إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [86]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حلاوة الإيمان هي ثمرة العلم النافع والعمل الصالح، ومعناها: استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على شهوات الدنيا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث خصال، من وجدت فيه وجد حلاوة الإيمان، فينبغي معرفتها والحرص على العمل بها.

    1.   

    حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان..)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ..)، إلى آخره ].

    قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، والرواية الأخرى: ( لا يجد )، الرواية الأخرى فيها النفي، فالإنسان لا يجد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.

    إذا وجدت هذه في قلب الإنسان، وتحلى بها؛ فإنه يجد بها حلاوة الإيمان، ففي هذا دليل على أن الإنسان قد يجد الحلاوة وقد لا يجدها، وأن الإيمان له حلاوة توجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يجد )، أو ( يجد بهن )، ويقول: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون)، فوجود الحلاوة يكون بهذه الخصال الثلاث.

    وقوله: (لا يجدها حتى) دليل على أنها أمر محسوس، وأن الإيمان له حلاوة، وهذه الحلاوة ليست حلاوة عقلية كما يقوله من يقوله أو حلاوة معنوية، بل هي حلاوة محسوسة يحس بها الإنسان، وحلاوته أحلى من الطعام المشتهى، وأحلى من الشراب الحلو المشتهى؛ لأنها تشمل البدن كله، وتعم الجوارح وتبقى معه، بل يزول بها الآلام التي قد يجدها، ويتحمل في سبيلها ما لا تتحمله الجبال إذا وجد هذه الحلاوة.

    فمثلاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزاة، وأراد أن يبيت صلوات الله وسلامه عليه مع المسلمين، فأمر رجلين من أصحابه أن يذهبا إلى شعب معين ويحرسا في الليل، فلما ذهبا قال أحدهما للآخر: إما أن تنام أنت أول الليل أو أنام أنا، فقال: بل أنا أنام وأقوم آخر الليل، فنام صاحبه وهو قام يصلي، فجاء رجل من الكفار قد أخذت زوجته، وأقسم أن يذهب خلف المسلمين حتى يريق فيهم دماً، فجاء فرأى شخص الرجل الذي يصلي، فعرف أنه رجل من المسلمين، فصوب إليه نبله فضربه وأثبته فيه، فنزعه من بدنه، واستمر في قراءته، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فنزعه واستمر في قراءته، ثم صوب إليه الثالث وضربه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، ولما استيقظ صاحبه رأى الدماء تسيل منه قال: سبحان الله! لماذا ما أيقظتني في أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خفت على المسلمين، ما أيقظتك فإني كنت في آيات فكرهت أن أقطعها قبل أن أوقظك.

    ما الذي حمله على احتمال الألم؟ حلاوة الإيمان وتلاوة القرآن، تحمل في سبيل الله هذا الأمر حتى كاد يصل إلى القتل، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، هذه الحلاوة هي فوق حلاوة الطعام، وذلك إذا تحلى قلبه وجوارحه بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من كل شيء حتى من نفسه؛ صارت الطاعة مقدمة على هذه الأمور،كما حدث لهذا الرجل، قدمها حتى على نفسه، وإنما حمله على أن يقطع قراءته ومناجاته خوفه على المسلمين، وامتثاله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نفسه فلم تكن هي المؤثرة في ذلك.

    هذا أمر يجعل الإنسان يتحمل في سبيله المشاق والأمور العظيمة، والإنسان قد يجد في نفسه هذا الشيء، أنه إذا عمل طاعة لله يجد لذة وطمأنينة، بخلاف ما إذا عمل بالمعصية، فإنه يجد وحشة وخوفاً وقلقاً يقلقه، ولكن هذا الشيء لا يشعر به من كانت معاصيه كثيرة.

    وكذلك من كانت الطاعة ليست من شأنه وليس بمتحلٍ بها، وإنما تأتي منه مرة وتذهب أخرى لا يجد ذلك؛ لأن الذنوب تضاد هذه الأمور أو تضعفها فلا تظهر، فيكون الإنسان شبه ميت، والميت إذا جرح لا يحس بالجرح؛ لهذا يقول الله جل وعلا: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] الران هو آثار الذنوب، غطاها فأصبح لا يحس الإنسان بأثر الذنب، خلافاً لصاحب الطاعة فإنه إذا وقع في معصية ندم وخاف، وأصابه الوجل حتى يقلع عن ذلك، ويكتسب طاعات تكفر عنه هذا الأمر.

    قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: ( ولهما عنه ) أي: البخاري ومسلم عن أنس

    قوله: (ثلاث) أي: ثلاث خصال، قوله: (من كن فيه) أي: وجدت فيه تامة، قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) الحلاوة: هنا هي التي يعبر عنها بالذوق، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم ].

    حلاوة الإيمان في الواقع هي ثمرة الطاعات، فعندما يستشعر الإنسان أنه أدى عبادة لله جل وعلا على الوجه الذي أمره به، ويشعر أن الله جل وعلا تفضل عليه وأنعم عليه حيث قربه في ذلك، فمن أعظم نعم الله على العبد: أن يعمل بطاعة الله جل وعلا على نور من الله، يرجو ثوابه، ويخاف عقابه.

    وهذا في الواقع هو النعيم الذي يكون في الدنيا قبل الآخرة، وليس النعيم والحلاوة لذة البدن الحيوانية التي يشترك فيها العاقل وغير العاقل من البهائم وغيرها، وإنما اللذة والحلاوة والنعيم أن يتصل القلب بربه جل وعلا اتصالاً وثيقاً، يؤمن به إيماناً يقينياً، ثم يكون ذلك على نور، يعني: اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وأن يكون على يقين لأنه يستيقن أنه على الطاعة والهدى، وهذا الذي أخبر الله جل وعلا أنه يجعل له نوراً يمشي به في الناس، هذا هو النور والهدى والحياة: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122].

    الموت الحقيقي يكون بالجهل وبالإعراض عن الله جل وعلا، وليس الموت كونه يفارق البدن، هذا شيء قضى الله جل وعلا به على جميع خلقه، ولكن قد تكون حياته بعد المفارقة أحسن من قبل بكثير، حياة حقيقية وليست حياة وهمية تصورية، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، لا تشعرون بحياتهم وبما أعد الله لهم.

    وفي الآية الأخرى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    فالحياة الحقيقية هي أن يتحلى الإنسان بطاعة الله جل وعلا، وتكون هذه الطاعة تصل إلى قلبه، ويتنعم بها ويجد اللذة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وليست هذه الجنة بساتين ورياحين، وإنما هي اللذة بطاعة الله جل وعلا والتنعم، حتى وإن أوذي، حتى وإن كان فقيراً مدقعاً يجد النعيم في ذلك.

    حلاوة الإيمان وعلاقتها بحفظ الجوارح

    ووجود حلاوة الإيمان يكون بالقلب والبدن، فإن البدن يتبع القلب، ولهذا جاء في تفسير قوله جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] يقول ابن عباس: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الدنيا قبل الآخرة، وليس معنى الشقاء: كونه يتعب في بدنه في العبادة أو يقوم الليل أو يصوم النهار، هذا ليس شقاءً ولا تعباً، هذا يكون نعيماً، وأهل الطاعة تكون أبدانهم أقوى من أبدان أهل المعصية، وإن كانوا يتنعمون بالملذات.

    أحد السلف مضى عليه تسعون سنة، فكان يثب كوثوب الشباب فقال له رجل من الحاضرين: ارفق بنفسك فإنك كبير السن، فقال له: هذه جوارح حفظناها في الصغر عن معاصي الله؛ فحفظها الله جل وعلا لنا في الكبر.

    والله جل وعلا يحفظ عبده الذي يحفظ جوارحه عن المعاصي والمخالفات، كما في حديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)، الحفظ يكون على نوعين: حفظ في الدين والعقيدة، وهذا أهم شيء يحفظه الله جل وعلا في دينه وعقيدته فلا يتزعزع، ولا يدخل في الشكوك والانحرافات.

    وحفظ يكون في بدنه وجوارحه كالسمع والبصر وغيرها؛ لأنه لا يصيب الإنسان مصيبة بمرض أو غيره إلا من جراء ذنوبه، قال جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    الحسن البصري رحمه الله أوصى أصحابه في الجهاد فقال: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، فالمعصية فيها ذل وخزي، وفيها هدم للعمر والروح؛ لأنها محاربة لله جل وعلا، وفيها نزع البركة من البدن والجوارح والأعمال، وفيها أيضاً ظلمة في القلب، ووحشة فيما بينه وبين كل من يدور حوله في حياته، يجد قلبه يخفق دائماً، حتى لو حركت الريح الباب وجدته يفزع ويخاف ما الذي حدث؟ ما الذي صار؟

    أما أهل الطاعة فعندهم الطمأنينة والسكون؛ لأنهم يعرفون أن ما يصيبهم فبإذن ربهم، فيرضون ويسلمون وينقادون.

    حلاوة الإيمان هي التي يجدها الإنسان في عبادته لربه جل وعلا من شيء يكون في القلب، ويكون في الجوارح، ثم الشيء الذي يؤمله ويرجوه في المستقبل فإنه يثق بربه جل وعلا وثوقاً لا يكون فيه إذلال، ولا يكون فيه غرور، ولا يمنعه من الاجتهاد؛ لأنه يعرف قدره هو, ولكنه يعرف فضل ربه جل وعلا.

    لما حضرت الوفاة بلالاً رضي الله عنه كانت زوجته قريبة منه وهي تقول: وا كرباه!فقال: وا قرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه. فهو يفرح ويستبشر، هكذا يكون العبد في أحلك المواقف وأشدها فرحاً مطمئناً؛ لأن حلاوة الإيمان عنده،والطاعة التي يجدها أنه يفعلها على بصيرة،وليس كمن يفعل شيئاً ويقول: ما أدري هل هذا صواب أولا؟ ما أدري هل أنا على حق أم أنا على باطل؟

    المقصود: أن حلاوة الإيمان ليست شيئاً خالياً في قلبه أو شيئاً يتصوره في العقل فقط، ولا يجده في قلبه ولا في بدنه، كلا، بل هو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: يجد حلاوة الإيمان في قلبه، وهذه الخصال الثلاث إذا اجتمعت فيه تامة فإنه يجد حلاوتها، أما إذا وجد بعضها دون بعض فلا يلزم أن يجد حلاوتها, قد لا يجد وقد يجد, وقد يجد شيئاً ضعيفاً, وإنما يجد الحلاوة من اجتمعت فيه هذه الثلاثة الأمور.

    معنى حلاوة الإيمان عند العلماء

    قال الشارح رحمه الله: [ قال السيوطي رحمه الله في التوشيح:(وجد حلاوة الإيمان) فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء, وأضافه إليه.

    وقال النووي : معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات, وتحمل المشاق, وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته, وترك مخالفته, وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ].

    في الواقع أن هذه ثمرة وجود الإيمان، استلذاذ الطاعات هي ثمرة ذلك ونتائجه.

    [ قال يحيى بن معاذ : حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء ].

    معنى قوله: (لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء) البر: هو أن يحسن إليك الذي أحببته, ويصلك بأمور الدنيا, أو بنفع البدن بالخدمة وغير ذلك، فلو فعل ذلك ما زاد حبه؛ لأن الحب ليس لهذا، الحب لله (ولا ينقص بالجفاء)، لو مثلاً جفاك، وأصبح لا يزورك ولا يكلمك ولا يصلك, وانقطعت الصلة بينك وبينه, وليس ذلك عن عداوة، بل مجرد أنه لا يأتي أو أنه مشغول أو غير ذلك، فلا تنقص المحبة من أجل ذلك, لأنها ليست لأمر نفع دنيوي, وإنما هي لشيء قام به وهو طاعة الله، فهو يحب لله، وليس لذاته ولا لشيء يقدمه, وإنما يحب لأنه يحب الله, فأنت تحبه لأنه يحب حبيبك، إذا كانت أمور الدنيا بهذه المثابة لا تزيد ولا تنقص سواء جاءت أو ذهبت، فالمحبة لله أعظم، أما المحبة للدنيا وللناس فهذه ما تجدي شيئاً,فهذه تنقطع بسرعة، لما حصلت مبادلة النفع زادت، فإذا نقصت أو زالت ذهب ذلك وزال لأنه ليس لله، وكل ما لم يكن لله فهو زائل وذاهب لأنه باطل، وإنما يثبت الحق الذي لله جل وعلا.

    قوله:(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) يعني: بسواهما, ما يحبه الإنسان بطبعه كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون (أحب) هنا على بابها ].

    قد يأتي الإشكال الذي جاء في صحيح مسلم في حديث الرجل الذي كان يخطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)، فلابد أن يفرق بين الله وبين الرسول في المعصية، وهنا يقول: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، قال: (سواهما): فجمعهما في ضمير الجمع، فهنا يحتاج إلى جواب, وقد أجيب عن هذا بأجوبة منها: أن المعصية كل واحدة منهما مستقلة, معصية الله ومعصية رسوله، إذا عصى الرسول فقد عصى الله, وإذا عصى الله فقد عصى رسوله صلى الله عليه وسلم, والمحبة المعتبر فيها المجموع، يعني: أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله جميعاً, المحبة لابد من اجتماعهما وهذا يقول عنه الشارح: إنه جواب بليغ, فإذا كان بليغاً وحسناً فيكتفى به.

    الجواب الثاني: أن هذا على سبيل الأدب يعني: أنه من الأدب المستحب أن يفرق بين الضميرين, ولا يجمع بينهما, وهذا يدل على الجواز، فيكون النهي ليس للتحريم في قوله: (بئس خطيب القوم أنت)، وإنما ينبغي أن يسلك هذا المسلك من باب الاستحباب.

    الجواب الثالث: أن الخطبة محل البيان والإطناب والإيضاح, خلاف الكلام الذي يراد منه الحفظ والفهم, ففرق بين الخطبة وبين الكلام الذي يراد منه التعليم، فإنه غالباً يكون موجزاً جامعاً حتى يحفظ, كما كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الجواب الرابع: أن هذا جاء على الأصل السابق, والحديث الذي في صحيح مسلم -حديث نهي الخطيب- نقل عن الأصل, فيجب أن يصار إليه، يعني: يكون شبه ناسخ له، هذا معناه، يعمل بما جاء في حديث الخطيب فلا يجمع بين الضميرين ويكون حديث أنس قبل ورود النهي.

    هذه أجوبة العلماء على هذا، والله أعلم.

    كلام الخطابي في شرح الحديث والرد عليه

    قال الشارح رحمه الله: [ وقال الخطابي : المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال ].

    (حب الاختيار لا حب الطبع) يعني: إذا قدم على محبة الله محبة رسوله يكون ذلك باختياره، أما إذا كان بطبعه لا يستطيع أن يترك طبعه, فهذا لا يلام عليه، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن نص الحديث: (حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ومعروف أن محبة الولد والوالد تكون محبة طبيعية، لا يستطيع الإنسان أن يمتنع منها، فهذا غير صحيح .

    والصواب: أنها على ظاهرها مطلقة, أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل محبة، وأن يتطبع الإنسان بهذا الطبع, بأن يترك الطبع الذي يكون طبعاً بهيمياً, ويتطبع بطبع الإيمان الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الواجب.

    ما يتفرع عن محبة الله من مسائل

    قال الشارح رحمه الله: [ وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث: (أحبوا الله بكل قلوبكم)، فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله, ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم, ويمتثل أمره, ويترك نهيه كما قال الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فمن آثر أمر غيره على أمره, وخالف ما نهي عنه، فذلك علم على عدم محبته لله ورسوله، فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه, ومن لا فلا، كما في آية المحنة ونظائرها، والله المستعان.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً واشتهاه, إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها، فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

    قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه، والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولابد.

    ومن لوازم محبة الله أيضاً: محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده ].

    تفريعها المقصود به: تفريعها بأن يفرع عليها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومحبة أولياء الله من أهل الطاعات، هذا فرع عليها، وهذا من مكملاتها.

    خلاف العلماء في توجيه جمع الضمير في قوله: (مما سواهما)

    قال الشارح رحمه الله: [ فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي.

    قال: وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.

    قال: ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار.

    قوله: (أحب إليه مما سواهما) فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان:

    أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين, لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب؛ إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.

    الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز.

    وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل, فيكون أرجح.

    قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) أي: يستوي عنده الأمران.

    1.   

    عصمة الأنبياء

    قال الشارح رحمه الله: [وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقاً وإن تاب منه.

    والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصاً, وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة, مع كونهم في الأصل كفاراً, فهداهم الله إلى الإسلام, والإسلام يمحو ما قبله, وكذلك الهجرة, كما صح الحديث بذلك ].

    يعني: أن الإنسان ما ينفك عن الذنب, ولكن كونه يقع في الذنب هذا ليس نقصاً, وإنما النقص أن يصر على الذنب ويكرره، أما إذا وقع فيه وتاب فهذا ليس نقصاً, ولا ينقصه بل ربما زاده؛ لأنه قد يكون بعد الذنب حالته أحسن منها قبله, كما قيل في أنبياء الله عندما ذكروا مسألة العصمة, وقد اختلف الناس في ذلك فقال طوائف: هم: معصومون مطلقاً من الذنوب الكبائر والصغائر, ومن أن يخطئوا في التبليغ أو غير ذلك.

    وطوائف من أهل السنة يقولون: العصمة فيما يبلغونه عن الله جل وعلا فقط، أما الذنوب فليسوا معصومين منها، ولكنهم ما يقرون على ذنب، إذا وقع أحدهم في ذنب نبهه الله؛ فرجع وصارت حالته بعد الذنب أحسن منها قبله، واستدل القائل بهذا بأن الله جل وعلا يحب التوابين، ولا يحرم أولياءه من هذه المحبة.

    فإذا تاب الإنسان من ذنبه فقد يكون الذنب الذي وقع فيه سبباً لانكسار قلبه وحيائه من ربه, ولا يزال يطالع في قلبه ذلك الذنب, ويحدث توبة وانكساراً وذلاً واستغفاراً حتى يكسب بسبب هذا الذنب أشياء ما يكتسبها لو لم يقع فيه.

    وهذا واقع لكثير من الناس, ولهذا جاء في الحديث: (إن الرجل يذنب الذنب يدخل به الجنة)، قيل: كيف؟ قال: إنه لا يزال مستحياً من ربه, منكسر القلب, يستغفره حتى يدخل بسبب ذلك الجنة، وهذا هو الصواب.

    ولهذا ذكر الله جل وعلا عن آدم وهو نبي كريم مكلم كلمه الله سبحانه, أنه أكل من الشجرة التي نهي عنها وعصى ربه فغوى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122].

    وذكر عن كليمه موسى عليه السلام أنه قتل نفساً بغير نفس, وأن الله جل وعلا تاب عليه، وهكذا حتى أشرف الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، خاطبه الله جل وعلا بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10].

    هب أن أحداً من الناس يخاطب بمثل هذا الخطاب، يقال له: إنك عبست وتوليت لما جاءك فلان وهو تقي, ربما يغضب ويقول: أنت ما تقدرني، أنت ما تعرف تخاطبني، هذا رب العالمين جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب.

    وكذلك يقول له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، يخاطبه بهذا الخطاب، وكثير من الناس لو يواجه ويقال له: اتق الله يا فلان! اتق الله،لقال مستنكراً: ماذا صنعت أنا؟ هل أنا فعلت ذنباً؟

    المقصود أن الله جل وعلا يؤدب رسوله صلى الله عليه وسلم بالقرآن تأديباً فيه شيء من التنبيه.

    كذلك يقول جل وعلا في خطابه له: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، وهذا إنكار.

    كذلك قوله جل وعلا: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68] الكتاب السابق أنكم لا ينزل عليكم العذاب، وهذا بسبب أخذهم الفداء من أسرى أهل بدر الكفار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو نزل علينا عذاب لم يفلت منا إلا عمر)؛ لأن عمر اعترض وقال: (أرى أن تمكن كل واحد منا من قريبه فيضرب عنقه).

    والرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما في أصحابه من الحاجة والتعب؛فرحمهم وأخذ الفداء من أجل أن يكون ذلك نفعاً لهم، فنزل عليه العتاب صلوات الله وسلامه عليه.

    وقال الله جل وعلا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2]، ويقول بعض المفسرين: ليغفر الله لأمتك ذنوبها المتقدمة والمتأخرة، أما هو فليس عليه ذنوب، وهذا تحريف, بل هذه مغالطة.

    وكذلك قوله جل وعلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

    قال بعضهم: واستغفره لذنوب أمتك, أما أنت فليس عليك ذنوب، وهؤلاء بعضهم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً من منزلة الله جل وعلا، حتى إن بعضهم يقول في مثل هذا: إن هذا ليس خطاباً له، وإنما هو خطاب لأمته، ولكن لما كان الوحي ينزل عليه وجه إليه، يقول: الخطاب لأمته. هذا شيء عجيب! يعني: كأنها مغالطة ورد لقول الله جل وعلا.

    الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (استغفروا الله وتوبوا إليه, فإني أتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة)، ويقول الصحابة: (كنا نحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، يقول: أستغفر الله وأتوب إليه, أستغفر الله وأتوب إليه) وليس هناك أحد غني عن ربه جل وعلا، كما أنه ليس بين الله جل وعلا وبين خلقه صلة إلا بالطاعة، من كان لله أطوع فهو أكرم عند الله, وأقرب إلى الله, بغض النظر عن كونه فلاناً أو من فلان أو غيره.

    لا يخلو أحد من الناس من المعاصي

    كل الخلق لا ينفكون عن المعاصي, ولكن يختلفون اختلافاً عظيماً جداً، ولهذا يقولون: إن مما يعد حسنة لبعض الناس يعد سيئة للبعض، كيف يعد سيئة للبعض؟ مثل أهل القرب والولاية, لا يقنعون بالشيء الذي يرى عامة الناس أنه قربات، بل يستغفرون من عباداتهم؛ لأنهم ما جاءوا بها على الوجه الأكمل، يعني: ما جاءوا بها في مقام الإحسان؛ فيستغفرون ربهم من العبادات، أيقولون: ويدل على هذا أنه شرع لنا بعد نهاية الصلاة أن يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً كما هي السنة (أستغفر الله, أستغفر الله, أستغفر الله) والصلاة من أفضل القربات, وبعدها مباشرة تستغفر ربك.

    ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بالطاعة على الوجه الأكمل, وهذا شيء معروف يجده الإنسان من نفسه, ولا يستطيع أحد من الأمة أن يأتي بالصلاة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها ؛ لأن معرفة ربه جل وعلا والقيام بأمره على الوجه الأكمل خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول: (أنا أعلمكم بالله, وأتقاكم له, وأخشاكم له) صلوات الله وسلامه عليه، بل ما يستطيع الإنسان أن يأتي بالطاعة في الصلاة كما أتى بها أبو بكر أو عمر أو غيرهما من الصحابة.

    ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: يقوم الرجلان في الصف الواحد، كل بجوار الآخر في الصلاة، وبين هذا وهذا مثلما بين السماء والأرض, يكون هذا كأنه يشاهد ربه, ويكون قلبه ساجداً بين يديه, خاضعاً له, ويستشعر عظمته وخطابه, ويود أنه ما ينتهي من الصلاة.

    والثاني يكون أقل من هذا, أو ربما يكون يفكر في أمور الدنيا, وفيما يزاوله, فيخرج من صلاته وهو يخطط لأموره التي سيفعلها في الدنيا، وربما لا يدري ماذا قرأ الإمام؟ وماذا قال هو؟ ومثل هذا صلاته لا روح فيها في الواقع, يعني: مثل البدن الذي لا روح فيه.

    المقصود أنه لا يوجد أحد من الناس يخلو من الذنب أبداً، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ينبههم الله جل وعلا على بعض المخالفات، فنوح عليه السلام لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45]، قال الله جل وعلا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

    هذا خطاب الله جل وعلا لرسول كريم من أولي العزم من الرسل، ثم يقول: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47].

    وإذا نظر الإنسان إلى خطاب الرب جل وعلا لأوليائه من الأنبياء والرسل؛ يجد أنه ينبههم على أشياء يرجعون عنها، ويستغفرون ربهم منها, ويرون أنها ذنوب؛ ولهذا ففي يوم القيامة يعتذرون من ذلك للناس ويذكرون ذنوبهم كآدم وإبراهيم وموسى، فيعتذرون للناس مما كان منهم في الدنيا.

    فآدم يقول: من الذي أخرجكم من الجنة؟ إنما خرجتم من الجنة بسببي فلست كما تظنون. اذهبوا إلى غيري، إن ربي نهاني أن آكل من الشجرة فأكلت منها وعصيته، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له، والذنب إذا غفر كأنه لا وجود له، ولكنه مقام الاستحياء من الله جل وعلا.

    وكذلك نوح عليه السلام يقول: إني سألت ربي ما ليس لي به علم. اذهبوا إلى غيري، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له ذلك.

    وكذلك إبراهيم عليه السلام يعتذر عن أمور كان يجادل بها عن دين الله، وتعد من قبيل حسناته، ولكنه استحيا من ربه؛ لأنها ليست على ظاهرها، وكان فيها شيء من التعمية والتورية، وخشي أن تكون كذباً، وأن تكون ذنباً فاعتذر.

    وكذلك موسى عليه السلام يعتذر بالقتل مع أن الله خاطبه وأعلمه بأنه قد غفر له، لما قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي [الأعراف:151]، فغفر الله له، إلا أنه مستح من الله تعالى أيضاً.

    فالمقام مقام عظيم جداً، فيستحيون من ربهم أنهم وقعوا في شيء من الذنوب وإن كان قد تاب عليهم، فهم أعظم الأولياء، وأقربهم إلى الله جل وعلا، وهؤلاء خلاصة الخلق الذين أخلصهم الله من بني آدم، فكيف بآحاد الناس ممن هم سوى الأنبياء؟!

    إن آحاد الناس قد يقع منه الذنب في اليوم عدة مرات، والذنوب قد تكون من قبل ذنوب القلوب التي هي أعظم من ذنوب الجوارح، فالحق أن ذنب القلب أعظم من ذنب الجارحة، مثل الحسد والغل والحقد على المسلمين أو بغضهم على باطل، أو حب على باطل، أو ما أشبه ذلك.

    كبائر القلوب تهلك، وهي كثيرة جداً، وكثير من الناس لا يبالي بها، وكثير منهم يجعل الغيبة نصيحة.

    والمقصود: أن الإنسان لا يقنط بسبب الذنب، في الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وهذا مقتضى أسماء الله، مثل الغفور والتواب والعفو.

    وليس عيباً أن الإنسان يذنب، ولكن العيب كونه يصر على ذنبه، وإلا فالله جل وعلا يحب التوابين، والتواب هو الرجاع كثير التوبة، وكثرة التوبة تدل على كثرة الذنوب، فكلما أذنب ذنباً تاب، وكون الإنسان يتصور أن فلاناً ليس له ذنوب هذا خطأ، لا يوجد أحد ليس له ذنوب, ولكن إذا كان الإنسان رجاعاً أواباً ينوب إلى ربه ويرجع إليه فهذا هو الكمال.

    [ قوله: وفي رواية: (لا يجد أحد) هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه ولفظها: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

    وقد تقدم أن المحبة هنا: عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك، قال الشاعر :

    أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها ].

    هذا يخاطب امرأة يحبها، ولا يجوز أن يكون لمخلوق محبة مثل هذه، يقول:

    أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها

    فقال: ملء عين، والقلب يمتلئ، ولكن مثل هذا يجب أن يكون لله جل وعلا أن يهاب ويجل ويحب، أما إذا كان لمخلوق فهو عابد لذلك المخلوق ، وبعض الناس يعبد شهوته فيكون حظه من العبادة لمخلوق مثله، ثم هذه المحبة تكون عداوة ولعنة فيما بعد, فكل واحد يلعن الآخر ويتبرأ منه يوم القيامة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756633481