إسلام ويب

نعمة الطريقللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نعم الله على عباده كثيرة، ومنها نعمة الطريق التي توصل الإنسان إلى هدفه، ومن شكر الله على هذه النعمة: إبعاد الأذى عنها، والحفاظ على قوانين المرور فيها، فكم من كوارث حدثت للبشرية بسبب عدم إعطاء الطريق حقها. فينبغي علينا أن نحافظ على هذه النعمة العظيمة؛ لأن في ذلك صلاحاً لنا في الدنيا والآخرة.

    1.   

    محبة الله رأس مال المسلم

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    أيها الإخوة في الله! روى الإمام البزار وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه: ( أنه جيء برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, قد شرب الخمر, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه, فقال أحد الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! -يعني: كثير الشرب, ودائماً يقام عليه الحد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه, فإنه يحب الله ورسوله ), حب الله ورسوله رأس مال المسلم, حب الله ورسوله هو الضياء والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات, وهو الحياة, التي من فقدها فهو في عداد الأموات, وهو السعادة التي من فقدها فحياته كلها غموم وهموم, هو الضياء والنور, وبه يفوز الإنسان، وبتركه يشقى, جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله ). فالسلاح الذي أتقوى به, والزاد الذي أتزوده لهذا السفر الطويل: حب الله ورسوله ( فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب, أنت مع من أحببت ), قال أنس : فما فرحنا بشيء بعد الإسلام كفرحنا بهذا الحديث؛ لأنه بشارة عظيمة لكل من يحب الله ورسوله, قال: فأنا أحب الله ورسوله و أبا بكر و عمر ؛ فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بعملهم.

    حب الله إذا وجده الإنسان وجد حلاوة الإيمان, وعاش سعيداً, ومات حميداً, وبعث سعيداً, قال عليه الصلاة والسلام: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ), محبته للآخرين متفرعة عن محبة الله, فهو يحب من أحبه الله, ويبغض من أبغضه الله, يوالي من والاه الله، ويعادي من عاداه الله, إذا وجد هذا في قلبه وجد حلاوة الإيمان، وسعادة الحياة, ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ), حب دين الله بحيث يؤثره ويحبه ويقدمه على غيره, ويكره أن يفارقه, بل ويقدم إلقاءه في النار على حبه لترك الإسلام.

    من وجد هذا الحب الصادق عاش حياة هنيئة سعيدة في العاجل والآجل.

    1.   

    نعمة الطريق ومنافعها

    في آيات عديدة من القرآن يذكرنا بنعم تفصيلية قد لا نلقي لها بالاً, نزاولها, ونتمتع بها, ونأخذ حظوظ أنفسنا منها دون أن نشعر بعظيم منة الله علينا فيها, ومن هذه النعم الجليلة:

    نعمة الطريق الذي نسلكه, هذا الطريق الآمن, الطريق الفسيح, الذي نتقلب فيه لأداء أغراضنا, فإن من مظاهر حياة الإنسان المدنية: تنقله وأسفاره, فهو يحتاج إلى أن يتنقل لا محالة؛ ليلتقي بأبناء جنسه؛ وليجتمع بأفراد هذا الجنس في غير مكانه؛ وليقضي أغراضه وحاجاته؛ وليدفع عن نفسه الأضرار والآثار السيئة, فهو يحتاج إلى طريق يسلكه, ولو جعل الله عز وجل الأرض حين خلقها صعبة عسيرة التنقال فيها لوجد الإنسان ما وجد من المشقة والحرج في الانتقال من مكان إلى آخر, ولكن الله جل شأنه في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ يذكرنا بنعمة الطريق في مواضع عديدة, ويا لها من نعمة يسيرة! ولكنها في ميزان الله تحتاج إلى أن تعطى كل هذا الاهتمام, وتحتاج إلى أن تلفت إليها الأنظار على الدوام. نعمة الطريق, وما منَّ الله عز وجل به علينا من سهولة الانتقال, في سورة النعم التي هي سورة النحل, يسميها المفسرون: سورة النعم؛ لأن الله عدد فيها وفصل نعمه على عباده, ومن هذه النعم ما قال سبحانه وتعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15], ألقى السبل في الطريق, فتجد الجبال الصماء العظيمة المتناهية في الطول، وتجد في وسطها ثجاجاً, وفي وسطها طريقاً يسلكه الناس, ولولا هذا الفج ولولا هذا الطريق لصعب على الناس الانتقال من أحد جانبي هذه السلسة إلى الجانب الآخر, ألقى الجبال وألقى خلالها الطرق والمنافذ؛ لينتقل الناس لحاجاتهم بيسر وسهولة, وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15], وفي معرض التعريف بالله, حين سأل فرعون الأرض موسى عليه السلام: من ربك يا موسى؟ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50] ثم عرف الله بنفسه من جاء بعد فرعون, قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10], من ألقى هذه الجبال الشامخة, ويسر في هذه الأرض الفسيحة أنواع الطرقات تسلكونها لقضاء حاجاتكم.

    هذا هو الله, إذا أردت أن تعرف الله فتفكر فيما حولك من النعم التي لا يقدر عليها الإنسان, من سخرها وذللها وسهلها؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10].

    وفي سورة الزخرف يجيب سبحانه وتعالى على لسان المشركين أنهم إذا سئلوا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9], ثم يعرف سبحانه وتعالى بنفسه، فيقول: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10], نعمة السبل من النعم العظيمة, التي يذكر بها ربنا سبحانه هذا المخلوق؛ ليؤدي حق الله في هذه النعمة, فيشكر ربه أولاً على هذه النعمة, ويراعي بعد ذلك حقوق هذه النعمة, نعمة الطرق.

    1.   

    آداب الطريق

    من نعم الله الجليلة: هذه الشوارع الفسيحة, الشوارع الجميلة المزينة بالورود والزهور عن اليمين وعن الشمال, نسلكها لحاجاتنا ونقضي منها أربنا دون أن يأخذ الواحد منا نفسه ليتفكر في مقدار هذه النعمة وما هو حق الله عز وجل فيها؛ ولهذا لا غرابة أن جاءت الشريعة بحق للطريق.

    الطريق لما كان نعمة كان له عليك حق يلزمك أن ترعى هذه الحقوق, وهي من جملة الحقوق التي ألزمت بها شرعاً لتؤديها لأربابها وأصحابها, فالطريق حق عام للجميع؛ ولذلك في أبواب الفقه الإسلامي: باب الحقوق المشتركة وحقوق الجوار, ومن هذه الحقوق: حقوق الطريق, فالطريق حق مشترك للجميع, يسلكه الكبير والصغير, والمتعجل والمتأني, يسلكه الناس جميعاً, فلهم فيه حق, وأنت يا سالك الطريق! يجب عليك أن ترعى لهؤلاء السالكين حقوقهم, فلا يجوز أن تتخذ من الطريق مكاناً لإيذاء السالكين.

    يقرر الفقه الإسلامي أنه لا يجوز لأحد أن يحفر في طريق المسلمين حفرة, ولا يجوز لأحد أن يبني في طريق المسلمين دكة, ولا يجوز لأحد أن يضيق الطريق على المسلمين بالوقوف فيها إذا كان طريقاً ضيقاً, ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يحدث فيها ضرراً ولو بأن يحفر فيها بئراً, كل ذلك مراعاة لحق السالكين, والنبي عليه الصلاة والسلام عبر عن هذه الحقوق المتفرقة بعبارة وجيزة مجملة، فقال: ( فأعطوا الطريق حقه ), للطريق حقوق, يجب على المسلم أن يتدين لله تعالى بأداء حق هذا الطريق, فلما يحيا التدين في النفوس سيجد المسلم نفسه مراعياً لهذه الحقوق, متخلقاً بهذه الآداب دون حاجة إلى قوانين رادعة, وكاميرا مراقبة, وإدارات متابعة؛ لأنه يعلم أن المتابع من الداخل, وأن الرقيب من الجوف, الذي قال لهم: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120].

    هذا الحق حين يفرط فيه ترتكب فيه حماقات, تؤدي إلى الإضرار بالأموال, وتؤدي إلى إهدار الدماء, وإتلاف الأنفس, تؤدي إلى تضييع الممتلكات, تضييع للنفس وللمال, وللسكينة وللصحة, حين لا يحسن الناس استخدام هذا الحق, وحين لا يراعون الله تعالى في أداء الحق المترتب على هذه النعمة: ( فأعطوا الطريق حقه ), في شريعتنا جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تتحدث عن الطريق.

    وهذا يبين لنا عظمة هذا الدين ومكانة هذا الدين وصلاحيته لحياة هذا الإنسان, وأنه المنقذ حقاً, وأنه حبل النجاة صدقاً؛ لأنه يناقش كل ضروريات هذا الإنسان وحاجياته, فلا يغفل عن جزئية يحتاجها بنو الإنسان في حياتهم, الطريق لما كانت الحاجة تمس إليه, والاشتراك فيه يعظم ويكثر؛ جاءت النصوص العديدة في شأن الطريق, مرة مرغبة في إزالة الأذى عنه, فجعل عليه الصلاة والسلام من شعب الإيمان: إماطة الأذى عن الطريق, ( الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان ), بضع وسبعون شعبة, بضع وسبعون فرعاً, تتمثل من هذه الفروع حقيقة الإيمان, ولم يستح النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذه الشعبة الصغيرة؛ وهي: إماطة الأذى عن طريق المسلمين, شعبة من شعب إيمانك, دلالة على صدق إيمانك وعلى اكتماله حين تراعي رفع الأذى عن الناس في طريقهم.

    ويذكر لنا النبي عليه الصلاة والسلام النماذج الحسنة التي تبوأت المنازل الرفيعة في الجنة بسبب مزاولتها لهذا الخلق البسيط, يقول عليه الصلاة والسلام: ( بينما رجل يمشي في الطريق وجد غصن شوك معترضاً، فقال: أزيح هذا من طريق المسلمين حتى لا يؤذيهم ), فشكر الله له فأدخله الجنة, انظر إلى الجزاء وانظر إلى العمل, شوكة معترضة في طريق المسلمين, قال: أزيح هذه عن المسلمين حتى لا تؤذيهم, فشكر الله له فأدخله الجنة, وذكر آخر: ( يتقلب تحت شجرة من شجار الجنة في شوكة أزاحها من طريق المسلمين ), وفي المقابل جاءت النصوص الشرعية الرادعة لمن حاول إيذاء الناس في طريقهم, فجعلت الشريعة قطع الطريق كبيرة من الكبائر, وموبقة من الموبقات, ورتبت عليها حداً عظيماً, إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ [المائدة:33], في رأي كثير من فقهاء الإسلام أن من أخاف الناس في الطريق, ولو بأخذ الدراهم اليسيرة, فإن الإمام مخير في أن ينزل به أي عقوبة شاء من هذه العقوبات, أن يقتله ويصلبه عبرة للناس, أن يقطع يديه ورجليه من خلاف, أن ينفيه من بلاده ليسكن في بلد آخر؛ لأنه أخاف الطريق, وقطع على الناس سلوك الطريق بأمان, على خلاف مقصود الشارع.

    مقصود الشرع العظيم أن يسلك الناس السبل آمنين؛ ليقضوا حاجاتهم في دعة وأمان, فمن ضاد الشرع وعانده وخالفه فضيع هذا المقصود يستحق أن يعاقب.

    1.   

    حقوق الطريق

    للطريق حقوق أيها الإخوة! فمن حقوق هذا الطريق: أن ترعى حقوق الناس في أرواحهم, وفي أموالهم, فلا تدخل عليهم الضرر.

    ومن حقهم: ألا تخيفهم في الطريق, اليوم ونحن نعيش هذه النعم السابغة, هذه النعم المتعددة, الشوارع الفسيحة, بدل أن تكون وسيلة لقضاء المقاصد والوصول إلى الأغراض في دعة وراحة؛ أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة لتهديد الروح والمال, وهذا نلحظه في حياتنا العملية, هذا الشارع الفسيح الوسيع قلما سلكته إلا ووجدت عليه حادثاً, وإذا مشيت فيه مشيت في أغلب الأحيان وأنا خائف؛ لأنه واسع وسريع, فبدل أن كان سبباً لقضاء الحاجات بيسر وسهولة وأمان أصبح وسيلة للترهيب والإرعاب؛ لأن الناس لا يحسنون أداء حق هذا الطريق.

    الحقوق كثيرة ومتعددة, أصبحت الشوارع الفسيحة والطرق السريعة وسيلة للدمار بدلاً من كونها وسيلة لقضاء الحاجات بيسر وسهولة.

    لما نقرأ التقارير نصاب بالذعر والخوف, عندما نرى آثار حوادث الطريق, ولست بآت بشيء جديد على أسماعكم, فأنتم بأكثر متابعة, كما أني لست بالمتابع الكبير لكل الأرقام التي تسرد على مدار الدقيقة, فلدي تقرير قديم, وقديم جداً, ولكنني لما قرأته اليوم وجدت أن آثار حوادث المرور أعظم من آثار بعض الحروب الكبيرة, التي تدار فيها آلات التدمير, قرأت في تقرير قديم لمنظمة الصحة العالمية وهي تحذر من حوادث المرور, وإذا هي تحذر من أرقام لولا الوقوع لكانت جزءاً من الخيال, تتحدث عن النتائج, وترى بأن حوادث المرور ثاني أكبر أسباب الوفيات في العالم, فيما يتعلق بفئة الأعمار ما بين خمس وعشرين وتسع وعشرين, وأنها تعد ثالث أسباب الوفيات في العالم بالنسبة لفئة ما بين ثلاثين وأربع وأربعين عاماً, ثاني أسباب الوفاة للشباب قبل ثلاثين عاماً في العالم, إن الحروب والمصائب وأنواع الأمراض والكوارث لا تحتل هذه المرتبة, وهذا يدل على مدى إساءة الناس في استخدام هذه النعمة, ولما تحدثت عن الوفيات والجروح والأضرار, فإن حوادث المرور تخلف سنوياً في العالم أكثر من مليون ومائتي ألف قتيل, هذا في السنة الواحدة, والحروب مهما عظمت ومهما اشتدت الآلة الحربية المستعملة فيها فلن تبلغ هذه الأرقام.

    أما الجراحات والمعاقون, فتقول: وتخلف أكثر من خمسين مليون جريح أو معوق, وهؤلاء تمتلئ بهم دار الإعاقة, وكثير منا له قريب أو حبيب أصيب في مقتل, أو أصيب في معوق عن حركة بسبب هذه الحوادث, كل ذلك يدعونا بجد إلى أن نراجع حساباتنا, في ثقافاتنا, في أخلاقنا, في ديننا, حول ممارستنا لهذا الحق؛ حق الطريق, وآداء حقوقه وآدابه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    ضرورة الالتزام بآداب المرور

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! ينبغي لنا أن نتذكر دائماً الموقف الشرعي الذي ينبغي للمسلم بل يتعين عليه أن يلتزمه أثناء سيره بالطريق, يجب عليه أن يلتزم بآداب المرور واللوائح التنظيمية للسير في الشوارع, وليس هذا الإيجاب صادراً عن إدارة المرور وحدها, ولكنه صادر عن الشرع الحنيف, فقهاء الإسلام اليوم يفتون عن بكرة أبيهم بأن هذه القوانين ملزمة لكل مسلم شرعاً, وأن معنى ذلك أنه يأثم فيما بينه وبين الله حين يخالف هذه الأنظمة, الملائكة التي ترصد عليه الحسنات والسيئات موجودة لا تفارقه, وإن فارقته الكاميرا, لا تفارقه وإن لم يوجد رجال المرور.

    وهذه القوانين والآداب مما يتعبد المسلم ربه بالتزامها, وبهذا أفتت المجامع الفقهية, فقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي بوجوب التزام قوانين المرور, وهذا ليس عبثاً, وليس من أجل سواد عيون إدارة المرور؛ ولكن لأن في هذه الأنظمة واللوائح ما يحفظ ضروريات الشريعة أو حاجياتها, التي جاءت الشريعة لحمايتها, إما تكميلاً وإما إيجاداً. حق الروح, أو ضرورة الروح والنفس تحمى بهذه الأنظمة, والمال يحمى بهذه الأنظمة, والأمان يحفظ بهذه الأنظمة, فالضروريات والحاجيات التي جاءت الشريعة لتحصيلها تحفظ من خلال هذه القوانين, ومن ثم كان التزامها والعمل بها التزاماً للشرع وعملاً به, وأفتى بذلك العلماء الموثوقون كما قلت, وفتاواهم موجودة ومتناثرة في كتبهم وعلى مواقعهم.

    حين يسلك المسلم الطريق وهو يستشعر هذا النوع من الرقابة؛ هناك سيؤدي للناس حقوقهم في هذا الطريق, وكثير منا يلتزم هذه الحقوق في نفسه؛ لكبر سنه؛ أو لرجاحة عقله, فهو يؤدي للناس حقهم في الطريق لكنه مفرط في جانب آخر, لديه شاب أعطاه السيارة دون أن يأخذ منه العهد على التزام هذه المواثيق, دون أن يبصره أولاً بمنزلة هذه القوانين, وأنه ليس من الفتوة ولا من الرجولة أن يظهر الشاب استعراض عضلاته بمخالفة هذه القوانين واللوائح, حين نغرس في نفوس أبنائنا وبناتنا أن الفتوة وأن الشباب والقوة هو بالتزام الأدب, وأداء الحق, والمحافظة على حقوق الآخرين, حينها ستكون شوارعنا آمنة, وأرواحنا محفوظة, وأموالنا مصانة, لكن حين يتصور الشاب بأن فتوته ورجولته في سرعته بسيارته, في أدائه لحركات لا يعرفها غيره, حينها تنقلب الموازين, وكثير من الآباء والأمهات مفرطون في هذا, وهم يدفعون الولد إلى الهلاك دون تبصير له بما يلزمه أن يقوم به, وقد نهى الله عز وجل في كتابه الكريم عن تمكين السفهاء من الأموال, قال سبحانه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5], السفهاء في هذه الآية: الضعفاء من الصغار أو المجانين كما يفسرها علماء الإسلام, فالصغير الذي لم يبلغ لأنه لا يحسن التصرف؛ الشريعة نهت الأولياء عن دفع الأموال إليهم؛ لأن دفعها إليهم إضاعة لها, وتبذير بها وإفساد لها, فهذا لا يصلح للتدبير, ولا يقدر على القيام على سياسة المال, فكيف يمكن من إضاعة المال على مرأى ومشهد منا؟

    فنهتنا عن تمكين السفهاء من الأموال؛ حفاظاً على هذه الأموال للسفهاء, والفقهاء بعد ذلك ألحقوا بهؤلاء السفهاء الذين يطرأ عليهم السفه بعد البلوغ, يبلغ رشيداً, ولكنه بعد ذلك يطرأ عليه السفه, فلا يحسن تدبير ماله, فيبيع المال بأقل مما يبيعه الناس, أو يشتري الشيء بأكثر مما يشتريه الناس, بما لا تجري عادة الناس في التسامح فيه.

    بالله عليك! من أولى وأحق بالمنع من التصرف وبالحجر عليه: الذي يبيع ذات المائة بتسعين أو الذي يضيع المائة بكلها؟!

    من أولى بالحجر والمنع من التصرف: الذي يبيع ذات المائة بتسعين أم الذي يجر نفسه إلى الهلاك ويرجع إليك معوقاً لا يستطيع الحركة؟

    نحن بحاجة إلى أن نقوم بواجبنا ودورنا على من ولانا الله عز وجل عليهم, وأوكل إلينا الرعاية والتأديب لهم.

    هذه دعوة أيها الإخوة الكرام! وتذكير مع كثرة تذكيرنا بحوادث المرور, وأصبحت لنا عادة نذكر بها كل عام مع وفود هذه المناسبة علينا, وكنت والله متحرجاً من الحديث عن هذا الموضوع لكثرة تكراره, ولكنني لما تدبرت الآيات التي تتحدث عن الطريق, وأنها تكررت في القرآن في مواضع, ورأيت الوفرة الوافرة من الأحاديث التي تتكلم عن الطريق والترغيب في حفظ حقه, والترهيب من تضييعه, رأيت بأن الأمر حقاً يستحق منا أن نوليه اهتماماً, وأن نذكر به على الدوام, هذا قبل أن يرى من رأى كل هذه الآثار الوخيمة, والعواقب العظيمة من إزاء التفريط والتضييع لهذا الحق, فكيف بعد كل هذا, فنحن محتاجون إلى إحياء هذا التذكير في نفوسنا, وأن يذكر بعضنا بعضاً برعاية حق الله تعالى للناس حقوقهم في الطريق.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, اللهم اخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج عن المسلمين في سوريا ما هم فيه يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل بلاء عافية.

    1.   

    أهمية تذكر نعمة الله علينا

    ومن أجل تحقيق هذا دعانا الله في كتابه في مواضع عديدة إلى تذكر نعمه علينا, فإن تذكر نعم الله تبعث في القلب محبة الله, فإن النفوس مجبولة ومفطورة على حب من أحسن إليها, إذا أحسن إليك أحد من الناس عشت أسيراً لإحسانه طوال حياته, تذكره في كل مقام, وتثني عليه في كل مجلس وقيام؛ لأنك تستشعر إحسانه إليك, فكيف بمن لا يغيب إحسانه عنك طرفة عين؟ تتقلب في إحسانه مساء وصباحاً, وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53], هكذا يدعونا الله سبحانه إلى تذكر نعمه, فإن تذكر النعم داع إلى محبة الله, وقد روي في الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم ), أحبوا الله لما تصلكم من نعمائه, أحبوا الله لإحسانه, فإن هذا النوع من الحب يتصف به كل المنصفين والعقلاء, كل إنسان سوي يحب من أحسن إليه, والله عز وجل مصدر كل إحسان.

    وهناك شيء آخر يدعو إلى المحبة, وهو ما فطرت عليه النفس أيضاً من محبة الجمال, فإن النفس مفطورة على محبة الشيء الحسن, محبة الشيء الجميل, والله عز وجل جميل يحب الجمال, فما من جمال في الأفعال ولا في الأقوال ولا في الأخلاق إلا والله عز وجل خالقه ومبرئه, فهو سبحانه وتعالى مصدر كل جمال, فمن كان يحب الجمال فالله عز وجل أهل لأن يحب لهذا, فهو أهل الثناء والحمد؛ كما قال عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: ( إن الله جميل يحب الجمال ), فالنفوس الجميلة المفطورة على محبة الجمال يدعوها هذا الخلق إلى محبة الله حين تتفكر في مخلوقاته, يدعونا القرآن كثيراً إلى تذكر نعمة الله, مرة بالإجمال وأحياناً بالتفصيل, يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:11], إذا تذكرت النعم دعاك هذا إلى محبة المنعم جل جلاله, ويدعونا أحياناً إلى التفكر في بعض النعم على جهة التفصيل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756475749