إسلام ويب

تفسير سورة الطلاق (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يبين الله عز وجل حال كثير من أهل القرى في إنكارهم للدعوات، وتكذيبهم الرسل، وإعراضهم عن منهج الحق، مبيناً سبحانه بعد ذلك ما أعد لهم من العذاب الأليم المستديم في الآخرة، وهذا بعد عذابهم الدنيوي وهلاكهم بالخسف أو التدمير أو الإغراق أو غير ذلك، وفي هذا توجيه للمؤمنين بلزوم طاعة الله عز وجل فيما أمر ونهى، وما حرم وأحل، سواء في قضية الطلاق أو غيرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة الطلاق المدنية، ومع هذه الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:8-12].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا [الطلاق:8]، لما بين تعالى لنا أحكام الطلاق وأمرنا بالالتزام بذلك خوفاً من الله وطاعة له، وحرم علينا الخيانة والكذب ذكرنا بهذه الآيات؛ حتى نستقيم ولا نعوج، وحتى نمتثل أمر ربنا، ولا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله، لا في الطلاق ولا في غيره من الأحكام، فقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [الطلاق:8]، يعني: وكأين من أهل مدينة من المدن كمدن عاد وثمود.

    فقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [الطلاق:8] يعني: وكثير من أهل القرى، والقرى المدن. فالقرية في القرآن بمعنى المدينة. عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ [الطلاق:8]، وتجبرت وتكبرت، وارتفعت وأبت أن تنصاع وتذعن وتعبد الله، وكذبت الرسل وحاربتهم، ووصفتهم بما هم بريئون منه من أوصاف النقص كالسحر والجنون وما إلى ذلك.

    وقوله: وَكَأَيِّنْ [الطلاق:8]، أي: وما أكثر من مدينة من المدن أهلها عتوا وطغوا، وما أخذوا بشرع الله، ولا التزموا بحدود الله، بل وحاربوا رسل الله الذين أرسلهم إليهم. فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا [الطلاق:8]، وما أهملناها ولا أضعناها ولا تركناها، بل جازيناها الجزاء المقابل لكفرها وعصيانها وتمردها، فـ حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا [الطلاق:8]، إما بالخسف وإما بالدمار، وإما بالعاصفة وإما بالأمراض، أو بما شاء الله عز وجل أن يهلك الأمة الكافرة الفاجرة التي طغت عن أمر ربها وعصته، ولم تمتثل له ولم تجبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً)

    قال تعالى: فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق:9]. وهذا صحيح والله العظيم. فقد كان عاقبة أمرها الخسران الأبدي، فقد خسروا في الدنيا وهلكوا، ويخسرون في الآخرة بأن يخلدوا في عذاب جهنم، وليس هناك خسران أعظم من هذا الخسران.

    هكذا يحذرنا تعالى، ويذكرنا بهذا لنتعظ ولنعتبر، ولا نعصي ربنا في ما أحل أو ما حرم، ولا في ما أوجب ولا فيما ترك؛ حتى لا نقع في ورطة من هذه الورطات، فنهلك في الدنيا ونشقى في الآخرة، كما قال تعالى: فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق:9]. وليس هناك خسران أعظم من أن يجد المرء نفسه في عالم الشقاء، ولا يخرج منه أبداً. وقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]. وليس هو فقط خسران الشاة والبعير، أو الدينار والدرهم، أو الابن والأب، بل الخسران الحق أن يجد المرء نفسه في عالم الشقاء، ولا يرى أماً ولا أباً، ولا أختاً ولا أخاً أبداً، ولا يخرج من العذاب نهائياً، فهذا والله هو الخسران.

    وسبب هذا الخسران هو: الكفران والعصيان، والفسق والفجور، وبذلك تخبث النفوس وتنتن وتتعفن، فيصبح أهلها أهلاً لأن يخلدوا في جهنم. ولا ننسى حكم الله في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. والنفس تزكو بطاعة الله وطاعة رسوله، وبفعل الأوامر تطيب وتطهر، وباجتناب النواهي يبقى الطهر والصفاء، وما يتغيران أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذاباً شديداً فاتقوا الله يا أولي الألباب...)

    قال تعالى وقوله الحق: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الطلاق:10]، أي: هيأ لهم وأعد وأوجد لهم عذاباً شديداً، ألا وهو عذاب يوم القيامة. وهذا بعد عذاب هلاكهم في الدنيا بالخسف أو بالدمار، أو بالجوع أو بغير ذلك. فقد هيأ لهم عذاب يخلدون فيه، ألا وهو عذاب يوم القيامة، وأعد لهم عذاباً شديداً.

    ثم قال تعالى لنا: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [الطلاق:10]. فاسمعوا هذا، فقد دمر الله أمماً بكاملها، وأعد لهم عذاب جهنم يخلدون فيه. فهيا نتق الله نحن يا أصحاب العقول!

    ونتق الله بألا نعصي الله ورسوله، وما نحرم ما أحل الله، ولا نحل ما حرم الله، ونؤدي الواجبات برضا النفس والطمأنينة فيها، ونتجنب المحرمات كذلك، وبهذا يتقى الله. وعذاب الله لا يتقى بالسلاح ولا بالرجال، بل والله لا يتقى إلا بطاعته وطاعة رسوله، فأطع الله ورسوله؛ حتى تتقي عذاب الله عز وجل. وقد قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا [الطلاق:10]، أي: يا أصحاب العقول! ويا من هم مؤمنون! وكل هذا من أجل أنه فرض علينا أيام العدة ثلاثة أشهر، أو ثلاث حيضات، أو ثلاثة أطهر، وأن نسكن المطلقة، ولا نخرجها من بيتها، وكذلك ذات الحمل ننفق على حملها. فمن أجل هذه التعاليم الضرورية يخاطبنا الله بهذا الخطاب، فيقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا [الطلاق:10]، ولا تعصوه ولا تخرجوا عن طاعته، ولا تحلوا ما حرم، ولا تحرموا ما أحل.

    ثم قال لنا: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [الطلاق:10]. وهذه نعمة من نعمه، وهذا القرآن العظيم هو الذكر الكريم، ووالله ما تقرأ آية منه إلا ذكرت الله، وما تتلى آية في كتاب الله إلا ويذكر التالي ربه، ولهذا سمي القرآن بالذكر، فهو ذكر، فقال تعالى: أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [الطلاق:10]. ألا وهو القرآن، وقد أرسل فيكم أو بعث فيكم رسولاً، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. هكذا فعل الله، فـ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [الطلاق:10].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رسولاً يتلوا عليكم آيات الله مبينات...)

    قال تعالى: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ [الطلاق:11]، أي: موضحات لما هو حلال وما هو حرام، ولما يحب الله وما يكره، ولما يجب أن نفعله، ولما يجب أن نتركه، فهي مبينات غاية البيان، وها نحن نشاهد هذا عند تلاوتها، فقد أنزل القرآن وبعث الرسول وبين لنا هذه الآيات؛ حتى نعبد الله بها، كما قال تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:11]. فقد فعل الله هذا وأنزل الكتاب وبعث الرسول من أجل أن يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الشرك والكفر، والفسق والفجور إلى نور الهداية والإيمان والصلاح. فهذا هو السر، وهذه هي العلة.

    فالسر هو لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا [الطلاق:11] بالله رباً لا رب غيره، ولا إله سواه، والذين آمنوا بلقائه والوقوف بين يديه، وآمنوا بحسابه وجزائه، وعملوا الصالحات، وهي العبادات التي فرضها الله من إقام الصلاة إلى إيتاء الزكاة .. إلى بر الوالدين .. إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل عبادة من الصالحات.

    فقد أنزل الكتاب وأرسل الرسول لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الطلاق:11]. وأما من لم يؤمن ولم يعمل الصالحات فوالله ما يخرج من الظلمات، بل يبقى من ظلمة إلى ظلمة، ثم إلى القبر وإلى جهنم.

    وقوله: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق:11]، أي: من ظلمات الشرك عبادة غير الرب، فقد كانوا يعبدون أصناماً، ويعبدون أحجاراً، بل والله يعبدون فروج النساء، ويعبدون التماثيل، ويعبدون الهوى. وليس هناك ظلمة أعظم من هذه الظلمة. وليس هناك نور أعظم من النور الذي يصبح به العبد عالماً بأنه مخلوق مربوب، وأن له خالقاً، وأن له رباً، وأنه هو الذي يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وأنه يجب أن يحبه وأن يطيعه وأن يعبده. فليس هناك نور أعظم من هذا النور، ولا ظلمة أعظم من تلك الظلمة.

    ثواب الإيمان والعمل الصالح

    قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الطلاق:11]. وهذا وعد إلهي، وما أصدق الله في وعوده. وهو يقول تعالى في هذا الوعد وقوله الحق: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ [الطلاق:11] تعالى رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، وَيَعْمَلْ صَالِحًا [الطلاق:11]. وهو ما تعبدنا به من أنواع العبادات فالجزاء مقابل هذا الإيمان والعمل الصالح يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [الطلاق:11]، وليس جنة واحدة، بل جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الطلاق:11]، وجنات عرضها السموات. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الطلاق:11]. فلا يموتون ولا يمرضون، ولا يرحلون ولا يخرجون منها، بل هم خالدون فيها أبداً بلا نهاية.

    وأخيراً: قال تعالى: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق:11]، أي: هيأ له ضيافة قبل أن يدخل الجنة، فهيأ له ضيافة وأحسن له رزقاً من أفضل أنواع الطعام والشراب واللباس، فهو مهيأ ومعد له.

    اللهم اجعلنا منهم. هذه عظات القرآن وعبره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن...)

    قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق:12]. وهو الذي سمعنا حديثه وكلامه في هذه الآيات، فالله هو الذي يعد ويوعد، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويعذب ويسعد. فهو الله الذي لا إله غيره، وليس صنماً ولا حجراً، ولا ملكاً ولا رسولاً أبداً.

    وقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12]، أي: سبع أرضين والله. فالسماوات سبع، والأرضين سبع، والله محيط بهن والله العظيم. والسماوات السبع ما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام والله العظيم، بهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بين السماء والسماء خمسمائة سنة، وهن سبع سماوات، وكل سماء فوق سماء، وقد عرج برسولنا إليها، واجتازها سماءً بعد سماء، ولقي في كل سماء من لقيه، حتى انتهى إلى عرش الرحمن وإلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.

    وكذلك الأرضون سبع، واسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ شبراً من أرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة بسبع أرضين ). فمن أخذ شبراً من الأرض ظلماً واعتداءً يطوق به يوم القيامة في عنقه من سبع أرضين.

    هذا هو الله الذي يجب أن نحبه، وأن نعبده ونطيعه، وأن نحب بحبه. فهو الذي خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض مثلهن.

    ثم قال تعالى: يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق:12] سماء بعد سماء، وأرضاً بعد أرض، فيتنزل بينهن أمر الله عز وجل. وفي السماوات والأرضين مخلوقات لا يعرفها إلا هو.

    وقد أخبرنا بهذا لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الطلاق:12]. فالله أخبر بهذا الخبر لنعلم أن الله على كل شيء قدير، فلا نرهب إلا هو، ولا نطمع إلا فيه، ولا نرجو إلا الله، ولا نخاف إلا الله؛ إذ بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهو الذي يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويحيي ويميت. فلهذا قلوبنا تتعلق به، ولا نلتفت إلى غير الله أبداً كائناً من كان. فهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. فانتبه فإنه لا يخفى حركة من حركاتنا عن الله، بل ما يخطر بقلبي وقلبك يعلمه الله، فلهذا يجب أن نرهبه، وأن نخافه، وأن ترتعد فرائصنا عند ذكره، وألا نعصيه، وألا نخرج عن طاعته. وكل هذا من أجل أن نلتزم بتلك الحدود التي أنزل فيها القرآن، وهي حدود العدد والطلاق والنفقة.

    وسبحان الله العظيم! فهذا هو القرآن الكريم. ولكن لا يوجد أهل القرآن.

    1.   

    عاقبة البعد عن الله عز وجل

    قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا [الطلاق:8]. والمسلمون اليوم من إندونيسيا إلى موريتانيا ما يحكمون كتاب الله، ولا يجتمعون عليه، ولا يعملون بما فيه إلا من شاء الله، وكأنه ما نزل عليهم، وكأنه ليس بكتابهم. والذي صرفهم عن هذا هو العدو المكون من المجوس واليهود والنصارى، فهو الذي صرف أمة القرآن عن القرآن، فقد علموا أنه روح، وأنه لا حياة بدون روح فقالوا: إذاً: نميتهم بأن نمنعهم من القرآن، ونحول القرآن إلى الموتى. وهذه ستذكرونها يوم القيامة، وهي: أن القرآن روح، وأنه لا حياة بدون روح، وقد قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. فحييت هذه الأمة بالقرآن. فهم بحثوا كيف يسقطونا.. يدمرونا، وقد ضاقت بهم الأرض، وأحاط بهم الإسلام من الشرق إلى الغرب، فقالوا: السبب هو القرآن، فهيا نمنعهم من القرآن، فحاولوا وما استطاعوا، فالقرآن محفوظ في الصدور، فقالوا: نحملهم على ترك تدبره وتفسيره، ووضعوا قاعدة وقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر. إن فسرت وأصبت فقد أخطأت، وإن فسرت وأخطأت فقد كفرت. فتساءل المسلمون: إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ فقالوا: نقرؤه على الموتى فقط سبعة أيام أو إحدى وعشرين ليلة أو أربعين يوماً بحسب الغنى والفقر، فأصبحوا يجتمعون على القرآن ليقرءوه على الموتى فقط، وأما أن يجتمعوا عليه اجتماعنا هذا فلا والله. بل لو قلت: قال الله قالوا: اسكت، فقال الله صوابه خطأ، وخطؤه كفر. فماتت أمة الإسلام وهبطت، فسادوها وحكموها واستعمروها، وكانت ربانية ولية تعبد الله لما تولى عليها الكافر، فهذا والله ما كان، ولن يرضى الله بذلك أبداً. ولكنهم انسلخ الإيمان من قلوبهم، وما زلنا إلى الآن عمياناً لا نبصر.

    وليس هناك مانع أن نجتمع في الروضة أو في مكة في الحرم المكي، ونبايع إمامنا، ويقدم لنا الدستور الإسلامي، فنطبقه في قرانا وفي مدننا وفي العالم الإسلامي بكامله، وتصبح كلمتنا واحدة، وصيامنا واحداً، وصلاتنا واحدة، وأمتنا واحدة، وتدخل البشرية كلها في رحمة الله، ويسلمون ويدخلون في الإسلام. ونفوض هذا الأمر إلى الله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

    [ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:

    [ أولاً: التحذير ] الشديد القوي [ من ترك الأحكام الشرعية وإهمالها والعبث بها ] ومن إهمال حدود الله وانتهاكها، فما حرم الله يجب أن يبقى حراماً بيننا، وما أحل يجب أن يبقى حلالاً، وما أوجب فعله يجب أن نفعله، وما حرم فعله يجب أن نتركه. فهداية هذه الآيات التي درسناها تعود إلى هذا كله.

    [ ثانياً: بيان منة الله على هذه الأمة ] الإسلامية [ بإنزال القرآن عليها، وإرسال الرسول ] محمد صلى الله عليه وسلم [ إليها ] فهذه آيات الله ونعمه وآلاؤه، ولم يفعل بنا هذا أحد سوى الله، فلهذا نقول: الحمد لله أننا عرفنا الله، وأننا نعبد الله، وأننا نرجو لقاء الله؛ لندخل الجنة، ونسكن مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغيرنا في الظلمات وفي الجحيم والعذاب الأليم.

    [ ثالثاً: بيان أن الكفر ظلمة، وأن الإيمان نور ] فمن هداية الآيات حقيقة تتكرر ونقولها دائماً، وهي: الكفر والفسق والفجور ظلمة، والإيمان والعمل الصالح نور. فالإيمان نور، والكفر ظلمة. فالكافر يمشي في الظلام، ولذلك لا يهتدي إلى نجاته وصلاحه أبداً، بل هذا مستحيل. والذي يمشي على نور القرآن والله ما يفسق ولا يفجر، ولا يخرج عن طاعة الله، وتبقى نفسه مطمئنة طاهرة، وما إن يموت إلا وهي في الملكوت الأعلى.

    [ رابعاً ] وأخيراً: [ بيان عظمة الله تعالى وسعة علمه ] فالله قد أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير. وهذه تجعلنا نعيش مع الله راهبين خائفين، طامعين راجين، نعبده ونرجوه، ونسأله أن يوفقنا ويحفظنا، حتى نلقاه ونحن مؤمنين. اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين!

    وإلى جنبي أحد الصالحين يقول: الآن هناك أسلوب جديد، فإذا تكلمنا مع مؤمن بآية يقول: اسكت يا وهابي! وكل من يدعو إلى السنة والعمل بها يسمونه وهابياً، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وهذا والله من وسواس الشيطان وتزيين إبليس، وهو كلام الجهال والضلال. فأنا أقول: قال الله وقال رسوله، وأنت تقول: وهابي وما نقبل. فمعنى هذا: أنك ما تريد أن تعبد الله، فقل: لا أريد أن أكون ولي الله، وما أريد الإسلام، وصرح بهذا، ولكنك فقط تهرب من العبادة وتقول: أنت وهابي، فكلامك غير مقبول.

    وهذا كله عائد إلى الجهل والله العظيم. ولو اجتمعوا على كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة في مساجدهم طول العام ما يبقى جاهل ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل وحل العلم ذهب الكفر، والظلم والفسق، والخيانة والخداع، وكل باطل. وهذه هي الحقيقة، فالسبب الجهل.

    والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756574924