اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزمر: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:11-16] .
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآية أن يخبر الخلق بأنه مأمور صلوات الله وسلامه عليه بعبادة الله وحده لا شريك، وبذلك بعث صلوات الله وسلامه عليه، بعث ليعبد الله وليأمر الخلق بعبادة الله سبحانه، وهي دعوة كل رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى عبادة الله، وإلى الإخلاص في العبادة، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ، وقال تعالى في سورة الزمر: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11].
وأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل أن يقولوا لقومهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] ، فالله الإله الواحد الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، ولا إله حق سواه سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:11] أي: أعبد الله موجهاً له عبادتي وحده لا شريك له، والإخلاص: التنقية، أي: تنقية الشيء من الشوائب وتصفيته، والأخلص: هو العسل الذي نقيته وصفيته مما به من شوائب وكدرات، فكذلك العبادة توجهها لله سبحانه وحده لا شريك له، ولا يكون فيها شوائب شرك بالله سبحانه، وليس فيها رياء ولا سمعة، وليس فيها عمل يبتغى به الأجر من غير الله، أو عمل يقصد به الله وغير الله، ولكن العمل لا يقصد به إلا الله وحده لا شريك له، هذا هو الإخلاص الذي لا تقبل عبادة بدونه.
والإخلاص بغير متابعة لا يصح، والمتابعة بغير إخلاص لا تصح، فالعمل يحتاج إلى ركنين: إخلاص ومتابعة، فتخلص لله سبحانه، ولا تعبد إلا الله سبحانه، ولا تعمل العمل إلا له سبحانه، ولا تبتغي الأجر إلا منه سبحانه وتعالى، وهذا العمل لا بد أن يكون موافقاً لهذه الشريعة حتى تؤجر عليه، فالإخلاص بغير متابعة يوقع العبد في الاختراع في الدين والابتداع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ، ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
فلو أن الإنسان قال: أنا مخلص، وأنا أحب الله، وأعبده، لكن سأعبد الله بما أريده أنا، وأصلي بالطريقة التي تعجبني، وأصوم بالطريقة التي تعجبني، وكأنه يشرع لنفسه، فإن الله يأبى إلا أن يكون له سبحانه الأمر كما أن له الخلق سبحانه، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فهو الذي يخلق سبحانه وتعالى، وهو الذي يأمر سبحانه، وهو الذي يشرع، ولا يجوز لعبد أن يشرع لنفسه ولا لغيره، ولكن الشريعة لله سبحانه، هو الذي يشرع لعباده وهو أعلم بخلقه، وأعلم بما تستقيم به أمور الخلق، فيشرع لهم ما ينفعهم سبحانه وتعالى.
إذاً: العبادة لا بد فيها من أن تتابع هذا الدين، وأن تخلص لله سبحانه وتعالى فيه، حتى تقبل هذه العبادة، فبدأ بنبيه صلى الله عليه وسلم وقال: قل لهؤلاء جميعهم: إِنِّي أُمِرْتُ [الزمر:11]، وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة نافع وأبي جعفر: (قل إنيَ أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين).
والدين لها معان، الدين بمعنى: الشريعة، وبمعنى: العبادة، وبمعنى: الجزاء والحساب، فالدين هنا بمعنى: شريعة الله سبحانه فيما شرع من عبادة، فأعبد ربي مخلصاً له عبادتي، وقال الله تعالى: (وَأُمِرْتُ)، فهو ليس من عند نفسه، بل أمره الله عز وجل بذلك، قال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، صلوات الله وسلامه عليه، فالله الذي هداه، والله الذي اصطفاه واجتباه، والله الذي علمه ورباه سبحانه وتعالى.
وكان نوح مسلماً كما قال تعالى عنه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، كذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84] ، وكذلك المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام والحواريون، قال تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52].
فدين الله هو دين الإسلام، ودين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشريعة التي جاءت من عند الله سبحانه أن اعبدوا الله حتى وإن كان الاختلاف بينهم عليهم الصلاة والسلام في أمور تشريع الله عز وجل لهم، وفي الفقه وفي الدين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء.
ولكن الدين الذي يتعبدون به لله الإخلاص والتوحيد، فهما شرع كل الرسل، فالخضوع لله والقنوت لله، والإذعان لله، والمتابعة لما يأمر الله عز وجل به، واجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، كل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مأمورون بذلك، وهو الإسلام: أن يسلم العبد نفسه لله، فيحكم الله عز وجل فيه بما يشاء سبحانه وتعالى، وأن يوجه العبد عبادته لله وحده لا شريك له.
قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:12] صلوات الله وسلامه عليه، فأول المسلمين في هذا العصر هو محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أول من أسلم لرب العالمين سبحانه وتعالى، وقبله أنبياء ومرسلون في العصور السابقة مسلمون، ولكن هو أول هذه الأمة إسلاماً صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: للعبادة ركنان: الإخلاص والمتابعة، وللعبادة وصفان: أن يكون الإنسان يرغب فيما عند الله، ويرهب مما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك وصف أنبياءه ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90] .
فمن يزعم أن أفضل الدين أن يعبد الله بالرهبة فقط، أي: بالخوف من الله فقد كذب، ومن زعم أن أفضل الذين أن يعبد ربه بالرغبة فقط فقد كذب، إنما دين الله يكون بين الأمرين، وهذا خير العبادة، لا كما يزعم فلان أو فلانة وتقول القائلة من هؤلاء: يا رب! إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها.
فلماذا تعبد الله سبحانه وتعالى وهي لا تريد جنة ولا هي خائفة من النار؟! هذا لا يكون، وكأن هذه تزعم أنها أرقى وأعلى من مراتب الأنبياء والرسل الذين قال الله عز وجل فيهم عليهم الصلاة والسلام: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، وقال عن نبيه سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر:13] ، فهو يخاف من عذاب يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.
فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه خائفاً من الله، وكم تعوذ بالله من النار، وكم سأل ربه الجنة، فجاء الرجل الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعو في الصلاة أسأل الله الجنة، وأتعوذ بالله من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة
فالإنسان لا يبالغ في دعوى المحبة لله عز وجل حتى يكون في النهاية زنديقاً والعياذ بالله، خارجاً عن دين الله، فلا يصح أن يقول الإنسان لربه: أنا لا أخاف من نارك، أنا لا أريد جنتك، أنا أحبك فقط، هذا لا يكون أبداً؛ لأن العبادة التي تكون لله لا بد أن يكون فيها كمال الحب لله، مع كمال الذل لله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، وقد يكون في الدنيا الإنسان يحب إنساناً فيبالغ في محبته، يحب زوجته ويحب إنساناً أو إنسانة فيبالغ في ذلك، ولكن هو لا يخاف منها، فهذه ليست عبادة، هذه محبة.
وقد يخاف إنسان من حاكم ظالم، يرعب من ذكر اسمه، ولكنه لا يحبه، أما مع الرب سبحانه وتعالى لا بد من الاثنين: كمال الحب لله عز وجل، مع كمال الذل بين يديه، والخوف منه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر:13] أي: يوم القيامة نسأل الله العفو والعافية.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14] الأصل: قل: أعبد الله، ويتقدم الفعل على الفاعل والمفعول، أي: أعبد أنا الله، ولكن حين يقدم المفعول على الفعل، فهذا لمزيد التأكيد والاختصاص، والمعنى: الله وحده لا شريك له، فلو قال: أعبد الله، فقد يحتمل الكلام أنه يعبده ويعبد غيره، فلمزيد من التأكيد يقول: إياك نعبد وحدك يا رب، لا أعبد أحداً غيرك، فقوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ قدم لفظ الجلالة وموقعه هنا المفعول، فقدمه على الفعل وعلى الفاعل للاختصاص والتأكيد على أمر التوكيد، أي: أنا أعبد الله وحده لا شريك له، وكلامه لا يحتمل غير ذلك، فلا يحتمل شركاً بالله سبحانه، أو أن يعبد الله ويعبد غيره سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا [الزمر:14] أي: موجهاً عبادتي له وحده سبحانه، وقوله: مُخْلِصًا لَهُ دِينِي أي: عبادتي، وطاعتي، وتقربي، أتقرب إليه وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] أي: الدين القيم الذي أُثاب عليه، وعليكم وبال شؤمكم فيما اتبعتم من باطل وشرك بالله سبحانه وتعالى.
فقال تعالى: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ فالأمر هنا للتهديد والتوبيخ لهؤلاء فيما يعبدون من دون الله.
قوله تعالى: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ) هذه قراءة الجمهور، وقرأها: ( ما شيتم ) الأصبهاني عن ورش، وأبو جعفر وأبو عمرو أيضاً بخلفه ويقف عليها حمزة هكذا: (فاعبدوا ما شيتم).
فقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] أي: خسراناً حقيقاً، خسراناً لا نجاح بعده.
وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] أي: في الدنيا كان له الأهل والولد، فيستمتع بذلك، قال الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، فلما دخلوا النار خسروا هؤلاء، فليس له زوجة يستمتع بها في النار، وإذا كانت زوجته كافرة مثله فهي في النار وهو في النار، لا ينتفع أحدهما بالآخر.
كذلك ما من مخلوق يخلقه الله عز وجل من هؤلاء البشر إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، مؤمناً كان أو كافراً، فيخلق الله عز وجل هذا المنزل هذا وهذا المنزل، فإذا حرم هذا الإنسان من الجنة يزاد له في عذابه فيقال له: انظر أين كنت ستكون! هذا منزلك في الجنة لو أنك عبدت الله سبحانه وتعالى، فهذا أشد ما يكون على نفسه، إذ ينظر إلى القصر وإلى الحور العين، كل ذلك خسره، وهذا الخسران المبين، قال تعالى: أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ، فخسر ما كان سيكون له من أهل لو أنه عبد الله سبحانه وتعالى، خسر نفسه وخسر هذه الجنة وخسر الأهل فيها، فكان في النار وحيداً لا أهل له يستمتع بهم فيها، ولا شيء يرفع عنه العذاب ولا يخفف عنه.
وقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر:15] هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (وأهليهُمْ).
أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] أي: الخسران المبين المفصح عن نفسه، المبين لحال صاحبه، تقول: بان الأمر، يبين الأمر، بين الأمر، فهو بين هذا الأمر، بين يعني: واضح جلي.
إذاً: هو الخسران الجلي الذي لا يستطيع أحد أن يقول: هذه ليست خسارة، ففي الدنيا خسران في مكان، ونجاح في مكان آخر، لكن هذا خسران لا نجاح فيه ولا ربح بعده، قال تعالى: أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، خسرانهم يبينه ربهم سبحانه أنهم دخلوا النار.
والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهذه نار لهم من فوقهم كالظلل، أي: طبقات من نار، ومن تحتهم النار كذلك طبقات، بعضها فوق بعض، فهم في دركاتها، هذا أسفل، وهذا أسفل منه، وهذا أسفل منه.
قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16] أي: أغشية وطبقات من النار، ومن تحتهم ظلل، وذلك العذاب الرهيب الأليم يخوف الله به عباده، قال تعالى: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر:16]، فالله يريد من عباده أن يخافوا منه سبحانه، وحتى يخافوا من الله ويحدث لهم الرهبة في قلوبهم قال: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، ينادي الله عز وجل على عباده: اتقون، خافوني، ارهبوني، اخشوا يوم القيامة، احذروا الوقوع في الشرك، ومعاصي الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (يَا عِبَادِ) قرأها رويس في حالة الوقف والوصل: (يا عبادي فاتقون).
وقوله: (فَاتَّقُونِ) يقرؤها يعقوب : (فاتقوني) إذا وقف عليها، وإذا وصلها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر