إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الطلاق في الماضي والمستقبل [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الطلاق له أنواع وأقسام، ومن أنواعه ما يكون معلقاً على شيء معين، إما في الماضي أو المستقبل، وهذا مذكور في كتب الفقهاء.

    1.   

    ألفاظ الطلاق في الماضي والمستقبل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    قال رحمه الله تعالى: [باب الطلاق في الماضي والمستقبل].

    ذكرنا أن الفقهاء رحمهم الله ذكروا هذه الأبواب والمسائل والفصول والمباحث لوجود الحاجة، فإن الناس تختلف ألفاظهم بالطلاق، فمنهم من يلتزم اللفظ الشرعي الوارد ويتبع المسنون في طلاقه، ومنهم من يتلفظ بالطلاق على وجهٍ بدعي، ومنهم من يتلفظ بالطلاق بألفاظٍ يتأثر فيها بعرفه وبيئته، وعلى هذا لا بد من بيان هذه الأحكام والمسائل لحاجة الفقيه إليها إما للفتوى وإما للقضاء وإما للعلم والتعليم؛ ولذلك فصلوا هذه المسائل ورتبوا أبواب الفقه حتى يكون الفقيه على إلمام بأحوال الطلاق وصوره وألفاظ الناس فيه، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم إذا تلفظ بالطلاق أنه يؤاخذ به، ونصوص الكتاب والسنة من حيث الأصل تُلزم المطلق بطلاقه، بل وجدنا الشرع يشدد في لفظ الطلاق حتى أمضاه على الهازل، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثٌ جدهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والعتاق).

    فأثبت عليه الصلاة والسلام أن جد الطلاق جد وأن هزله جد، وعلى هذا قال العلماء رحمهم الله: لفظ الطلاق خطيرٌ شرعاً، والمسلم يؤاخذ به من حيث الأصل العام، حتى أن الشرع التفت إلى ظاهره وأسقط الباطن كما في الهزل.

    وعلى ذلك فالأصل يقتضي مؤاخذة الناس في ألفاظ الطلاق، إلا إذا قامت الأدلة على استثناء ألفاظ معينة وعدم مؤاخذة أهلها.

    وفي بعض الأحيان يكون اللفظ دالاً على الطلاق دلالةً بينة بالأصل اللغوي والوضع اللغوي فلا إشكال فيه عند ذلك، وتارةً ينصرف عن ذلك بعرف، فيتلفظ الناس بألفاظٍ يعرف بالعرف أنها توجب التأثير في لفظ الطلاق.

    وعلى هذا يحتاج الفقيه إلى معرفة الألفاظ التي يعتد بها وتؤثر، واللغة دالة على تأثيرها، والألفاظ التي يظهر أنها لغو وأن من تكلم بالطلاق ونطق بها لا يعتد لفظه ولا يكون طلاقه على الوجه الشرعي ألبتة.

    وبناءً على ذلك نحتاج إلى مباحث الطلاق في المستقبل والماضي، فقد يكون الطلاق معلقاً على المستحيل كقوله: إن طرتِ في الهواء، وإن قلبتِ الماء سمناً، إن جعلتِ الحديد ذهباً ونحو ذلك من المستحيلات، كذلك تعليق الطلاق على الأفعال والصفات والأزمنة: إن جاء زيدٌ، إن جاء رمضان، إذا ذهبت إلى أبيك، إذا دخلت دار أبيك، إذا كلمت فلانة ونحو ذلك، كلها أمورٌ لا بد من بحثها فقد عمت بها البلوى، وكثرت منها الشكوى، ووقع فيها الناس على حسب اختلاف فئاتهم وأعرافهم.

    وقد استفتح المصنف هذه المسائل بمسألة الطلاق في الماضي والمستقبل، فالمطلق إذا طلق ونجز طلاقه وقال لامرأته: أنت طالق، وسكت فهذا الأصل، وهي طالق، وقد بينا أن التعبير بهذا اللفظ مؤثر وموجبٌ لانحلال العصمة؛ لكن الإشكال إذا أسند الطلاق على وجهٍ مستحيل، فإنه حينئذٍ يكون كمن لم يطلق وكأن الطلاق لم يصادف وجهاً صحيحاً يمضي وينفذ به، فتارةً نصحح الطلاق في زمان إذا أسنده إلى زمان، وتارةً لا نصححه، فهو إذا طلق في الحال فلا إشكال، ولكن إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ بالأمس، أنت طالقٌ أمس، فقد أسند الطلاق إلى الأمس، مع أنه في الأمس لم يطلق زوجته، كذلك: أنت طالقٌ قبل يومٍ، أنت طالق قبل أسبوع، أنت طالقٌ قبل شهرٍ، فهذا قد أسند فيه الطلاق على وجه لم يقع فيه الطلاق، ويكون كذباً؛ لأنه لما قال: أنت طالقٌ قبل شهرٍ، أنت طالقٌ قبل سنةٍ، وهي لم تطلق لا قبل شهرٍ ولا قبل سنةٍ ولا قبل ساعةٍ، كان حكاية كذبٍ، وهو اللغو الذي لا يعتد به.

    لكن إن قال لها: أنت طالقٌ بعد يومين، أنت طالق إن جاء الغد، أنت طالق إن جاءت الجمعة، أنت طالقٌ إن مِتُّ، أنت طالقٌ إن مرضتُ ونحو ذلك، فقد أسنده إلى المستقبل. فأصبح عندنا ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: أن يسند الطلاق إلى الماضي.

    والحالة الثانية: أن يسند الطلاق إلى الحاضر والحال.

    والحالة الثالثة أن يسند الطلاق إلى المستقبل العاجل.

    يقول رحمه الله: (باب الطلاق في الماضي والمستقبل) وسكت عن الحاضر؛ لأن الأصل أن الحاضر يمضي به الطلاق، فلا نبحث في شيءٍ حاضر، ولكن سنبحث في جانبين:

    إما طلاقٌ مسند لماضٍ وهو شيءٌ قد ذهب، وإما طلاق مسند إلى مستقبلٍ سيأتي.

    1.   

    الطلاق في الماضي

    قال رحمه الله: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع ].

    قوله: (أنت طالقٌ أمس) أمسِ من الأسماء التي يلغزون فيها، يقولون: اسمٌ إذا عُرّف أصبح نكرة، وإذا نكّر صار معرفةً، فأمس هو الذي قبل اليوم، وإذا قلت: بالأمس، فإنه يستغرق الزمان الماضي، ويكون نكرةً عامةً لما مضى؛ ولذلك قال الله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24].

    فقوله: أنت طالقٌ أمس، أو أنت طالق بالأمس، أسند الطلاق إلى ما قبل اليوم؛ فإن لم يكن قد طلق امرأته قبل يومه ولم ينو به الطلاق حالاً لم تطلق زوجته.

    وعلى هذا يقولون: إذا قال لها: أنت طالقٌ أمس، فقد حكى كذباً، والكذب لغوٌ، والأصل أنها زوجته، والقاعدة الشرعية تقول: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فالأصل كونها زوجةً له، ولا نرفع هذه العصمة إلا بدليلٍ، ولا دليل يدل على أنه قصد الطلاق أو أراد وقوعه.

    قوله: (أو قبل أن أنكحك).

    فلو قال رجل لزوجته: أنت طالقٌ قبل أن أنكحكِ، وكانت قد تزوجت رجلاً قبله، ثم طلقها ذلك الرجل، فإن كان يخبر أنها قد طلقت منه، فهذا صحيحٌ ولا يقع عليه طلاق؛ لأنه حكى شيئاً قد وقع، فتكون جملةً خبرية لا إنشائية.

    قوله: (ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع).

    أي: لم يقع الطلاق، فإن نوى وقوعه وقع.

    قال رحمه الله: [ وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبِل ].

    مثل ما ذكرنا: أنت طالقٌ بالأمس، وقصد أنها طلقت من بعلها الأول صح ذلك؛ لأنه ممكن.

    حكم طلاق من مات أو جن ولم يعرف مراده بلفظ الطلاق

    قال المصنف رحمه الله: [فإن مات أو جن أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق].

    ذكرنا أن العلماء رحمهم الله -وهذا من دقة الفقهاء الأولين وهي سمة من السمات العظيمة التي امتاز بها الفقه الإسلامي- كانوا لا يعطون الفتوى والحكم مجرداً عن الأثر، أي: حينما يقولون لك: إذا نوى فالحكم كذا، وإذا لم ينو فالحكم كذا، يعني: إذا أعطاك شيئاً يختلف بحسب النية؛ فإنك تعرف أن الحكم إذا نوى وقع، وإذا لم ينو لم يقع، فيرد السؤال: إذا توفي أو جُنّ أو خرف أو أصابته عاهة ولم نستطع أن نعرف نيته، فهذا سؤالٌ وارد ومحتمل عقلاً؛ ولذلك نجد أن فرضيات الفقه في الفقه الإسلامي لم تأت من عبث ولا جاءت من فراغ.

    فهذه الكتب كانت تؤلف وتكتب في أزمنة فيها جهابذة العلماء، أزمنة ما كان يخط رجلٌ في قرطاسه ولا يخط بقلمه إلا وقد عرض عقله على أئمة ودواوين العلم، فإما أن يكون بُهجةً للناظرين، وإما أن يكون في أسفل السافلين فلا يعتد به، فهذه الكتب حينما تجد فيها الفرضيات ما جاءت من فراغ، نعم قد يوجد التكلف في بعضها؛ لكن نحن نتكلم عن شيء له حاجة وشيء متصل بالأصل، فإذا تقرر أن الأصل الشرعي يفرق بين من نوى ومن لم ينو، ورسول الأمة عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، ففرق بين من نوى ومن لم ينو، فإذا جئت تقول: إن نوى وقع وإن لم ينو لم يقع؛ فإن الفرض العقلي يستلزم أن تبين؛ لأن الشريعة كاملة، ولا بد أن يأتيك شخص ويقول لك: والدي قال كذا، ونسينا ونسي أن يسأل ثم توفي، هل نحكم بأنه مات وزوجته في عصمته، أم أن والدتنا مطلقة؟ فهذا كله يحتاج إلى بيان، فالفرضيات ما جاءت من فراغ، وما كان أهل العلم ودواوين العلم ليضيعوا أوقاتهم وأعمارهم، وما كان أئمة الإسلام الذين عُرِفوا بالنصح لأتباعهم ومن أراد قراءة كتبهم ورضيهم حجةً بينهم وبين الله أن يضيعوا أعمارهم بالفرضيات عبثاً، فلم توضع هذه الفرضيات إلا بترتيب مبني على الأصول الشرعية، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان.

    فلا يعرف قدر هؤلاء العلماء إلا من بُلي بالفتاوى، ومن وقف أمام المعضلات والمشكلات في القضاء يعرف عندها هذه النوازل والفرضيات، والله يعلم كم من مسائل نزلت على المفتي في ظلمة الليل وضياء النهار، فحار فيها عقله والتبس عليه أمره، حتى وجد فرضية من إمام متقدم، فأصبح يترحم عليه كلما ذكر أمره؛ لأنه وقع في كرب لا يعلمه إلا الله، فما زالت عنه كربته إلا بفضل الله وفي تلك الساعة الموفقة التي وجد فيها هذه المسألة العجيبة، حتى تجد بعضهم يقول: إنها مسألة تُعمل لها المطي، أي: إنها مسألة مشكلة، فلما يجدها الإنسان في وقتها وعند الحاجة إليها يحس بفضل العلماء، ويحس أنهم فعلاً قصدوا النصيحة لهذه الأمة.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيهم عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علم، وأن يسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وأن يجعلهم في أعالي الدرجات، وأن يجمعنا بهم في نعيم الجنات.

    المقصود من هذا التنبيه: أن المصنف رحمه الله قال: إن قال: أنت طالق بالأمس، ونوى وقع حالاً، ومفهومه أنه إذا لم ينو لم يقع وصرح بذلك المفهوم، وعليه يرد السؤال: إذا مات أو جُنّ قبل بيان مراده -ولا يُلتفت إلى مسألة الموت أو الجنون؛ لأنها أمثلة تذكر لأصل التعذر، وهو تعذر الاستبيان، فليست العبرة بالأمثلة، بل المهم أن تفهم الأصل؛ ولذلك لما تفهم الأصل يسهل عليك الاستحضار، وتكون عندك الملكة الفقهية- وقال هذا الكلام المحتمل الذي يختلط فيه الحكم بين الظاهر والباطن، وجب حينئذٍ أن ننظر إلى نيته، ولا يمكننا أن نطلع عليها إلا إذا عبر الإنسان عن مكنون نيته وخفي قلبه، وربما تعذر أن نعرف منه ذلك، إما أن يتعذر بموتٍ أو يتعذر بفقد النطق وعدم القدرة على الكتابة وعدم وجود الإشارة المفهمة، أو يتعذر بجنون، فالمجنون لا يستطيع أن يعبر عن مكنون نفسه، والميت لا نستطيع أن نسأله ويجيب، وكذلك أيضاً بالنسبة لمن خرس لسانه وهو لا يعرف الكتابة، ولا يستطيع أن يتكلم أو يشير إشارة مفهمة، فهذه أمثلة على الاستعجام وعدم إمكان الاستبيان.

    قوله: (فإن مات) مثل: رجل جاء ورثته فقالوا: والدنا قال لأمنا: أنتِ طالقٌ بالأمس، ثم توفي ولم نجد من نسأله، ومضى على هذا الكلام سنة فهل من الممكن أن تخرج المرأة من عصمته، ونحكم بكونها قد طلقت ولا إرث لها، أو نحكم بكونها زوجة وهذا الكلام غير مؤثر؟

    فبيّن رحمه الله قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ومعنى ذلك: أن الأصل أنها زوجته وشككنا في طلاقها، فنبقى على الأصل من أنه لم ينو الطلاق حالاً؛ لأنه أسنده إلى الأمس، وقوة اللفظ بالأمس توجب عدم وقوع الطلاق، فلا نحكم بكونها مطلقةً، والسيوطي في الأشباه والنظائر، ومثله ابن نجيم وعلماء القواعد الفقهية ذكروا في كتبهم أن من تفريعات قاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان): استصحاب الزوجية إذا ترددت نيّة الطلاق بين أن يكون نوى الطلاق أو لم ينو، فنقول الأصل: أنه لم ينو، وعلى هذا لا تطلق عليه زوجته.

    أحكام الطلاق في الماضي

    وخلاصة الكلام: أن الزوج إذا أسند الطلاق إلى الماضي على وجه لا يمكن تأويل وقوع الطلاق به؛ فإنه لا يقع الطلاق، فإذا قال لزوجته اليوم: أنتِ طالق أمس، فإنه إذا لم يقصد إيقاعه حالاً وقصد إسناد الطلاق إلى ظرف الأمس، فإن الأمس قد ذهب، وحينئذٍ كأن الطلاق حينما تلفظ به الزوج لم يصادف محلاً يتعلق به، وعليه: فلا ينفذ هذا الطلاق، وبينا وجه ذلك وشرحناه، وقلنا: إذا قال في هذه الحالة أنتِ طالق قبل أن أنكحكِ، وأنتِ طالق بالأمس، أو أنتِ طالق أمس، أنه إذا قصد حكاية طلاق كان قد وقع على المرأة بقوله: قبل أن أنكحكِ؛ صُرِف إليه، كأن يكون تزوجها رجل من قبل وطلقها، ثم نكحها هذا الرجل أو هذا الزوج فقال: قصدت بقولي: (أنتِ طالق) قبل أن أنكحكِ، أي: من زوجكِ الأول، فلا ينفذ عليه الطلاق؛ لأنه لم يطلق حقيقةً، وإنما حكى طلاق الغير، والحاكي لطلاق غيره لا يُلْزم بالطلاق.

    قوله رحمه الله: [ولم ينوِ وقوعه في الحال] لو قال رجل لامرأته: أنتِ طالق أمس، ونوى أنها تطلق عليه بهذا اللفظ حالاً؛ وقع الطلاق، وكذلك لو قال: أنتِ طالق، ثم قال: قبل أن أنكحكِ، من باب التهرب من الطلاق، وكان قد نوى بقوله أولاً: (أنتِ طالق) إيقاعَ الطلاق، وقع الطلاق.

    قوله: (وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبِل)

    كأن يكون طلق امرأته طلقة ثم راجعها بعد الطلقة، ويوماً من الأيام بعد رجعته لها قال: أنتِ طالق بالأمس، وذكرنا أن (أمس) إذا عُرفت صارت نكرة، وإذا جاءت نكرة صارت معرفة، قال تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24] فهو إذا قال لها: أنتِ طالق بالأمس، وقصد أنها طلقت منه طلقةً، فإنه يكون حاكياً لهذه الطلقة ولا تطلق عليه.

    وذكرنا أن العلماء رحمهم الله يذكرون الحكم ولربما يفصلون فيه، وهذا التفصيل قد يختلف بحسب اختلاف نية المتلفظ بالطلاق، فنحتاج أن نسأل المطلق: ما الذي قصدت؟ هل قولك: أنتِ طالق بالأمس قصدت به إيقاع الطلاق حالاً؟ قال: لا، قصدت بالأمس أنها طلقت مني طلقة قبل هذا الكلام، فإن أمكن ذلك حملناه عليه، فإذا نوى حكاية طلاق منه أو من غيره لم يقع الطلاق؛ لأن حكاية الطلاق ليس بطلاق، ولذلك قالوا: حكاية الكفر ليست بكفر، فعلى هذا قالوا: إذا حكى الطلاق عن غيره أنه طلقها، أو حكى طلاقاً سابقاً منه؛ فقد تحققنا أنه لا يريد تطليقها، لكن المشكلة إذا قال لها: أنتِ طالق بالأمس ولم يفصح عن نيته، فقال رحمه الله: (فإن مات أو جن أو خرس...) بحيث لا نستطيع أن نعلم منه ما هي نيته، ولا نستطيع أن نسأله.

    وذكرنا من أمثلة هذه المسألة: رجل قال لامرأته: أنتِ طالق بالأمس، ثم توفي هذا الرجل وجاء ورثته يسألون، فهل في هذه الحالة نحكم بكونها زوجة؛ لأن الأصل بقاء الزوجية وشككنا في طلاقه؛ لأن هذا اللفظ الذي ذكره يحتمل أنه نوى إيقاع الطلاق، فتكون زوجته قد طلقت عليه، ولربما كانت أجنبية منه إن كانت الطلقة ثالثة، فتوفي وهي ليست في عصمته، ولربما حكى طلاقاً سابقاً منه أو من رجل كانت تحته قبل زواجها منه فلا يقع به الطلاق؟ فإذاً معنى ذلك: أن الميت الذي تلفظ بهذا اللفظ نحن مفتقرون إلى معرفة نيته، حتى نوقع عليه الطلاق أو لا نوقعه، فإن كان حاكياً للطلاق فلا نوقعه، وإن كان ناوياً للطلاق حالاً فنوقعه، ولربما خرجت من عصمته كأن تكون الطلقة الأخيرة، فإذاً: ليس عندنا ما يميز الحال.

    وذكر رحمه الله أن هذا اللفظ إن أمكن فيه التمييز تميز بحسب ما يميزه، وإن لم يمكن فيه التمييز -وهي القسمة العقلية- قال: الأصل بقاء النكاح، ولا نحكم بوقوع الطلاق؛ لأننا عندنا احتمال أن يكون حاكياً للطلاق، والقاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان)، وخذ هذه القاعدة: أنه متى شككنا في وقوع الطلاق وعدم وقوعه؛ فإننا نستصحب بقاء الزوجية، ولا نحكم بكون المرأة مطلقة، ومتى شككنا هل اللفظ يقتضي الطلاق أو لا يقتضيه، وهل نوى أو لم ينو؛ فالأصل أنها زوجته حتى نتحقق من نيته على وجه يوجب حل العصمة بالطلاق؛ لأن القاعدة: (أن الأصل بقاء ما كان على ما كان) وهذه القاعدة هي في الحقيقة مفرعة على القاعدة التي سبق وأن ذكرناها: (اليقين لا يزال بالشك) فنحن على يقين أنها زوجته، وعلى يقين أن هذه الزوجية باقية ما لم نتيقن أنه طلقها وخرجت عن عصمته، فحينئذٍ نقول: هذه زوجته، ونقول لورثته: لا نجزم بكون هذا اللفظ موجباً للطلاق حتى نتحقق أنه نواه، ولا يمكن التحقق، فنبقى على الأصل.

    قوله: (أو جن)

    وهكذا إذا جن، قلنا: مسألة: مات أو جن أو خرس ليست هي المهمة، المهم أن تأتي بشيء يمنع من معرفة الحقيقة، فهو إذا مات لا يمكن أن تسأله، وإذا جن لا يمكن أن تثق بكلامه، وإذا خرس لا يستطيع أن يتكلم إلا إذا كان ثم إشارة مفهمة أو كتابة مستبينة.

    قوله: (قبل بيان مراده لم تطلق)

    وذلك كما ذكرناه.

    وخلاصة ما ذكرنا في قوله: (أنتِ طالق بالأمس) أن هذا اللفظ يأتي على ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: إما أن يقصد إيقاع الطلاق في الحال، وكلمة (أمس) تعتبر لغواً، والعبرة بقوله: أنتِ طالق.

    الوجه الثاني: أن ينوي حكاية أمر سابق، فلا إشكال أنه بحسب ما يحكيه.

    الوجه الثالث: أن لا يستبين لنا الأمر، فنبقى على العصمة والأصل.

    وذكرنا أنه لو قال لها: (أنتِ طالق أمس) ولم يقصد إيقاع الطلاق حالاً، ولم يحك طلاقاً سابقاً، وقصد أن الطلاق وقع بالأمس فلا يقع؛ لأن الطلاق جاء بلفظ لا يمكن أن يقع عليه، لأن الأمس قد ذهب وهو يقول: أنتِ طالق أمس، وأمس ما وقع فيه طلاق، قالوا: فصار كلامه كذباً، والكذب لغو لا ينبني عليه حكم شرعي، فيكون هذا من اللغو. ما لم يقصد به الطلاق حالاً، لكن يرد هنا إشكال: أن الرجل لو قال: أنتِ طالق بالأمس، ونوى أنها طالق حالاً فكيف يقع هذا ؟ تقول: يكون قوله: أنتِ طالق، نوى به الطلاق فطلقت، ويكون قوله: بالأمس، لغواً لا تأثير له، كرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق، ثم يسكت على وجه لا يمكن فيه الاستثناء ثم يستثني، فإن قوله: أنتِ طالق، وسكوته بعد قوله: أنتِ طالق، فهمنا منه أنه قصد إيقاع الطلاق، فكان ما بعده من الاستثناء والقيد لا يؤثر.

    1.   

    أحكام الطلاق في المستقبل

    نخرج من قضية الطلاق في الماضي، وسندخل في مسألة المستقبل، والطلاق في المستقبل فيه تفصيل ويحتاج إلى شيء من التركيز.

    قال المصنف رحمه الله: [إن قال: طالق ثلاثاً].

    ما قال: (أنتِ طالق) وسكت؛ لأن الحكم يختلف من الطلقة الرجعية والطلقة البائنة، فهذه المسألة إذا قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد، في شيء لا يعلم إلا بالمستقبل، قبل قدوم زيد بيوم، قبل قدوم زيد بأسبوع، قبل قدوم زيد بشهر، في بعض الأحيان تنتقل هذه المسألة إلى حكم الطلاق في الماضي مع أنه أضافها إلى الشهر، فهو إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، ننظر الوقت الذي تلفظ فيه بهذه الكلمة، فإذا كان أول يوم من محرم قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وزيد غائب ومسافر، وقدم زيد أثناء شهر محرم، فمعنى ذلك: أن الشهر لم يتم، فكأنه أسند الطلاق للأمس، مثل مسألتنا التي تقدمت، فحينئذٍ إذا بت الطلاق في الحال وقال لها: طلقتكِ قبل قدوم زيد بشهر، فالواقع أنه قبل قدوم زيد بشهر لم يقع طلاقاً فصار كذباً ولغواً.

    وبناءً على هذا: إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، قبل قدوم والدي بشهر، ولم يمض الشهر صار لغواً وصار غير مؤثر ولا موجباً للطلاق، لكن لو أن زيداً قدم بعد شهر من كلامه الذي قاله، فإنه يلزمنا عدة أمور:

    أولاً: لابد في هذه المسألة أن تضبط الوقت الذي تلفظ فيه بالطلاق المعلق، وثانياً: تضبط الوقت الذي يقدم فيه زيد الذي علق الطلاق على قدومه، ثم تنظر في المدة بينهما، فإن وافقت ما علق الطلاق عليه من الأمد وقع الطلاق، وإن كان الوقت أقل لم يقع الطلاق، كما ذكرنا، فهو إذا قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، إما أن يقدم زيد قبل تمام الشهر من هذا الكلام، فيكون لغواً ولا يقع، كقوله: أنتِ طالق بالأمس، وإما أن يقدم زيد بعد شهر من هذه الكلمة، فحينئذٍ تكون قد طلقت بمجرد قوله: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، فيكون قد أسند الطلاق لوقته، فلو أنه قال هذه الكلمة في واحد محرم، وقدم زيد في الثاني من صفر؛ فإنها قد طلقت عليه في أول محرم؛ لأن قدوم زيد كان في الثاني من صفر، ولفظه بالطلاق استغرق وقتاً يمكن تعلق الطلاق به فتطلق، وليست هذه المسألة هي التي تعنينا، بل الذي سيأتي، والآن فقط اضبطوا المسألة، والذي سيأتي لا يمكن أن يفهم إلا بفهم هذه المسألة.

    صور الطلاق في المستقبل

    قوله: (إذا قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر) والأمر لا يتوقف على الشهر، ممكن أن يقول لها: بشهر، بأسبوع، بسنة، بيوم، والمهم أن يحدد مدة من الزمان، فعبر بالشهر حتى تتضح الصورة، فإن قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، لا يخلو قدوم زيد بعد هذه الكلمة من الصور التالية:

    الصورة الأولى: أن يقدم قبل أن يتم شهر من هذا القول فلا يقع الطلاق؛ لأننا تبينا أنه لغو ولم يصادف الزمان.

    ثانياً : أن يقدم زيد بعد شهر تام، بحيث لا يكون هناك وقت لمضي الطلاق ووقوعه.

    ثالثاً: أن يقدم زيد بعد شهر ووقت يسير يمكن أن يقع فيه الطلاق، فأصبحت القسمة العقلية تقتضي ثلاث صور: إما أن يقدم زيد والمدة لم تتم، فتبينا أنه لغو ولا يؤثر، وإما أن يقدم زيد والمدة قد تمت، لكن ليس هناك زيادة في الوقت يمكن أن يقع فيها الطلاق، فهي في حكم ما لم تتم المدة، مثلاً: لو قال لها في الساعة الثانية ظهراً من أول محرم: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد في الساعة الثانية في نفس اليوم الذي يتم به شهر كامل، بحيث دخل في نفس الوقت -والمراد فقط ضبط الضابط- ولذلك يقول المصنف: (ومضى وقت يمكن فيه الطلاق) فأنت إذا عرفت هذه المسألة ربما يأتيك مثلها في مواضع تحتاجها، كالبيع والرهن، فتقول: يمضي الشهر وتمضي مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، فإن مضى الشهر ولم تمض المدة التي يمكن في مثلها وقوع الطلاق فقد تبينا أن الطلاق لم يقع، فصارت في حكم ما لم تتم المدة، فعندنا صورتان من الثلاث لا يقع فيها الطلاق:

    الصورة الأولى: ألا تتم مدة الشهر.

    الصورة الثانية: أن تتم ولا يمضي قدر من الزمان يمكن فيه الطلاق، يعني: ممكن شخص يعلم بهذا ويقول: أنت قلت: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وجاء زيد على نفس الوقت الذي يتم به الشهر من فيه تلفظ، ممكن أن يقع هذا ، فلو سألك على هذا الوجه تقول: لم تأت مدة يمكن أن يقع فيها الطلاق، وهي التي يسمونها مدة الإمكان، فعندنا المدة التي علق عليها الطلاق، وعندنا مدة إمكان الطلاق، فلابد من وجود المدتين، المدة الأولى: مدة الشهر كاملاً، والمدة الثانية: مدة الإمكان وزمن الإمكان.

    أما الصورة الثالثة: أن يمضي الشهر وزيادة على وجه يمكن فيه وقوع الطلاق، فلو قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في أول -مثلاً- ربيع، فحينئذٍ يكون طلاقها في أول صفر؛ لأن الذي قبل ربيع الأول صفر، فتقول: تكون طالقاً من أول صفر؛ لأنه قال: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، ولو قال لها في أول محرم: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، وقدم زيد في أول رمضان، فإنها تطلق في أول شعبان، وتحتسب عدتها من أول شعبان، وتسري الأحكام عليها من أول شعبان.

    فعرفنا أن الصورتين الأوليين لا يقع فيها طلاق، فالصورة الأولى: إذا لم تمض المدة، وتكون في حكم قوله: أنتِ طالق بالأمس، والصورة الثانية: أن تمضي المدة وليس هناك زمن إمكان الوقوع، وأما الصورة التي يقع فيها الطلاق فهي إذا مضت مدة الشهر مع زمان الإمكان.

    قال رحمه الله: [وإن قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، فقدم قبل مضيه، لم تطلق ]

    فقوله: (قدم قبل مضيه لم تطلق) لماذا؟ لأنه مثل قوله: أنتِ طالق بالأمس؛ لأنه إذا قدم، قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر في أول محرم، وقدم زيد في الخامس عشر من محرم، فقد أسند الطلاق إلى الخامس عشر من ذي الحجة، والخامس عشر من ذي الحجة لم يقع فيه طلاق، فحكى كذباً فصار لغواً، مثل قوله: أنتِ طالق بالأمس، إذا لم يقصد به الطلاق.

    قال رحمه الله: [وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع]

    فقوله: (وبعد شهر) هذا الشرط الأول (وجزء) هو الذي قلنا: قدر الإمكان، (وجزء) تستطيع أن تقول: أي: قدر من الزمان يمكن أن يقع فيه الطلاق ولو دقيقة أو نصف دقيقة الذي هو زمن الإمكان للتلفظ بالطلاق ووقوعه.

    حكم دخول الخلع على الطلاق في المستقبل

    قال المصنف رحمه الله: [فإن خالعها بعد اليمين]

    وهنا مسألة جديدة: إذا قال لزوجته: أنتِ طالق -بالصورة التي ذكرناها- وخالعها بعد يوم، أو خالعها بعد ساعة، أو خالعها بعد أسبوع، فخالعته المرأة فافتدت ولم تقصد من ذلك الهروب من الطلاق، وهذه المسألة التي سنبحثها مبنية على المسألة التي كنا فيها، لكن قبل أن ندخل فيها نحتاج إلى تنبيه مهم، المصنف رحمه الله قال: (وإن قال: طالق ثلاثاً) ما قال: أنتِ طالق، وعبر بالثلاث على قول جماهير السلف من أن الثلاث ثلاث، وأنها توجب البينونة الكبرى، واختار المصنف ما يوجب البينونة الكبرى؛ لأنه سيتكلم عن الخلع، فمهد بالتطليق ثلاثاً، وإلا لو قال لها: أنتِ طالق طلقة قبل قدوم زيد، فالحكم أنها تقع طلقة واحدة إذا مضى الشهر، ولا يختلف الحكم من واحدة إلى ثلاث، وهذا التنبيه ينبغي أن ينتبه له طالب العلم، فالسبب الذي دعاه -رحمه الله برحمته الواسعة- أن يختار الثلاث: أن الخلع مع الطلاق بالثلاث لا يجتمعان ولا يصح إلا أحدهما؛ لأنك لو أوقعت الطلاق رجعياً ووقع الخلع بعده صح؛ لأن الخلع يصح في حال الطلاق الرجعي ما دام أنها في العدة، فالرجعية تخالع؛ لأن الزوج يمتلك رجعتها.

    ففهمنا أولاً: متى يقع الطلاق إن علقه على زمنٍ في المستقبل، وبينا الصورتين اللتين لا يقع فيهما الطلاق، والصورة التي يقع فيها الطلاق، الآن وسيدخل المصنف في المسألة التي قلنا: إنها تحتاج إلى ضبط.

    قوله: (فإن خالعها بعد اليمين بيوم،وقدم بعد شهر ويومين؛صح الخلع وبطل الطلاق)

    أولاً: لفظُه بالطلاق متى وقع؟ فتضع تاريخاً للفظ الطلاق، هذا أول شيء، ثانياً: تضع تاريخاً للخلع، مثلاً: عندنا لفظ الطلاق وقع في أول محرم، ولفظ الخلع أو المخالعة وقع في الثاني من محرم.

    ثالثاً: قدوم زيد. إذا عندنا ثلاثة أشياء: أولاً: لفظه بالطلاق وتعليقه للطلاق على قدوم زيد، وثانياً: الخلع وزمانه متى وقع؟ وثالثاً: قدوم زيد، هذه الثلاث يعني: لابد من تركيب المسألة عليها، فلنجعل لفظه بالطلاق على هذا الوجه في أول محرم، قال لها في أول محرم: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، قررنا في المسألة الماضية أنه لا يقع الطلاق إلا إذا مضى شهر وقدر يسمونه: قدر الإمكان لوقوع الطلاق، فعلى الأصل الذي قررناه إذا كان قال لها في واحد محرم فإنها تطلق إذا جاء واحد صفر، لكن هنا مشكلة، عندك طلاق بالثلاث وعندك خلع، إن صححت الطلاق من واحد محرم؛ فقد بانت؛ وجاء الخلع وهي أجنبية، ولماذا ذكر مسألة الخلع؟ لأن الخلع تدفع المرأة بسببه مالاً، ترد المهر، فأنت إذا صححت الطلاق وأبطلت الخلع؛ وجب رد المال إلى المرأة وإبطال الخلع، وإن أبطلت الطلاق والمرأة في عصمة الرجل منذ التلفظ، أو كان القدوم بعد الخلع بمدة تستغرق الشرط؛ فحينئذٍ تصحح الخلع ويأتي الطلاق لأجنبية.

    وحتى نفهم كل الكلام الذي سيأتي نقول: إما أن تقدم تصحيح الطلاق وتبطل الخلع، وإما أن تبطل الطلاق وتصحح الخلع، وعلى هذا نحتاج إلى صورة نقول فيها: إن الطلاق وقع، وصورة نقول: الخلع وقع، فإن قلنا: الطلاق وقع؛ بطل الخلع، وإن قلنا: الخلع وقع؛ بطل الطلاق.

    فلنبدأ الآن، قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بشهر، ووقع هذا الكلام في بداية محرم، فإن قدم زيد في أول صفر، وتم الشهر، وتمت مدة الإمكان من اللفظ الذي تلفظ به، فقدم في أول صفر مع مضي مدة من الزمان للوقوع، مثلاً تلفظ بهذا اللفظ في أول محرم في الساعة الثانية ظهراً، وقدم زيد في أول صفر في الساعة الثالثة ظهراً، فما يكون الحكم؟ تقدر زماناً قبل قدوم زيد وهو الشهر، وتقول: تبينا بقدوم زيد أن الطلاق قد وقع؛ لأنه قال: قبل قدوم زيد بشهر، فقد تحقق عندنا أنه في الساعة الثانية وزيادة من أول محرم طلقت المرأة بالثلاث، والخلع وقع في اليوم الثاني من محرم، فهو خلع لأجنبية، فيحكم القاضي برد المهر إلى المرأة، وتصحيح الطلاق، وأنها طلقت عليه من أول يوم من محرم، فيكون الخلع في هذه الحالة وقع بعد وقوع الطلاق بالثلاث، وهذا الذي جعل المصنف يقول: (أنتِ طالق ثلاثاً) لأنه لو قال لها: أنتِ طالق طلقة، فحينئذٍ هي في العصمة والخلع لا يتأثر، فهذا وجه اختيار الثلاث.

    لكن كيف يمكن لنا أن نصحح الخلع ونبطل الطلاق؟

    تأتي بمدة بعد الخلع بشهر وزمن الإمكان؛ لأنك إذا جئت بشهر كامل بعد الخلع فمعناه أن الطلاق وقع بعد الخلع، فيكون قدوم زيد في الثالث من صفر، فإذا قدم زيد في الثالث من صفر فمعناه أن الطلاق وقع في الثالث من محرم، والخلع وقع في الثاني، إذاً: سبق الخلع الطلاق، فصار الخلع موجباً لطلقة بائنة، وصارت المرأة بالخلع أجنبية، فجاء الطلاق بالثلاث أو بواحدة لأجنبية فلا يقع، فلو عقد عليها في هذه الصورة رجع لها بطلقتين على أن الخلع طلقة، ولا تبين منه.

    فإذا أردنا أن نوقع الطلاق ونلغي الخلع، فينبغي أن نجعل المدة التي بين الطلاق وبين قدوم زيد هي المدة المشروطة، بحيث يكون الخلع قد صادف امرأة أجنبية قد بانت بالثلاث، ومثال ذلك: أن تقول: قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وكان قوله هذا في نصف الظهيرة من اليوم الأول من محرم، وقدم زيد بعد نصف الظهيرة من أول صفر، فنقول: وقع الخلع في الثاني من محرم لأجنبية، فنصحح الطلاق ونلغي الخلع، ويحكم القاضي ويقول: ثبت عندي طلاق فلانة من زوجها، وأنها بانت منه في اليوم الأول من محرم في كذا، وأن الخلع الذي خالعت به المرأة خالعت من رجل أجنبي، فلا يستحق المهر، ويجب عليه رد ما أخذ منها، هذا بالنسبة للحالة الأولى، حيث صححنا الطلاق وأبطلنا الخلع.

    إن أردنا العكس؛ يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر، وتمضي مدة الشهر بعد الخلع لا بعد الطلاق، فإذا مضت مدة الشهر وزيادة بعد الخلع فقد تحققنا أن الخلع قد سبق الطلاق، فوقع الخلع من امرأة في العصمة فبانت بذلك الخلع، وأنتم تعلمون كما تقدم معنا في الخلع أن الخلع طلقة بائنة، وتصبح كالأجنبية وبينا دليل ذلك، فإذا كانت قد بانت منه وصارت أجنبية؛ فإنه قد وقع التطليق بالثلاث لأجنبية؛ فصار من اللغو ولا تأثير له.

    (فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق)

    قوله: (وقدم بعد شهر ويومين) والخلع وقع بعد الطلاق بيوم، فاحتاط المصنف باليومين حتى يكون وقوع الطلاق بعد وقوع الخلع، وإذا وقع الطلاق بعد الخلع صار لغواً، فالمسألة مثلما ذكرنا، والمهم أن تفهم الضابط، وممكن يقول لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بيوم، -نفس التفصيل- ثم خالعها بعد ساعة، فإن كان التلفظ بالطلاق في الساعة الثانية عشر ظهراً قال لها هذا الكلام، وقدم زيد في الثانية عشر ظهراً من اليوم الثاني وزيادة قدر الإمكان الذي هو دقيقة أو نصف دقيقة للفظ الطلاق فإنه يقع الطلاق، فإن كان كذلك وكان الخلع في الواحدة ظهراً، فالخلع لم يصادف محلاً فيبطل، وإن كان قد قدم زيد بعد الواحدة ظهراً فقد صادف الخلع امرأة في العصمة فصح ووقع طلاقها بعد الخلع؛ لأن الخلع وقع في الواحدة ظهراً، فبعد الواحدة ظهراً إذا وقع الطلاق فإنه قد وقع على أجنبية فلم يؤثر.

    وهكذا الأسبوع لو قال لها: أنتِ طالق قبل قدوم زيد بجمعة، أو قبل قدوم زيد بأسبوع، وقصد السبعة الأيام، فننظر إن كان قد تلفظ بالكلمة في السبت فنحتسبه أسبوعاً ونعتد في السبت بأجزاء اليوم من الساعات واللحظات، ونقدر زماناً لإيقاع الطلاق، فإن لم يتسع الزمان للخلع؛ فحينئذٍ نحكم بصحة الطلاق وبطلان الخلع، أو نحكم بصحة الخلع وبطلان الطلاق إن كان العكس.

    قوله: (وعكسها بعد شهر وساعة) حينئذٍ تصحح الطلاق وتبطل الخلع، فإما أن تصحح الخلع وتبطل الطلاق، وإما أن تصحح الطلاق وتبطل الخلع، كما ذكرنا.

    حكم تعليق الطلاق بالموت

    قال رحمه الله: [وإن قال: (طالق قبل موتي) طلقت في الحال]

    متى تطلق؟ تطلق حالاً؛ لأنه أسند الطلاق بما يمكن في أي لحظة بعد تلفظه بالطلاق، فكل لحظة بعد تلفظه بالطلاق هي موته فصح لإيقاع الطلاق، فحينئذٍ تسند إلى أقرب لحظة؛ لأنه قد طلقها بهذا الوصف، فتطلق عليه مباشرة، فلو قال لها: أنتِ طالق قبل موتي، ومات من ساعته، فلم يوجد زمن لإمكان الطلاق، فحينئذٍ لا تطلق، لكن إذا مضى زمن الإمكان فبعده مباشرة تطلق حالاً، فمثلاً:قال لزوجته: أنتِ طالق قبل موتي، فأصابته سكتة من الفجعة أو من فراقها مثلاً، فحينئذٍ نقول: هذا اللفظ لم يصادف وقتاً للإمكان فلا تطلق.

    قال رحمه الله: [وعكسه معه أو بعده]

    أن يقول: أنتِ طالق مع موتي، أو أنتِ طالق بعد موتي، فلا يقع الطلاق حالاً وإنما ينتظر، فإن قيل: إن الموت يوجب انحلال العصمة؛ فبعد موته صارت أجنبية فلا طلاق، ويثبت إرثها بموته، فحينئذٍ لا إشكال، أو يقال: إنه لا يوجب انحلال العصمة، وتسري الأحكام، فيتفرع عليه ما ذكرناه.

    1.   

    تعليق الطلاق على مستحيل

    قال رحمه الله تعالى: [ فصل: وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل؛ لم تطلق ]

    ذكرنا غير مرة أن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا أمثلة والمقصود منها تقرير القواعد، وأن المهم لطالب العلم أن يعرف الضوابط والقواعد والأصول التي يمكن من خلالها ضبط المسائل، وقد يعبر بمسألة في باب الطلاق فيستفاد منها في ظهار أو لعان أو أيمان أو نذر، أو يستفاد منها حتى في بيع إذا علق البيع على شيء، فهناك تعليق على الممكن وهناك تعليق على المستحيل، وهنا لما شرع المصنف بالتعليق وذكر الاستثناءات ثم ذكر التعليق: التعليق على الماضي والتعليق على المستقبل، شرع الآن في التعليق على المستحيل، فيعلق طلاق المرأة على شيء مستحيل.

    ذكرنا أن المطلق من حيث الأصل أعطاه الله الطلاق، ومكنه من تطليق زوجته، لكن هذا التمكين ممكن أن يطلق الإنسان ويبت الطلاق، وممكن أن يعلق طلاقه على شيء، فإذا وقع هذا الشيء الذي علق الطلاق عليه، فبينه وبين الله أنه قد طلق زوجته، فحينئذٍ يجب على الفقيه والمفتي والقاضي والمعلم أن يعلم متى يكون التعليق ممكناً ومتى يكون التعليق غير ممكن، ففي بعض الأحيان يعلق الطلاق على شيء لا يمكن أن يقع، وقد وجدنا نصوص الكتاب والسنة تعتد بالتعليق، وتعتد بصيغة الشرط التي فيها تعليق، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أهلّي واشترطي: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، فإن لكِ على ربكِ ما اشترطتِ)، هذا في العبادات، وكذلك الله سبحانه وتعالى علق الشيء المستحيل على شيء مستحيل؛ لإفادة استحالته فقال: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] فعلق الله المستحيل على مستحيل، فلما كان دخول الكافر للجنة مستحيلاً جاء بصيغة الاستحالة.

    ففهمنا من هذا أن هذه الألفاظ لها حكم في الشرع، فإذا جاء يطلق ويعلق طلاقه على ممكن وقفنا عند هذا الممكن بصفاته، وطلقنا متى ما وقع الشرط بالصفة المعتبرة، فإذا وقع الشرط؛ وقع المشروط، وهذا معروف من منطوق القرآن والسنة، وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا علق الطلاق على أمر مستحيل؛ فإن الطلاق لا يمكن أن يقع، والمستحيل يختلف في كل زمان، وكل زمان له ألفاظه وعباراته، فقد يأتيك رجل من العامة ويسألك عن أشياء ما تخطر لك على بال، ولذلك يقولون: السائل أو المستفتي لا مذهب له، أي: لا تظن أن الناس تأتيك في حدود ما علمت، قد يأتيك بأشياء ضوابطها وأصولها عندك -وهذه ميزة الشريعة الإسلامية- لكن عين المسئول عنه من الصور والحوادث مستجدة.

    ولذلك يقرر العلماء القواعد بالأمثلة، فقد يكون المستحيل مستحيلاً شرعاً، وقد يكون مستحيلاً عادة وعرفاً، وقد يكون مستحيلاً عقلاً، فحينئذٍ نحتاج إلى معرفة مسألة التعليق على المستحيلات، والتعليق على المستحيل إما بالنفي وإما بالإثبات، كقوله: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فإنه حينئذٍ أثبت الطلاق معلقاً على مستحيل وقد يقول لها: إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، فيأتي بصيغة النفي للمستحيل، فنفي المستحيل إثبات، فيثبت معه الطلاق؛ لأنه أثبت الطلاق بالنفي، فقد يثبت الطلاق بالنفي وقد يثبت الطلاق بالإثبات، وقد ينفي الطلاق بالمستحيل ونحو ذلك، كلها صيغ ستأتي.

    قوله: (وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ)

    أي: في الهواء، فالعادة جارية على أن الرجل والمرأة والآدمي لا يمكنه أن يطير في الهواء، فحينما قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، فمعناه أنه لغو، وعلق الشيء على شيء مستحيل، فصار طلاقها مستحيلاً؛ لأنه علقه على مستحيل، كما أن الله تعالى علق دخول الكفار فقال: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] سم الخياط: ثقب الإبرة، وللعلماء رحمهم الله وجهان في تفسير الجمل في هذه الآية الكريمة: فقيل: الجمل هو الحيوان والبعير المعروف؛ لأنه لا يمكنه أن يدخل في ثقب الإبرة، فثقب الإبرة لا يسع مثل هذا الحيوان، فالمراد من الآية بيان استحالة الشيء، فقالوا: إن الله علق دخول الجنة للكفار على مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، وقال بعض العلماء: هو في قراءة جُمل، والجُمل: الحبال الثخينة التي تشد بها السفن، فبعض العلماء يرجح هذا التفسير الثاني؛ لأن ثقب الإبرة يدخل فيه الخيط، فاختار شيئاً من جنس الخيوط وهو الحبال، لكنها بحجم لا يوافق الحجم الذي يدخل في ثقب الإبرة، كالحبال التي تشد بها السفن وتوثق بها، قال: لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ [الأعراف:40]، يعني: دخول هذا النوع من الحبال في ثقب الإبرة مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، هذا بالنسبة للآية الكريمة.

    فهو إذا قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فلا يمكن لها أن تطير في الهواء، لكن لو أن طيرانها في الهواء قصد به شيئاً معروفاً في العرف، مثلاً: قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، يعني: سافرتِ بالطيارة وقصد ذلك، حينئذٍ تترتب المسألة على مسألة الطلاق المعلق بالشرط وسيأتي، لكن إذا قصد أن تطير بيديها طيراناً فهذا مستحيل لا يمكن، فيكون قوله: أنتِ طالق إن طرتِ، تعليقاً للطلاق على مستحيل، فالطلاق محال.

    المستحيل: هو الذي لا يمكن، أي: ما أبى الثبوت عقلاً أو هو المحال عقلاً؛ لأن الأشياء إما جائزة عقلاً، وإما واجبة عقلاً، وإما ممتنعة عقلاً، ثلاثة أقسام:

    وحكمنا العقل قضية بلا وقف على عادة أو وضع جلا

    أقسام مقتضاه بالحصر تماز هي الوجوب الاستحالة الجواز

    فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلاً المحال

    وجائز ما قبل الأمرين سمِ للضروري والنظري كلاً قسم

    فالأشياء ثلاثة: الشيء الثابت عقلاً الذي لا يمكن نفيه بحال، ويسمى هذا: واجب عقلاً، والشيء الذي لا يمكن أن يثبت عقلاً فهذا يعتبر من المستحيل أو من الممنوع عقلاً، وما كان ممكناً تقول: هذا جائز عقلاً، لكن لا تقل: واجب، ولا تقل: مستحيل، فعندنا الواجب والمستحيل والجائز، هذه الثلاثة الأقسام في القسمة العقلية، فالشيء عقلاً إما أنه واجب عقلاً، مثلاً: حينما تقول: هذا الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق، فالعقل يدل على أن الخلق لابد لهم من خالق، قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] ، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] أبداً لا يمكن أن يكون الخلق بدون وجود خالق وشيء يوجد به ذلك المخلوق، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] الذين خلقوا أنفسهم.

    فالقسمة العقلية إما أنهم هم خلقوا أنفسهم -وهذا طبعاً لا يمكن أن يقولوه- وإما أنهم خلقوا، وإذا خلقوا إما أنهم خلقوا من غير شيء وإما أن خلقوا بخالق، فجاء بالفرضيات التي على دينهم من باب رجوعهم إلى الأصل، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] إما أنهم خلقوا أنفسهم، وإما أنهم خُلِقُوا من غير شيء وليس هناك، ولذلك يقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فإذاً معنى ذلك: أن يثبت كون الله عز وجل خالقاً لهم.

    فالمقصود: أن العقل يدل على أن الشيء إما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحيلاً وإما أن يكون جائزاً، فالمستحيل هو الذي يأبى العقل ثبوته، وبعض العلماء يقول: إن طيرانها في الهواء مستحيل عادة، يعني: في العادة مستحيل بالتجربة والنظر، فما وجدنا أحداً يطير، وعلى هذا يقولون: هذا من المستحيل عادة وليس من المستحيل عقلاً، فالعقل لا يمنع أن يطير إنسان مثلما أن الطائر يطير، لكن بعض العلماء يقول: إنه مستحيل عقلاً وعادة.

    قوله: (أو صعدتِ السماء) يعني: لا يمكنها أن تصعد للسماء، وبناءً على ذلك علق على المستحيل، فإذا كان تعليقاً على المستحيل، فالتعليق على المستحيل مستحيل، والتعليق على المحال محال، فصار المحال لغواً، كأنه يقول لها: أنتِ طالق بلا طلاقٍ، يعني: طالق بشيء لا يمكن وقوعه وحدوثه، فعلى هذا كان قوله: (أنتِ طالق بكذا) من اللغو.

    قوله: (أو قلبتِ الحجر ذهباً) يعني: لو كانت تقلب الحجر ذهباً لطلقها؛ وعادة العلماء أنهم يذكرون هذا، مع أن هذا ربح عظيم أن تكون الزوجة تقلب الحجر ذهباً، وعلى العموم إن قلبتِ الحجر ذهباً فأنتِ طالق، طبعاً لا يمكنها، أو أنتِ طالق إن قلبتِ الحجر ذهباً، فهي لا يمكن أن تقلب الحجر ذهباً، وهذا مستحيل، فعلق الأمر على مستحيل فهو مستحيل.

    قوله: (ونحوه) مثلاً قال لها: إن أمسكتِ الريح -ما يمسكها إلا الله عز وجل- فأنتِ طالق، فهذا لا يمكن؛ لكن إن عكس كان العكس.

    قال رحمه الله: (ونحوه من المستحيل لم تطلق) مثلما ذكرنا، وهذه كلها أمثلة.

    قال رحمه الله: (وتطلق في عكسه فوراً) يقول: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، ومستحيل أنها تقلب، فلا نعطيها مدة يمكن فيها قلب الحجر، فإذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، إن لم تصعدي إلى السماء فأنتِ طالق، تطلق حالاً، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق، طلقت حالاً، وعكسه بعكسه.

    قال رحمه الله: [وهو النفي في المستحيل]

    نعم. سواء بالنفي أو بالإثبات، إن لم تقلبي الحجر ذهباً، إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق.

    قوله: [مثل: لأقتلن الميت]

    الميت له حياة واحدة، وإذا مات فلا يمكن أن يعود إلى هذه الحياة؛ لأن الله تعالى كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أنه لما اشتد عليه استشهاد أبيه رضي الله عنه وأرضاه؛ جلس يبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابكه أو لا تبكه، لا زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء -ثم قال له:- يا جابر ! إن الله كلم أباك كفاحاً، وقال: تمنَّ يا عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من عظيم ما أعد الله للشهداء، فأحب أن يعاد مرة ثانية فيقتل، فقال تعالى: (أما إنه قد سبق العهد مني أنه من مات لا يرجع إليها)، فهذا طبعاً من المستحيلات أن يقتل الميت؛ لأن القتل يحتاج إلى حياة، فإذا مات، فإنه قد انتفت حياته.

    وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756553726