.
إذاً: ثبتت هذه الصفة بالكتاب وبالسنة وبإجماع أهل السنة وأيضاً بالعقل، فالعقل يؤيد أن الله يتكلم، وهذا كمال، والذي لا يستطيع أن يتكلم هذا فيه نقص، فأنت لو اتهمت رجلاً أنه لا يستطيع أن يعرب عن نفسه أو اتهمته بأنه لا يستطيع الكلام لنزه نفسه عن ذلك إن كان متكلماً، فهو لا ينزه نفسه إلا عن صفة نقص، فإن كانت عدم استطاعة الكلام من النقص وينزه عنها المخلوق فمن باب أولى أن ينزه الخالق عن هذا.
أيضاً إذا اتصف المخلوق بالكمال وهو تمام الكلام فالله أولى أن يتصف بالكلام، يعني: ثبتت هذه الصفة الجليلة لله جل وعلا أنه يتكلم بما شاء كيف شاء وقتما شاء حيثما شاء سبحانه جل في علاه، فإذا ثبت ذلك فإن الله تكلم مع بعض المخلوقات، وأسمعهم صوته الجليل سبحانه وتعالى، اللهم أسمعنا صوتك صوت الرحمة فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] .
وتكلم الله جل وعلا مع الجنة ومع النار، كما قال الله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ [ق:30] من الذي يقول؟ الله جل وعلا، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ [ق:30] فسمعت النار كلام الله جل وعلا وصوت الله.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة والنار اختصمتا، فقال الله للنار: أنت عذابي -وهي تسمع ذلك- أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فهذه دلالة على أن الجنة والنار سمعتا صوت الرب جل في علاه.
وأيضاً في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة؛ خوفاً من الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا).
وأيضاً تكلم الله مع الخلق عامة، تكلم الله معنا، لكننا ننسى ولا ندري، كما ورد في مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بنعمان -يعني: بعرفات- فأخرج كل ذرية له فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟) هم يسمعون صوت الله جل وعلا، وكلنا شاهد هذا المشهد وسمع هذا الصوت لكننا لا نتذكر، ونسأل الله جل وعلا أن يذكرنا عندما نسمعه في الجنة، فقال الله تعالى: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى) يعني: شهدوا بأن الله هو الرب الجليل الواحد الأحد المستحق للعبادة سبحانه جل في علاه.
وأيضاً يتكلم مع جميع الخلق، المؤمن البار، والفاسق الفاجر، والكافر الفاجر على عرصات يوم القيامة، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح قال: (إن الله جل وعلا عندما يحشر الخلائق يوم القيامة يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) من أول خليقة إلى آخر خليقة يناديهم جميعاً بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.
وأيضاً الله جل وعلا يتكلم مع أهل الجنة خاصة، فيكلمهم كلام الرحمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى أنه قال: (يقول تعالى: لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول: هل تريدون شيئاً؟ أو قال: هل أرضيتكم؟) إلى آخر الحديث.
الشاهد: أن الله جل وعلا ينادي أهل الجنة: (يا أهل الجنة) فيسمعون كلام الله جل وعلا.
وأيضاً كل جمعة هناك تزاور ويسمى يوم المزيد، وهو اليوم الذي يزورون فيه الله جل وعلا، فالذي يغتسل يوم الجمعة ويسارع إلى صلاة الجمعة وإلى ذكر الله جل وعلا والطاعات هو الذي سيسارع إلى يوم المزيد، فيتسابق مع الخلق إلى المكان القريب من الله جل وعلا، ويرى من كرامته ويسمع من صوته جل في علاه، فيكلم أهل الجنة خاصة كرامة وتشريفاً وتعظيماً لهم، وهو نعيم ومتاع ليس بعده متاع حين يسمعون صوت الله جل في علاه.
وأيضاً يتكلم الله جل وعلا مع أهل النار خاصة عندما يبكتهم ويقرعهم ويرد عليهم تخاصمهم، قال الله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28] هذا كلام خاص لأهل النار تبكيتاً وتقريعاً، نعوذ بالله أن نكون منهم.
وأيضاً الله جل وعلا يقول: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] ، لكن هذا الصوت لا يتمتعون به، بل يرهبون ويصعقون لعظمة الله وجلال الله وقدرة الله، ويظهر عليهم في عرصات يوم القيامة جبروت الله.
وأيضاً وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] .
وأيضاً قول الله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة:33]، هذا يخص آدم.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لآدم: يا آدم! ابعث بعث النار) فقوله: (يا آدم) هذا هو الشاهد، (فيسمع آدم الصوت فيقول: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول: ابعث بعث النار ..) إلى آخر الحديث، وهذا الكلام أيضاً يخص آدم به فهو يسمع صوت الله جل في علاه.
وقال جل وعلا: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] .
وقال جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] .
هذا اصطفاء واجتباء وتفضيل وتكريم من الله لبعض عباده وبعض رسله وهو موسى عليه السلام.
إذاً: اصطفى الله آدم فكلمه، واصطفى موسى فكلمه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كلمه وخصه وشرفه وعظمه وكرمه بهذا الكلام.
وأيضاً لما تكبر على السجود لآدم: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر:34-35] ، هذا أيضاً الكلام للشيطان وسمعه، ولما استأذن ربه أن ينظره أنظره الله جل في علاه.
وأيضاً تكلم الله سبحانه وتعالى مع بعض عباده وحياً.
يعني: أنزل الوحي عليه.
وفي رواية قال: (كسلسلة على صفوان)، وصفوان هو الحجر الأملس، والسلسلة عندما تجر على الحجر الأملس تحدث صوتاً رهيباً شديداً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا) ، وفي الرواية الأخرى قال: (يخرون سجداً) أي: من سماع صوت الله جل وعلا، ويتكلم بحروف: الم [آل عمران:1] ، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1] ، حم * عسق [الشورى:1-2]، كهيعص [مريم:1]، كل هذه حروف تكون منها هذا الكلام المعجز الخالد إلى يوم القيامة.
فالله يتكلم بصوت مسموع، وبحروف؛ لأن الكلمات تتكون من حروف، إذا ثبت ذلك واعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح بأن الله يتكلم، وكلام الله جل وعلا يليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه وقدرته سبحانه وتعالى، فهل إذا اعتقدنا هذا الاعتقاد يستلزم الكلام أن يكون من مخرج؟ لا، لا يستلزم الكلام أن يكون من مخرج، إذ الجنة قد تكلمت، والنار قد تكلمت، والسماء تكلمت، والأرض تكلمت، بل الطعام تكلم من غير مخرج، فنقول: لا يستلزم أن يكون الكلام من مخرج، ويتكلم الله جل وعلا بكيفية، لكن الكيفية مجهولة بالنسبة لنا، معلومة عند الله، والكيفية لا يعلمها إلا الله، ونحن نفوض الكيفية.
إذاً: الله يتكلم بصوت وحرف، والكيف يعلمه الله، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا كله في حصيلة الإمام مالك ، وقبل ذلك روي عن أم سلمة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يثبت، والصحيح أنه من كلام أم سلمة وأخذه مالك وتكلم به، وكان ربيعة الرأي يقول بهذا، وأخذه عنه مالك واشترط على مالك أن يقول بذلك، فإذا اعتقدنا هذا فلا بد أن نقول: المقصود من علم صفات الله جل وعلا هو كيف نتعبد لله بهذه الصفة؟ أيضاً من البشر الذين كلمهم الله كفاحاً عبد الله بن أبي حرام ، والد جابر بن عبد الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عندما قتل عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: (لقد كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، وسأله: ماذا تريد؟ قال: أن تردني إلى الدنيا فأحيا فأقتل في سبيلك) فكتب الله ألا يفعل ذلك، فكلمه الله خصيصاً له.
أيضاً يكلم الله كل واحد منا ليس بينه وبينه ترجمان، وهذا كلام رحمة، جاء في الحديث: (أنه يلقي على العبد ستره فيقول له: عبدي أتذكر ذنب كذا يوم كذا؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول: عبدي أتذكر ذنب كذا وذنب كذا؟ قد سترته عليك في الدنيا وأنا أغفره لك اليوم) ، اللهم اجعلنا من المغفور لهم يا رب العالمين! واستر علينا في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: إذا اعتقدنا أن الله يتكلم، وهذا من كماله وعظمته وقدرته، وأننا سنتمتع متعة ليس بعدها متعة بعدما نسمع صوت الله جل في علاه، فيجب علينا أن نتعبد لله بهذه الصفة التي اعتقدناها اعتقاداً جازماً صحيحاً، وذلك بأنك إذا سمعت الله لم تسمعه إلا بأذنك، فوجب عليك أن تهيئ هذه الأذن لسماع صوت ربك جل وعلا، الذي صغت له السماوات والأرض، وخضعت له السماوات والأرض، فإن صوت الله جل وعلا يتمتع به أهل الجنة، وأيضاً يرتعد منه أهل النار، فإذا أردت أن تتمتع بصوت الله فهيئ أذنك لسماع صوت الله جل وعلا، فتهيئة الأذن ألا تسمع إلا ذكر الله جل وعلا وما يرضيه، لا تسمع الفاحش والبذيء من الخلق، لا تسمع المجون والغناء وآلات اللهو والمعازف، لا تسمع السب، لا تسمع الشرك، لا تسمع أهل البدع والضلالة، لا تسمع كل ما يغضب الله جل وعلا، وكن ممن يسمع ما يرضي الله عز وجل، وممن يسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يجلس في مجالس العلم فيسمع ما يرضي الله ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل منا يتعهد أذنه ألا يسمع بها إلا ما يرضي الله جل في علاه، لكن من منا لا يسيء؟ ومن منا لا يتعدى ويتجرأ على حدود الله؟ ومن منا لا يخطئ؟ ومن منا لا تغلبه شهوته؟ كل منا يقع في هذا، لكن بفضل من ربنا أن رحمة الله تسبق غضبه، وأن الله جل وعلا ستره مرخي على عباده، وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، فكل من تجرأ منا على حدود الله وسمع ما لا يرضي الله جل وعلا فباب التوبة مفتوح، فلا بد أن يستدرك، ولا بد أن يستغفر، ولا بد أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً، ولا يسمع أذنه إلا ذكر الله أو كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان عثمان بن عفان يقول: لا أهنأ أبداً في ليلة لم أطلع فيها على كلام الله.
فأنت أخي الكريم! اسمع هذا الكلام واجعل لنفسك حفظ ثلاث آيات أو آية واحدة، واقرأ ربع جزء أو نصف جزء، اقرأ ما تستطيع، الغرض المقصود ألا يمر عليك يوم وأنت لا تقرأ فيه كتاب الله، لا تترك القرآن أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن فإن لكم بكل حرف حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فهذا خير عظيم، وكلام الله جل وعلا إذا طهرت القلوب لم تشبع منه، فقد ورد عن عثمان بن عفان كما في شعب الإيمان بسند صحيح أنه يقول: (لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله).
فأنت أخي الكريم! هيئ نفسك وانظر عند سماعك لكلام الله جل وعلا هل ترى قلبك يرق أم هو قاس كالحجارة؟ وانظر هل ترى نفسك تميل إلى السماع والزيادة من السماع أم لا؟ إن كان الأولى فهذا هو الخير العظيم، وهذا فضل الله عليك، فعض عليه بالنواجد، واحمد ربك، وطوق هذه النعم بالشكر، فإن مع الشكر الزيادة.
أما إذا كانت الثانية فاستغفر ربك، وارجع إليه، وتب وسارع في مرضات الله جل وعلا، فإن الله سيقبل التوبة، وعليكم بذكر الله جل وعلا، وبالقرآن فهو خير الذكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه، يعني القرآن) أي: ما خرج من الله جل وعلا القرآن هو كلامه، ولن ترجع إلى الله بخير مما خرج منه سبحانه وتعالى.
أيضاً لا بد أخي الكريم أن تقرأ القرآن وتتدبر القرآن، قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] ، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يفسر هذه الآية العظيمة: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] قال: يحفظون حروفه، ويطبقون حدوده، تراهم في الليل رهباناً، يقيمون الليل بما حفظوا من كتاب الله جل في علاه، وتراهم في النهار يطبقون القرآن عليهم. نسأل الله أن نكون منهم.
الغرض المقصود أن تتعبد لله بتلاوة كتابه، ولا تهجر القرآن حتى لا تقع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما اشتكى لربه كما نقل الله عنه ذلك لنا في كتابه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] ، العلماء قالوا: وهجر القرآن على أقسام ثلاثة: هجر تلاوته، وهجر سماعه، وهجر تطبيقه والعمل به، فمنا من يتلو ولا يعمل بالقرآن، ومنا من يسمع ولا يعمل به، ومنا من يعمل فلا يتلو ولا يقرأ، وهذا أيضاً من الهجران للقرآن، فنحن نعتبر بهذا الكلام، فنقرأ القرآن، فلا نهجر قراءته، ونسمعه فلا نهجر سماعه، وأيضاً نطبقه على أنفسنا وعلى أهلينا، وعلى مجتمعاتنا، حتى يرضى الله عنا فلا نهجره تطبيقاً وعملاً.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يتعلم صفاته ويعلمها، ثم يعتقد بها لله ويطبقها واقعاً يعيشه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر