إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المعلوم أنه يجب أن نعرف نوعية القتل حتى نزل الحكم في منزله، فالعمد له حكمه والخطأ له حكمه والخطأ له حكمه وشبه العمد له حكمه، وقتل الخطأ لا يكون فيه قصاص بل تجب فيه الدية والكفارة.

    1.   

    قتل الجماعة بالواحد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تقتل الجماعة بالواحد].

    بعد أن بين المصنف رحمه الله أنواع القتل، ومتى يحكم بقتل العمد، ومتى يحكم بقتل الخطأ، ومتى يحكم بالوسيط بينهما؛ وهو قتل شبه العمد؛ شرع في مسائل القتل بالاشتراك؛ وهذه المسألة -وهي قتل الجماعة الواحد- تكون غدراً، وفتكاً، ومجاهدة، ومغالبة.

    االقائلون بقتل الجماعة بالواحد

    فإذا اشتركت الجماعة في قتل الواحد؛ فالأصل أنهم إذا اجتمعوا وفعلوا به فعلاً، لو انفرد كل واحد منهم بفعله لقتله؛ فكلهم قاتل، وبناءً على ذلك فإن هذه الصورة لا خلاف فيها عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد.

    فنبدأ بالمجمع عليه عند من يقول بقتل الجماعة بالواحد:

    الجماعة: اثنان فأكثر، والأصل أن الجمع ثلاثة، لكن هنا مرادهم: أن يشترك اثنان فأكثر، فلو اتفق اثنان على شخص أن يقتلاه؛ فجاء أحدهم وبقر بطنه، وجاء الآخر وطعنه في قلبه، فكلا الفعلين وقعا في زمان واحد، أو ضربتان قاتلتان وقعتا في زمان واحد، وكلا الفعلين مزهق، وكل منهما قاتل، فجمهور العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم على أنه يقتل هذان الشخصان بالواحد، وهذا هو مذهب عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، والمغيرة بن شعبة، وقد نفذ هذا الحكم أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلوا جماعة بواحد، فأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فارتفعت إليه قضية من اليمن: أن جماعة تمالئوا على رجل، وقتلوه غيلة، استدرجوه وقتلوه، وهذا ما يسمى: بقتل الغيلة، كأن يخدع ويستدرج ويخرج من المدينة، أو يقولون له: نريدك في نزهة، أو نريدك في غرض ما، أو نريد أو نرى بستانك، أن نريد أن نريك شيئاً، أو نريد أن تذهب معنا في السفر، فيستدرجونه حتى يخرج، ثم بعد ذلك يغتالونه ويقتلونه، فهذا من قتل الغيلة، فيؤخذ على غرة-على حسن نية- فيقتل، وهذا من أخبث ما يكون من أنواع القتل، والغالب أنه لا يقع إلا من الأنفس الشريرة، حيث تكون هناك عصابات تقوم بمثل هذا، الفعل فقال عمر رضي الله عنه: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. فقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنهم كانوا سبعة، وقيل: تسعة أشخاص، كانوا متمالئين عليه حتى قتلوه.

    أما علي رضي الله عنه فقتل أربعة بواحد، وأيضاً له قصة ثانية في قصة عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، حين كان عاملاً له على النهروان، فقتله أهل النهروان، فكتب إليهم أن ادفعوا إلي من قتله، فأخذتهم العزة، فقالوا: كلنا قتلناه، فقال: إذن سلموا أنفسكم لأقتلكم جميعاً به، وإلا آذنتكم بحرب، فامتنعوا، فركب إليهم فقتل منهم قتلاً ذريعاً، رضي الله عنه وأرضاه.

    وكذلك أيضاً عبد الله بن عباس قضى بهذا، أما الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة فقد قتل في إبان ولايته وإمارته؛ وقد كان أميراً لـعمر رضي الله عنه وأرضاه على الكوفة، فقتل ثلاثة بواحد، وقيل: أربعة بواحد.

    فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أثنان مأمور باتباع سنتهما، والعمل بها؛ وهما: الخليفتان الراشدان: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عن الجميع وأرضاهم.

    وقد وقعت هذه الحوادث ونفذ فيها الحكم من هذين الراشدين أمام الناس، وعمل به الناس، وتوافرت الدواعي لنقله، ولم ينقل إلينا إنكار أحد من الصحابة على هذين الصحابيين.

    ومن هنا قال بعض العلماء: إنه حكم متفق عليه بين الصحابة، وهذا ما يميل إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ويقرره غير واحد من العلماء؛ أن هذا الحكم صدر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت المدينة مليئة بفقهاء وأئمة الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج للجهاد؛ لأنه كان يحتاجهم للفتاوى، ومن هنا قالوا: إن المدينة كانت عامرة بأهل الفتوى والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أحد هذا الحكم وهذا القضاء.

    وكذلك أيضاً قال بهذا الحكم: سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وابن عون -التابعي المشهور- وكذلك الحسن البصري ، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور؛ على أنه تقتل الجماعة بالواحد. واتفقوا على أنه إذا كان كل واحد منهم انفرد فعله بقتل، فإنهم يقتلون به، والذين قالوا بقتل الجماعة بالواحد اتفقوا على الصورة التي ذكرناها، لكنهم فصلوا، واختلفوا في بقية الصور.

    القائلون بعدم قتل الجماعة بالواحد

    وهناك قول ثانٍ: أنه لا تقتل الجماعة بالواحد؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، وقول ابن المنذر، وطائفة من متأخري السلف رحمة الله على الجميع، حتى قال بعض العلماء: إن هذا القول أسبق، وقد حكي هذا القول عن عبد الله بن الزبير ، وعن معاذ بن جبل، ولكن لم يوثق، ولم يحرر بالرواية الصحيحة، ولذلك فإن حكاية الخلاف عن الصحابة لا تقدح في الإجماع ما لم تكن موثقة؛ لأن هناك قولاً للصحابي حكاية أو قولاً للصحابي رواية، وهنا جاء من باب الحكاية، ولم أطلع على رواية صحيحة عن هذين الصحابيين أنهما قالا: لا تقتل الجماعة بالواحد. وكذلك أيضاً قال به محمد بن سيرين من التابعين.

    وهناك قول ثالث: قالوا: إذا قتلت الجماعة واحداً، فيقتل واحد بالمقتول، ثم يؤمر البقية بدفع ما بقي على حسب حصصهم من الدية، فمثلاً: لو اشترك ثلاثة في قتل واحد يقتل واحد منهم، ثم الاثنان الباقيان يدفع كل واحد منهما ثلث الدية، ولو اشترك عشرة في القتل فنقتل واحداً، ويدفع التسعة تسعة أعشار الدية، وقس على ذلك. وهذا القول ضعيف.

    أدلة القائلين بقتل الجماعة بالواحد

    أما الدليل على أن الجماعة تقتل بالواحد: فقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمرنا أن نقتص من القاتل، وكل واحد من هؤلاء العشرة، أو الخمسة، أو الثلاثة، أو الاثنان، كل واحد منهم قاتل؛ لأنه لو انفرد فعله لقتل، وقد أتى كل واحد منهم بفعل قاتل فهو قاتل؛ لأن النفس أزهقت بهذه الأفعال القاتلة، فهو قاتل.

    وكذلك أيضاً عموم الأدلة التي دلت على أن من قُتل له مقتول فله الحق في الأخذ ممن قتله والقصاص، كقوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء:33]، فجعل الله لوليه السلطان في أن يقتل من قتله، وكل واحد من هؤلاء قاتل.

    الدليل الثالث: الأثر الصحيح عن عمر بن الخطاب ، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً، ووصله غيره، والسند صحيح عن هؤلاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا الجماعة بالواحد، وسنة الخلفاء الراشدين مأمور باتباعها.

    الدليل الرابع: أننا لو قلنا: إن الجماعة لا تقتل بالواحد؛ لانفتح باب الشر والفساد والبلاء، فكل شخص يريد أن يقتل، يعلم أنه لو قتل سيقتل، فيطلب من شخص آخر أن يعينه على القتل؛ وحينئذ تسلم العصابات من القتل، ويسلم أهل البغي من القتل، ويذهب المقصود الشرعي من استتباب الأمن، وحفظ أنفس الناس، فما على أهل الفساد إلا أن يجتمعوا، ويتواطأ بعضهم مع بعض، فيقول أحدهم: أنا أريد أن أقتل فلاناً، فشاركني حتى أشاركك لتقتل فلاناً، وحينئذ تذهب الحكمة من شرعية القصاص، ويسترسل أهل الشر في دماء المسلمين، وقد قال الله عز وجل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، فقوله: (النفس): جنس، فالنفس المقتولة بالنفس القاتلة جنس، سواء اتحدت أو تعددت.

    أدلة القائلين بعدم قتل الجماعة بالواحد والرد عليها

    أما الذين قالوا: إنه لا تقتل الجماعة بالواحد، فقالوا: إن الله تعالى أمر بالمساواة في القصاص، فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وأجيب: بأن الآية المراد بها: جنس النفس، بغض النظر عن العدد، وأيضاً نقول: إن كل نفس من هذه الأنفس متهمة بالقتل لا على شك، ولا على مرية؛ لأن الفعل الذي فعلته قتل، وموجب للزهوق، فحينئذ يجب القصاص منها.

    وقالوا: إن النفس التي قتلت واحدة، والذين يُقتص منهم أكثر، والله عز وجل يقول: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33] قالوا: فحينئذ أسرفنا؛ لأننا قتلنا عشرة بواحد، وقتلنا ثلاثة بواحد.

    ونجيب عن هذا: بأن هذا الكلام ضعيف؛ لأننا نسألهم: هل الذين قتلناهم قتلة أو برآء لم يقتلوا ولم يفعلوا القتل؟ فإن قالوا: برآء، فإن الواقع يخالفهم، وإن قالوا: قتلة، فإن الله أمرنا أن نقتل القاتل. فنقول: قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ)، أي: لا يقتل من لم يقتل، أما قتل من قتل فلا يعتبر من الإسراف، وتوضيح ذلك: أن الإنسان إذا أخذ حقه لم يسرف، فإذا زاد عن حقه فقد أسرف، وأساء وظلم، فهذا الذي قتل الاثنين بالواحد قتل من قتل وليه، وإذا قتل من قتل وليه لم يسرف؛ لأنه قتل بحدود حقه، وحده: أن الاثنين قد قتلا، وأن الثلاثة اشتركا في القتل.

    ثانياً: نقول لهم: هؤلاء العشرة، أو هؤلاء الثلاثة، أو الأربعة، كل منهم فعل فعلاً قاتلاً، فإذا لم نقتله، فماذا نفعل؟ وإذا لم نقتلهم جميعاً حصل الفساد والشر، كما بينا، فيشترك أهل الفساد فيقتلون المسلمين. وإن قلتم: نقتل واحداً، فنسألكم: هل الواحد قاتل؟ فإن الظاهرية يقولون: نقتل واحداً ونترك البقية، فنسألهم: لماذا قتلتم هذا الواحد؟ فإما أن تثبتوا أنه قاتل، مع أن الصفة التي فيه موجودة في غيره؛ لأن الكل منهم فعل فعلاً موجباً للقتل، وما الذي جعل هذا يقتل وهذا لا يقتل؟

    ثالثاً: نقول لهم: أنتم تقولون: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون ما بقي من الدية، فجمعتم بين القصاص والدية! والله جعل الدية عوضاً عن القصاص، وبناءً على ذلك فلا يصح أن تجمع بين الأصل وبديله؛ لأن الشريعة جعلت الأصل، فإن لم يستطع فبديله.

    فإذا جئت تقول: يقتل واحد، ثم البقية يدفعون تسعة أعشار الدية، فإنك في هذه الحالة خالفت، فإما أن تقتلهم جميعاً، أو توجب الدية عليهم جميعاً، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

    وعلى كل حال: هنا قاعدة: أن خلاف العلماء وأقوالهم ما تعددت من فراغ، ولا اختلفت من هوى، ولكن حصل لكل منهم شبهة أو دليل، والحق أقوى دلالة، فقد تجد القول المخالف له وجه، لكن الأوجه والأقوى هو الصحيح، وإن وجدت حسناً عند المرجوح، فالأحسن عند الراجح؛ لأنك إذا نظرت إلى هدي السلف الصالح، وأصول الشريعة العامة، وعموم الأدلة التي أمرت بقتل من قتل، لاطمأنت النفس برجحان مذهب جمهور السلف رحمهم الله.

    صور قتل الجماعة بالواحد

    بقي في مسألة قتل الجماعة بالواحد: هناك اشتراك بالفعل، وهناك اشتراك بالفعل مع غير الفعل، فإذا كانوا قد اشتركوا في الفعل ففيهم تفصيل، وإن اشتركوا بفعل ورأي، فبعضهم دبر المكيدة، وبيَّن الطريقة التي يتم بها اغتياله وقتله، وبعضهم نفذ وقام بالعمل، فهذا يحتاج إلى تفصيل.

    فعند بعض العلماء: أن الاشتراك بالرأي لا يوجب القصاص؛ لأنه يصبح سببية ومباشرة، وبعض العلماء يقول: إذا كان الذي خطط وقال الرأي عن طريق رأيه تُوصل إلى القتل، أصبحت سببية قوية التأثير في الزهوق، فيقتل مع من نفذ.

    ومن هنا احترز بعض العلماء خروجاً من هذا الخلاف؛ لأنه لا يرى مسألة الرأي، فقال: تقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهما موجباً للزهوق لو انفرد، كما ذكرنا في الصورة المتفق عليها.

    ومنهم من قال بوجوب القصاص على المدبر إذا كان الشخص المنفذ لا يستيطع أن يعرف الطريقة التي يدخل بها، ولا يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى قتل هذا الشخص وجاءه هذا الشخص، وبين له الطريقة والوسيلة، ومكنه على وجه لولا الله ثم هذا التمكين لما حصل الإزهاق؛ فقالوا: إنه يكون شريكاً له في القتل بسببية مؤثرة؛ لأنها سببية مفضية للقتل بقوة، فليست سببية ضعيفة، وقد بينا أن السببية تارة يقتل المتسبب والمباشر، وتارة يقتل المتسبب دون المباشر، وتارة العكس، فهنا بعض العلماء يرى أنه إذا كان الرأي والتخطيط من الشخص قوي التأثير في الزهوق، فيقتل أيضاً، فمثلاً قال له: افعل كذا، فدخل القاتل على المقتول، ولم يعرف كيف يقتله، فقال له: افعل به كذا وكذا، ففعل؛ فقتله، وفي زماننا الآن توجد أجهزة، وقد تحتاج الجريمة إلى تنظيم وترتيب، فلا يمكن أن تقع بواحد، ولا يمكن أن تغفل الأسباب والمشتركين مع المنفذ بحال، وحينما تنظر تجد الذين تسببوا وأعانوا المنفذ ودلوه سببيتهم قوية التاثير، بحيث يصعب إغفالها أو إسقاطها من القصاص.

    ولو رد هذا الأمر أيضاً إلى القاضي فقد يكون أضبط للمسائل، وله نظر فيما اشتركوا فيه.

    لكن إذا اتفق اثنان على قتل شخص، فجاءا وفعلا فعلاً أزهق روحه، فإن كان الفعل الذي أزهق الروح صدر منهما معاً؛ فهما قاتلان بلا إشكال، فمثلاً: لو أن الاثنين أمسكا السلاح مع بعضهما وأطلقاه، فهما قاتلان، ولو أن الاثنين أمسكا بالسيف وبقرا به بطن المقتول، فهما قاتلان.. هذه صورة.

    الصورة الثانية: أن ينفرد كل منهما بفعل، فإذا انفرد كل منهما بفعل، فإما أن يكون فعل كل منهما مزهقاً، وإما أن يكون فعل أحدهما مزهقاً والآخر لا يزهق، فإن كان فعل كل منهما مزهقاً؛ فصورتان: إما أن يكون وقوع الفعلان مع بعضهما، فواحد منهما طعنه في بطنه، والآخر طعنه في قلبه، وحصلت الطعنتان مع بعضهما، فالإزهاق حصل بالطعنتين، فكلاهما قاتل، وإما أن يتأخر أحدهما عن الآخر، فإن تأخر أحدهما عن الآخر؛ فننظر: فإن كان الأول قد فعل الفعل، فاندمل جرحه، أو ضعف عن القتل، أو برئ، ثم جاء الآخر وأزهق، أو فعل الفعل القاتل، فالقاتل هو الثاني دون الأول، وإن كان الأول قد ضرب مقتلاً، وأصاب المقتل، ثم جاء الثاني بعده وضرب مقتلاً بعد المقتل الأول، فالقاتل هو الأول دون الثاني؛ لأن الإزهاق وقع بالأول دون الثاني، لكن يشترط في هذه الصورة الأخيرة: أن يتأخر فعل الثاني تأخراً يقوى به الإزهاق بالفعل الأول، فإن لم يتأخر، ولم يتراخ، انتقل للمسألة الأولى التي ذكرناها، وهي أن يشترك الاثنان بفعل موجب للزهوق.

    إذاً: إذا كان فعل كل منهما قاتلاً: إما أن يقعا في وقت واحد؛ فكلاهما قاتل، وإما أن يختلفا؛ فإن اخلتفا فتأخر أحدهما عن الآخر، فإما أن يتأخر تأخراً مؤثراً، ومثاله: اثنان يريدان قتل شخص، فجاء أحدهما وطعنه بالسكين، فنقل المطعون إلى المستشفى وعولج، حتى نجا من الموت، وغلب على الظن أنه نجا من الحالة الخطرة، فدخل عليه الثاني وهو على سرير المرض وطعنه فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول؛ لأن ضربة الثاني تأخرت تأخراً متفاحشاً مؤثراً، ولا يشترط طول الزمان؛ بل يشترط ألا تكون الضربة الأولى تأتي على الروح، وفي هذه الحالة تكون الطعنة الأولى جراحاً، وموجبة لضمانها بالدية، أي: بقدرها وحصتها من دية الجراحات، والضربة الثانية موجبة للقصاص، فالثاني قاتل، والأول ضامن يضمن الجرح الذي جرحه به.

    مثال آخر: ضربه الأول على دماغه، ضربة مأمومة-وهي التي تكشف خريطة الدماغ وأم الدماغ- ثم عولجت هذه الضربة؛ ففيها ثلث الدية، والثاني ضربه بسكين فقتله، فالقاتل هو الثاني دون الأول، فالأول عليه ضمان ضربة الدماغ بقدر حصتها من الديات، والثاني يضمن النفس، فيجب عليه القصاص.

    وهذا كله إذا كان الفعل الذي فعلاه موجباً للزهوق.

    فإذا كان أحدهما يزهق، والثاني لا يزهق، نظرنا: فإن كانت الضربة الأولى من الأول هي القاتلة المزهقة، والضربة الثانية لا تزهق، فالأولى هي القاتلة، فمثلاً: شخصان دخل أحدهما فضرب شخصاً بسكين في بطنه حتى أنفذت مقاتله، وغلب على الظن أنه ميت، فجاء الثاني وجرحه، أو كسر عظمه، فحينئذ إن كانت الضربة الثانية لا تزهق، فإن من العلماء رحمهم الله من حكم بكونها مضمونة، وإن كانت من الجراح ففيها أروش الجراحات، والقاتل هو الأول الذي عليه القصاص، والثاني ضامن، إلا أن بعض العلماء يقول: إذا أُنفذت مقاتله، كما لو ضربه وأصبح في عداد الموتى، وجاء الآخر وخدشه، أو فعل به فعلاً، فلا شيء عليه، وهذا هو ضعيف وباطل، وقد عجبت من بعض المتأخرين حين كان يفتي به! مع أنه لا أصل له؛ لأن نفس المؤمن محرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، يعني: في الإثم، وهو من حديث عائشة في سنن ابن ماجة، وهو حديث حسن، وبعضهم يراه صحيحاً لغيره، فهذ يدل على أنه لا تهدر هذه الضربة، وهناك قاعدة تقدمت معنا: الحياة المستقرة هل هي كالعدم أم لا؟ وهذه سيأتي تفصيلها-إن شاء الله- في باب الذبائح، كأن يهجم سبع على فريسة، وأدركتها وهي ترفس فذكيتها، فهل الذكاة تنفع أم لا؟ إن قلنا: الحياة المستقرة كالعدم، فلا تنفع الذكاة؛ لأن الفريسة ماتت بالبقر، وهو فعل السبع، فهي ميتة، وحينئذ التذكية جاءت في غير حياة مؤثرة، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم؛ فإنها تكون مؤثرة.

    وبناءً على ذلك: إذا ضربه ضربة أنفذت مقاتله؛ فإن قلنا: إنها حياة مستقرة كالعدم؛ فإنه لا يؤثر، وإن قلنا: إنها ليست كالعدم أثرت، وظاهر السنة فيها شيء يدل على أنها ليست كالعدم -أن الحياة المستقرة ليست كالعدم- فقد ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة كانت ترعى غنمها بحذاء سلم، فجاء الذئب وعدا على شاة منها، فاستصرخت الناس، ففر الذئب وقد بقر بطن الشاة، فكسرت حجراً وذكت الشاة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا منها).

    فبقر البطن يعتبر مقتلاً، وبعض العلماء يشك، لكن ليس على كل حال، فقد تبقر بطن البهيمة وترد وتخاط أحشاؤها، والآن هذا ملاحظ ومعلوم، فقد يُفك بطن الإنسان، وتخرج أمعاؤه وأحشاؤه، وتدبر الجراحات، ويرجع كما هو.

    إذاً: معنى ذلك: أن الحديث لا دليل فيه على مسألتنا، والذي يقولون: إنه لا دلالة فيه، يعارضون بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهناك مسائل كثيرة الأشبه بها كتاب الذبائح، منها: لو أصبت عصفوراً وهو على البحر، على وجه الغالب أنه يموت، ثم سقط في النهر ومات، فهل هو ميت بالطلق فحلال مذكى؟ أم هو ميت بالخنق كالمنخنقة لا يحل أكلها؟ هذا كله راجع إلى مسألتنا؛ لأن طلق النار إذا أنفذ فهو قاتل، وبعد ذلك الخنق الذي وقع في النهر جاء والروح قد أُنفذت، فليس له من تأثير، وكذلك: لو أصاب صياد غزالة على جبل؛ فسقطت وارتطمت بالأرض فماتت، فهل هي مذكاة؟ أم هي متردية حينما ارتطمت بالأرض فماتت؟ والأصل عند العلماء أنه إذا تعارض حاظر ومبيح؛ رجع إلى الحاظر، وكل هذا سنفصله-إن شاء الله- في كتاب الذبح.

    والخلاصة: أنه إذا أنفذ مقاتله، فكانت الضربة في مقتل، وجاء الآخر وجرحه، ولا زالت النفس باقية، فالأصل يقتضي أنه يضمن، وهذا قد نص عليه غير واحد من العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين.

    فبين المصنف -رحمه الله- أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقلنا: إن هذا يشمل الغيلة، ويشمل الغدر: وهو أن يخدع الإنسان بأمان، كأن يقال له: اخرج معنا ولن نفعل بك شيئاً، ويتوجس منهم، فيعطونه الأمان-والعياذ بالله- ثم يغدرونه، والفتك: هو الهجوم، فيشمل قتل الجماعة: غيلة، وغدراً، وفتكاً، وصبراً؛ الذي هو الدم البارد، مثل: قتل الإنسان المأسور والسجين، يجتمعون عليه ويسجنونه في مكان أو بئر، ويمنعون عنه الطعام والشراب، ويشترك الجميع في هذه الجريمة، فهم جماعة قتلة، كل منهم قاتل، فكل هذه الصور يجب فيها القصاص، وتقتل الجماعة بالواحد، سواء كانوا اثنين، أو أكثر من اثنين، والجمع -كما ذكرنا- عند العلماء في هذه المسألة: اثنان فصاعداً.

    إذا سقط القصاص أدت الجماعة دية واحدة

    وقوله: [وإن سقط القود أدوا دية واحدة]

    معلوم أن قتل الجماعة بالواحد مرد القصاص فيه إلى أهل الميت-أولياء المقتول- فإن قالوا: نريد القصاص؛ قتلوا الجماعة، وإن قالوا: نريد الدية، فهل يدفعون_إذا كانوا ثلاثة- ثلاث ديات؟ أم دية واحدة؟ الجواب: يدفعون دية واحدة، يشتركون فيها؛ لأن الدم المضمون دم واحد لا غير.

    1.   

    الأسئلة

    حكم القتل بالعصا والسوط عند من لا يرون قتل شبه العمد

    السؤال: الذين لا يرون شبه العمد في القتل، ماذا يسمون القتل بالعصا والسوط؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فمن قال بهذا القول يضعفون الحديث الوارد في شبه العمد، وأما القتل إذا كان بآلة أزهقت؛ فعند المالكية: يوجب القصاص، وقد بينا أن مذهبهم رحمة الله عليهم من أقوى المذاهب في مسألة القتل والقصاص في القتل، أما بالنسبة للحنفية رحمة الله عليهم فهم مع الجمهور في مسألة التقسيم، وزادوا القتل الجاري مجرى الخطأ، ولكن عندهم لا يقتص في المثقل، فلا يقتصون بالسوط ولا بالعصا؛ لأنهم يرونه قتلاً بالمثقل، وقد تقدمت معنا هذه المسألة، وبينا أن القتل بالمثقل يوجب القصاص؛ لحديث أنس في الصحيحين عنه رضي الله عنه وأرضاه: (أن امرأة من الأنصار وجد رأسها مرضوضاً بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهودياً؛ فأشارت برأسها: أن نعم. فأخذ اليهودي فأقر واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين). وهذا أصل عند العلماء في القصاص بالمثقل، وبه يقول جمهور العلماء رحمهم الله، وهم -أي: الحنفية- لا يرون القتل بالسوط والعصا، ولذلك يحتجون بحديث: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، على أنه لا يقتص بالمثقل، واستدلالاً بقصة المرأتين من هذيل، وقد أجبنا عن هذا، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، والله تعالى أعلم.

    مدى صحة الاستدلال بحديث العرنيين على جواز قتل الجماعة بالواحد

    السؤال: ألا يمكننا أن نستدل على أنه يقتل الجماعة بالواحد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل من قتل الراعي، وسمل أعينهم؟

    الجواب: يا أخي! لا تستدل، اترك الأمر للعلماء الجهابذة، هذه مسائل قُتلت بحثاً من بداية القرن الرابع عشر، فتأتي وتستدرج على العلماء! قتل الراعي هو قتل حرابة، وقتل الحرابة شيء، وقتل القصاص شيء آخر، فقتل الحرابة لا يرجع فيه إلى أولياء المقتول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما رجع إلى أولياء الراعي، ولا استأذنهم في القتل؛ أما القصاص فلا يجوز للإمام أن ينفذه إلا بإذن أولياء المقتول، ولذلك فقتل الحرابة أدق، فلا يفتي فيه إلا العالم الفقيه المتمكن، ولا يقدم عليه إلا القاضي الورع، الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه، وليس كل شيء حرابة؛ بل يحتاج إلى نظر وتعمق؛ لأنه متى حكم بكونه حرابة فإنه يأخذ حكم الحرابة، ومتى لا يحكم فلا يلحق بالحرابة.

    وهنا مسألة الراعي مسألة حرابة، والنص فيها واضح: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33]، فهذا نص جاء في المحاربة، وهم جماعة خرجت وحاربت، فهذا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ذمة المسلمين وحرمة المسلمين، فجاءوا إليه في البرية فقتلوه وسملوا عينه-والعياذ بالله- واستاقوا الإبل، فجمعوا بين الجناية على المال، والجناية على الروح، والجناية على البدن، وهي جرائم عظيمة، والجناية على الروح بالقتل؛ فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجناية على البدن بأن سملوا عينه ومثلوا حتى بجثته، ولذلك قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الراعي، والجناية على المال؛ لأنهم سرقوا الإبل، ومن هنا انظر كيف جاءت الآية: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33].

    ومن هنا فإن مذهب بعض السلف: أنهم إن قَتلوا قُتلوا، وإن مثلوا مُثل بهم، وصلبوا، وهذا كله نكاية بهم حتى يكون زجراً لغيرهم، والأمر الثالث: إن سرقوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذه كلها اجتمعت فيهم.

    والأقوام كانوا من عكل أو عرينة-الشك من الراوي- والحديث في الصحيحين وليس فيه إشكال، فإن هذا قتل حرابة لمن خرجوا عن جماعة المسلمين، وفي حكمهم العصابات المنظمة، كأن يجتمع خمسة أو ستة على إخافة السبل، أو الهجوم على البقالات وتكسيرها وإتلاف ما فيها، أو يهجمون على البيوت وتجمعات النساء، فهذه جريمة منظمة، يخططون ويرتبون وينشرون الرعب، فيحدثون عند الناس نوعاً من الرعب، وينحازون عن جماعة المسلمين، فقد حاربوا الله ورسوله، فهذه جريمة لها حكم خاص، وفي هذه الحالة لو أن هذه العصابات والجماعات جاءوا فقطعوا الطريق، أو أوقفوا حافلة في سفر، وأشهروا السلاح عليها، وأنزلوا من فيها، فبمجرد أن يفعلوا هذا فهذه محاربة، وإن أخذوا أموالهم فلهم حكم، وإن سفكوا الدماء فلهم حكم، قال بعض العلماء: الحكم للقاضي، حتى لو أنهم أنزلوهم بالسلاح والقوة والتهديد، أخذوا مالهم أو لم يأخذوها، مجرد الرعب أو إخافة السبل، فإنه يعتبر محاربة؛ لأن المسلم لا يفعل مع أخيه المسلم هذا.

    فصاروا محاربين بهذا، ولو فرضنا أنهم جاءوا وقتلوا شخصاً من المجموعة التي هجموا عليها، لانطبقت عليهم المحاربة، ولو أن الشخص الذي قتلوه قريب لهم، فجاء قريبه وقال: قد عفوت، وما أريد القصاص، ففي هذه الحالة نقول: الحق ليس لك، فهذه محاربة لله ورسوله، وسواء عفوت أو لم تعف فإن هذا ليس لك، ولا يمنع من قتله، فإذا رأى القاضي قتلهم فإنه يقتلهم.

    وفي هذه الحالة يفرق بين مسألة الحرابة وبين مسألة القصاص، وما نتكلم نحن فيه هو القصاص، وما تسأل عنه هو محاربة، وأوصي طالب العلم إذا قرأ المسائل فعليه أن يتدرج ويعي ويفهم ويضبط، ولن يرتقي في سلم العلم إلا بهذه الأمور، والمشكلة: أن بعض المربين والموجهين منذ الصغر في تربيته في المراكز والمدارس يحدث في الطالب نوعاً من التهور، كأن يقول له: أنت ما شاء الله عندك طاقات، وهذا من باب التشجيع، فيا أخي! لا تشجعه تهوراً، بل شجعه تعقلاً، وقل له: أخلص لله، اضبط العلم يفتح الله عليك، خذ العلم من سبيله تكن مثل أهله، فإن التشجيع يكون بالشيء المعقول، وهل من المعقول أنه وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، وهذا الكم الهائل من العلماء الجهابذة المشهود لهم لم يستطع أحدهم استنباط هذا الحكم؟ الله المستعان! وأنا لا أقول هذا تهكماً، أقول هذا لأن بعض العلماء في بعض القضايا المنهجية يشدد، ويريد منهجاً، فعلى طالب العلم أن ينتبه، كفانا جرأة على الاجتهاد، وجرأة في استخدام النصوص في غير ما هي له، فعليك أن تقف حيث وقف العلماء، وتفهم كما فهم العلماء، وتحكم الأمر كما أحكمه الحكماء، وإلا زلت القدم، وعندها يعظم الندم، ولات حين ساعة مندم.

    فمسائل الشريعة حساسة، ولو أن شخصاً كان من بداية الطلب عنده هذا الذوق، أنه يستكشف و... إلخ؛ لربما لا يوفق لعالم يبين له خطأه، وإذا به كل يوم يأتي بجديد، ومن الآفات التي ضرت الأمة اليوم مسألة الجديد، ولا يمكن أن يعترف لأحد جاء ليكتب بحثاً إلا إذا جاء بجديد، وما هو الجديد؟ أن يقال: ولقد عثرت على دليل في هذه الآية. لم يسبقني إليه أحد، وهذه الآية وإن قال العلماء: إنها تدل، فإنها لا تدل!! وهذا لا ينبغي، فينتبه الإنسان! فإن صلاح آخر هذه الأمة مقرون بما كان عليه أولها، وقديم الإسلام جديد، وجديده قديم ما تعاقب المنوان، وتتابع الزمان، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولن يمر قرن من الزمان خال من أهل الحق، فإذا جئت وقلت: الأولون ما عرفوا، فمعنى ذلك: أنه خلا قرن من معرفة الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، فمعنى ذلك: أن هذا الفهم الذي بقي في هذه الطائفة هو الذي تفهم به، وهو الذي تنضبط به، وهو الذي تسعد به في الدنيا والآخرة.

    فعلى طالب العلم أن يكون حريصاً على أن يتأدب ويفهم ويضبط، فإذا ضبطت ما معك وتفهمت، فأنت في خير وبركة، ولا تتجاوز ذلك إلى الفهم والاجتهاد، فليس وقتك وقت اجتهاد، ولم تعط آلة الاجتهاد، ولم يسغ لك شرعاً أن تنظر في آية فتستنبط منها حكماً، ولذلك فإن هذا الحديث ظاهره يدل على قتل الجماعة بالواحد، لكنه لا يدل، ولو قال الإنسان بدلالته لضرب النصوص بعضها ببعض، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن يكون متقيداً بحاله، فأنت في الطلب تحرص على جمع العلم وضبطه، وقراءة الأصول -علوم الآلة- التي تفهم بها كيف تستنبط، وكيف تستنتج، ثم تعرض فهمك واستنتاجك على العلماء، وبعد أن تمضي فترة طويلة تحصل بها هذا العلم المقرون بعلم السلف رحمهم الله وتنضبط بضوابطهم، سيفتح الله عليك وهو خير الفاتحين، ومن أخذ حيث أخذوا، وانتهل من حيث انتهلوا، ووضع القدم حيث وضعوا؛ فُتح عليه كما فُتح عليهم، وبورك له كما بورك لهم.

    فالخير الذي بارك الله به هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما نفع الله به في سلف هذه الأمة؛ سينفع الله به لخلفها، وفضل الله واسع، وليس محجراً في بعض العصور، وكما قال ابن المنير رحمه الله: فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجر واسعاً. فضل الله واسع، والله يؤتي الحكمة من يشاء، فإذا بدأت بهذه الخطوات؛ فحفظت كتاب الله، وحفظت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمت الأحكام، وجئت تطلب الفقه والأحكام، وصرت طالب علم يفهم، واستفرغت جهدك كله في حفظ ووعي ما يقال لك، ثم انتقلت بعد ذلك إلى درجة المقارنة لمن خالفك، وما دليله، وما حجته، وكيف تفهم دليل المخالف، وكيف ترد عليه، وكيف تقرر دليلك، وكيف تشيده، بعد هذا يفتح الله عز وجل عليك بدرجة الاجتهاد، لكن لا تستعجل، ولا يغرك الناس حينما يقولون: إن عندك الفهم، أو الاستنباط، أو ملكة، أو عندك كذا، فكل هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فالحق لا يعرف بطيب الكلام، ولا بلين الكلام، ولا بمدح المادحين، ولا بزخرفة المزخرفين، ولكنه حق ونور، لو أن أهل السماوات والأرض أرادوا أن يأخذوا هذا النور من حيث لم يأذن الله لم يستطيعوا إليه سبيلاً، ولو تكلم من تكلم، حتى ولو كتب، ولو فعل ما فعل، ولو كان البحر له مداداً، وكتب ما شاء، فلن يستطيع أن يجد قوة الحق إلا إذا أعطاه الله إياها.

    فهذا الذي ينبغي لطالب العلم؛ فلا تستطيع أن تفهم نصاً، وتحكم فهمه، وتصيب الحق في فهمه، إلا إذا فهمت كفهم السلف.

    وأختم كلمتي بأن نعرف من هم السلف؟ فلتعلم أن فيهم أقواماً منذ نعومة أظفارهم ما اكتحلت عيونهم إلا بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلم أن فيهم أقواماً حفظوا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دلالة وتقريراً، حتى أصبح الفهم يجري في عروقهم ودمائهم، فتجد الرجل يضبط أمره كما يضبط الواحد منا فاتحة الكتاب، فهم أناس ما كان عندهم إلا هذا الحق، وما كان عندهم إلا هذا العلم، منذ نعومة أظفارهم، أعرف علماء وأئمة شُهد لهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، فما عرف اللعب ولا اللهو، وما نشأ في بطالة، بل نشأ نشأة صالحة، ومثل هذا أكثر توفيقاً من الله، ولذلك يقولون: أوعى القلوب للخير الذي لم يسبق الشر إليه، ومن نشأ نشأة صالحة يفتح عليه بإذن الله عز وجل، ويُعطى نور العلم، ويُنفح من الله عز وجل بنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى، كما قالوا: أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.

    واعلم أن هذا الفقه الذي تدرسه اليوم في مجلس واحد في الأسبوع، أنهم كانوا يجلسون-وهذا معروف في كتب التراجم وطبقات الفقهاء- من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في مجلس الفقه، وهم لا يتجاوزون الثلاثة الأسطر، والأربعة الأسطر، يقرءونها، ثم يبينون معانيها، ثم يضربون الأمثلة عليها، حتى إذا استقرت وفُهمت، يأتي لعبارة من العبارات تحتاج لشواهد من اللغة، وتحتاج إلى معانٍ لغوية تشهد لها؛ فيغوص في بحور اللغة، ومعاني اللغة، ودلالاتها البلاغية.. لماذا قال المصنف هذا ولم يقل هذا؟ وهل هذه العبارة لها مفهوم أو لا مفهوم لها؟ فإذا انتهى من فهم العبارة ومفهومها الظاهر؛ شرع بعد ذلك في دليلها، وهذا الدليل حينما يقرره لك؛ إن كان حديثاً يحتاج إلى نظر في سنده نظر لك في السند، وإن كان حديثاً يحتاج إلى تقرير وجه دلالته قرر لك وجه دلالته، وإن كان آية من كتاب الله بين لك مطلقها ومقيدها، وعامها وخاصها، فيما هو فيه، ويقول لك: هي عامة، ودلالتها على هذا من باب العموم، وإن كانت وردت خاصة، ولذلك يقولون: هذا نص في موضع النزاع، أو نص في الدلالة، وبعد أن ينتهي من هذا كله تبدأ المراجعة والأسئلة، وإلى صلاة الظهر وهم ما قضوا الوطر من مسألة أو مسألتين، حتى أدركنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ساروا على هذا الدرب، وتتلمذوا على علماء أجلاء، يقولون: كنا نجلس من بعد صلاة الفجر إلى الظهر، يقول بعضهم: والله إني أفطر على تمرات من أجل أن أتفرغ لهذا المجلس، وما يقوم إلا لقضاء حاجته، والشيخ به سرور ونعمة، فكان العلم جنتهم وسرورهم وأنسهم، سلوا به حتى سلت أرواحهم عن ملذات الدنيا وشهواتها.

    فالعالم جنته في قلبه، ولا يقل أحد: سبحان الله! كيف يجلسون هذا المجلس؟ نعم؛ لأنهم يحفظون للأمة ثغورها، ولو جئت تقرأ كتب الفقهاء، وما فيها من الحكم الأحكام والأسرار، والفوائد في كل ميدان؛ لحار عقلك، وكل هذا ضبط بفضل الله عز وجل، ثم بفضل هؤلاء العلماء.

    ثم بعد هذا كله كتب تدون، ولا يمكن أن يخرج كتاب إلا لعالم معروف؛ لأن الكتب كانت عزيزة، تنسخ باليد، فما كانت هناك مطابع، ولا كانت هناك دراهم، فما كان كل شخص يشتري مطبعة ويطبع ما شاء ولا يمكن أن يكتب متناً، خاصة إذا كان متناً مذهبياً، وهذه ميزة المذاهب؛ أنها موثقة محفوظة، وجاءت بأيدي أمينة، وأيدي تحافظ على هذا التراث، فينبغي على طالب العلم أن يحافظ عليه، وأن ينفي عنه الكدر من التعصب، وترك مصادمة النصوص، ثم يأخذ ما صفا، ويدع ما كدر، فإذا فهم طالب العلم من هم السلف، ومن هم الماضون، وما هذا العلم الذي بين يديه، وكيف وصل إليه، وكيف أن الله حفظه، عندها يقول: يا رب! ألهمني حفظ هذا العلم والمحافظة على صوابه، واجعلني من أهله، فيحافظ على هذا الشيء.

    وانظر إلى طالب العلم الذي يجلس في مجلس العلم ويضبط كل كلمة، ثم بعد أن يقوم من المجلس يذهب ويكتب ما سمع وما وعى، ثم يرجع إلى الشريط ويسمعه المرة والمرتين، ويكتب، ويضبط، ثم يجلس دائماً يتفكر في هذه المسائل؛ حتى يحفظها في قرارة قلبه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، علم أن الله ائتمنه على هذه المسائل، والله ما من كلمة تسمعها في مجلس من مجالس العلم إلا نفض العالم الغبار عن نفسه، وأي حكم تسمعه من حلال أو حرام إلا برئت ذمة العالم إذا قاله، وأصبح في ذمتك، شئت أو أبيت، فلذلك لا نريد الاجتهادات، الآن نريد الضبط والتأصيل، نريد الإتقان، نريد جهابذة، نريد طلاب علم تنعم بهم العين، والحمد لله هم -إن شاء الله- موجودون، ولا نزكيهم على الله عز وجل، ينضبطون بهذا الكلام، ويلتقون بأهل العلم، ويأخذون، وبعد هذا-إن شاء الله- سيفتح الله وهو خير الفاتحين.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756452318