إسلام ويب

الذكر الحسنللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الثناء الحسن على الإنسان علامة خير فيه، وهو كنز يدعه الإنسان بعد وفاته، وقد حصل نبي الله إبراهيم من ذلك على نصيب وافر، غير أنه لا يجوز للمسلم أن يعمل من أجل ثناء الناس عليه، بل يعمل لله وهو الذي سيبلغه ما يريد.

    1.   

    أصناف تذكر الناس لبعضهم البعض

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! عنوان خطبة اليوم (الثناء الحسن)، الثناء الحسن وأثره على هذا الإنسان وكيف يكسبه.

    قسم الله عز وجل في كتابه الكريم عباده إلى قسمين: قسم يتبعهم الناس بألسنة شاكرة مادحة، يذكرون ما فيهم من الخير، وقسم آخر تذكرهم الناس باللعنة والدعاء بالطرد.

    قال سبحانه وتعالى عن فرعون وقومه بعدما أهلكهم: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:42]، فتذكرهم الناس بالذكريات وتلعنهم كلما تذكرتهم.

    وقسم آخر كلما تذكرهم الناس صلوا عليهم، ودعوا لهم وسلموا عليهم، قال سبحانه وتعالى وهو يذكر أنبياءه الكرام: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ [الصافات:119]، يعني: موسى وهارون، سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:120]، وهكذا باقي الأنبياء ترك لهم سبحانه وتعالى السلام والتسليم والصلاة، قال سبحانه في سورة مريم: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:50] (وجعلنا لهم لسان صدق) قال ابن عباس: يعني الثناء الحسن، ثناءً حسناً عالياً يملأ الخافقين، فمحبتهم تملأ القلوب، وذكرهم يملأ الألسنة بالخير، هذا قسم آخر من الناس.

    وما أقبح أن يستطيع الإنسان أن يكتسب لنفسه ثناءً حسناً في الناس ثم لا يفعل، قال عمر رضي الله تعالى عنه، وهو يسأل أولاد الهرم بن سنان، وقد كان من أجواد العرب في الجاهلية، وتكلم فيه زهير ومدحه بأبيات كثيرة، حتى سماه الأدباء: ممدوح زهير ، يعني: كان جل شعر زهير في مدح هرم بن سنان، فلما جاء الإسلام سأل عمر رضي الله تعالى عنه أولاد هرم ، قال لولده: أنشدني بعض ما قاله فيكم زهير ، فأنشده أبيات كثيرة، قال: لقد كان يقول فيكم ويحسن، قال: لكنا كنا نعطيه ونجزل، نعطيه عطاءً كثيراً، قال: يا بني! ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم. يعني: ذهب ما أعطيتموه من المال، وبقي ما أعطاكم من الذكر الحسن، كما قال القائل:

    دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان

    فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان

    1.   

    أثر الثناء الحسن على الإنسان

    الثناء الحسن زيادة في العمر

    ذكر الناس لك بالحسن أعمار مضافة إلى عمرك، ولهذا ذكر الله تعالى لنا في دعوات إبراهيم عليه السلام دعوة شملت حياة الدنيا وحياة الآخرة، قال سبحانه وتعالى عنه وهو يذكر دعواته: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:83-85].

    في الدعوة الأولى سأل الله تعالى عز الدنيا والتمكين في الدنيا، فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا [الشعراء:83] علماً أحكم به وأقضي به، رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:83-84] لا تقطع ذكري عن الدنيا بعد مماتي، اجعل لي لسان صدق فيها بعد أن أموت، وإذا نقلتني إلى الآخرة، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85].

    وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84] قال المفسرون: يعني: الثناء الحسن بعده عليه السلام، وأعطاه الله عز وجل هذا، قال: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27] آتاه الله أجره في الدنيا، فاجتمعت الملل كلها على حب إبراهيم عليه السلام، واجتمعت الملل كلها على الثناء على إبراهيم عليه السلام، فالكل يحبه ويثني عليه، ويسلم عليه، ويصلي عليه.

    الثناء الحسن ثمرة العمل الصالح

    هذا الثناء الحسن أيها الإخوة إنما هو ثمرة لأعمال الإنسان، ثمرة لما يتحلى به الإنسان، فيستحيل أن تطبق الألسنة، وأعني: الألسنة الصادقة، ألسنة عباد الله الأخيار، يستحيل أن تطبق الألسنة، وتتفق الأفواه على مدح من لا يستحق المدح، أو على ذم من لا يستحق الذم، قد يمدحك صديق لك أو شخص لحاجة، وقد يذمك عدو أو حاسد مبغض، لكن يستحيل أن يتفق الناس على مدحك، وأنت ليس فيك ما تمدح لأجله، كما يستحيل العكس، الأعمال هذه هي الثناء الحسن لهذا الإنسان بعد الممات، وكم هو قبيح بأناس نرى الملايين من البشر وهم يلعنونهم ويسبونهم مع قدرتهم على أن يكتسبوا ثناءً حسناً وذكراً جميلاً ودعوات الألسن الصادقة، كم هو قبيح بهذا الإنسان حين يقدر على أن يكسب لنفسه ثناءً وذكراً جميلاً، ثم لا يفعل.

    1.   

    الثناء الحسن في السنة النبوية

    الثناء الحسن جاءت فيه أحاديث كثيرة في بيان منزلته وأهميته لهذا الإنسان.

    مدح الناس بالخير بعد مماتهم

    قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ( يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار )، يعني: أنتم قريبون جداً من الحكم على الشخص بأنه في الجنة أو في النار، ( قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟! قال: بالثناء الحسن وبالثناء السيئ، أنتم شهداء بعضكم على بعض ).

    إذا اتفقت الألسنة على مدح الإنسان بالخير بعد مماته، فهذا علامة على أنه من أهل الجنة، كما أنها إذا اتفقت الألسن على ذم الإنسان بعد مماته، فهذا علامة أنه من أهل النار، وفي الصحيحين: ( مر بجنازة والرسول صلى الله عليه وسلم واقف أو جالس، فأثنوا عليها خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: وجبت.. وجبت.. وجبت، ومر بجنازة، فأثنى الناس عليها شراً، فقال: وجبت.. وجبت.. وجبت. قال عمر رضي الله تعالى عنه: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: أثنيتم عليها خيراً فقلت: وجبت لها الجنة، وأثنيتم على الأخرى شراً، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض.. أنتم شهداء الله في الأرض.. أنتم شهداء الله في الأرض ).

    يقول العلماء: ألسنة الناس أقلام الحق، الأقلام التي كتبت بها المقادير، الأقلام التي يعبر بها عما يكنه الله لهذا الإنسان، يظهر على ألسنة الخلق، يظهر الله سبحانه وتعالى ما لك عند الله بما يظهر على ألسنة بني آدم، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( ما من عبدٍ إلا وله صيت في السماء )، له شهرة في السماء يعرف بها عند الناس، فإن كان صيته حسناً وضعه الله عز وجل في الأرض.

    وإن كان صيته سيئاً وضعه الله عز وجل في الأرض. ما كتب لك في السماء، وما شهرت به في السماء يظهر على ألسنة الناس، فهذه الألسن لا تنطق إلا بما أراده الله عز وجل للممدوح أو المذموم.

    تسخير الملائكة في نطق الناس بالثناء الحسن

    بل يبين عليه الصلاة والسلام حقيقة أعظم من ذلك، تدل على صدق هذه الشهادة، يقول عليه الصلاة والسلام: ( إن لله تعالى ملائكة في الأرض تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من خير وشر )، تتحرك الألسن لكن من غير إرادة من أصحابها، الألسن تثني على الإنسان خيراً، وتذكر ما فيه من خصال الخير، وتذكر ما فيه من المكارم والفضائل دون إرادة من أصحابها؛ لأن الله عز وجل يسخر من ينطق على هذه الألسنة.

    يقول العلامة المناوي وهو يشرح هذا الحديث: أي: تتلبس الملائكة فتنطق على ألسنة بني آدم كما يفعل المتبوع أو القرين من الجن، كما رأينا أن الجن قد تنطق على ألسنة بني آدم، فكذلك الملائكة تنطق على ألسنة بني آدم، يحرك الله عز وجل هذه الألسن فتشهد لك بما لك من الخير، أو ما لك من الشر، وهذا فيه ترغيب شديد لمحاولة الإنسان أن يكتسب الثناء الحسن عند الناس، لا يعمل من أجل الناس كما سأنبه بعد ذلك، ولكن يسأل ربه سبحانه وتعالى على الدوام أن يوفقه لأعمال صالحة تكون سبباً لثناء الناس عليه، ومهما حاول الإنسان أن يخفي عمله بعيداً عن أعين بني آدم، فإن الله عز وجل يأبى إلا أن يظهر فضائل أصحاب الفضائل، يأبى الله عز وجل إلا أن يظهر النور على أصحاب الأعمال الصالحة، فيحبهم القريب والبعيد، المبغض والحبيب على حد سواء، كما قال في آخر سورة مريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، الذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدهم الله بأن يجعل لهم وداً، أي: محبة في قلوب الخلق، وكما قال بعض الحكماء: اشتغال الناس بك على قدر اشتغالك بالله.

    الترابط بين الثناء الحسن وطاعة العبد لربه

    على قدر اشتغالك أنت بمرضاة الله، على قدر اشتغالك أنت بالتقرب إلى الله، على قدر اشتغالك أنت بطاعة الله، يشتغل الناس بالثناء عليك ومدحك، وذكرك بالجميل، على قدر شغلك بالله يشتغل الناس بك.

    وقد جاء في الآثار التي رواها بعض الناس حديثاً وليست بحديث، قال بعض الصالحين: من كثرت صلاته بالليل ابيض وجهه في النهار. تظهر الأعمال الصالحة في سيما أصحابها، وإن أخفوها، وإن أبعدوها على الناس، إلا أن في القلوب محبة لهم يجدها الناس في قلوبهم لهم ضرورة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]، وفي الآيات التي تلوناها في ذكر الأنبياء: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات:78-79]، قال بعدها سبحانه: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:80].

    كل محسن في عبادة الله محسن إلى خلق الله، فإن الله عز وجل وعده ثواباً عاجلاً في الدنيا، وهو الثناء الحسن، وثواباً آجلاً في الآخرة، وهو جنة النعيم، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:80]، لسان الصدق جزاء على الإحسان، الإحسان إلى خلق الله بأداء الحقوق التي عليك لكل ذوي الحقوق، والإحسان في عبادة الله بأن تؤدي ما لله عز وجل عليك.

    شهادة الأعداء بالحق

    هذا الصنف من الناس يحمدهم القريب والبعيد. ومن أعجب ما قرأت ما قرأته في سير أعلام النبلاء، في ترجمة الخليفة المرضي عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي أقام العدل، وحكم بالقسط، وأقام العدل على أهله قبل الأبعدين، أرسل وفداً إلى ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، وهو خصمه، وعدوه، ومنازله في ميادين الحروب، أرسل إليه من يدعوه إلى الإسلام، فلما وصل الوفد إلى مدينة ذلك الملك أمهلهم فترة حتى يقابلوه، وفي يوم دعاهم لمقابلته، يحكي لنا العلامة الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء: ما الذي جرى في مقابلة الوفد لهذا الملك، يقول يزيد -وهو رئيس الوفد الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام- قال: فلما بلغه قدومنا تهيأ لنا، وأقام البطارقة على رأسه، والنسطورية واليعقوبية، إلى أن قال: فأتاني رسوله أن أجب -يعني: تعال- فركبت ومضيت، فإذا أولئك قد تفرقوا عنه، وإذا البطارقة قد ذهبوا، وإذا بقيصر قد وضع التاج، ونزل عن السرير، نزل ليقف بجانب الرجل، فقال: أتدري لم بعثت إليك؟! قلت: لا. قال: إن صاحب مسلحتي -صاحب السلاح وقائد الجيش- كتب إليّ أن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز قد مات، قال: فبكيت، واشتد بكائي وارتفع صوتي، فقال لي: ما يبكيك؟ ألنفسك تبكي؟! أم له؟! أم لأهل دينك؟! قال: لكل أبكي، أبكي للجميع، قال: فابك لنفسك، ولأهل دينك، فأما عمر فلا تبكي له، فإن الله لم يكن ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة، كان يخاف الله في الدنيا، فلا يمكن أن يجمع الله له الخوف في الآخرة. هذا عدوه يشهد له بمنزلته، ما كان الله ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة، ثم قال: ما عجبت لهذا الراهب الذي تعبد في صومعته وترك الدنيا، ولكن عجبت لمن أتته الدنيا منقادة حتى صارت في يده، ثم تخلى عنها.

    هكذا يشهد الأعداء قبل الأصدقاء، والأشرار قبل الأخيار، يشهدون لأهل الخير بما فيهم من الخير، وهذا هو الثناء الذي ينبغي لكل عاقل أن يصل إليه.

    الثناء الحسن من الأقربين وأهل الخير

    قال بعض الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! كيف لي أن أعلم بأني قد أحسنت؟ ) وهنا اسمع هذا الحديث بقلبك: ( فقال له: إذا أثنى عليك جيرانك خيراً فقد أحسنت، وإذا أثنى عليك جيرانك شراً فقد أسأت )، الثناء الحسن قد يكون ممن حولك وإن قلوا، الأسرة التي أنت فيها، الجيران الذين تعايشهم، الموظفون الذين تعاشرهم، الناس حولك الذين يعرفون أخلاقك ويسبرون تعاملك، إذا أثنوا عليك خيراً فقد أحسنت، وإذا أثنوا عليك شراً فقد أسأت، في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: ( أيما عبد مسلم أثنى عليه أربعة بخير أدخله الله الجنة )، قال عمر رضي الله تعالى عنه راوي الحديث: ( قيل: وثلاثة يا رسول الله! قال: وثلاثة. قيل: واثنان يا رسول الله! قال: واثنان، قال عمر : ولم نسأله عن الواحد )، يعني: قصرنا أن نسأله لو شهد له واحد.

    إذا شهد لك أهل الصدق بأنك من أهل الخير فهذه بشارة عاجلة من الله تعالى لك، كما أن من شهد له الناس بالشر فهذه بشارة عاجلة له بما ينتظره عند الله، قال سبحانه في سورة يونس عن عباد الله وأوليائه المتقين: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، أما البشرى في الحياة الدنيا فقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر : ( قيل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يعمل الخير، فيحمده الناس عليه؟! قال عليه الصلاة والسلام: تلك عاجل بشرى المؤمن )، هذه هي البشارة العاجلة، بشرى الله تعالى إليك يسوقها بثناء الناس عليك بالخير، الموفق من وفق لعمل صالح يذكره به الناس بجميل.

    نسأل الله أن يرزقنا لسان صدق في الآخرين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    تنبيهات في باب الثناء الحسن

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! هنا تنبيهان لا بد منهما:

    العمل من أجل ثناء الناس

    التنبيه الأول: أنه لا يجوز للإنسان أن يعمل من أجل أن يثني عليه الناس، يعمل لله، ويبتغي بعمله وجه الله، ولكن الله عز وجل إذا أظهر ذلك للناس، وأثنى به الناس عليه خيراً ففرح، فلا حرج عليه في ذلك ولا جناح، فهذا (عاجل بشرى المؤمن) كما قال عليه الصلاة والسلام، وجاء في حديث ضعيف عند ابن ماجه : ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! إني أعمل العمل سراً فيطلع عليه الناس فيثنون عليّ فيعجبني ذلك، أو يسرني ذلك، قال: لك أجر السر وأجر العلانية )، لك أجر السر لما أخفيت عملك عن الناس، وابتغيت به وجه الله، ولك أجر العلانية لما أثنى عليك الناس به.

    ففرق كبير بين مرائي يعمل من أجل أن يكتسب ثناء الناس ومدحهم، فهذا ليس له عند الله من خلاق، بل وله عند الله الفضيحة العاجلة والآجلة ( من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به )، فرق كبير بين هذا وبين من عمل ابتغاء وجه الله، فأثنى عليه الناس خيراً، فإذا سمع هذا وفرح به فلا حرج عليه ولا جناح، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عظيم وهو يتكلم عن أهل الجنة، قال: ( أهل الجنة من ملأ الله عز وجل أذنيه من ثناء الناس خيراً، وهو يسمع، وأهل النار من ملأ الله تعالى أذنيه من ثناء الناس شراً وهو يسمع )، عجيب لبعض الناس تمتلئ الآفاق وليست أذنيه فقط، تمتلئ الآفاق بثناء الناس عليهم شراً، سباً وقذعاً وذكراً للمساوئ والمظالم، ثم بعد ذلك لا ينزجرون ولا يرتدعون، كلما أتى الإنسان مجلساً من المجالس، أو انتقل من مكان إلى آخر فوجد الناس يثنون عليه بالشر، فهذه بشرى عاجلة أنه من أهل النار، ( أهل النار من ملأ الله عز وجل أذنيه من ثناء الناس شراً وهو يسمع ).

    ذكر الأموات بالشر

    التنبيه الثاني: أن الأموات إذا ماتوا لا يجوز للناس ذكرهم بالشر؛ لأن الأحاديث وردت بالمنع من ذلك، قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري : ( لا تسبوا الأموات )، وقال: ( إذا مات صاحبكم فدعوه )، يعني: لا تذكروا مساوئه، وتكلم العلماء في كيفية الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وفيها إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للناس وهم يثنون على بعضهم بالخير، وعلى بعضهم بالشر، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت، بل ويبين أن هذه بشرى إما بالجنة وإما بالنار، كيف يجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا الأموات ).

    قال النووي رحمه الله تعالى في كتاب الأذكار: يجمع بينها بأن الكافر يجوز ذكره بالمساوئ بعد موته أياً كان ذلك الكافر، وأما المسلم فمن مات على الإسلام وإن كان مرتكباً للنقائص والعيوب فإنه لا يذكر بما فيه من الشر إلا إذا كان في ذلك مصلحة، يعني: إذا ترتب على ذلك زجر للناس أن يعملوا مثل عمله، أو يقتدوا به، أو يستنوا بسنته، فلا بأس أن يذكر بما فيه من الشر لمصلحة العباد إلى ذلك، فإن لم تكن ثم مصلحة، فلا ينبغي للناس أن يذكروا ميتاً بسوء، ( لا تسبوا الأموات )، وقال: ( إذا مات صاحبكم فدعوه ).

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا، وأن يحسن بعد مماتنا ذكرنا.

    يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756533087