إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [32]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصوم من أعمال البر الفاضلة، وقد أوجب الشرع صيام شهر رمضان ورغب فيما عدا ذلك من الأيام، وجعل المراوحة بين الصوم والفطر من أفضل ما يتقرب به من أراد الصيام تخفيفاً على النفس ودفعاً لها إلى محبة الطاعة، كما نهى الشرع مع ذلك عن صيام بعض الأيام.

    1.   

    أعمال من الخير فاضلة

    قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

    [باب أفضل الصيام وغيره.

    عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الذي قلت ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يومين. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) ، وفي رواية قال: (لا صوم فوق صوم أخي داود عليه السلام، شطر الدهر صم يوماً وأفطر يوماً) .

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام ثلثه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)].

    هذه الأحاديث تتعلق بصيام التطوع، فالله تعالى فرض جنس الصيام وهو شهر رمضان فرضه وألزم به، وجعله ركناً من أركان الإسلام، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في التطوع في جنس الصيام زائداً عن الفرض، وفعل جنس ذلك، فثبت عنه أنه كان يسرد الصيام أحياناً حتى يقولوا: لا يفطر. ويسرد الفطر أحياناً حتى يقولوا: لا يصوم. ولكنه لم يستكمل صيام شهر بأكمله إلا شهر رمضان، وغالباً كان يصوم من كل شهر أياماً، وقد حث ورغب على جنس الصيام، فرغب في صيام ستة أيام من شهر شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ، ورغب في صيام أيام عشر ذي الحجة ما عدا العاشر وهو يوم العيد، وأخبر في بعض الروايات بفضل صيامهن، وبالأخص صيام يوم عرفة كما تقدم، وكذلك رغب في صيام يوم عاشوراء، وهكذا في التنفل المطلق، ورغب في صيام كل اثنين وكل خميس، وأخبر بأن الأعمال تعرض فيهما على الله، يقول: (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) .

    ورغب في صيام أيام البيض التي هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، ورغب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهو موضوع هذه الأحاديث.

    وقد أوصى بذلك بعض أصحابه، فأوصى أبا هريرة ، وأوصى أبا ذر ، أوصى كلاً منهما بثلاث، يقول: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) ، فأما الوتر قبل النوم فجعله من باب الاحتياط، وقيل: إن أبا هريرة كان يدرس الحديث في أول الليل، فلا يتمكن من القيام في آخر الليل، فكان يصلي أول الليل، ويوتر قبل أن ينام، لكنه بعد ذلك كان يقوم أكثر الليل أو ثلث الليل.

    وأما ركعتا الضحى فالمراد أن يصلي في الضحى ركعتين نفلاً، وإن زاد فله أجر.

    أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فقد أوصاه بذلك، وأصى به -أيضاً- عبد الله بن عمرو بن العاص ، وكان عبد الله في أول شبابه من العباد المبالغين في العبادة، فالتزم أن يصوم النهار وأن يقوم الليل، أن يصوم الدهر كله ولا يفطر أبداً، وأن يقوم الليل كله ولا ينام أبداً، فالتزم بذلك حتى إنه لما تزوج لم يتفرغ لزوجته، فشكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده قال له: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وذلك حين التزم بهذا الأمر الذي فيه مشقه، وهو صيام النهار كله وقطع نفسه عن الشهوات وقيام الليل كله وعدم التفرغ لأية شهوة من الشهوات المباحة، حتى إنه كان يقرأ القرآن كله في كل ليلة، فقال له: (كم تصوم؟ قال: كل يوم. فقال: كم تختم؟ قال: كل ليلة) يعني أنه يختم القرآن في كل ليلة ويصوم النهار، فعند ذلك أخبره بأنه إذا فعل ذلك كلف نفسه وشق على نفسه في الصيام، فأنزله إلى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأمره أولاً بأن يقتصر على ثلاثة أيام من كل شهر، يقول: قلت: إني أطيق أفضل أو أكثر من ذلك. فعند ذلك نقله إلى أن يصوم ثلث الدهر، فيفطر يومين ويصوم يوماً، ولكنه لم يقتنع، وطلب أن يزداد في الصيام، وقال: إني أطيق أفضل من ذلك أو أكثر من ذلك. فرفعه إلى أن يصوم النصف، أن يصوم نصف الدهر، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولكنه -أيضاً- لم يقتنع، بل طلب الزيادة، وتمنى أن يصوم أكثر الدهر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قصره على ذلك ولم يرخص له في الزيادة على نصف الدهر، فيصوم صوم داود، يصوم يوماً ويفطر يوماً، فالتزم بذلك.

    وأمره في القيام أن يقوم ثلث الليل، والثلث كثير، وأمره بأن يقرأ في كل ليلة سُبع القرآن، فيختم في كل سبع ليال، والتزم.

    ولكنه أسف بعد ذلك، فلما طالت به الحياة ثقل عليه هذا الصوم الذي هو الاستمرار في أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وثقل عليه ذلك، وتمنى أن يكون قبل الرخصة، وتمنى أن يكون قبل صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ولكن لم يترك ما التزمه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكره أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحياناً إذا أراد أن يريح نفسه أفطر أياماً وأحصاهن، فيفطر -مثلاً- عشرة أيام متوالية ليريح نفسه، ثم يصوم بعددهن عشرة أيام متوالية كراهية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أما القيام فكان إذا أراد أن يخف عليه القرآن عرضه على بعض أهله نهاراً، فيقرأ السبع في النهار، فيقرأ -مثلاً- في الليلة الأولى البقرة وآل عمران والنساء، ثم قبل أن يأتي الليل يعرضها، فيقرأها على بعضهم حتى تخف عليه في الليل، وهكذا التزم.

    فالتزم بذلك إلى أن توفي وهو على ذلك، ولم يخل بما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا صوم داود، وأن أفضل القيام قيام داود، وقد كان داود يصوم يوماً ويفطر يوماً، وداود عليه السلام نبي من أنبياء الله قد آتاه الله الملك والحكمة كما أخبر بذلك في قوله: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251] .

    وكذلك قد فضله بفضائل في قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:17-20] فكان من الشاكرين امتثالاً لقول الله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] .

    فالتزم داود أن لا يمر على أهله وقت إلا وفيهم مصل أو تال أو عابد بأية عبادة حتى يكونوا شاكرين لما أعطاهم الله تعالى، فالتزم داود هذا الوصف، أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، أما في القيام فالتزم أن ينام النصف الأول من الليل، ثم يقوم ثلث الليل -وثلث الليل بعد النصف-، ثم يريح نفسه سدس الليل الأخير الذي قبيل الفجر، فيكون قيامه الثلث الذي في وسط الليل الذي يبدأ من نصف الليل الثاني، هكذا كان قيام داود، وهكذا كان صيامه.

    وعلى كل حال فمن قدر على هذا الذي هو صوم داود صامه وله أجر، ومن اقتصر على أن يصوم أيام البيض فله ما نواه وله أجره، ومن زاد على ذلك فله أجره، ومن صام كل إثنين وكل خميس لما ذكرنا من أن الأعمال ترفع فيهما فإن له أجره، ومن اقتصر على صيام أيام البيض أو ثلاثة أيام من كل شهر فله أجره.

    وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويستمر على ذلك، ولكنه يصومها من أول الشهر، ولا ينتظر أيام البيض، فقيل له: لماذا لا تؤخرها إلى أيام البيض؟ فقال: وما يدريني أني أعيش إلى البيض. يقول: ربما أموت قبل أيام البيض، أو ربما يشغلني شاغل. فكان يقدمها.

    وعلى كل حال فمن أراد أن يتطوع بهذه الأيام فيصوم ثلاثة أيام من كل شهر جاز أن يصومها ثلاثة من أول الشهر، وجاز من وسطه، وجاز من آخره، وجاز أن تكون متوالية وأن تكون متفرقة، فيصوم من أوله يوماً ومن وسطه يوماً ومن آخره يوماً، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً إلى أن يتم الثلاثة، والكل جائز، ويصدق عليه أنه صام ثلاثة أيام من كل شهر، وهي عشر الشهر، وقد بين النبي عليه السلام أن الحكمة فيها أن الحسنة بعشر أمثالها، وحينئذ كأنه صام الشهر كله، فإذا صام ثلاثة أيام فكأنها ثلاثون يوماً -أي: كأنها الشهر-، ثم يصوم من الشهر الثاني ثلاثة أيام فكأنه صام الثلاثين يوماً، فيصبح كأنه قد صام الدهر، مع أنه لم يصم إلا عُشر الدهر، ولكن الله تعالى يضاعف لمن يشاء.

    1.   

    صيام الدهر الممنوع منه والجائز

    أما صيام الدهر فقد ورد النهي عنه، ففي بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا صام من صام الدهر)، وفي رواية: (لا صام من صام الدهر ولا أفطر) يعني أنه أشغل نفسه وأتعب نفسه، فلا صام صياماً يحصل له به الامتثال، ولا أفطر.

    ومع ذلك فقد نُقل عن كثير من السلف أنهم يسردون الصيام، ولا يفطرون إلا يوم العيد أو أيام التشريق، ولا يفطرون إلا الأيام التي نهي عنها، فيسرد أحدهم الصوم، ومع ذلك يخفي نفسه ويخفي حالته، فلا يشعر به أحد حتى أهله، فكان بعضهم إذا أصبح أخذ رغيفين من خبز أهله وخرج بهما، فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته، فإذا دخل السوق تصدق بهما على المساكين، فيتم صيامه ولا يشعر به أحد.

    وعلى كل حال فهذا من باب الاجتهاد، وإن كان فيه شيء من التشديد على النفس، وفيه شيء من الضيق والضرر على النفس، وأما صيام يوم وإفطار يوم فإن فيه راحة النفس في نصف الأيام، وفيه تعويدها على هذا الصبر الذي هو صيام هذه الأيام الكثيرة، وفيه الاقتداء بنبي من أنبياء الله تعالى.

    1.   

    أيام منهي عن صيامها

    صوم يوم الجمعة منفرداً

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن محمد بن عباد بن جعفر قال: (سألت جابر بن عبد الله : أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. وزاد مسلم : ورب الكعبة) .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده) .

    وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر -واسمه سعد بن عبيد - قال: (شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر الذي تأكلون فيه من نسككم).

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: النحر والفطر، وعن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر) أخرجه مسلم بتمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط.

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)].

    هذه أحاديث تتعلق بصيام التطوع، أي: ما يصح صومه وما لا يجوز صومه، فالحديثان الأولان في حكم صوم يوم الجمعة، وقد يجب صوم يوم الجمعة كما إذا كان في أيام رمضان، ففي شهر رمضان تقع عدة أيام جمعاً أربع أو خمس جمع، ويصومها المسلمون ولا يفطرونها، وذلك لأنها في وسط الشهر الذي أمروا بصيامه، وكذلك إذا كان الإنسان يسرد الصوم، فإنه إذا مر به يوم الجمعة في أثناء صيامه فإنه يصومه، وكذلك إذا كان يخصه أو ناسب له لموجب أو لسبب فإنه يصومه.

    مثاله: إذا كان الإنسان يصوم يوماً ويفطر يوماً كصوم داود، ووافق أنه أفطر يوم الخميس وصام يوم الجمعة، وأفطر يوم السبت وصام يوم الأحد، وأفطر يوم الإثنين وصام يوم الثلاثاء، وهكذا، ففي هذا يكون قد صام يوم الجمعة مع فطره لليومين الذي قبله والذي بعده، ولكن قصد بذلك أن يتبع، فيصوم يوماً ويفطر يوماً.

    أما صومه المنهي عنه في هذه الأحاديث في قول جابر : (إي ورب الكعبة) فيعني: نهى عن صوم الجمعة ورب الكعبة. أي: أقسم بذلك، وهو أنه نهى عن صوم يوم الجمعة.

    وفي الحديث الثاني أنه رخص فيه إذا ضم إليه يوماً، فإذا صام معه يوماً قبله أو يوماً بعده فإن ذلك يجوز الصيام ويزيل المحذور، وفي بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي صائمة يوم الجمعة -أو على إحدى بناته- فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا. قال: أتصومين غداً -يعني يوم السبت- قالت: لا. قال: فأفطري، فنهاها عن إفراد يوم الجمعة، فدل على أن النهي يختص بتخصيص يوم الجمعة بدون أن يصوم معه يوماً قبله أو يوماً بعده، فيزول المحذور إذا صام يوم الخميس والجمعة، أو صام يوم الجمعة والسبت.

    فهذا وجه النهي، وسببه أن يوم الجمعة عيد الأسبوع، فتخصيصه بالصيام ليس له مزية، والأعياد الأصل أنها أيام إفطار، فعيد الأسبوع هو يوم الجمعة، ولعل النهي -أيضاً- لئلا يعتقد أن له مزية لأنه يوم الأعمال أو يوم الراحة أو نحو ذلك، ومن المعلوم أن عيد الأسبوع للنصارى يوم الأحد، وعيد الأسبوع لليهود يوم السبت، وعيد الأسبوع لهذه الأمة يوم الجمعة، فلأجل ذلك نهي عن إفراده بالصوم.

    صوم يومي العيدين

    أما الحديث الذي بعده فهو في النهي عن صوم يومي العيدين: يوم عيد الفطر وهو أول يوم من شوال، ويوم عيد النحر وهو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة كما هو معروف.

    وصوم هذين اليومين حرام، ووردت أدلة تدل على التحريم، وعلل النهي عن صوم يوم النحر بأنه اليوم الذي يُذبح فيه النسك، فيقول: (تأكلون فيه من نسككم)، فالحجاج يذبحون فيه قربانهم وفديتهم، وغير الحجاج يذبحون فيه أضاحيهم، وكلها مناسك ونسك يذبحونها، فمن آثار ذلك أن لا يصوموا، وأن يأكلوا من ذبائحهم ومن الطعام الذي أحله الله لهم وأمرهم بالأكل منها في قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وقال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ولو صاموا لما أكلوا منها أكلاً مطلقاً، وإن كانوا قد يأكلون إذا أفطروا ليلاً، ولكن الأكل المعتاد هو الأكل منها حينما تذبح نهاراً، وبذلك تعرف حكمة الله.

    وكذلك -أيضاً- لا شك أنه يوم فرح، فيوم العيد -عيد الأضحى- يوم فرح، وذلك لأن الحجاج يفرحون بإتمام نسكهم، وغير الحجاج يفرحون بإتمام أعمالهم حيث عملوا فيها من الأعمال ما يرجون ثوابه، فصاموا في تلك الأيام وتصدقوا، وكذلك ذكروا الله وكبروه وعبدوه، فكان عليهم أن يشكروا نعمة الله، وأن يفرحوا بما أعطاهم الله تعالى وبما أباح لهم، ويوم الفرح هو اليوم الذي تسر فيه النفوس، فلا يناسب أن يصوموه.

    وأيضاً فإن هذا اليوم مع الأيام التي بعده -وهي أيام التشريق- كلها أيام ذبح، ولو صاموا لشق عليهم الصوم مع الاشتغال بذبح القربان وبالتصدق به وما أشبه ذلك، ولو صامه الحجاج لشقت عليهم الأعمال التي يعملونها، فإنهم في يوم العيد يذبحون، وكذلك يرمون ويحلقون ويطوفون ويسعون، فيتكلفون تكلفاً، والصيام قد يتعبهم، فنهوا عن الصيام حتى ولو كانوا من أهل مكة، وكذلك تبعهم غيرهم من أهل القرى في أنهم لا يشرع لهم الصيام في هذه الأيام.

    صوم أيام التشريق

    أما أيام التشريق الثلاثة التي بعد العيد -وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة- فهذه -أيضاً- لا يجوز صومها، وهي أيام أكل وشرب، وتسمى أيام منى، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)، والأكل والشرب ينافي أن يكون هناك صيام؛ لأنه يقلل من التمتع بنعم الله تعالى وبرزقه، فناسب أن الحجاج وكذلك غيرهم من المقيمين يفطرون في أيام التشريق، ولأنهم في تلك الأيام غالباً يذبحون، ولا يزال عندهم بقية من لحوم الأضاحي، فناسب أنهم يأكلون منها ولا يصومون.

    أما يوم عرفة فقد تقدم أنه اليوم الذي فضله كبير، وأن صيامه عظيم وأجره كبير، إلا للحجاج، فالحجاج يفطرون يوم عرفة، وورد النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، وورد الأمر بصوم عرفة لغير الحجاج، فيعتبر يوم عرفة للحجاج من أيام الأعياد، وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب).

    أما عيد الفطر -وهو اليوم الأول من شهر شوال- فإنه يحرم أيضاً صومه؛ لكثرة الأحاديث التي تنهى عن صيامه، والحكمة فيه أنه يوم فرح.

    وبأي شيء هذا الفرح؟

    إن الفرح المذكور بإكمال الصيام، فالله تعالى إذا وفق العباد فأكملوا صيام شهرهم وقضوه وأتموه، وأتموا هذا الشهر بكماله قياماً وصياماً وقراءة وعبادة، وانتهى هذا الشهر ناسب أن يظهروا الفرح بهذه الأعمال، فجعل لهم يوم عيد بعد هذا الشهر مباشرة، فاليوم الذي يلي رمضان جعل يوم عيد يظهرون فيه سرورهم وابتهاجهم، ولا يجوز لهم -والحال هذه- أن يصوموا.

    وأيضاً فأمرهم بالفطر ليحصل الفصل بين رمضان وغيره، ليحصل أنهم أفطروا اليوم الذي يلي رمضان، فيتميز رمضان عن غيره كما أمروا أن يميزوا أوله.

    وبذلك عرف أن صيام هذين اليومين -يوم الفطر ويوم النحر- ممنوع ومحرم لهذه الحكم.

    وفي هذا الحديث النهي عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، والنهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر وصلاة بعد الفجر، أي: في أوقات النهي، وقد تقدم الكلام عليها في الصلاة.

    وكذلك النهي عن لبستين: عن اشتمال الصماء وعن الاحتباء، وهو أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وهذه تتعلق باللباس.

    واشتمال الصماء: هو لبسه للثوب الذي ليس له منافذ، أن يلف على بدنه رداءً -مثلاً- أو كساءً ولا يجعل ليديه مخرجاً يخرجهما منه، فيكون كأنه أصم، فكأن هذا الثوب أصم، والصمم هو انسداد الأذنين، فكذلك اشتمال الصماء هو الالتفاف بالثوب الذي ليس له منافذ، ولعل الحكمة فيه أنه ربما يحتاج إلى إخراج يده، فإذا أخرج يده من تحت الثوب الذي ليس عليه غيره بدت عورته أو نحو ذلك، أو مس عورته، أو أنه قد يحتاج إلى عمل بيديه ولا يستطيع العمل بهما ما دام قد التف بهذا الثوب، فهذا اشتمال الصماء.

    وأما الاحتباء فهو أن يجلس الإنسان على إليتيه وينصب قدميه ويرفع ركبتيه، ويلف على ظهره وعلى ساقيه ثوباً ليس بين عورته وبين الأرض شيئاً، فيحتبي في هذا الثوب وهو جالس.

    والحكمة في النهي أنه ربما يقوم فتبدو عورته، وربما يميل يمنة أو يسرة فتبدو عورته، والإنسان مأمور بأن يحفظ عورته ويسترها عن الناس؛ لأنها كاسمها عورة وسوءة، وقد جعل الله عقوبة آدم وحواء لما أكلا من الشجرة أن بدت لهما سوءاتهما، أي: عوراتهما. فالإنسان يحافظ على ستر ما يعيبه أو ينشر له سمعة سيئة.

    1.   

    فضل الصيام في سبيل الله تعالى

    بقي الحديث الأخير الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، وهو حديث صحيح، وفيه فضل الصوم في سبيل الله، قيل: المراد الصوم وهو غازٍ، فأكثر ما يطلق سبيل الله على الغزو، فعندما يذكر الله هذا الاسم ينصرف إلى الغزاة، ففي قوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169] أي: في الغزو. وكذلك في قوله تعالى: وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [التوبة:20] وما أشبه ذلك، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء:95]، فسبيل الله المراد به الغزو.

    ومعلوم أن الغزو غالباً يكون في سفر، والغازي يحتاج إلى سفر وأن يقطع مسافة قد تستغرق سنة، وقد تستغرق شهراً، وقد تستغرق أياماً في هذا الغزو، ومع ذلك فالسفر مظنة المشقة، ومع ذلك رغب في الصوم فيه، ووردت أدلة في النهي عن السفر مع المشقة، كقوله: (ليس من البر الصوم في السفر) كما تقدم، ولكن إذا لم يكن هناك مشقة، أو كان الإنسان لا يعوقه الصوم وصام في هذا الغزو حصل على أجر وظفر بمضاعفة الثواب، فلأجل ذلك جعل الله الصوم في سبيل الله سبباً لإبعاده عن جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) .

    وهناك قول أن المراد بقوله: (من صام يوماً في سبيل الله) أن المراد بسبيل الله ليس هو الغزو، وإنما المراد سبيل الله الذي هو الطريق الموصل إلى الله، يقولون: كل شيء يوصل إلى الله فإنه من سبيل الله. فلذلك يقولون: صلى في سبيل الله. تصدق في سبيل الله، صام في سبيل الله. حج في سبيل الله.

    وروي أن رجلاً سبل بعيراً له في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج من سبيل الله) يعني: أعطه من يحج عليه، وكأنه في سبيل الله في الغزو، فدل على أن سبيل الله هو كل عمل يبتغى به وجه الله، فمعناه: أن من صام يوماً ابتغاء وجه الله، وطلباً لما يوصل إلى الله فإنه يستحق هذا الثواب، وهو أنه يبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً، وذلك فضل كبير! فيدل على فضل صوم التطوع، وأن الإنسان إذا صام تقرباً إلى الله تعالى وأكثر من الصوم، فكل يوم يصومه له هذا الأجر؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يكثر الصوم، فيسرد الصوم حتى يقال: لا يفطر، وأحياناً يسرد الفطر حتى يقال: لا يصوم، ولكنه غالباً يصوم من كل شهر، ويرغب في الصيام من كل شهر، ولو ثلاثة أيام أو ما تيسر منه؛ ذلك لأن الصيام عمل بر يحبه الله تعالى، وقد اصطفاه لنفسه في قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به) والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757257393