إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام - الآيات [36-38]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما تضمنته سورة الأنعام الإخبار عن عناد الكفار، وأنهم يطلبون الآيات، فإذا جاءت كفروا بها، وقد بين الله عز وجل أن كفرهم بسبب جهلهم، كما بين الله عز وجل فيها أن الدواب والأنعام والطيور كلها أمم مثلها مثل بني آدم، ثم أخبر الله عز وجل أنه ما فرط في الكتاب من شيء، وأنه تضمن كل شيء من آجال العباد وأرزاقهم وأعمالهم وغير ذلك.

    1.   

    تلخيص لتفسير ما سبق من آيات

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    فتقدم معنا الكلام في الآيات السابقة التي بين فيها ربنا جل جلاله أن الكفار كذابون مفترون، وأنهم يوم القيامة حين يوقفون على النار ويعاينون العذاب، يتمنون على الله عز وجل أن يردهم إلى الدنيا؛ ليصلحوا أعمالهم، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، قال الله عز وجل: بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28]، ما كانوا يخفون من الفطرة السليمة، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:28-31].

    ثم سلى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعاني من تكذيبهم وإعراضهم وجحودهم وعنادهم، فقال الله عز وجل له: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام:33]، يحزنك: يسبب لك الحزن، وهو قولهم: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، تتنزل عليه أساطير الأولين، قال الله عز وجل: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33]، أي: هم يعلمون بأنك صادق أمين، وأنك لا تكذب على الناس فضلاً عن أن تكذب على الله عز وجل، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، كما قال سبحانه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]، وكما قال سبحانه على لسان موسى مخاطباً فرعون لَقَدْ عَلِمْتَ [الإسراء:102]، أي: يا فرعون ! مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102].

    قال الله عز وجل: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:34]، كل الأنبياء الذين كانوا من قبلك قد كذبوا وأوذوا، وواجههم قومهم بالقول الفاحش، واللفظ البذيء، فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34]، كما قال في آية أخرى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

    قوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [الأنعام:34]، أي: قضائه وقدره جل جلاله، وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الأنعام:34-35]، يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الناس مهما فعلت لهم، ومهما أريتهم من الآيات، وأجرى الله على يديك من المعجزات؛ لن يؤمنوا، ماذا أنت صانع؟

    هل تبتغي نفقاً في الأرض؟ أم أنك ستبتغي سلماً إلى السماء؟ كل هذا ليس بنافعهم؛ لأنهم قالوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:93]، وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ...[الأنعام:7]، هكذا كانت مطالبهم، فالله عز وجل قال: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35]؛ لو أنه سبحانه وتعالى شاء مشيئة كونية قدرية، فلا راد لمشيئته، ما شاءه كوناً وقدراً لا بد أن يكون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وهذه هي الإرادة الكونية القدرية، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35]، والهدى المراد به في هذه الآية: هدى التوفيق للإيمان، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، هذه موعظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ...)

    ثم قال الله عز وجل له: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36].

    يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد! سيستجيب لك ويؤمن بك وينتفع بكلامك من آتاه الله عز وجل سمعاً يستعين به على معرفة الحق والاستدلال عليه.

    المراد بالموتى في الآية

    والموتى بإجماع المفسرين ها هنا المراد بهم: الكفار، وهذا في القرآن كثير، يطلق الله عز وجل الموت مريداً به الكفر، قال الله عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، ويقول الله عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:19-22]، فلا ينتفع بالنذارة والبشارة إلا من آتاه الله سمعاً فيه مؤهلات هذا الانتفاع، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70]، أما الكافر فهو ميت.

    وقول ربنا سبحانه: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ، مقصود به: يجيب، والسين والتاء زائدتان، وهذا في كلام العرب كثير، كقول القائل:

    وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

    فلم يستجبه: أي لم يجبه، إنما يستجيب: إنما يجيب، إنما ينتفع الذين يسمعون.

    وهؤلاء الكفار كما قال الله عز وجل عن المنافقين في سورة البقرة: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18]، وكما قال عن الكفار: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، وكما قال عن الكفار: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]، وفي آيات أخرى من القرآن أثبت ربنا جل جلاله بأنهم ليسوا صماً بل يسمعون، وليسوا بكماً بل ينطقون، وليسوا عمياً بل يرون ويبصرون، مثلاً في قول ربنا سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، ها هنا دليل على أنهم يسمعون، وقول ربنا سبحانه: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، معنى ذلك: أنهم يتكلمون، لكن لما كان سماعهم لا خير فيه، وكلامهم لا خير فيه، كان بمنزلة اللا سمع واللا كلام، ومنه قول القائل:

    صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

    يعني: لو سمعوا عني خيراً فكأنهم لم يسمعوا.. صم، أما إذا ذكرت عندهم بالسوء فإنهم يصغون ويسمعون ويفهمون فهماً جيداً، فجعل الله عز وجل الكفار بمنزلة الأموات.

    وعيد الله للكفار

    قال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ، يقول الله عز وجل متوعداً هؤلاء الكفار: إني مميتكم ثم باعثكم وناشركم ومحاسبكم ومجازيكم على أعمالكم، يا من ضللتم في هذه الدنيا وصددتم عن سبيل الله، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس عليه من حسابكم شيء، إنما هو نذير.

    ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ، هاهنا تقدم الجار والمجرور على الفعل، وكما يقرر علماء البلاغة، بأن المعمول إذا تقدم على عامله أفاد الحصر.

    ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ، يرجعون إليه وحده جل جلاله، في ذلك اليوم لا محاسب غيره، ولا مجازي غيره، لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:16-17].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ...)

    ثم يقول الله سبحانه: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37].

    وَقَالُوا ، أي: الكفار، كفار مكة.

    معاني (لولا)

    قال تعالى: لَوْلا [الأنعام:37]، ولولا في لغة العرب تطلق ويراد بها أحد معنيين: إما أن تأتي حرف امتناع لوجود، وإما أن تأتي حرف تحضيض وحث، فمن الأول قول ربنا سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، أي: وجود فضل الله ورحمته منع من نزول العذاب، فلولا حرف امتناع لوجود، امتناع لنزول العذاب بوجود رحمة الله عز وجل.

    وأما الإطلاق الثاني فلولا يراد بها التحضيض والحث، كما في قوله سبحانه: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:98]، وهاهنا أيضاً فيها معنى التوبيخ، فالمشركون يقولون: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ، أي: على محمد صلى الله عليه وسلم: آيَةٌ ، والآية تطلق ويراد بها: العلامة، كما في قوله سبحانه: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة:248]، والآية تطلق ويراد بها: المعجزة، كما يقال: فلان آية في العلم، أي: معجزة في العلم، وهؤلاء الكفار يريدون معجزة، لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، يعنون: أن تكون هذه الآية من الله عز وجل مباشرة، لا لبس فيها ولا غموض، كعصا موسى وناقة صالح وما جرى مجراهما.

    ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم، فقال: قل يا محمد إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ، فالله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير.

    دلالة ختم قوله تعالى: (قل إن الله قادر على أن ينزل آية ...) بالحكم على الكفار بالجهل

    قال تعالى: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وقد ختم الله عز وجل هذه الآية التي فيها حكاية قول الكفار: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ، بالحكم عليهم بالجهل، فما وجه هذا الحكم؟

    نقول: حكم الله عليهم بالجهل لعدة وجوه.

    جهل الكفار بهلاك الاستئصال

    أولها: أنه سبحانه قد جرت عادته بأن الناس إذا طلبوا آية فأنزلها عليهم، ثم بعد ذلك كفروا، فإنه سبحانه يهلكهم هلاك استئصال، لا يترك منهم أحداً، ودوننا قصة نبي الله صالح عليه السلام: لما طلب قومه آيةً، وعينوا تلك الآية بأن تكون ناقة كوماء، وفراء، وأن تخرج من صخرة، فأخرج لهم تلك الآية على الصفة التي طلبوا، فلما كفروا قال الله عز وجل: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:14-15]، وفي آية أخرى قال: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5]، وفي آية ثالثة أخبر ربنا جل جلاله بأنه أهلكهم بالصاعقة؛ لأنهم كذبوا، وكذلك قوم فرعون لما طلبوا آية، حين قال موسى عليه السلام: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء:30]، قال: فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف:106]، فأراه موسى تسع آيات بينات، فلما كفر فرعون وقومه أغرقهم الله عز وجل فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، هذا الوجه الأول: يا كفار مكة! يا مشركي العرب! يا من تقترحون الآيات! مرة تقولون: يا محمد! اجعل لنا الصفا ذهباً، ومرة تقولون: يا محمد! قد علم ربك أنه لا أحد أضيق منا عيشاً، فسل ربك يجعل لنا مكة جناناً كجنان الشام والعراق، ومرة تقولون: يا محمد! إن الجبال قد ضيقت علينا فجاج مكة، فسل ربك يسيرها، ويقترحون الآيات فيقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]، وفي قراءة: (تُفَجِّر لنا من الأرض ينبوعاً) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء:91-92]، وانظروا لسوء الأدب يقولون: كما زعمت! جواباً لقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا [سبأ:9]، أي: قطعاً من السماء، قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:92]، لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان:21]، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء:93]، أي: من ذهب، أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه [الإسراء:93]، وقال له بعضهم: ولو أتيت بالكتاب ما آمنا بك! بعد هذا كله لن نؤمن بك، يا من تقترحون هذه الآيات! لو استجاب الله لكم في هذه الآيات والمعجزات، وأنتم متعنتون معاندون فكفرتم، فلا بد بعد ذلك من استئصالكم.

    جهل الكفار بالمعجزة الخالدة

    الوجه الثاني: لجهلهم أن هذه الآيات والمعجزات إنما هي وقتية زمانية محدودة، وقد أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم معجزة باقية خالدة، وهي القرآن، فعندما طلبوا الآيات من محمد صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [العنكبوت:50]، قال الله لهم: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51]، فالقرآن كاف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي )، فآية نبينا صلى الله عليه وسلم هي الوحي، قال: ( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )؛ لأن القرآن باق خالد.

    فيا معشر كفار قريش! يا من تقترحون الآيات! قد آتى الله نبيكم صلى الله عليه وسلم آية عظيمة، يرتلها عليكم بالليل والنهار، بكرة وعشياً.

    جهل الكفار بآيات النبي صلى الله عليه وسلم

    الوجه الثالث: أنهم قد عاينوا من آياته صلى الله عليه وسلم ما لا يقل عن آيات من كان قبله من الأنبياء، بل يزيد، فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه أراهم القمر وقد انشق نصفين، ومن ذلك كما يقول الصحابة رضي الله عنهم: ( كنا نأكل الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نسمع تسبيحه بين يديه )، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة، ما مررت به إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! )، ومن ذلك أنه صلوات ربي وسلامه عليه قد أجرى الله له الآيات مع النباتات، ومع الجمادات، يقول أنس رضي الله عنه: ( أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كفاً من حصى، فسمعنا تسبيحهن في يديه، ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم صبهن في يد عمر فسبحن، ثم صبهن في أيدينا فما سبحن ).

    ومن ذلك: أنه صلوات ربي وسلامه عليه: ( لما جاءه الأعرابي فقال: يا محمد! أرني آية، فقال له: اذهب إلى تلك الشجرة فقل لها: رسول الله يدعوك، يقول الصحابة رضي الله عنهم: فولى الأعرابي وهو يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استهزأ به، وأتى الشجرة فقال لها: رسول الله يدعوك، يقول الصحابة رضي الله عنهم: فتهدلت غصونها، ثم تحركت من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها، ثم أقبلت تخد الأرض خداً، أي: صنعت حفرة في الأرض، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: السلام عليك يا رسول الله! فقال الأعرابي: يا رسول الله! مرها فلترجع، فرجعت كما كانت، فأسلم الرجل ). ومن ذلك آياته صلى الله عليه وسلم مع الحيوانات: ( لما كان الرجل الأعرابي يرعى غنماً، فجاء الذئب فاختطف واحدة وأقعى عليها )، يعني: يريد أن يأكلها، ( فجاء الراعي فخلص الشاة من ذلك الذئب، فأنطق الله الذئب بلسان عربي مبين، فقال: للراعي أما تتقي الله وقد حلت بيني وبين رزق ساقه الله إلي، فقال الراعي: عجباً لذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أدلك على أعجب من ذلك، قال: وما هو؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في المدينة، وقد اطلع عليهم أهل السماء، ينظرون قتالهم مع المشركين، وأنت مشغول بغنمك، فقال الراعي: فمن لي بغنمي، فقال له الذئب: أنا أرعاها لك، فاذهب، فجاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له، فجمع النبي صلى الله عليه الصحابة، وطلب من الأعرابي أن يقص عليهم ما رأى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: صدق، لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه ).

    ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما كان مع البعير وما كان مع الظبي، وما كان مع الضب.

    ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه أبرأ المرضى وذوي العاهات، ( ولما جاء قتادة بن النعمان يوم أحد، وقد سالت عينه على كفه، قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعها في مكانها، فكانت والله أحسن من الأخرى )، فهذه من آياته صلوات ربي وسلامه عليه، فهو عليه الصلاة والسلام قد آتاه الله عز وجل آيات كثيرات عظيمات.

    قال سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [الإسراء:59]، يعلم الله عز وجل طبيعة البشر، فهم يطلبون الآيات ويستبعدونها، فإذا جاءت لا يؤمنون، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]؛ ولذلك بنو إسرائيل طلبوا من المسيح مائدة من السماء، فدعا ربه فقال الله له: قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]، وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [الإسراء:59]؛ ولذلك هذه الوجوه الثلاثة سبب للحكم على هؤلاء الكفار بالجهل، إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ...)

    ثم يقول سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38].

    وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ، والدابة اسم لكل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان أو طائر، قال الله عز وجل: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ، والطائر من الدواب، لكن عطفه الله عز وجل على الدواب، إما من باب عطف الخاص على العام، مثل قوله: تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر:4]، وإما أنه كما قال بعض المفسرين: بأن الطائر يسمى دابة إذا كان على الأرض، أما إذا كان بين السماء والأرض طائراً أو صافاً جناحيه فإنه لا يسمى دابة، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ [الأنعام:38]، (من) هذه لتوكيد العموم، فلو قال الله عز وجل: وما دابة في الأرض؛ لأفادت العموم، لكنه سبحانه أراد أن يؤكد العموم، كما في قوله سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي [الأنبياء:25]، المعنى: وما أرسلنا قبلك رسولاً، ومنه قوله تعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [القصص:46]، أي: ما أتاهم نذير من قبلك، لكن جاءت (من) لتوكيد العموم، ما جاءهم نذير قط.

    دلالة تخصيص الله لدواب الأرض بالذكر في الآية

    قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ ، هل الدواب في الأرض فقط، أم في الارض والسماء؟ يقول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، فلماذا خص الله دواب الأرض بالذكر، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ [الأنعام:38]، ولم لم يعمم فيجعل الكلام شاملاً لدواب الأرض والسماء؟

    قال أهل التفسير رحمهم الله تعالى: هاهنا معنيان من أجلهما خص الله دواب الأرض بالذكر:

    المعنى الأول: أنه جل جلاله خاطبهم بما يعرفون، فـأبو جهل و أبو لهب وأمثالهم ما عندهم علاقة بالسماء، ولا يعرفون ما فيها ولا يتأملون؛ ولذلك يخاطبهم الله عز وجل بما يعرفون، كما قال ربنا سبحانه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، ثم قال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ[النحل:8]، ما قال: والسيارات والطائرات والغواصات؛ لأن هؤلاء لن يفهموا، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم لما أكرمه الله بمعجزتي: الإسراء والمعراج حدثهم عن الإسراء فقط؛ لأنه الشيء الذي يمكن أن يتصوروه، وما أتى لهم بسيرة عن المعراج؛ لأن هذه لن يفهموها أبداً، ( فلما قال له أبو جهل : يا محمد! هل من جديد؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: أمسيت معكم البارحة، ثم أسري بي إلى بيت المقدس في الشام، فقال له أبو جهل : وأصبحت بيننا -يعني: ذهبت ورجعت في نفس الليلة!- قال: بلى، قال: أرأيت لو دعوت لك قومك أتحدثهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادعهم، فدعاهم فحدثهم عليه الصلاة والسلام ).

    فهنا ذكر الله عز وجل دواب الأرض مخاطبة لهم بما يعرفون لا بما يجهلون.

    المعنى الثاني: ذكر الله عز وجل دواب الأرض لتهوين أمرها؛ لأنه أراد أن يبين بأنه سبحانه وتعالى لا يهمل شيئاً، فإذا كان قائماً بمصالح دواب الأرض التي هي أحقر المخلوقات، مثل الكلاب والقطط والوحوش والطيور فكيف يهمل مصالح الآدميين؟!

    دلالة ذكر الله عز وجل طيران الطير بجناحيه في الآية

    السؤال الثاني: قول ربنا: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ، ومعروف أن الطائر يطير بجناحيه، فلماذا ذكر ربنا جل جلاله أنه يطير بجناحيه؟

    قال أهل العلم في ذلك معان ثلاثة:

    المعنى الأول في قوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ : أن العرب أحياناً تطلق الطيران مراداً به السرعة، وليس العرب وحدهم، بل العرب والعجم، فنحن نقول: يا فلان! اذهب فأت بكذا وكذا، يقول لك: إن شاء الله، تقول له: أسرع، يقول لك: إن شاء الله، تقول له: طير، وأنت جاد لا تمزح، وإنما تعني بذلك غاية السرعة؛ ولذلك من أمثلة العرب أنهم يقولون: طر يا غلام في حاجتي، ومنه الحديث الذي يثني فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على المجاهد فيقول: ( كلما سمع هيعة طار إليها )، يعني: كلما سمع (حي على الجهاد) لا ينتظر وإنما يسرع كأنه يطير، فهاهنا الله عز وجل يريد أن ينفي ذلك الاحتمال لئلا يقول قائل: إن الله عز وجل يقصد بذلك أن بعض الدواب مسرعة، لا. فالله عز وجل أكد فقال: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، هذا معنى.

    المعنى الثاني: قالوا: ربما يكون في أرض الله دواب تطير بأكثر من جناحين، كما أن الملائكة كذلك، الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، ولـجبريل عليه السلام ستمائة جناح، ما بين الجناح والجناح كما بين المشرق والمغرب، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، فأراد الله عز وجل أن يخص هذا النوع الذي يطير بجناحين.

    المعنى الثالث -وهو الأظهر، والله تعالى أعلم-: أن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب يعبرون بذلك، فالعرب يقولون: طار بجناحيه، ومشى برجليه، وسمعت هذا الكلام من فيه، مثلما يقول الناس الآن: والله قال لي بخشمه، ومعروف أنه ما قال له إلا بخشمه! لكن من باب التوكيد، يقول لك: فلان جاء، يقول: والله جاءني برجليه، يقولونها من باب التوكيد، ومثله في القرآن: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15]، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ[الفتح:11]، كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]، ومعروف أن الكلام من الفم وأن الكلام باللسان، فهذا من باب الجري على أسلوب العرب في كلامهم.

    وجه المثلية في قوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم)

    قال تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ، ما المقصود بالمثلية هاهنا؟ يقول الله عز وحل: هذه الدواب؛ الوحوش والحيوانات المستأنسة والزواحف والقوارض والطيور وغيرها.. أمم أمثالكم، فما وجه المثلية؟

    مثلية الصفات

    من أعجب التفاسير هنا تفسير سفيان بن عيينة رحمه الله، وقد ارتضاه بعض المفسرين، قال: المثلية هنا: مثلية صفات، قال: فبعض الناس فيه شبه من بعض أنواع البهائم، ففي بعض الناس سورة الأسد بالسين، الأسد يتسور على غيره من الدواب، وكذلك بعض الناس مفترس، ما يبالي. نسأل الله العافية! وبعض الناس يعدو عدو الذئب، والذئب مشهور بسرعة العدو، وبعض الناس يمكر مكر الثعالب، وبعض الناس شرهه كشره الخنازير، همه بطنه وفرجه، وبعض الناس زهوه كالطاوس، تلقاه متبختراً أبداً ما ينظر إلى الأرض، زاه بنفسه، فهذه المثلية.

    يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: المثلية مثلية صفات، فبعض الناس يشبه الوحوش، وبعض الناس يشبه الطيور، وبعض الناس يشبه الخنازير. وأزيد على كلام سفيان رحمه الله: وفي بعض الناس شبه القرود! يقلد ما يصنع الكفار، فهو يمشي على خطاهم، يصنع مثل الذي صنعوا، يقول كالذي قالوا، هذا أيضاً نوع من أنواع الشبه، إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38].

    مثلية في الخلق والرزق

    القول الثاني: إن المثلية هنا مثلية خلق ورزق، فهذه الدواب وهذه الطيور ما منها من شيء إلا مخلوق، وما منها من شيء إلا مرزوق، وأنتم -يا بني آدم- ما منكم إلا مخلوق ومرزوق، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، وهذه الدواب لكل منها أجل تنتهي به وتموت، وكذلك أنت أيها الآدمي! المختال في مشيتك، المعجب بحالك، أنت كالدواب لك ساعة معلومة، فمهما أوتيت من علم، ومهما أوتيت من مال، ومهما أوتيت من ذكاء، لك ساعة معلومة، تموت فيها كما تموت سائر الدواب.

    مثلية في العبادة

    وهناك وجه ثالث -وهو وجه قوي جداً-: أن المثلية هنا مثلية في العبادة، يعني: أنتم يا معشر الآدميين! تسبحون الله وتعرفونه وتسجدون له، وكذلك الدواب، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، ويشهد لهذا قوله سبحانه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ [البقرة:74]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ [الحشر:21]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ:10]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:17-19]، فهذه الدواب كلها تعرف الله وتسبح الله، وعندنا نسج العنكبوت وباض الحمام على غار ثور، وعندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يصلي ولم يجد شيئاً يستتر به، وكان في غزوة من الغزوات وعنده فرسه، فقال للفرس: ( لا تبرح يرحمك الله حتى نفرق )، يقول الصحابة: ( والله ما حرك دانية حافراً ولا ذيلاً حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أليس هذا إدراكاً؟ يخلق الله عز وجل في تلك الدواب إدراكاً تسبح له وتسجد له وتعقل عن الله عز وجل مراده، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41].

    أيضاً مما يدل على ذلك قصة الجذع، وهي متواترة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر إلى المدينة كان يخطب الجمعة على جذع نخلة، فلما صنع له غلام من الأنصار منبراً من ثلاث درجات، وصعد عليه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، سمع الناس لذلك الجذع حنيناً يشبه صوت العشار )، جمع عشراء وهي الناقة الحامل، ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجذع يبكي لما فقد من ذكر الله ومقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل صلى الله عليه وسلم من منبره والتزمه فسكن، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه لبقي هكذا إلى يوم القيامة )، فهذا الجذع خلق الله فيه إدراكاً ميز به مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وأيضاً في القرآن الكريم قصة الهدهد، فالهدهد كان علامة في التوحيد والعقيدة، لما جاء لسليمان وسليمان يتهدده ويتوعده، قال له بمنطق الواثق المتيقن: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، أنا عرفت شيئاً أنت لا تعرفه، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:22-23]، فهو يقول هذا على سبيل الاستغراب والإنكار، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، بعد هذا عندها عرش عجيب جداً! وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، وأيضاً الهدهد يقول: أَلَّا يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:25-26].

    فالهدهد هو الذي يقول هذا الكلام! وسليمان أخذ كلامه مأخذ الجد، وما قال: هذا هدهد دعك منه، بل قال له: سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا [النمل:27-28]، هاك الرسالة هذه اذهب بها إليهم وأتني بالرد.

    ومثله أيضاً النملة! فنملة تكلمت بكلام واضح، وكلام محدد: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل:18]، ولو أردتم أن تتأملوا في هذا الكلام تجدون فيه كل أنواع البلاغة، فيه النداء: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ، فيه الأمر: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ، وفيه النهي: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ، وفيه الاعتذار: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، يعني: الناس هؤلاء ما جاء لهم خبركم، فممكن أن يدوسوكم وهم غير قاصدين أن يؤذوكم، لكن أنتم نمل، يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ .

    إذاً: قوله إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ، ما وجه المثلية؟ له ثلاثة أقوال:

    القول الأول: بأن المثلية مثلية صفات، فبعض الناس فيه صفات من صفات الدواب، كافتراس الأسد وشهوة الخنزير واختيال الطاووس ومكر الثعلب ونحو ذلك.

    القول الثاني: أن المثلية مثلية خلق ورزق، كما أنكم مخلوقون مرزوقون، فكذلك هي مخلوقة مرزوقة، والكل خلقه الله، والكل رزقه الله.

    القول الثالث: بأن المثلية هنا مثلية عبادة وتسبيح. والأقوال الثلاثة كلها صحيحة، ولا تنافي بينها، وهذا الاختلاف كما يسمونه اختلاف تنوع، أو من تفسير العام ببعض أفراده.

    المراد بالكتاب في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء ...)

    ثم قال: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، والتفريط: هو التضييع، والكتاب بمعنى: المكتوب، وهو مشتق من الكتب بمعنى الضم والجمع، والكتاب هاهنا للمفسرين فيه وجهان:

    فقيل: الكتاب مراد به القرآن، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ، أي: قد أودعنا فيه من علوم الأولين والآخرين وقصص الغابرين وأخبار الماضين، وما يكون من غيوب المستقبل، وأنواع العلوم كلها لم يغادر منها شيئاً، ويصدق هذا التفسير قول ربنا في سورة النحل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89].

    القول الثاني: أن الكتاب هاهنا مراد به: اللوح المحفوظ، الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب فيه كل شيء: الآجال والأرزاق والأعمال والأخلاق والسعادة والشقاوة، كل إنسان كتب له فيه متى يولد ومتى يموت، كل إنسان هل مصيره إلى الجنة أم إلى النار.. هذه كلها مقدرة عند الله سبحانه، وهذا الذي يسميه العلماء بالتقدير الأزلي، قبل أن يخلق الله الخلائق، ثم بعد ذلك يأتي التقدير الحولي في ليلة القدر، ثم بعد ذلك يأتي التقدير اليومي حين تنقل الملائكة ما يكون في كل يوم من اللوح المحفوظ، فالمراد بذلك هنا اللوح المحفوظ.

    الحشر يوم القيامة

    قال الله عز وجل: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]، يحشرهم الله يوم القيامة أحياءً، وفي الحديث عن أبي هريرة و أبي ذر رضي الله عنهما، قال رسول الله عليه وسلم: ( إن الله يحشرهم ويعدل بينهم، حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء )، الشاة الجماء التي لا قرون لها، يقتص الله لها من الشاة القرناء، وهذه الآية دليل على أن الدواب تحشر، قال الله عز وجل: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]، فالوحوش تحشر والطيور تحشر، لكنها لا تحاسب، يقال لها: كوني تراباً، وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].

    أسأل الله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وذهاب همومنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767482500