إسلام ويب

تفسير سورة الكهف [60-64]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه... من سفرنا هذا نصباً)

    قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:60-62] . بعدما قال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:57]، أشار عز وجل إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة ما لا يخفى على متبصر كما ستقف على شذرات من ذلك، وسنلاحظ كيف أن الإنسان إذا فقه معنى الآيات، والتفت إلى النصائح والنكت البلاغية الموجودة في عبارات القرآن الكريم، فهذا مما يعينه على الحفظ، كما سنضرب أمثلة لذلك. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]. أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه: ((لا أبرح))، أي: لا أزال أسير، ((حتى أبلغ مجمع البحرين))، أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين فألقى فيه الخضر، أو: أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة فأتيقن فوات المطلوب، (حتى أبلغ مجمع البحرين)، لماذا؟ لأن هذا هو المكان الذي وعده الله سبحانه وتعالى أن يلتقي فيه بالخضر، ويناسب هنا أن نذكر سبب هذه القصة؛ لأنه يعيننا على فهمها.

    ذكر حديث قصة الخضر وموسى

    روى البخاري في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لـابن عباس : (إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدو الله)، وهذا من التغليظ في الفتوى، وليس المقصود أنه عدو لله فعلاً، ولكن هذا اجتهاد منه وهو مخطئ فيه بلا شك، لكن هذا من التغليظ والتشديد على من يتجاسر عن القول بغير علم. ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟) انظر إلى همة موسى لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ولو في مجمع البحرين؛ حرص على أن يلتقي به كي يتعلم منه، فقال: (وربما قال سفيان : أي رب وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، وربما قال: فهو ثمة، فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون)، وهذا تلميذ موسى عليه السلام، ولكن أطلق عليه (فتاه) إشارة إلى أن المتعلم كالعبد بين يدي العالم، والعالم كأنه سيد له، فعبر عنه بالفتى التي يعبر بها عن العبد إشارة إلى موقع التلميذ من شيخه وأستاذه. (حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (مثل الطاق) يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت. يقول: (فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به)، يعني: موسى عليه السلام في هذا السفر السعيد الطويل لم يشعر بالنصب ولم يجد تعباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوي ويمد بعون ومدد من عنده من خرج في طلب العلم أو ابتغاء مرضاته، كما أن الشهيد لا يجد من الجرح الذي يجرحه إلا مثل ما يجد من القرصة، فلم يشعر موسى بالتعب إلا من بعد أن جاوز المكان الذي أمر به، وهو هذه الصخرة التي فقد عندها الحوت دون أن يشعر. (فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم) هذا هو الشاهد على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل وليس ثمة موسى آخر كما زعم نوف البكالي . قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل! قال: نعم. أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه... إلى قوله: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما)، وقرأ ابن عباس : (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان : سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـسفيان : حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.

    تفسير مفردات قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه ..)

    ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لا أزال أسير وأمشي إلى أن أبلغ المكان الذي وعدني الله، ((أو أمضي حقباً)) يعني: إما أن أذهب إلى ملتقى البحرين فأجد فيه الخضر، أو أظل أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلوب. قال المهايمي : ((وإذا قال موسى)) أي: اذكر للذين ((إن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)) لتكبرهم عليك: أنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه، ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم؛ لأنها هداية في الظاهر والباطن، وهداية الخضر إنما هي في الباطن، ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق كما احتاج إليه موسى. (وإذ قال موسى لفتاه) والفتى: الشاب، كما في قوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء:60] شاباً، وقوله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] يعني: شباباً. قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى؛ لأن الغالب هو استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام، ومحباً له، وذا غيرة على كرامته، ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً, وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل، وفتح الله تعالى بيت المقدس عليه ونصره على الجبارين. ((فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا))، أي: مجمع البحرين، ((نَسِيَا حُوتَهُمَا))، أي: خبر حوتهما وتفقد أمره، وكانا تزوداه وأخذا الحوت في المكتل، ولما بلغا مجمع البحرين لم يطمئنا على أن الحوت معهما ونسيا هذا الحوت، ((فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)) أي: طريقه في البحر، ((سرباً)) أي: مثل السرب في الأرض، وهو المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب. ((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)). ((فلما جاوزا)) يعني: مجمع بينهما، أي: جاوزا مجمع البحرين، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت، ((قال لفتاه آتنا غدائنا)) أي: ما نتغدى به، ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) تعباً ومشقة، وبينت السنة أن هذا النصب لم يلقه موسى وفتاه حتى جاوزا مجمع البحرين، ((قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ))، أي: فإني نسيت خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما: إما بمعنى نسيان طلبه والذهول عن تفقده لعدم الحاجة إليه، وإما للتغليب بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده، (نسيا حوتهما)، يعني: نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره، وعلى قول آخر: أن النسيان هنا هو من يوشع بن نون ؛ لأنه قال: (فإني نسيت الحوت)، نسب النسيان إلى نفسه، فإذاً: (نسيا) بالمثنى تغليباً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده؛ فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر المالح، ومع ذلك يمكن إطلاق أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين المالح والعذب تغليباً، وإن كان يخرج من أحدهما فيصدق عليه أنه يخرج منهما، كقوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]، فالرسل من مجموع الإنس والجن وإن كانت الرسل لا تكون إلا من الإنس. ((وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) يعني: أن أذكره لك، وتعرب (أن أذكره) على أنها بدل من الهاء، يعني: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وقرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً، والباقون بكسرها، ((واتخذ سبيله في البحر عجباً)) أي: أمراً عجيباً إذ صار الماء عليه سرباً. ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))، قال موسى: ((ذلك)) أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله سرباً ((ما كنا نبغ)) أي: نطلب فيه الخبر؛ لأنه أمارة المطلوب، وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين وصلاً لا وقفاً؛ وبإثباتها في الحالين، وبحذفها كذلك. ((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا))، أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامها يتبعانها، ((قصصاً)) أي: اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما ...)

    يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: ((فلما بلغا مجمعا بينهما نسيا حوتهما)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى؛ لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه، وإنما أسند النسيان إليهما؛ لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قَتَلُوكم فاقتلوهم). فلو قتلونا كلنا لم يبق منا أحد فيقتلهم؛ لكن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. قال: والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:62-63]؛ لأن قول موسى: ((آتنا غداءنا)) يعني به الحوت، فهو يظن أن فتاه لم ينسه. كما قاله غير واحد، وقد صرح فتاه بأنه نسيه بقوله: ((فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)). وفي قوله عز وجل: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] ، وبقوله تعالى: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، وقال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19]. وفتى موسى هو يوشع بن نون ، والضمير في قوله تعالى: ((مجمع بينهما)) عائد إلى البحرين المذكورين في قوله تعالى: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60]، والمجمع : اسم مكان على القياس، أي: مكان اجتماعهما. والعلماء مختلفون في تعيين البحرين المذكورين، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرظي : ((مجمع البحرين)) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب. يعني: في المكان الذي يلتقي فيه البحر الأبيض بالمحيط الأطلنطي عند مضيق جبل طارق. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية : مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية ، وعن أبي بن كعب قال: بإفريقيا، إلى غير ذلك من الأقوال، ومعلوم أن تعيين البحرين من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تأريخه، لأن الجغرافيا في هذا الوقت لم تكن معروفة، وهذا زعم في غاية الكذب والبطلان، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: ((فلما بلغا مجمع بينهما)) مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء، لاستحالة صدق النقيضين معاً. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) قرأه عامة القراء ما عدا حفص ((أنسانيه إلا الشيطان)) وقرأه حفص عن عاصم ((أنسانيه)) بضم الهاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا ...)

    قال تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]. أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، ((فوجدا عبداً من عبادنا)) التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر، وسنتكلم على جملة من نبئه بعد تمام قصته -إن شاء الله- ((آتيناه رحمة من عندنا)) أي: آتيناه رحمة لدنية اختصصناه بها، ((وعلمناه من لدنا علماً)) أي: علماً جليلاً آثرناه، وهو علم لدني يكون بتأييد رباني. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبن هنا، هل هما رحمة النبوة وعلمه أو رحمة الولاية وعلمها؟ والعلماء مختلفون في الخضر هل هو نبي، أو رسول، أو ولي؟ كما قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول وقيل: مَلَك أو مَلِك -فالكلمة غير مضبوطة- ولكن يفهم من بعض الآيات أنه هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة. الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح أن الخضر كان نبياً، وعليه فالعلم اللدني هنا المقصود به الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، مع العلم أن الاستدلال بها على ذلك فيه مناقشات معروفة عند العلماء. يقول: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن الكريم. والمنهج الصحيح في التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن أولاً، فنتحرى ونبحث عن مادة رحم أو رحمة في القرآن، فنجد أنها استعملت كثيراً في القرآن بمعنى النبوة. يقول رحمه الله: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي؛ فمن إطلاق الرحمة على النبوة: قوله تعالى في سورة الزخرف: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:31-32] -يريد بذلك النبوة، يعني: هل هم يقسمون رحمة ربك النبوة- أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله تعالى في سورة الدخان: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:4-6] ، وقوله تعالى في آخر القصص: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]. ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله وتعالى: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113] وقال أيضاً: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]. يعني: لما أوحينا إليه، وكذلك في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] أي: وحياً. فإذاً الرحمة هنا النبوة، والعلم هو علم النبوة والوحي. قال: ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار بالوحي، فقال: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45]. فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ فالجواب: أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به. الإلهام الذي يحصل للأولياء عند علماء الأصول مقرر أنه لا يجوز الاستدلال به، لا يوجد شيء اسمه ألهمت كذا وكذا، فيحكم ويدعي أن الله سبحانه وتعالى أحل أو شرع أو حرم على أساس الإلهام؛ لأن الإلهام ليس دليلاً شرعياً؛ لأن الولي ليس بمعصوم، وأيضاً لا يوجد دليل على صحة الاستدلال بالإلهام، بل يوجد الدليل على عدم جواز الاستدلال به. ثم يقول رحمه الله: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره. يعني أن بعض الصوفية يقول: الملهم يجوز له الاستدلال بالإلهام في حق نفسه لا في حق غيره من الناس. حتى هذه الدعوى لا تسلم له، وفي الحديث: (إنه قد كان في من قبلكم محدثون، وإن يكن منهم أحد فهو عمر رضي الله عنه)، فهل عمر في يوم من الأيام جاء في أي قضية خلافية بينه وبين الصحابة استدل بأنه محدث أو بأنه ملهم؟ ما استدل بذلك أبداً.

    الرد على المتصوفة الذين يجعلون الإلهام حجة

    يقول: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره؛ جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مستدلين بظاهر قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، وبخبر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)، كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. قال الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]. وقال تعالى في آخر سورة طه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، وقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً [طه:124]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يذكر الإلهام. إذاً: غير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان؛ لأنه غير معصوم، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، حتى أن بعض الضلال يزعم أنه يحكم على صحة الأحاديث بأن يعرضها على قلبه -بأحدث طريقة في تصحيح الأحاديث- كما كان يزعم الفرماوي الضال المضل، كان يعرض الحديث عليه، فيعرضه على قلبه حتى سموه وقتها، ألباني -بهمز العامية- يعني: قلباني، يصحح الحديث بالقلب المريض، فيعرض عليه الحديث ويقول: هذا قاله الرسول أم لم يقله؟ ثم يأتي بعض الضلال خاصة من الدجاجلة الذي دخلوا في موضوع الشعوذة والغلو في موضوع الجن، فكان بعضهم يزعم أن معه قرين النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً يعرض عليه الأحاديث، يأتي بحديث ويقول له: هل الرسول قاله فعلاً وهل كنت حاضراً وقتها؟ فيأتيه الخبر من هذا القرين المزعوم، فهذا كله عبث، وهذا كله ضلال مبين، فلماذا كان السفر وجهاد علماء الحديث؟ ولو هذا باباً صحيحاً لتلقي العلم منه، ولما سافر العلماء واغتربوا ورحلوا في طلب العلم، وسهروا الليالي وألفوا الكتب. يقول: وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وينبذ الإلهام بالعراء، يعني: ارم موضوع إلهام الصوفية بالعراء، ولا تلتفت إليه. أعني به إلهام الأوليا: ليس بحجة شرعية. وقد رآه بعض من تصوفا: زعموا أنه حجة شرعية. وعصمة النبي توجب اقتفا، يريد أن يفرق بين إلهام الأنبياء وإلهام الأولياء، فإلهام الأولياء ليس فيه أي حجة، وإلهام الأنبياء هو الحجة؛ لأن عصمته توجب اقتفاء آثاره، وقبول الإلهام الذي يلهمه الله سبحانه وتعالى، فإلهام الأنبياء من الله سبحانه وتعالى صورة من صور الوحي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) إلى آخر الحديث. قال: وبالجملة: فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، وعلماء المالكية يقولون: يقتل فوراً ولا يستتاب. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، ولم يقل: حتى نلقي في القلوب إلهاماً، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء:165]، فلو كان الوحي الذي يوحيه الله إلى الرسل غير كاف لبقي في الناس حجة في غير الرسل عن طريق إلهام الأولياء، لكن جعل الحجة فقط للرسل. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه:134]، والآيات والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً، وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة. هذا الكلام يقوله بعض الصوفية الجهلة ويزعمون أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة، فيقولون: أنتم طريقكم الكتاب والسنة والأمور الظاهرة، ونحن لنا طريق باطني، يقولون: مثل حال الخضر مع موسى، كما أن الخضر كانت له شريعة وموسى كانت له شريعة ولا أحد يعترض على الآخر، وهم يزعمون أن الخضر كان ولياً ولم يكن نبياً. وبالذات موضوع الخضر كان مرتعاً خصباً للاختراع والابتداع، وافتراء الأكاذيب. نكرر هذه العبارة لأهميتها، يقول: وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطناً توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام؛ بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره، وهذا ما يلهج به كثير من جهلة الصوفية. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار؛ فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات فيشتغلون بها عن أحكام الشرائع الكليات. يقول: قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب كما هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يوضحه الدليل في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب في سورة آل عمران. ثم يقول: وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به: إن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب. بل معنى الحديث: استفت قلبك في موضع الشبهات. فمعنى الحديث التحذير من الشبه، وإلا لو جعل كل واحد قلبه المفتي الخاص به لوقعت فوضى لا حدود لها، فهذا يشرب الخمر ويستفتي قلبه وقلبه مريض، فلا يكون هناك ضابط وتضيع معالم الشريعة تماماً، المقصود: بـ(استفت قلبك): أن هذا حين تشتبه عليك الأمور كما سيبين الشيخ رحمه الله تعالى . قال: فمعنى الحديث: التحذير من الشبه؛ لأن الحرام بين، والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحلية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك بالاستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة. يعني: كرجل ليس عنده علم كثير، لكنه يرى عامة علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي القديم والحديث وفي السلف والخلف يحرمون الربا، ويجرمون آكل الربا، ثم يأتي واحد شاذ لا خبرة له في الفقه أصلاً يقول: إن الربا حلال؛ ليس تخصصه الفقه، فيفتي باستباحة الربا، فهذا مما ينبغي أن يستفتي الإنسان فيه قلبه ولا يستند فيه إلى مثل هذا المفتي؛ لأنه ضل في هذه الفتوى بلا شك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، حتى لوجدت من يفتيك بحلية شيء أنت تعلم من جهة أخرى أنه محرم فاستفت قلبك واتبع ما يدلك عليه قلبك من السير في القافلة العظمى من علماء الإسلام دون من شذ وتعدى حدود الله. يقول: فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً وذلك باستناد من الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث واسطة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الطرف، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، قال النووي في رياض الصالحين: حديث حسن، ورواه أحمد والدارمي في مسنديهما. ولا شك أن المراد ب

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756981330