إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مرض مرضاً مخوفاً كالطاعون وغيره، فإن تصرفه بما زاد على الثلث غير صحيح، ولا ينفذ إلا بالثلث، ويلحق به إذا التحم الصفان، أو من حكم عليه بالقتل ونحوه، وإذا مرض مرضاً مخوفاً ثم عوفي فإن تصرفه صحيح ونافذ، ومن أصابه مرض مخوف لم يقعده على الفراش فتصرفه صحيح، سواء بعطية أو وصية، وهناك فرق بين العطية والوصية مبينة في هذه المادة.

    1.   

    حكم هبة المطعون

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها].

    لا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للأحكام المترتبة على مرض الموت، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يبين الأمراض المخوفة، فقد تقدم بيان جملة منها، لكن هناك أشياء تقع وتكون عامة، وأشياء تقع وتكون خاصة، فما تقدم من المرض المخوف المتعلق بالإنسان نفسه في خاصته تقدم بيانه، لكن الكوارث العامة والأمور التي تنزل في البلد فتشمل أكثر أهله ونحو ذلك؛ كالأمراض الوبائية، فهذه تأخذ حكم المرض المخوف ولو كان الإنسان سالماً منها، فلو نزل -والعياذ بالله- الطاعون في بلد، وهو نوعٌ من الأمراض التي تنتهي بصاحبها إلى الموت -والعياذ بالله-، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على من قبلنا عذاباً ورجساً، كما جعله الله عز وجل على قوم فرعون، وجعله الله لهذه الأمة رحمةً وشهادة، فأيما إنسان مات بالطاعون فإنه نوعٌ من أنواع الشهادة، فالمطعون شهيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه.

    وهذا النوع من الوباء ذكر بعض العلماء أنه في هذه العصر الأشبه به مرض (الكوليرا) أعاذنا الله وإياكم منه ومن غيره، فهذا النوع من المرض يقول بعض العلماء: إنه هو الطاعون، ويحتاج الأمر إلى تحرير والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء.

    فالشاهد: أن هذا المرض إذا أصاب الإنسان فإنه يهلكه، وإذا وقع في بلدٍ وفيه إنسان فالسنة أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بلداً فيه الطاعون، ولا أن يخرج من بلدٍ فيه الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرضٍ فلا تدخلوها)، ولما أراد عمر رضي الله عنه دخول الشام لما وقع طاعون عمواس منع بهذا الحديث.

    والسبب في هذا: ما ذكر العلماء أن هذا النوع من المرض إذا كان الإنسان موجوداً في البلد نفسه وخرج منه وسلم، ربما اعتقد أن خروجه هو الذي نجاه، وهذا يؤثر في عقيدة المسلم وفي توحيده وإيمانه بالله عز وجل، فالذي خلق الأسباب جعلها مؤثرة بقدرته جل وعلا، ولو شاء الله ألا تؤثر لما أثرت. ولذلك قال العلماء: إنه منع من الخروج من البلد حتى لا يعتقد المعتقد أن خروجه ينجيه، فيتعلق الناس بالأسباب دون أن يتعلقوا برب الأرباب، أو يشركوا بين الله وبين الأسباب -نسأل الله السلامة والعافية- والشريعة تحرص كل الحرص على أساس الدين، وعلى العقيدة التي عليها نجاة العبد وصلاح أمره في الدين والدنيا والآخرة.

    ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة)، قيل المراد: أن يعتقد الإنسان أن العدوى تضر بنفسها، حتى إنك تجد الإنسان إذا مر على مزكومٍ أو على من به مرض من الأمراض المعدية يقطع ويجزم جزماً تاماً أنه إذا صافحه أو سلم عليه أو جلس إليه أو سمعه فإنه سيضره، ولا يكون عنده من التوحيد والإيمان واليقين ما يجعله يعتقد بالله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، ويجعل قدرة الله هي الأساس، وأن الله قادر على أن يجعله لا يصاب بشيء، فكم من أناسٍ بروا بوالديهم وكان الوالد أو الوالدة مصاباً بمرض معدٍ، وبقوا معهم السنين، ومع ذلك ما أصابهم شيء؛ لأن الله لم يرد لهم ذلك.

    فالله سبحانه وحده هو القادر على كل شيء؛ ولذلك لما خرج القوم من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]، لأنهم ظنوا أن خروجهم هو الذي سينجيهم من بلاء الله عز وجل وقدره، فإذا اعتقد الإنسان في السبب اعتقاداً مؤثراً في عقيدته فإن هذا أمرٌ خطير، فالطاعون إذا وقع في بلدٍ فلا يجوز الخروج منه ولا الدخول إليه؛ لأنه إذا دخل ربما اعتقد أن دخوله هو الذي أفضى به إلى الإصابة بهذا البلاء.

    وأيضاً: فيه جمعٌ بين السبب وبين المسبب، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لهذه الأسباب تأثيراً، ولذلك فالنار الأصل أنها تحرق، ولكن جبار السموات والأرض الذي أطت له وذلت لم يأذن لها أن تحرق إبراهيم؛ بل جعلها الله برداً وسلاماً عليه، فالله على كل شيءٍ قدير، وهذا النوع من الأمراض الغالب فيه الهلاك، وأنه إذا أصيب به الإنسان فإنه لا ينجو، وإذا ثبت في الغالب أنه مرضٌ فتاك أو مهلك أو مخوف، فإن القاعدة في الشريعة تقول: (إن الغالب كالمحقق)، وإن أحكام الشريعة تناط بالشيء الغالب، والنادر لا حكم له، والغالب في الأمراض المعدية أنها إذا وقعت في بلدٍ فإنها تنتشر، فكل من في هذا البلد الغالب في سنة الله عز وجل وبقدرته جل جلاله أنهم يصابون به بحكم المخالطة والمداخلة، وبحكم الهواء الذي ينقل، وهذا كله بأمر الله عز وجل وقدره، فلو وقع الطاعون في بلدٍ وفيه رجل، وبعد وقوع الطاعون تبرع بمائة ألف، وماله كله يعادل مائتي ألف، فمعنى ذلك أنه تبرع بنصف ماله، فنصحح تبرعه في حدود الثلث؛ لأننا حكمنا بكونه في حكم المريض مرض الموت، وهذا بالنسبة لمن وقع الطاعون في بلده وغلب على الظن أنه يصاب في هذا البلد.

    وهكذا بالنسبة لبقية الأمراض المهلكة المعدية التي يغلب على الظن أن صاحبها لا ينجو وأنها تنتشر وتفتك بالجماعات، وبالقرى والمدن إذا وقعت فيها، فإنها تعتبر في حكم المرض المخوف، وتأخذ أحكاماً على التفصيل الذي تقدم.

    1.   

    حكم تصرف من أخذها الطلق

    وقوله: [ومن أخذها الطلق].

    أي: المرأة إذا أخذها الطلق عند الولادة، فإذا حضرها الولاد فإنها تكون بين الموت والحياة، وهذه هي أشد الساعات، وقد بين الله جل جلاله لعبده عظيم فضل أمه عليه حينما قص ما تعانيه الأم في قصة عيسى عليه السلام مع أمه، وانظر كيف كان اختيار الله سبحانه وتعالى، فإن عيسى كلمةُ الله وروحٌ منه، ومع ذلك قال الله تعالى عن أمه: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ [مريم:23]، (فأجاءها) أي: ألجأها واضطرها: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، فهذا يدل على عظم ما تعانيه الأم، فإذا كان هذا العبد الصالح الذي هو كلمة الله وروحٌ منه ألقاها إلى مريم وفي الحفظ الإلهي الكامل التام، ومع ذلك تقول أمه: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] فكل مسلمٍ يقرأ هذه الآية ويتدبر ويتفكر ما الذي عانته الوالدة تجاهه، ولذلك جعل الله حق الأم أعظم من حق الأب، وجعل فضلها على الولد أعظم من فضل الأب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صاحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل له الحق بعد حق الوالدة مكرراً دالاً على فضلها وعظيم ما عانته تجاه ولدها.

    فإذا ثبت هذا: فإن الطلق قد تنجو المرأة فيه وقد تهلك، واختلف العلماء في مسألة الحمل والولادة وما بعد الولادة: متى يحكم بكون المرأة في حكم الحالة الخطيرة التي لا يصح فيها تبرعها فيما زاد عن الثلث، وتأخذ الأحكام المتقدمة في مرض الموت؟

    فبعض العلماء يقول: إذا حملت المرأة ومضى على حملها ستة أشهر، فإنها تدخل في حكم المريض مرض الموت، وهي بين السلامة وبين الهلاك، وبين النجاة وبين الموت، فإذا تم لحملها هذا القدر حكمنا بكونها في حكم مريض مرض الموت، وفائدة هذا القول: أنها لو حملت وبعد ستة أشهر من حملها وتمام الحمل أعطت شخصاً أو تبرعت بمائة ألفٍ، وهذه المائة ألف تعادل مالها كله أو نصفه، أو تعادل ما هو أكثر من الثلث، فإذا قلنا: إنها في حكم المريض مرض الموت، فنرد هذه العطية إلى الثلث إن ماتت، وتكون في حكم المريض مرض الموت، وإن قلنا: إنها ليست في حكم المريض مرض الموت؛ صحت ونفذت ومضى تبرعها.

    القول الثاني يقول: ليست العبرة بتمام الحمل ستة أشهر، وإنما العبرة بابتداء الطلق، وهذا القول هو الذي اختاره جمعٌ من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره وصححه، وبينوا أنه هو الأولى بالصواب: أن العبرة ليست بالحمل، وإنما العبرة بحال الولادة إذا أخذها الطلق، فإذا ابتدأ معها الطلق فإنه حينئذٍ يحكم بكونها في حكم المريض مرض الموت، فلو أنها في هذه الحالة وصت أو أعطت ووهبت فحكمها حكم المريض مرض الموت، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، أي أن العبرة بحالة الولادة، وعلى هذا درج المصنف رحمه الله.

    فإذا وضعت الولد وبقي طلق من باقي المشيمة، ولم تكتمل ولادتها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت؛ لأن الأمر مخوف في هذه الحالة، وكذلك أيضاً إذا أصابها نزيف بعد الولادة وكان نزيفاً خطيراً يخشى عليه هلاكها، فتكون في حكم المريض مرض الموت، وهذا نص عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة، وبينوا أن المراة إذا وضعت ولدها وتعرضت بسبب الوضع إلى أمورٍ يخشى معها على نفسها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت.

    وقوله رحمه الله: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء).

    أي: لا يلزم تبرع أحد هؤلاء لوارثه بشيء، فهناك حكمان:

    الحكم الأول: متعلق بالوصية، والحكم الثانية: متعلق بالعطية.

    أما الحكم الذي يتعلق بالوصية: فإذا قلت: إن هذه الأحوال يكون الإنسان فيها في حكم المريض مرض الموت، فإنه تسري عليه أحكام الوصية، فلا تصح وصيته لوارث، فلو وصت المرأة في هذه الحالة لابنتها الوارثة فإنه لا تصح وصيتها ابتداءً، وإنما تورث على إجازة الورثة كما سيأتي؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بالوصية، ثم نسخ هذا الحكم بعد نزول آيات المواريث، فأعطى الله جل جلاله لكل ذي حقٍ حقه من التركة، وتولى قسمتها من فوق سبع سماوات، وبين نصيب البنين والبنات وغيرهم من سائر القرابات، فأعطى كل ذي حقٍ حقه من التركة، وفصل في حكم ما يتركه الإنسان من بعد موته من المال.

    وبعد بيان المواريث بين صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث)، فمنع من الوصية للوارث وأجاز الوصية لغير الوارث، فدل هذا على أن الإنسان إذا كان قد كتب وصيته، أو عهد بها إلى أشخاص يأخذونها من بعده، وفي الوصية: أعطوا ابني فلاناً كذا وكذا، أو زوجوا ولدي بخمسين ألفاً أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، فهذه وصية لوارث لا تصح إلا إذا أجاز الورثة كما سيأتي، فيقال لبقية الورثة: هل تجيزون وصية أبيكم؟ فإن قالوا: نعم. فإنها تمضي، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة وبيان كلام العلماء رحمهم الله في كتاب الوصايا، وهل الوصية باطلة في أصلها أم أنها موقوفة؟

    وعلى كل حال: إذا قلنا: إنها باطلة فلها حكم، وإذا قلنا: إنها موقوفة على إجازة الورثة فلها حكمٌ ثانٍ، فبين رحمه الله أنه لا تصح وصيته كل من كان مريضاً بهذه الأمراض المخوفة أو هذه الحالات المخوفة، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث.

    ويتلخص مما سبق: أن هناك أمراضاً وهناك أحوالاً، فالأمراض يرد فيها القول إلى أهل الخبرة والأطباء، ونسأل الأطباء: ما هي الأمراض المخوفة؟ ويسأل كل طبيب في تخصصه الذي عُرِف ضبطه فيه وإلمامه به، وأما بالنسبة للأحوال، فقد ذكر المصنف منها حالة الطاعون، ويلتحق بهذه الحالة أحوال في مسائل منها:

    1.   

    أحوال تلحق بمن كان مرضه مخوفاً وتأخذ حكمه في التصرف بالمال

    ومما يلتحق بمسألة من مرض مرضاً مخوفاً: مسألة التحام الصفين وتقابل المتقاتلين، فإذا وقع القتال بين المسلمين والكافرين، وتقابل الصفان والتحم الجيشان، فإذا ابتدأ القتال فيحكم على أهل المعركة من المسلمين أنهم في حكم المريض مرض الموت، فلا تصح وصيتهم لوارث، ولا تنفذ عطيتهم فيما زاد عن الثلث؛ لأن هذه الحالة الغالب فيها عدم السلامة، وقل أن يخرج الإنسان منها سالماً.

    وفي حكم ذلك: من كان محكوماً عليه بالقتل، كرجل قتل رجلاً ظلماً وعدواناً فحكم عليه بالقصاص، وإذا حكم عليه بالقصاص ومضى الحكم وتم وثبت عند القاضي وحكم به، فمذهب طائفة من العلماء أنه بحكم المريض مرض الموت، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث.

    وكذلك أيضاً يدخل في حكم هذه المسألة: أحوال الخوف التي تقع في وسائل النقل، فمثلاً: ركوب البحر، فذكر العلماء رحمهم الله في القديم ركوب البحر، فإذا كان البحر ساكناً فلا إشكال والغالب السلامة، وأما إذا هاج البحر وماج وجاءت ريح عاصف، وأصبحوا في حالة الخوف والكرب، فإنهم حينئذٍ يحكم بكونهم في حكم المريض مرض الموت، فلو أن شخصاً في تلك الحالة قال: مالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي إلى فلان، أو أعطيت ولدي فلاناً، فحينئذٍ لا يصح تصرفه في العطية فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث، هذا إذا كان البحر في حالة الهيجان.

    وكذلك أيضاً من الأحوال التي تلتحق بما سبق: إذا تعرض المركوب -كطائرة أو سيارة أو قطار- إذا تعرض إلى حالة من حالات الخوف أو الهلاك الغالبة، فإنها تلتحق بما ذكره العلماء رحمهم الله في القديم من كون الإنسان في حكم المريض مرض الموت.

    حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير

    بقي السؤال عن مسائل الطعن والجروح والحوادث التي تقع الآن، فقد يصدم الإنسان في سيارة، أو تصدمه سيارة وتستنفذ مقاتله، أو يطعن أو يضرب بطلقات نارية حتى تستنفذ مقاتله بحيث يغلب على الظن أنه ميت، فما حكم مثل هذا؟

    ينقسم مثل هذا إلى قسمين من حيث القول باعتباره كمرض الموت وعدم اعتباره: فإن كانت الإصابة لم تذهب عقله بحيث يكون عنده التركيز والشعور، فإنه حينئذٍ يصح تصرفه على التفصيل المعتبر، ويكون في حكم المريض مرض الموت، وهنا عندنا مسألتان:

    المسألة الأولى: هل نعتبر وصاياه؟

    المسألة الثانية: هل هو في حكم المريض مرض الموت؟

    فاعتبار وصيته موقوف على كونه عاقلاً، وأن هذه الإصابة لم تذهب عقله.

    وحوادث السيارات -نسأل الله السلامة والعافية- بعض إصاباتها قد تذهب عقل الإنسان وتمييزه وإدراكه، وحينئذٍ فلا يصح تصرفه، وأما إذا كان عنده الإدراك والعقل، وشعوره معه، فإنه يحكم بصحة وصيته، ولكن يسري عليها ما يسري على وصية المريض، وكذلك عطيته تصح ويكون حكمها حكم عطية المريض مرض الموت، هذا إذا كانت الإصابة قد أثرت فيه أثراً الغالب أنه يموت بسببه.

    أما الدليل على كوننا نحكم بأن وصيته وعهده صحيح وتصرفه صحيح مع أن الغالب أنه سيهلك وسيموت: فهو أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: أنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- وحُمِل إلى بيته، ثم جاء من يعالجه ويداويه وأمر بسقيه اللبن فخرج اللبن مع الجرح وعلم أنه ميت، فلما علم ذلك وصى رضي الله عنه وأرضاه وعمل الصحابة بوصيته؛ فدل هذا على أن الطعن أو الإصابة أو الحادث أو إصابة الحادث إذا كان الغالب أنها تهلك الإنسان، لكن شعوره معه وإدراكه معه، فإنه يحكم بصحة تصرفاته، ولكن تبقى هذه التصرفات في حكم تصرفات المريض مرض الموت.

    أما لو أنه غيب وأصبح يخلط مثلما يقع -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الإصابات في الرأس التي تذهب العقل، وقد يأتي معها نزيف في الدماغ أو نحو ذلك، ويصبح عند الإنسان خلط وعدم ضبط، فمثل هذا لا يصح تصرفه، ويعتبر في حكم المجنون، ويحجر عليه، ولا تصح منه هبةٌ ألبتة، بمعنى: لا نحكم بصحة هبته، فلو قال مثلاً: تصدقوا وأعطوا الفقراء والمساكين، والأطباء يقولون: إن هذه الإصابة قد أثرت في عقله وأصبح لا يميز، فإنه قد تقدم معنا أن المجنون محجورٌ عليه وأنه لا ينفذ تبرعه، وحينئذٍ ينتقل المال كله للورثة.

    هذا بالنسبة لمسالة الإصابات، لكنها إذا كانت الإصابة خطيرة والغالب أن صاحبها يهلك، فإنها تكون في حكم مرض الموت بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله.

    قال رحمه الله تعالى: (ولا بما فوق الثلث).

    أي: ولا تصح عطيته بما فوق الثلث، فإذا كان عنده ثلاث مائة ألف وأصابته هذه الأمراض المخوفة، أو تعرض لهذه الحالات التي نحكم فيها بكونه في حكم مرض الموت فإنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـسعد رضي الله عنه لما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبثلثيه؟ قال: لا. قال: فبالنصف؟ قال: لا. قال: فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير)، فبين صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا حظ له فيما زاد عن الثلث، وأنه لا يجوز له أن يجاوز هذا الثلث إلزاماً، لكن لو رضي الورثة وطابت خواطرهم بذلك فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الحق لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، فكل عطيةٍ أعطاها ومرضه مرض مخوف فإننا ننظر في قدرها من رأس المال والتركة، فإن عادلت ثلث ماله أو أقل صحت ونفذت، وإن كانت فوق ذلك فإنها تصح في الثلث ويبقى ما زاد عن الثلث موقوفاً على إجازة الورثة.

    وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها) استثناء، أي: إلا إذا أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، وقد جاء ذلك مرفوعاً في الأثر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة)، فإذا أجاز الورثة فإنهم يجيزون أمرين:

    الأمر الأول: أن يجيزوا وصيته للوارث، فلو أنه قال: أعطوا ولدي محمداً مائة ألفٍ من تركتي، لكن محمد وارث، فحينئذٍ نقول: لا يجوز له أن يوصي لوارث، ثم نسأل بقية الورثة: هل تجيزون وصيته لأخيكم؟ فإن قالوا: نعم، أجزنا وصية أبينا لأخينا، فحينئذٍ تمضي، ولكن هل تعتبر عطيةً مبتدأة أو تعتبر عطية ماضيةً كانت موقوفةً ثم نفذت؟ فنبني على ذلك فروعاً سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا.

    الأمر الثاني: أن يجيزوا وصيته بما زاد عن الثلث، فإن أجازوها مضنت ونفذت، وإلا فلا.

    1.   

    حكم تصرف من مرض مرضاً مخوفاً ثم عوفي منه

    وقوله: [إن مات منه].

    أي: إن مات من الطاعون، فهذا شرط، لكن لو أنه جاء الطاعون في بلده وأوصى أو أعطى ثلاثمائة ألف في سبيل الخير، وهذه الثلاثمائة ألف تعادل ماله كله، ثم ارتفع الطاعون عن بلده ومات بعد ارتفاعه بأسبوع أو بشهر بسبب غير الطاعون، فعند ذلك عطيته صحيحة؛ لأن اعتبار الطاعون مبني على الغالب، لكن إذا زال الطاعون وارتفع فحققنا أن ذلك الظن قد بان خطؤه، ولا نحكم بظنة كونه في حكم المريض مرض الموت؛ لأنه سلم وتبين أنه من الناجين، مع أن سنة الله عز وجل أن القليل من يسلم ومن ينجو لكن الله جعله من القليل، فلما اختلط من ينجو ومن لا ينجو، وذلك لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ بقينا في الحكم الغالب أنه لا ينجو وقلنا: لا يجوز تصرفه، فإن ارتفع الطاعون وسلم منه ثم مات بسببٍ آخر كحادث سيارة، أو مات بسكتة قلبية أو بمرضٍ آخر، فحينئذٍ نصحح عطيته حينما أعطى وهو في حالٍ الغالب أنه يهلك، لكنه لما ارتفع هذا الحال ولم يصب بسوء؛ فلم يكن له أي تأثيرٍ على عطيته، فتنفذ الثلاثمائة ألف وتصح عطيته؛ لأنه أعطاها وتبين أنه في حكم السالم لا في حكم المريض، فقوله: (إن مات منه)، هذا شرط بأن يقع الموت بهذا السبب الغالب تأثيره.

    وقوله: [وإن عوفي كصحيح].

    إن عوفي تماماً من السل أو من الفالج أو مما تقدم من أمراض مخوفة فإن عطيته التي أعطاها تكون صحيحة.

    أما إذا كان معه مرض -لا قدر الله- يخشى عليه من الهلاك فنوقف العطية ونقول لصاحب العطية: انتظر، فإن مات من هذا المرض فليس لك ما زاد عن الثلث؛ لأن هناك استحقاقاً للورثة، ولك شريك مستحق، فلا يجوز أن تنفرد بهذه العطية كاملة ما دام أنها زائدة عن الثلث، وإن لم يمت فحقك يأتيك وتأخذ العطية كاملة، وبناءً على ذلك: الأمراض المخوفة إذا كان الإنسان مصاباً بها فنحجر على ماله ونمنع تصرفاته فيما زاد عن الثلث؛ لأن الغالب أنه يهلك في هذه الأمراض المخوفة، فإن شُفي من هذا المرض المخوف، وسلمه الله عز وجل منه، فإننا نحكم بكونه في حكم الصحيح وعطيته نافذة، ولا يقيد بالثلث فيما كان من هباته وصدقاته وعطاياه.

    1.   

    تصرف المريض مرضاً مخوفاً لم يقعده على الفراش

    قال رحمه الله: [ومن امتد مرضه بجذام أو سلٍ أو فالج ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله والعكس بالعكس].

    قوله: (ومن امتد مرضه بجذام أو سلٍ أو فالج).

    هذه الأمراض يصاحبها على حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن تقعده عن الفراش وتمنعه من الخروج لقضاء حوائجه، فحينئذٍ لا إشكال أنه في حكم المريض مرض الموت، وأما إذا كان يذهب ويأتي ويقضي أموره ويفعل ما يفعله الصحيح، إلا أنها تؤثر في صحته بعض الشيء، فهذا لا تأثير له فعطيته نافذة وحكمه حكم الصحيح.

    إذاً: العبرة فيما ذكر من الأمراض -كالفالج والجذام- أن هذه الأمراض كلها إذا لم تعق صاحبها وتحبسه في بيته فإنها لا تؤثر، ومثل ذلك: الهرم وكبر السن، فالكبير في سنه يضعف في أحواله ويضعف في أموره، ولا يستطيع أن يقضي مصالحه كما يقضيها من هو شابٌ جلد، فحينئذٍ لا نقول: إن الهرم يجعله في حكم المريض مرض الموت ولا يصح تصرفه فيما زاد عن الثلث، بل إنه يعامل معاملة الصحيح، والأمراض كذلك، فإن كان معه هذه الأمراض كالفالج والجذام -نسأل الله السلامة والعافية- ولم تقعده فإنه يكون في حكم الصحيح، لكن إذا أقعدته وألزمته الفراش ثم مات وامتدت إلى الموت، فيعتبر صاحبها في حكم المريض مرض الموت منذُ أن أقعدته، كما إذا أدخل المستشفى ثم لزم المستشفى حتى توفاه الله، فإن كانت عطيته قبل دخوله وكان يذهب ويقضي مصالحه قبل الدخول، مع أنه قرر الأطباء أنه مصاب بهذا المرض، فمثلاً: قرر الأطباء أنه مصاب في بداية محرم، فأعطى عطيةً وهو يذهب ويأتي ويقوم بمصالحه، فأعطى عطيةً، ثم بعد فترة أقعدته على الفراش فأعطى عطيةً ثانية، فالعبرة في عطيته الثانية بالثلث، وأما عطيته الأولى فإنها ماضيةٌ تامة.

    وقوله: (ولم يقطعه بفراش).

    وهكذا بالنسبة للهرم وكبير السن، إذا أقعده هرمه ولزم الفراش فإنه يصح تصرفه في الثلث فما دونه، ويكون حكمه حكم المريض مرض الموت.

    وقوله: (فمن كل ماله والعكس بالعكس).

    أي: من امتد مرضه ولم يقطعه بفراشه، بمعنى: أنه لم يعقده، فعكسه من أقعده على الفراش، فإنه يوجب الحكم بكونه في حكم المريض مرض الموت إذا امتد به ومات بسبب ذلك المرض.

    1.   

    العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت

    قال رحمه الله: [ويعتبر الثلث عند موته].

    إذا ثبت ما تقدم أن العبرة بالحالة الموجبة لحكمنا بكون الإنسان في حكم المريض مرض الموت، وبينا الأمراض والأحوال التي توجب الحكم على الشخص في ذلك، وما الذي يترتب على هذا الحكم، وأنه لا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث ولا تصح وصيته لوارث، فيبقى السؤال: هذا الثلث، هل العبرة فيه بالوقت الذي وصى أو أعطى فيه أم بوقت الموت؟

    وفائدة هذا الخلاف: أنه ربما يكون الشخص -مثلاً- عنده مائة ألف ريال، فيوصي بهذه المائة الألف ريال في أول محرم وهو مريض مرض الموت، فإذا كان مريضاً مرض الموت وأصابه المرض في أول محرم وأعطى مائة ألفٍ هبةً أو عطيةً أو صدقةً فما الحكم؟ نقول: إنه في حكم المريض مرض الموت، فلا ينفذ إلا ثلثها، هذا من حيث الأصل؛ لكن لو أنه توفي في الخامس عشر من محرم وقبل وفاته بأسبوع وهب مائة ألف، ثم توفي فورث مائتي ألف، فأصبح مجموع تركته عند الوفاة ثلاثمائة ألف، وأصل تركته عند العطية مائة ألف، فهل العبرة بوقت العطية أم العبرة بوقت الموت؟ العبرة بالموت، فإن كان الوقت الذي مات فيه تعادل عطيته الثلث فما دون صحت، ولو كانت قبل أكثر، والعكس بالعكس، فلو أنه أعطى مائة ألفٍ وقد دخل المستشفى -مثلاً- في بداية محرم، وحكم الأطباء أن هذا المرض مرضٌ مخوف وأنه لا ينجو إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فلما أدخل المستشفى كانت تركته تعادل ثلاثمائة ألف، فقال لأولاده: هذه مائة ألف ريال، اجعلوها في المساجد وفي سبل الخير والبر، إذاً: وصيته في حدود الثلث، ولا إشكال فيها، والمائة ألف تعادل الثلث من الثلاثمائة ألف، فلما مرض وأدخل المستشفى احتاج إلى علاج بمائة ألفٍ، فأصبحت تركته ناقصة فلما توفي في منتصف محرم إذا تركته مائتا ألف، فهل العبرة بوقت ما أوصى ووقت ما أعطى وتصدق ووهب، أم العبرة بوقت الموت؟ بين رحمه الله أن العبرة بالوقت الثاني وهو الأخير، وألا ننظر إليه قبل ذلك فقراً ولا غنىً، فإن العبرة بوقت الموت، فإن كان المال الذي وصى به أو أعطاه معادلاً للثلث في ذلك الوقت حكمنا بكونه صحيحاً، وإن نقص أو زاد على التفصيل الذي ذكرنا.

    1.   

    الفرق بين الوصية والعطية

    قال رحمه الله: [ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية.

    فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجداً، أو احفروا بئراً، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطيةٍ أو بمال، فإن كانت من شخصٍ واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمداً وزيداً وعمراً، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلاً تسعمائة ألف ريال، إذاً: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلاً- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟

    ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثاً، لمحمد الثلث، ولزيدٍ مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحدٍ ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعاً في كونهم موصىً إليهم.

    قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية].

    العطية عكس الوصية، فمثلاً: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمداً مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيداً مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمداً مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيداً مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضاً: أعطوا عمراً مائة ألف من مالي، فهذه عطيةٌ لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذٍ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا)، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلاً- ثلاثمائة ألف، فحينئذٍ لا تستطيع أن تعطي كل واحدٌ منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟

    الجواب: لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذٍ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائدٌ عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية.

    والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذٍ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمةٌ على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حياً فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصىً إليهم، فهم جميعاً مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول.

    وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلافٍ بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحدٍ منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمداً -مثلاً- خمسمائة ألف، وأعطوا زيداً مائتين وخمسين ألفاً، وأعطوا عمراً مائتين وخمسين ألفاً، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذٍ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدراً لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمداً خمسمائة وأعطى زيداً مائتين وخمسين وعمراً مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحدٍ من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث.

    وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطيّة في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية.

    فلو أن مريضاً مرض الموت أعطى عطية وقبِلها المعطَى، وحُكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يُطالبوا المعطَى بما أعطاه مورِّثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذٍ تكون ملكاً للذي أُعطِي، فلو أعطاه سيارة مثلاً، أو أعطاه أرضاً، أو أعطاه نقوداً، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذٍ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم.

    قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها].

    أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذٍ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسّع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيءٌ كثير.

    فقد يوصي الإنسان بشيءٍ بناءً على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كباراً، وقد يوصي لشخصٍ يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناءً على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحدٌ على الوصية خوفاً من أن يُلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد.

    فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها.

    بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها.

    الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك.

    فمثلاً: لو أنه أوصى أن يُعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيراً حينما كتب الوصية، وكان محتاجاً حينما كُتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذٍ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده.

    فمن حقه أن يبدل ويغيِّر، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك.

    وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها].

    أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذٍ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطِي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأُعطِي كل عقد من هذين العقدين حقه.

    وقوله: [ويثبت الملك إذاً].

    أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذاً): التنوين عِوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذٍ، وأما إذا لم يقبل فحينئذٍ تُلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطَى.

    وقوله: [والوصية بخلاف ذلك].

    أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذُكرت، وبناءً على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوَّى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية.

    1.   

    الأسئلة

    مسألة إعتاق ثلث العبيد

    السؤال: بناءً على أن الرقاب من الأموال، هل من أعتق عبيده يرد هذا العتق إلى الثلث أم أن العتق أقوى؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالرقاب هي من الأموال، وإذا وصى فيجزأ عبيده ويقرع بينهم وينظر في الثلث مما يقرع بينهم، وهذا فيه قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق عبيده ولا مال عنده غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجزأهم أثلاثاً وأقرع بينهم، فمن خرجت قرعته عتق ومن لم تخرج قرعته فإنه لا يصح عتقه؛ لأن المال الذي أعتق منه هذا السيد ليس بملكٍ له؛ لأن الزائد عن الثلث يصبح ملكاً للورثة، فإذا أعتق ما زاد عن الثلث من عبيده ومواليه فإنه قد أعتق في مال غيره، كما لو أعتق عبد غيره ومولى غيره فإنه لا يصح عتقه، والله تعالى أعلم.

    حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها

    السؤال: هل يجوز أن نضع صدقةً جارية للوالد من التركة قبل تقسيمها دون رضا الورثة؟

    الجواب: هذه مسألة مهمة، وهي أن بعض الورثة تغلبهم العاطفة ويحدثون في تصرفاتهم بعد وفاة الميت أموراً غير شرعية، ومن ذلك: أنهم يأخذون من المال ويصرفون منه بنية صالحة على سبيل الإحسان إلى الميت، وهذا لا يجوز إلا بإذن الورثة، فالمال للورثة، وينبغي استئذان الورثة، فإذا أذن الجميع وكان الصرف الذي صرفوه مشروعاً وأذن الله به، فإنه لا إشكال في جوازه واعتباره، وتكون عطيةً من الورثة وبراً منهم لوالديهم.

    أما أن يأتي شخص ويأخذ من تركة الشخص مالاً ويقول: نعطيه لطلاب العلم، أو للفقراء أو للمساكين، أو ننفقه في بناء المساجد دون استئذان من الورثة، فهذا غير صحيح ولا يلزم مثل هذا، بل يرد المال إلى أهله الورثة ويستأذنون، ولا ينفذ هذا التصرف؛ لأن مالكه الحقيقي لم يأذن به، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة نفسه، وإذا وقع شيء بين الورثة باتفاق منهم أن يبنوا مسجداً أو يبروا والدهم شيئاً من البر والخيرات، فهذا من بر الوالدين، ومما يضع الله فيه البركة للورثة في مالهم الموروث من ميتهم ومورثهم.

    لكن هنا مسألة نحب أن ننبه عليها وهي: أن بعض الإخوة يحرج أخواته وأقرباءه في الصدقة، فيأتي -مثلاً- عند قسمة المال ويقول: يا إخوان! نريد أن نخرج مائة ألف صدقة عن والدنا، أو نريد أن نخرج كذا وكذا عن والدنا، فحينئذٍ كل من الورثة عندما يقال له مثل ذلك الكلام فإنه يستحي ويجامل، وهذا الحياء والمجاملة يقتضي أنه قد نزع منه المال بدون طيبة نفسٍ منه، فعلى كل أخٍ كبير أو وصي قائم على مال أن يتقي الله عز وجل في حقوق الورثة، والذي أوصي به أن ينظر -أولاً- إلى حال الورثة، فقد تكون هناك الأخت المديونة المعسرة، وقد تكون عندها ظروف في أولادها وأطفالها أحوج من أي صدقة، وصرف هذا المال إليهم أفضل من إعطائه لأي قريب، وترك مال أبيهم وأمهم وجد الأولاد لهم يكون أجره للوالد الذي ترك أعظم من الصدقة للغريب، وهذا أمر لا يدركه الكثير، بمعنى: أن العاطفة تغلب على البعض فيقول: نتصدق به، ولماذا نتركه لأولاده؟ وكأنهم يظنون أن المال لو بقي للأولاد فإنه لا أجر فيه، والصحيح هو العكس، فبقاء المال لإخوانك وأخواتك من والدك ووالدتك أعظم أجراً لهما من الصدقة به لغيرهم؛ لأنه صدقة من الوالد على فلذة كبده وعلى قريبه، وخاصةً إذا كانت أختك معسرة أو محتاجة، أو أولادها بحاجة، أو هناك زوجة محتاجة وتريد أن تتجمل معها، وتريد أن تحسن إليها وتكفيها حاجتها.

    فهذا أمرٌ ينبغي التنبه له، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على مثل هذه الأمور، لوقوع مظالم كثيرة وخاصةً في ميراث النساء، فقد يخرجون النساء مع أنه قد يكون عند البنت من الذرية والأطفال والنسل من هو أحوج إلى إرثها؛ فعلى هذا ينبغي التنبيه على أن الواجب على الوصي أو من يقوم على توزيع التركة ألا يحرج إخوانه.

    والحل الأمثل: أن يقولوا: إن هذا المال تركه والدنا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليتصدق الصدقة الخفية التي هي أقرب للتقوى وأعظم للأجر، فينوي كل شخص بماله ويتصدق به على والده، أو يقول: يا إخواني! هذا مال تركه لكم أبوكم، فلا تنسوا فضل الوالد عليكم فتصدقوا عنه واذكروا والدكم بالصدقة؛ لأنه شُرِع التصدق عن الميت، كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تصدق الابن عن أبيه غيباً دون أن يعلم إخوانه ودون أن يطلعوا على أنه أخرج من مال أبيه مالاً، فهذا أتقى لله وأعظم أجراً، وينبغي تقديم الأقارب على غيرهم، فإن الصدقة عليهم أعظم والثواب فيهم أتم وأكمل، والله تعالى أعلم.

    أفضلية الصلاة داخل الحجر

    السؤال: هل هناك أي ثواب خاص لصلاة النفل داخل الحجر؟

    الجواب: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى داخل البيت)، فإن تيسر للإنسان أن يصلي داخل البيت فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفيه تأسٍ بالسنة، وإن تعذر عليه وصلى في الحجر فهذا نوع من التأسي والاقتداء، وله فضل بالاهتداء برسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي داخل البيت، فمنعها وأمرها أن تصلي في الحجر، وجعل الحجر من البيت، كما في الحديث الصحيح، على الخلاف في القدر الذي تركته ما بين ثلاثة أذرع وزيادة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن صلاتها داخل الحجر كصلاتها في البيت، وقلنا: إن الإنسان يشرع له التأسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت لتيسر ذلك، فإن لم يتيسر لك فـعائشة لم يتيسر لها، لأنهم ذكروا عدة علل منها:

    أنه يقع زحام من الرجال للنساء داخل البيت، فإذا كان البيت مفتوحاً فالأفضل أن يترك الحجر للنساء لوجود مجال للرجال أن يصلوا، فيترك الحجر للنساء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة ، لكن إذا قفل البيت وما تيسر الدخول إلا في أوقات معينة؛ لأن هذا راجع إلى سادن البيت، وهذا حق من حقوقه، وهو أمر شرعي وله أصل في الشريعة، فإذا فتح البيت وأمكن للإنسان أن يصلي في داخله متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس، ولكنه ليس بواجب ولا لازم، إنما له أجر لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ويدخل إلى البيت ويرقى حتى يدخل داخل البيت -حيث أنه كان الباب مرتفعاً كما هو موجود الآن- فيصعد إليه ويتكلف الدخول إليه ليس هذا إلا لمعنى.

    وعلى هذا: فإن تسير له ذلك فالحمد لله، وإن لم يتيسر له وصلى في الحجر فهو على خير، وفيه نوع من التأسي؛ لأنه لم يستطع الصلاة في داخل البيت، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة أن تصلي في الحجر عند تعذر دخولها إلى البيت، وهذا أصلٌ عام، والله تعالى أعلم.

    رطوبة فرج المرأة

    السؤال: السائل الذي يخرج من المرأة أثناء الحمل هل هو ناقضٌ من نواقض الوضوء؟

    الجواب: السائل الخارج من فرج المرأة أو ما يسمى برطوبة فرج المرأة له حكم النجاسة على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

    وهذا السائل فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم تنزل لا غسل عليه ولا عليها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طرق على أحد الأنصار، فخرج الأنصاري فجأة وكان ملماً بأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك)، وفي رواية: (لتغسل ما أصابك منها)، فأمره إذا لم يقع الإنزال أن يغسل العضو؛ لأنه حكم بنجاسة ذلك السائل؛ لقوله: (لتغسل ما أصابك منها)، والذي أصابه منها رطوبة الفرج. فهذه المسألة مسألة واضحة، فالسنة فيها واضحة، ولا تحتاج إلى كلام طبيب ولا غيره؛ لأن هناك مسائل شرعية الحكم فيها واضح ليس فيها أي إشكال.

    فقوله: (لتغسل ما أصابك منها) لا يصيبه منها إلا الرطوبة التي جعلها الله عز وجل مثل المذي في الرجل، وهذا شيء ذكره العلماء رحمهم الله المتقدمون وأشاروا إليه، أن رطوبة فرج المرأة بالنسبة للمرأة كالمذي بالنسبة للرجل، ويكون عند شدة الشهوة وزيادتها، وكل هذه الأمور واضحة لا لبس فيها، لا من جهة الأثر ولا من جهة النظر، فالقول بكونها نجسة لا إشكال فيه، وإذا ثبت كونها نجسة فحكمها حكم النجاسة، فاجتمع حينئذٍ خروجها من الفرج ووصف الخارج، وإذا اجتمع المخرج والخارج وصفاً مؤثراً حكم بانتقاض الوضوء، وحينئذٍ تكون كالبول، فنقول: يجب الوضوء من رطوبة الفرج؛ لأنها سائلٌ نجس أوجب الشرع في نصوص السنة الثابتة وجوب الوضوء من كل سائل نجسٍ خارج من الفرج، بدليل المذي والبول والودي ودم الاستحاضة، فكلها سائلة، ودم الاستحاضة ليس ببول ولا غائط، لكنه سائل نجس خارج من الموضع.

    فعلى كل حال: إذا ثبت المخرج والخارج وكان الخارج نجساً فإن هذا يؤثر؛ لأن مسألة انتقاض الوضوء فيها تفصيل عند العلماء: هل نعتبر المخرج ولا نلتفت للخارج؟ أو نعتبر الخارج ولا نلتفت للمخرج، أو نعتبر الأمرين؟

    فإذا قلت: أعتبر الخارج ولا أعتبر المخرج، فحينئذٍ تقول: العبرة عندي بالنجاسة، فالمخرج ليس له تأثير، فلو خرج حصى أو خرج دود من القبل، وهذا الخارج طاهر -كالحصى- فحينئذٍ لا ينتقض الوضوء، وإذا خرج النجس وهو الدم من غير المخرج كالرعاف فينتقض الوضوء، وهذا مسلك الحنفية والحنابلة، ولذلك أوجب الحنابلة رحمهم الله الوضوء من الدم الكثيف إذا خرج من سائر البدن، فأوجبوه من الرعاف وأوجبوه من الحجامة؛ لأنه سائل نجس خارج من البدن، فلم يلتفتوا إلى مخرجه ولكن التفتوا إلى الخارج.

    وهناك مذهب آخر يقول: الثابت عندنا بالمخرج لا بالخارج، فكل شيء خرج من المخرج أثر، ولا عبرة بنوعية الخارج؛ وبناءً على ذلك وفي زماننا لو أدخل المنظار أو أدخلت آلة الكشف من القبل أو الدبر ثم أُخرجت، نقضت الوضوء؛ لأنها خرجت من المخرج، والعبرة عندهم بالمخرج لا بالخارج، فسواء كان الخارج طاهراً أو نجساً فإن العبرة عندنا بالمخرج.

    ودليل من ينظر إلى أن العبرة بالخارج لا بالمخرج: أن القيء قد أوجبت الشريعة الوضوء منه، كما في حديث ثوبان : (قاء فتوضأ)، مع أنه لم يخرج من المخرج بل خرج من الفم، والفم ليس بمخرج نجس، لكنه لما كان القي نجساً أثر في الحكم، فدل على أن مناط الحكم هو الخارج النجس وليس المحل، وبناءً على ذلك قالوا بانتقاض الوضوء منه واعتدوا بالخارج لا بالمخرج.

    وأما الذين يرون العبرة بهما على تفصيل، فيعتبر مذهبهم من أقوى المذاهب؛ لأن الشريعة تشهد بالمخرج وتشهد بالخارج، لكن مسألة القيء وكونه ينقض الوضوء أجاب الأولون عنها وقالوا: إن الشريعة أوجبت الوضوء من القيء؛ لأنه نجس، لكنه نجس من الموضع الذي هو المعدة، فاستوى خروجه من الأعلى أو من الأدنى، وأيضاً القيء لا يعتبر مؤثراً -وهذا بإجماعهم كلهم- إلا إذا استحال الطعام وتغير، قالوا: فإذا استحال الطعام وتغير كان في حكم الفضلة التي يستوي خروجها من أعلى البدن، أو من أسفل البدن، فنظروا إليه فضلةً ولم ينظروا إليه في مسألة كونه نجساً، وقالوا: الدليل على هذا: أننا لو نظرنا إلى القيء لم يستحكم فيه التغير كالقلس أو لم يؤثر فيه تأثيراً قوياً لا نحكم بانتقاض الوضوء به، ويؤكد هذا أنه لو فتحت في المعدة فتحة وكانت تحت السرة وخرج منها خارج، حكمنا بانتقاض وضوئه؛ فدل على تأثير المادة نفسها من الموضع وليس كونها نجسة أو طاهرة، وهذا المسلك فيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، وفيه خلاف مشهور بين جهابذة أهل العلم رحمهم الله.

    أما مسألة الرطوبة وخروجها من الفرج فلا إشكال في قوة تأثير هذا النوع من الخارج ونقض الطهارة به، فإذا أصبح مسترسلاً فحينئذٍ نقول للمرأة: عليها أن تضع القطن، فإذا كان يغلب القطن فإنها تشد الفرج، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة، وعندنا السنة واضحة، ومسائل التخفيف واضحة، فلو قال قائل: كيف تنقضون الوضوء وكيف تحملون النساء مسألة الوضوء كل دقيقة؟ قلنا: ما دام أنه نجس وينقض الوضوء فهذا لا يفصل بالمشقة؛ لأن عندنا المستحاضة أنه إذا غلبها رجعت إلى التخفيف، فجمعت جمع تأخير إن شاءت، أو جمعاً صورياً إن شاءت، وإن شاءت توضأت بدخول وقت كل صلاة وصلت الفرض، وهذا ليس فيه مشقة، بدليل أن الشريعة قد حكمت بذلك في المستحاضة، فما الفرق بين المستحاضة التي غلبها الدم وبين التي معها رطوبة الفرج؟ لا فرق بينهما، فهذه أخرجت فضلةً نجسة وهذه أخرجت فضلةً نجسة، فوجب الحكم بالتخفيف في هذه كما وجب الحكم بالتخفيف لهذه ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756635313