إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أنواع القتل: قتل شبه العمد، وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالباً فقتل بها، ومن صوره: أن يضرب بسوط أو عصا، أو يلكزه بيده، فيموت بذلك، وفيه خلاف، والصحيح وجوده. ومن أنواع القتل: قتل الخطأ، وهو أن يرمي شيئاً فيصيب إنساناً لم يقصده فيقتله، ويندرج تحت القتل الخطأ: عمد الصبي والمجنون.

    1.   

    قتل شبه العمد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً].

    خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به

    شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل).

    وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع.

    وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

    والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.

    وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.

    فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.

    ضابط قتل شبه العمد

    قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً]

    فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالباً، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالباً- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد.

    إذاً: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملاً لآلة تقتل غالباً.

    وقوله: [ولم يجرحه بها].

    لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك.

    صور قتل شبه العمد

    قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل].

    فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيداً عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالباً، فترجح أن موته قدراً، وليس بفعل الجناية.

    وقوله: [بسوط].

    أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله.

    فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتاً، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالباً، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معيناً على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالاً تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضرباً مكرراً مفضياً إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط!

    وبناءً على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعاً للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالباً؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص.

    وقوله: [أو عصا صغيرة].

    إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبياً أو صغيراً وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالباً؛ فإنه قتل عمد.

    وقوله: [أو لكزه].

    أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيراً؛ كما لو أخذ طفلاً في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد.

    إذاً: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضاً، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالباً، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطاً بين ما لا يقتل غالباً وما يقتل غالباً، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام.

    وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفاً، أو مريضاً، أو شيخاً هرماً، أو طفلاً صغيراً؛ تقتله اللكزة غالباً، أو كان شاباً قوياً جلداً، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالباً مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص.

    وقوله: [ونحوه]. أي: شبهه.

    1.   

    قتل الخطأ

    قال المصنف رحمه الله: [والخطأ أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيداً، أو غرضاً، أو شخصاً، فيصيب آدمياً لم يقصده].

    قوله: (ما له فعله) أي: ماله أن يفعله عمداً، وهذا النوع من أنواع القتل، وهو قتل الخطأ، والغالب في المسلم، بل الأصل في المسلم ألا يقتل أخاه إلا خطأً، ومن هنا قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92].

    مقاصد الشريعة من إيجاب الدية والكفارة في قتل الخطأ

    وقتل الخطأ لا يتوفر فيه قصد إزهاق الروح، ولا قصد الجناية على المسلم، ومن هنا كان أخف أنواع القتل، ولكن الله عظم أمر الدماء، ومن حكمته سبحانه وتعالى أنه أوجب على القاتل خطأً أن يضمن النفس، فصار حقاً للآدميين، وأن يضمن حق الله في الكفارة؛ وهي عتق الرقبة، فإن لم يجد أو لم يستطع شراءها فإنه يصوم شهرين متتابعين توبة لله عز وجل.

    والحكمة في هذا ما ذكر بعض أهل العلم: أن كل إنسان يقتل خطأً لا يقتل إلا بإهمال، وأنه ما من نفس مؤمنة تزهق، وتقتل خطأً إلا وهناك تقصير وإهمال من القاتل، وبناءً على ذلك وجبت الكفارة صيانة للأنفس، وحتى يحتاط الناس فيما يوجب الزهوق، فلا يتساهلون فيه، ولا شك أن في ذلك خيراً كثيراً للعباد، الله عز وجل أعلم وأحكم بها.

    وقد أجمع العلماء على أنه لا يقتص بقتل الخطأ؛ بمعنى: أنه لا يوجب القصاص، وأجمعوا على أنه يوجب الدية كاملة مسلمة إلى أهل المقتول المسلم المعصوم الدم، بالإضافة إلى الكفارة التي هي عتق الرقبة، وأنه إذا عجز عن الكفارة بالعتق فإنه ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين توبة منه لله عز وجل من التقصير، وتعظيماً لأمر الدم كما ذكرنا، وإلا فهو لم يقصد، والله عز وجل يقول: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5].

    ومن قتل خطأً لم يحكم بإثمه، ولكن الله تعالى عظم أمر الدماء والأنفس، حتى لا يتساهل في ذلك، فإذا تصور المسلم أن القتل وقع بقيادة سيارة مثلاً ساقها، فصدم شخصاً فقتله؛ فإنه يلزم بالدية، فإذا دفع الدية فإنه يتحفظ عن أن يزهق أرواح الناس بالتساهل في قيادته وسياقته، وكذلك أيضاً إذا أعتق الرقبة، فإذا لم يجدها صام شهرين متتابعين؛ فإذا رآه غيره اعتبر، فتصبح الأنفس مهابة، والحرمات معظمة، بخلاف ما إذا قيل: إن هذا أخطأ، فلا شيء عليه، فإن الأمر يكون دون ذلك، فيتساهل الناس في الأسباب الموجبة للزهوق، وإذا جاء الطبيب في طبه وعلاجه فخرج عن السنن والقواعد المعتبرة عند أهل الخبرة، أو تساهل في تدبير أمور المريض؛ حتى زهقت نفسه ومات، فإنه يحكم عليه بالدية، فيضمن هذه النفس، ويحكم بوجوب الكفارة عليه، فعندها يتحفظ الأطباء في أرواح الناس وأجسادهم، وقس على ذلك غيرهم ممن يخطئ وتحصل منه الجناية.

    وكذلك في البر؛ فلو أنه خرج ورمى غزالاً وظنه صيداً، فمر شخص بينه وبين الغزال؛ فقتله، أو رمى شاخصاً يظنه فريسة؛ فإذا به إنسان، فإنه في هذه الحالة سيدفع الدية لأهله، ثم بعد ذلك يكفر الكفارة الشرعية، الأمر الذي يجعله إذا أراد وفكر أن يصيد بعد ذلك يتحفظ غاية التحفظ، وإذا علم غيره بخطئه تحفظ أيضاً، فابتعد عن الأماكن التي فيها الناس، ورمى على وجه يأمن فيه غالباً من الخطأ، وكل هذا حكمة من الله سبحانه وتعالى.

    ولا شك أن الأصل يقتضي أن المخطئ لا شيء عليه، ولكن العلماء بينوا أن الشريعة أوجبت هذه العقوبات، وتسميتها عقوبات تجوزاً، فإن المعاقبة بالكفارة وبالدية صيانة للأنفس، وصيانة للأرواح، وحتى لا يتساهل الناس في الدماء، وفي إزهاق الأرواح، ولا شك أن من نظر إلى هذه الأحكام وعواقبها؛ فإنه يجد ذلك جلياً.

    وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ [الأحزاب:5] لا يعارض وجوب الكفارة ووجوب الدية؛ لأن قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) أي: ليس عليكم إثم، فمن هنا من قتل خطأً لا إثم عليه، لكن لا يمنع هذا أنه يضمن للناس حقوقهم، ولا يمنع هذا أنه لا يقع في هذا الخطأ إلا بنوع إهمال وتقصير؛ فيترتب على هذا الإهمال ما يوجب زجره وجبر النقص الموجود فيه، من باب الخطاب الوضعي، لا من باب الخطاب التكليفي. وهذا كما قرره الأئمة في كتاب المقاصد ومباحثه: أن المؤاخذ هنا من باب الخطاب الوضعي، وليس من باب الخطاب التكليفي؛ لأن الخطاب التكليفي يفتقر إلى وجود نية وقصد، وهذا لم يقصد القتل، فاستشكل العلماء: كيف أوجبت الشريعة على من يقتل خطأً الضمان والكفارة، مع أنها لا تعتبر عمل الشخص إلا بنية، والأصل أنه لا عمل إلا بنية، فهو لو كان ناوياً للقتل لصح أن يؤاخذ بالضمان، وأن يؤاخذ بالكفارة؟ وقد أجاب على ذلك الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه النفيس (الموافقات)، وفي كتاب المقاصد منه؛ فقال: (إنه وإن لم يكن قاصداً للقتل-النية غير موجدة- فإن هذا من باب الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي لا يشترط فيه النية).

    ومعنى الخطاب الوضعي: أن الشريعة وضعت علامات وأمارات حكمت بأحكام عند وجودها، بغض النظر عن كون الإنسان قاصداً أو غير قاصد.

    فمثلاً: قالت الشريعة: من أتلف شيئاً رد مثله، أو دفع قيمته، بغض النظر عن كونه قاصد لهذا الإتلاف أو غير قاصد، فهذا يسمى بالخطاب الوضعي، ولا يشترط فيه القصد والنية.

    ولهذا نظائر كثيرة؛ منها مثلاً: الطلاق؛ فمن طلق زوجته هازلاً فهو ما قصد الطلاق، وما نوى الطلاق؛ بل كان يمزح مع زوجته، فقال لها: أنت طالق، فأوجبت الشريعة عليه تطليق زوجته؛ لأنها جعلت هذا من باب الخطاب الوضعي، بغض النظر عن نيته قاصداً أو غير قاصد.

    وهذا يسمى: الحكم بالعقوبة بخطاب الوضع، وبناءً على ذلك لا تعارض بين المؤاخذة بالنيات، وبين العقوبة التي وردت هنا بالكفارة والدية؛ من باب الزجر، ومنع الناس من التساهل في الدماء وإزهاقها.

    صور القتل الخطأ

    قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يرمي ما يظنه صيداً] .

    الآلة التي رمى بها وهي: السلاح تفعل فعل العمد، فتوجب زهوق النفس، لكن في شبه العمد الآلة لا تقتل غالباً، ومن هنا فإن الخطأ يكون برمي شيء بشيء قاتل يظنه غير معصوم؛ فبان معصوماً، كأن رمى بهيمة فأصاب إنساناً، ونحو ذلك،

    فالآلة قاتلة، والمرمي مقتول، ولكن الرامي لم يقصد المقتول، ولم يرده.

    وقوله: [أو غرضاً].

    مثلاً: وضع هدف فرمى الناس على هذا الهدف، فلما رموا الهدف، مر شخص بينهم وبين الهدف، فهذا إذا قتلوه فهو قتل خطأ.

    وقوله: [أو شخصاً].

    كأن رمى كافراً مهدر الدم -حربياً- فجاء مسلم بينه وبين الكافر فقتله، ومن رمى مسلماً يظنه حربياً، ففيه خلاف مشهور بين العلماء رحمهم الله، لكنه عند بعض أهل العلم يدخل في هذا؛ لأنه ظنه كافراً فبان مسلماً، فليس بقتل عمد.

    وقوله: [فيصيب آدمياً لم يقصده].

    أي: لم يقصده بالقتل.

    حكم عمد الصبي والمجنون

    قال رحمه الله: [وعمد الصبي والمجنون]

    أي: وعمد الصبي والمجنون خطأ؛ لأن الصبي غير مكلف، فلو تقاتل صبيان، فأخذ صبي منهما السلاح فطعن الآخر وقتله، فإنه لا يقتص من الصبي القاتل؛ لأنه غير مكلف، وغير مؤاخذ؛ لعدم وجود العقل الذي هو مناط التكليف، ولكن تجب عليه الدية، فإن كان للصبي مال؛ وجبت في ماله، والأصل عند العلماء رحمهم الله أن عمد الصبي والمجنون خطأ؛ لعدم التكليف، فإن كان للصبي عاقلة ضمنت عنه الدية، وإلا كانت من بيت مال المسلمين، على الأصل المعروف في باب الديات.

    فالشاهد: أن الصبي إذا تعمد القتل فعمده خطأ، وإذا تعمد الإتلاف فعمده خطأ.

    ولو جاء صبي وكسر سيارة شخص، وجب ضمان هذا الشيء المكسور، ويجري عليه مجرى الخطأ، ولا يجري عليه مجرى العمد؛ فإذا تعمد شخص إتلاف شيء، ولا تضمن عاقلته إذا كان فوق ثلث الدية؛ لأن العاقلة تعقل -وسيأتينا إن شاء الله- وهذا نظام شرع في الإسلام، نظام العاقلة: وهم القرابة والعصبة، وهم يتحملون الدية في الخطأ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأتين من هذيل بالدية على عاقلة المرأة القاتلة، فهذا يدل على أن الصبي إذا قلنا: إن قتله خطأ؛ فعاقلته تعقل، وإن قلنا: عمده خطأ، فمما ينبني على ذلك ضمان الجناية، سواء أتلف مالاً أو نفساً، فإنها تأخذ حكم القتل بالخطأ.

    ولو أن مجنوناً -والعياذ بالله- أخذ سلاحاً وقتل شخصاً، فإنه لا يقتص من المجنون؛ لأنه غير مكلف، ويجب أن يضمن أولياء المجنون وعاقلته الدية، ولو أنه جنى جناية؛ فقطع يد شخص، أو أتلف مال شخص، فهذا كله يعتبر من الخطأ؛ لعدم التكليف في المجنون والصبي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757074102