وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، أي: أهلكوا وأذلوا وأهينوا كما أهين وأذل الذين من قبلهم من الأمم السابقة، والآيات تكاد أن تقول: إنني أعني أهل مكة الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وألجئوه إلى الهجرة والخروج من مكة، وهاهم يتجمعون ويتكتلون ليأتوا في حرب الخندق والعياذ بالله تعالى، إلا أن اللفظ عام، أعني: كل من يحاد الله ورسوله فهو هالك وذليل ومهان في الدنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، أي: من الأمم السابقة، إذ إنها حاربت رسل الله وأنبياءه فأهلكهم الله عز وجل، فأين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين فرعون؟ وأين مدين؟ أهلكهم الله تعالى؛ لأنهم وقفوا ضد دعوة الله وحاربوا رسوله وحادوه وعادوه.
ثم قال تعالى: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [المجادلة:6]، أي: يطلعهم ويخبرهم عن كل عمل عملوه، والله عز وجل عليم بأعمالهم كلها، إذ هو خالقها وخالقهم، وقد كتبها في كتاب المقادير قبل أن تكون، وهي مكتوبة في كتاب الكرام الكاتبين، فينبئهم بما عملوا ويحاسبهم على ذلك ويجزيهم به.
ولذا فهذه الآيات هي التي توجد الخشية في قلب المؤمن فيرق قلبه ويلين، وتذهب القساوة والشدة والعنف من قلبه، ويصبح حقاً عبد الله ووليه، أما أصحاب قساة القلوب وظلمة النفوس والعياذ بالله فجزاؤهم العذاب المهين.
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]، لما تكون مع أخويك تتسارون الحديث اعلموا أن الله معكم يسمعكم ويراكم، بل كأنه بذاته معكم وذاته فوق عرشه، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، ما في مكان ما يوجد فيه الله بعلمه وقدرته نختفي فيه، فمن كان على الأرض أو في السماء أو في غيرها فلا بد علمه بين يدي الله عز وجل، وسيجزيه على عمله، قال تعالى: وقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
مرة أخرى: معاشر المستمعين! خذوا هذه الحقيقة ولا تنسوها: إننا خلقنا للعمل، فلا كسل ولا نوم ولا عبث ولا راحة في هذه الدنيا، إذ إنها دار عمل، والدار الآخرة دار الجزاء لا عمل فيها، فلا صلاة ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا زرع ولا بناء ولا هدم، إذ ليس هناك إلا الجزاء، وذلك إما بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم فقط، أما الدنيا فدار عمل فاعملوا، فإن كان العمل ذكراً لله وشكراً له وطاعة لله ورسوله بفعل الأوامر وترك النواهي كان الجزاء الجنة دار النعيم، وإن كان العمل شركاً وفسقاً وفجوراً وغشاً وكذباً وخيانة والنفس مظلمة منتنة عفنة؛ فالجزاء يوم القيامة النار والعياذ بالله، بل ليس يوم القيامة فقط، إذ إن العبد سيشاهد العذاب قبل القبر يشاهد ويذوقه، فيجب ألا ننسى هذا أبداً، والله يقول: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7]، في البر أو في البحر أو في السماء أو في الأرض، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7]، أي: أن الله سينبئنا بأعمالنا يوم القيامة لا في الدنيا؛ لأن هذه الدار دار عمل لا دار جزاء، بينما يوم القيامة هي دار الجزاء، فيعلمنا ما عملنا ويجزينا على أعمالنا، فما كان خيراً فالجزاء رضاه والجنة، وما كان شراً فالنار وسخطه والعياذ بالله تعالى.
وخلاصة القول معاشر المستمعين والمستمعات! لا بد من العمل الصالح، والعمل الصالح لا بد من معرفته قبل العمل به، فلهذا طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، إذ كيف تعرف ما يحب الله تعالى؟ وكيف تعرف ما يكره الله تعالى؟ نعم أنا مؤمن بأن الله يحب ويكره، لكن لا أعرف ما يحب ولا ما يكره، إذاً كيف أطيعه؟ كيف أعبده؟ كيف أتقرب إليه وأكون وليه؟ إذاً لا بد من معرفة ما يحب الله تعالى من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات، ولا بد من معرفة ما يكره الله من العقائد الفاسدة والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة الباطلة والصفات المذمومة، وهذا لا طريق له إلا بطلب العلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، فهيا نتقرب إلى الله لنصبح من أوليائه، لكن كيف نصنع؟ بماذا نبدأ؟ بعد أن قلنا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلنعمل، وذلك ما أحبه الله فلنعمله، وما كرهه فلنكرهه، ونواصل مسيرتنا إلى ساعة وفاتنا، ومن ثَمَّ أرواحنا إلى دار السلام، اللهم حقق لنا ذلك يا رحمن يا رحيم!
قال: [ ثانياً: إحاطة علم الله بكل شيء، وشهوده لكل شيء، وإحصاؤه لكل أعمال العباد، حال توجب مراقبة الله تعالى والخشية منه، والحياء منه أشد الحياء ]، من علم أن الله معه يراه ويسمع كلامه ويرى مشيه وقعوده وجلوسه، فإنه يستحي أن يعصي الله تعالى، إذ ما يقوى على معصية الله تعالى، والغافل الذي لا يذكر الله ولا يذكر أن الله معه يراه ويعلم ما يعمل، فهذا هو الذي يتورط في كل الذنوب، بل ويغشى كل المعاصي والعياذ بالله.
قال: [ ثالثاً: الإرشاد إلى أن التناجي للمشاورة في الخير ينبغي أن يكون عدد المتناجين ثلاثة أو خمسة أو سبعة؛ ليكون الواحد عدلاً مرجحاً للخلاف قاضياً فيه إذا اختلف اثنان لابد من واحد يرجح جانب الخلاف، وإذا اختلف أربعة لابد من خامس يرجح جانب الخلاف ]، من هداية هذه الآيات: إذا أردنا أن نتناجى في الخير فينبغي أن نكون ثلاثة فأكثر لا اثنين فقط، وذلك حتى يكون الثالث مرجحاً لجانب من الجوانب عند الخلاف، وكذلك إذا كنا أربعة فلا يكفي، بل ينبغي أن نكون خمسة، وأيضاً إذا كنا ستة ما ينبغي، بل لا بد أن نكون سبعة وهكذا، وهذا في المناجاة والمسارة بالخير، أما المناجاة بالشر والعياذ بالله فلعنة الله على أهلها وأصحابها هم أهل النار والعياذ بالله، لكن المناجاة -كما ذكرنا-والاختلاء ببعضنا لنفكر ولنقول ولنعمل الخير والهدى بين الناس، فهذه قد أدبنا الله كيف تكون؟ فإذا كنتم اثنين فأضيفوا الثالث، وإذا كنتم أربعة فأضيفوا الخامس، وإذا كنتم ستة فأضيفوا السابع حتى يترجح الصواب والحق الذي تريدونه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر