إسلام ويب

شرح عمدة الأحكام [10]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ودعوة إلى ركن من أركانه، وقد وردت صفاته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عنه آدابه والأذكار التي تقال أثناءه وبعده، وقد بين العلماء ذلك في شرح الأحاديث الواردة فيه.

    1.   

    شرح حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)

    قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن أنس رضي الله عنه قال : أُمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة.

    وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له حمراء من أدم قال : فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال: فتوضأ وأذن بلال قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم رُكزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة].

    أهمية الأذان وفضله

    هذا باب الأذان، وهو من شعائر الإسلام الظاهرة، فرفع الصوت بهذه الكلمات في أوقات الصلاة من شعائر الدين، ومن أعلام الإسلام، ومما يُعرف به أن أهل هذه البلد مسلمون مُعلنون لكلمات الله مظهرون لدين الله، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا وقرب من أهل قرية أو أهل بادية انتظر وقت الصلاة، فإن سمع أذاناً منهم تركهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، فجعل الأذان علامة على أنهم مسلمون؛ وذلك لأنه أصبح شعاراً للمسلمين.

    شُرع هذا الأذان للإعلان بدخول الوقت، وأوقات الصلوات محددة، لكل صلاة وقت له أول وآخر، والناس قد لا يعرفون الوقت بالزمان؛ فلذلك جعلت علامة يعرفون بها أوقات صلواتهم، فإذا سمعوا الأذان توجهوا لأداء هذه الصلوات في بيوت الله سبحانه، وإذا سمعوا الأذان عرفوا أن الوقت قد دخل فصلى المعذور في محله.

    وهذا الأذان مشتمل على كلمات كلها ذكر، فلا جرم كان فيه من الأذكار ما هو تذكير مناسب؛ وذلك لأنه يرفع به الصوت، فناسب أن يكون مبدوءاً بالتكبير الذي يذكر بكبرياء الله وبعظمته وبحقارة ما سواه، وكذلك فيه تكرار الشهادتين وما ذاك إلا ليعلم أن هذا التكبير وهذه الشهادة شعار الإسلام، فإن الشهادتين من شعائر المسلمين، وفيه دعاء إلى الصلاة، وإلى نتيجتها، يدعو الناس بقوله: حيَّ، يعني: هلموا وتعالوا إلى هذه الصلاة التي يحصل بها الفلاح، وفي ذلك ما يدفعهم إلى أن يأتوا مسرعين حريصين على الفلاح الذي هو الفوز، وختم بالتكبير مرة ثانية، وبالتهليل الذي هو تذكير بالشهادة.

    فهذا الأذان من شعائر الإسلام؛ ولذلك كانت وظيفته من أشرف الوظائف، ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للمؤذن مدى صوته)، وأوصى أبو سعيد رجلاً من أصحابه فقال: إني أراك تحب البادية، فإذا كنت في باديتك أو في غنمك وأذنت للصلاة فارفع صوتك بالأذان، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر إلا شهد له يوم القيامة، وقرأ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4].

    وقال بعضهم في قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]: نزلت في المؤذنين؛ لأنهم أحسن الناس قولاً؛ لأنهم يأتون بكلمات حسنة، ويأتون بهذه الدعوة إلى عبادة الله، فلا أحسن منهم قولاً، وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يُعرفون يوم القيامة بطول أعناقهم سيمة وعلامة لهم، وذلك دليل على فضيلة الأذان، وأنه شعيرة من شعائر الإسلام.

    قال أنس : (أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة)، وهذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائي : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والمعنى أن يجعل كلمات الأذان شفعاً، يعني: مكررة، وكلمات الإقامة مفردة وتراً غير مكررة، فيكبر في الأذان أربعاً في الأول، وفي الإقامة تكبيرتين فهي على النصف، يتشهد أن لا إله إلا الله في الإقامة مرة، وفي الأذان مرتين، كل واحدة من الشهادتين يكررها في الأذان مرتين، والحيعلتان يأتي بهما مرتين في الأذان، ومرةً في الإقامة، فمعنى كونه شفعاً يعني: مرتين، والإقامة وتر يعني: مرة، إلا أن الإقامة تزيد بكلمة (قد قامت الصلاة) حيث إنما لإعلام الناس بالقيام، ويؤتى بها مرتين لإعلام الحاضرين بأن يقوموا إلى الصلاة.

    كيفية الأذان والإقامة

    أذان بلال خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات، وأربع تشهدات، وأربع حيعلات، هذه اثنتا عشرة كلمة، ومعها تكبيرتان تصير أربع عشرة، وتهليلة، فهذه خمس عشرة، هذا هو أذان بلال الذي استمر عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

    لكن روي عن أبي محذورة أنه كان يُكرر الشهادتين، ويسمي ذلك ترجيعاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بالترجيع، فكان أذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، حيث إنه يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، ثم يعيدها مرتين مرتين، فتكون الشهادتان ثمان مرات، فيصل العدد إلى تسع عشرة جملة، هذا أذان أبي محذورة ، وكان يؤذن في الحرم المكي في أيام الموسم، وعنه أخذ أكثر الوافدين من المدن البعيدة فنقلوه إلى تلك البلادة البعيدة كالهند والسند وما وراء النهر وبلاد تركيا وما أشبهها، فكانوا يؤذنون بأذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، ولكنه كان يخفض الشهادتين للمرة الأولى، ويرفعهما للمرة الثانية.

    ونحن نقول: لا بأس بذلك، ولكن أذان بلال الذي ليس فيه ترجيع أصح، فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالترجيع، وبه حصل الأمر في هذا الحديث، أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والإقامة عند أبي محذورة كان يكررها ولا يوترها، ولا يعمل بهذا الحديث الذي هو حديث أنس ، فيكبر في الإقامة أربعاً، ويتشهد أربعاً، ويحيعل أربعاً، فهذه اثنتا عشرة كلمة، ويأتي بقد قامت الصلاة مرتين، فهذه أربع عشرة، ثم بتكبيرتين هذه ست عشرة، وبتهليلة فهذه سبع عشرة كلمة، وإلى هذا ذهبت الحنفية، فكان أذانهم تسع عشرة كلمة، فإقامتهم سبع عشرة كلمة، إقامتهم مثل أذاننا إلا أنهم يضيفون إليها (قد قامت الصلاة) مرتين، فيصير العدد سبع عشرة كلمة في الإقامة، وتسع عشرة في الأذان.

    ونحن نقول: ما دام أنهم معتمدون على دليل فلهم دليلهم، ولكن دليلنا أرجح؛ وذلك لأنه الذي كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، فهو أقوى دليلاً.

    1.   

    شرح حديث أبي جحيفة في صفة أذان بلال

    من صفات المؤذن أن يلتفت في الحيعلتين؛ ليبلغ من هنا ومن هنا، ودل على ذلك حديث أبي جحيفة الذي سمعنا، وفيه أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في منى في حجة الوداع، ولما جاء إليه وجده في قبة حمراء قد نصبت له في منى، والقبة هي: خيمة صغيرة من أدم، يعني: من جلود، وقد دبغت بالحمرة فأصبح لونها أحمر، جعلها النبي صلى الله عليه وسلم يستظل بها، ولم يكن هناك خيام رفيعة ولا بنايات، إنما هي قبة صغيرة مبنية له من أدم لأجل الظل.

    ولما حضرت الصلاة خرج صلى الله عليه وسلم ليتوضأ وأخرجوا له وضوءاً، فذكر أبو جحيفة أنه رآه وعليه حُلة حمراء، والحلة: ما يتكون من إزار ورداء، أو إزار وقباء، أو إزار وقميص، أو إزار ومعطف مما يلبس على الظهر، أي: ثوبان يسميان حلة، والواحد لا يسمى حلة، وهذه الحلة كانت حمراء، وكأنها غير خالصة الحمرة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قد نهى الرجال أن يلبسوا اللباس الأحمر، يعني: الأحمر الخالص، وجعل ذلك للنساء، بل نهى عن المعصفر المطلي بعصفر أو بورس أو بزعفران، وجعل ذلك أيضاً للنساء، فدل على أن هذه الحلة ولو وصفت بالحمرة فحمرتها ليست خالصة، وإنما فيها لون أو بها خطوط حمر.

    وذكر أنه لما أخرج وضوءه- يعني: الماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم -كان الناس حوله يتلقون ما تقاطر من أعضائه، فالقطرات التي تتقاطر من وجهه أو من يديه يتلقاها هذا وهذا، وكل من وقعت قطرة في يده مسح بها وجهه أو مسح بها صدره تبركاً بما مسه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: فمن ناضح ونائل، يعني: واحد منهم يحصل على ماء ينضح به جسمه وثيابه، والآخر لا يجد إلا بلل يد صاحبه أو كفه أو وجهه أو نحو ذلك.

    وهذا التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتبركوا بغيره ممن بعده من الأولياء والصالحين ونحوهم؛ وذلك لما جعل الله فيما مسه من البركة والخير.

    وقد ذكر أنه لما حضر وقت الصلاة أذن بلال ، وهو الذي كان يؤذِن للنبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، ولما أذن جعل يلتفت، يقول أبو جحيفة : فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يعني: يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أي: يلتفت إذا قال: حي على الصلاة عن اليمين حتى يسمعه الذين عن اليمين، ويلتفت إلى اليسار يلتفت في قوله: حي الفلاح، هكذا فعل وأقره على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك استحب العلماء للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين رجاء أن يذهب صوته من هنا ومن هنا.

    ولكن هذا خاص بما إذا كان يؤذن بغير المكبر، أما إذا كان يؤذن مع وجود هذا المكبر فلا حاجة إلى الالتفات؛ لأن الالتفات قد يُضعف صوته، فإذا التفت مال عن المكبر الذي أمامه فضعف بذلك صوته، والمطلوب أن يأتي بما يستطيعه من رفع الصوت حتى يسمعه القاصي والداني، ومعلوم أن المكبر يلتقط الصوت ويدفعه إلى تلك السماعات التي قد جُعلت في أعلى المساجد، وتلك السماعات موجهة إلى الجهات، فهي تُرسل الصوت إلى تلك الجهات التي وجهت إليها، سواء قابلها الصوت أو لم يقابلها، إنما تأخذه هذه اللاقطة، فنقول: لا حاجة إلى الالتفات في مثل هذا، إنما يحتاج إليه إذا أذن بغير المكبر؛ لأنه مشروع أن يُبلغ صوته لمن في سائر الجهات.

    ثم ذكر أنه لما حضرت الصلاة رُكزت عنزة، أي: حربة قصيرة، وهي عصاً في رأسها حديدة محددة، يجعلها سترة له يستقبلها حتى تكون له سترة؛ ولهذا استحب أن يُصلي الإمام إلى سترة إذا كان في الصحراء، فتركز له عصا أو حربة أو عنزة أو نحو ذلك؛ ليقتصر بصره عليها، ولا يمتد إلى ما وراءها؛ ولئلا يمر بينه وبينها أحد، فيردُ من مر بينه وبينها.

    وذكر أبو جحيفة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر ركعتين، والعصر ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، فمن حين خرج من المدينة وهو مسافر، ومعه عدة السفر، ورواحله معه، وليس هو بمقيم سواء كان في منى أو في عرفة أو في الأبطح أو في الطريق، كان يعتبر نفسه مسافراً، فكان يقصر الصلاة الرباعية ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة، هكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

    والحديث فيه أحكام كثيرة، وإنما نأخذ المهم منها، وهو ما ذكره من أذان بلال ، وكيفية التفافه في الحيعلتين، وهذا هو الشاهد من الحديث.

    1.   

    شرح حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل .. .)

    قال المؤلف: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم).

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)].

    حكم الأذان الأول للفجر

    الحديث الأول يتعلق بأذان آخر الليل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) أو (حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم)، ظاهر هذا الحديث أن كلاً منهما يؤذن في وقت حدد له، فأمروا بأن يأكلوا ويشربوا ولا يردهم ذلك عن سحورهم حتى يسمعوا أذان ابن أم مكتوم الذي يؤذن عند الصباح.

    استدل بهذا الحديث كثير من العلماء وقالوا: إنه دليل على جواز الأذان للصبح في آخر الليل؛ لأن أذان بلال لصلاة الصبح، لكن يظهر أن الأذان ليس لصلاة الصبح وإنما هو لتنبيه من يريد السحور حتى ينتبه للوقت الذي يتسحر فيه، ويتناول فيه طعامه، ويدل على ذلك أن في حديث آخر قوله عليه الصلاة والسلام: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم)، وفي حديث آخر: (لا يغركم أذان بلال من سحوركم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم

    وبتأمل هذه الروايات يظهر أن الأذانين في رمضان، إذ كان في رمضان أذن ابن أم مكتوم وقت الصبح وقبله أذان بلال لوقت السحور، هذا هو المتبادر، مع أن أكثر الشراح لم يتعرضوا لذلك، ولا أذكر أن أحداً ممن شرح الحديث نبّه على أن هذا في رمضان، ولكن سياق الروايات والأحاديث دليل على أنه في رمضان، فلم يذكر أنه في غير رمضان كان يؤذن مؤذنان للفجر، ففي قوله: (كلوا واشربوا) دليل على أنهم كلهم يصومون، وأما في غير رمضان فلا يصوم إلا أفراد منهم، وهنا أمرهم بقوله: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)، وفي الرواية الأخرى قال: (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم أي: لا يردكم أذان بلال من سحوركم، فهو يخاطبهم كلهم، ومعلوم أنهم لا يتسحرون كلهم للصوم إلا في رمضان، أما في غيره فإنما يتسحر أفراد منهم لا كلهم، وهذا يُرجح أنهم كانوا يخصون رمضان بمؤذنين في آخر الليل، وقد بينت ذلك الرواية الأخرى وهي قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل) لماذا؟ (ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم) أي: يستيقظ نائمكم للتسحر حينما يعلم أن وقت التسحر قد دخل، وينتبه قائمكم الذي يصلي ينتبه إذا سمع أذان بلال وعلم أن وقت السحور قد قرب، فيصلي الوتر وينهي صلاته ويشتغل بسحوره.

    (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم) أي: إذا قررتم السحور وسمعتم الأذان فلا تتوقفوا عن الأكل (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم). وقوله: (إنه يؤذن بليل) دليل على أنه يؤذن وقد بقي من الليل جزء إما ساعة وإما ساعتان وإما ساعة ونصف قبل طلوع الصبح.

    وفي بعض الروايات ليس بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا، وهذه الرواية أشكلت، إذ كيف لم يكن بين أذانهما إلا نزول هذا وصعود هذا؟ لو كان كذلك لما كان بينهما إلا دقائق، لكن لعل الجواب أنه إذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم ووقف على المئذنة وبقي إلى أن يطلع الصبح، وربما يبقى أكثر من ساعة، وكان رجلاً أعمى لا يبصر الصبح وإنما ينتظر أن يقول له الناس: أصبحت أصبحت، وفي بعض الروايات أنهم كانوا يقولون له: لا تصعد لا تصعد، يعني: حتى نفرغ من سحورنا، فهذا دليل على أنه لا يؤذن إلا بعدما يتبين الصبح، وبعدما ينظره من ليس صاعداً على سطح أو مئذنة، فينظره الذين على وجه الأرض فيقولون له: أصبحت أصبحت فيؤذن.

    فاستدل بهذا على استحباب أو تأكد الأذانين في رمضان، فيكون هناك مؤذنان: مؤذن آخر الليل للتسحر، ومؤذن وقت الصبح لصلاة الفجر، وإذا أذن واحد غاير بينهما، فجعل أذانه الأول مثلاً سريعاً، ومد في الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر؛ حتى يُعرف أن هذا أذان الفجر وهذا أذان السحور، فيُعرف بذلك أن الوقت وقت تسحر أو وقت صلاة؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يسمع الأذانين، ويفرق بينهما، ويميز بينهما، ومن ذلك أن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) وهذا هو الصحيح.

    التثويب في أذان الفجر الثاني لا الأول

    يوجد في بعض الروايات أنه كان يقول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول للفجر، وأشكلت هذه الرواية على كثير من الشراح، حيث اعتقدوا أنه يقولها في الأذان الأول الذي هو آخر الليل، ولكن هذا خطأ، إنما المراد بالأذان الأول أذان الصبح، والأذان الثاني هو الإقامة، فالإقامة تسمى أذاناً كقوله: (بين كل أذانين صلاة) أي: بين الأذان والإقامة، وقد عرفنا أنه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان هناك أذانان إلا في رمضان، أما في بقية السنة فليس هناك أذانان للفجر، أذان آخر الليل وأذان عند الفجر، وإنما يؤذنون لصلاة الصبح فقط، لكن في رمضان جعلوا مؤذنين: مؤذناً للسحور ومؤذناً للصلاة، هذا هو ظاهر هذه الأحاديث.

    فكون بعض المؤذنين في آخر الليل يقولون: الصلاة خير من النوم، ويجعلون الأذان طوال السنة؛ هذا لا دليل عليه، وأخذوا ذلك من تلك الرواية التي فيها أنه يقول: الصلاة خير من النوم، في الأذان الأول، وهذا يسمى التثويب، ولكنهم لم يفهموا أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي فيه الشفع، والأذان الثاني: هو الإقامة، فلا يغتر بمن جعل التثويب -وهو (الصلاة خير من النوم)- في الأذان الأول الذي في آخر الليل، وقد اعتمدوا على هذه الرواية: (كان يؤذن بليل) فقالوا: يؤذن بليل، يعني: للصبح. ولكن فاتهم أنه ليس للصبح وإنما هو للسحور.

    وقد روي أن بلالا بكر مرة بالأذان قبل أن يطلع الصبح، فلما أذن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع وينادي: ألا إن العبد نام؛ لينبه الناس على أنه أخطأ، فرجع ورفع صوته ممتثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع ما ركبه من الخجل والفشل حتى كان يقول: ليت بلالاً لم تلده أمه، يعني: لكونه ألزم بتلك المقالة، فرجع ونادى وقال: ألا إن العبد نام؛ لأن الناس اغتروا بهذا الأذان الذي هو قبل الصبح، فدل على أن من أذن قبل الصبح فإنه يعيد؛ وذلك لأن الأذان إنما يكون عند دخول الوقت؛ ليُعلم بذلك أن وقت الصلاة قد دخل، فيصلي المعذورون في بيوتهم، ويأتي المصلون إلى المساجد لأداء سنة الصبح ولأداء صلاتها جماعة.

    هكذا شرع هذا الأذان، فلا يجوز أن يكون آخر الليل، والذي يكون آخر الليل إنما هو أذان السحور كما عرفنا.

    وأما التثويب بقوله: (الصلاة خير من النوم) فلا يكون إلا في أذان الصبح؛ وذلك لأنه نداء لهذه الصلاة، وكأنه يقول: احضروا صلاة الفريضة فهي خير من النوم، فمن كان نائماً فلينتبه، فإن الصلاة التي هي الفرض أفضل لكم أن تأتوا إليها من أن تبقوا في مضاجعكم نائمين، فمناسبتها ظاهرة؛ ولأجل ذلك يقول المؤذن للفجر في السنة كلها: الصلاة خير من النوم.

    1.   

    شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)

    الحديث الثاني يتعلق بإجابة المؤذن، فالمؤذن يأتي بهذه الكلمات التي هي ذكر، فإذا أتى بها فنحن السامعون ننتبه إلى ما يقوله من الذكر، فنتكلم بمثل ما تكلم به، ونقول مثلما يقول؛ حتى يحصل لنا ثواب الذكر، روي أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا -يعني: يكونون أفضل منا- فقال: قولوا مثلما يقول) يعني: إذا كان المؤذن قد فضلكم بهذا الذكر فتابعوه حتى تشاركوه في هذا الذكر، إذا ذكر الله فاذكروا الله، ولا شك أن أذكار الأذان من جملة القربات، فالسامع يُجيب المؤذن، أي: يتابعه ويقول مثلما يقول حتى يحصل له أجر الذكر، وأجر هذه المتابعة.

    فالتكبيرات الأربع الأول يتابعه بها تكبيرة تكبيرة، والتكبير تعظيم لله سبحانه، فإذا قال: الله أكبر، فمعناه: أعتقد وأجزم بأن الله أكبر من كل شيء، وإذا اعتقد أن الله هو الكبير المتعال صغرت عنده الدنيا، وصغُر عنده الخلق كلهم، وصغرت عنده نفسه، واستحضر عظمة ربه في قلبه، فيكون هذا ذكراً وأي ذكر!

    وكيفية المتابعة أن يتبع كل كلمة بمثلها إلا في الحيعلتين فيجعل بدلها الحوقلة، ودليل ذلك حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم ، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال أحدكم: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: حي على الصلاة، فقال أحدكم: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة) يعني: إذا قال ذلك من قلبه معتقداً للشهادتين معتقداً لمعنى الحوقلة معتقداً للتكبير الأول والأخير مستحضراً لمدلول ذلك متقرباً إلى ربه بما تضمنته هذه الكلمات؛ دخل الجنة.

    ولا شك أنه سيحصل له تأثير في قلبه فإن الشهادة تجديد للعقيدة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فمعناه: أعتقد وأقر وأعترف بأن الإلهية الحقة إنما هي لله وحده، وسيحمله ذلك على أن يعبد ربه، وأن تعرض جوارحه عن الخضوع لغير ربه تعالى.

    وكذلك إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، اعترف برسالته، وحمله ذلك على اتباعه وطاعته، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكأنه يستحضر بأنه ليس له استطاعة على الحضور إلا إذا قواه ربه وأعانه، فكأنه يقول: لا أستطيع أن أتقرب ولا أستطيع أن أذهب إلا إذا أعطيتني قوة -يا ربي- وإعانة على الحضور أو على الذهاب، فأنت الذي تمنح القوة وتمنح القدرة، أنا العبد الضعيف المستغفر الذي ليس لي حول ولا قوة، أي: لا تحول لي من حال إلى حال، ولا قدرة لي ولا استطاعة إلا إذا أعنتني بذلك، هذا معنى الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وهي تقال بدل الحيعلة.

    إجابة المؤذن في التثويب والإقامة

    التثويب في أذان صلاة الصبح هو قوله: (الصلاة خير النوم)، فإذا سمعته فإنك تقول: صدقت وبررت، ولا شك أنك إذا قلت ذلك فأنت تصدقه بما يقول، فتكون بذلك قد أتيت بكلمة تحفزك على الاندفاع إلى هذه العبادة وهي الصلاة، وترك الكسل والنعاس والنوم، فتقول: صدقت وبررت.

    وإن قلت مثلاً: (صدق الله ورسوله، الصلاة خير من النوم)، وجمعت بينهما فذلك أيضاً ذكر وعبادة، أما الاقتصار على قول: الصلاة خير من النوم. فلا ذكر فيها ولا فائدة، وبعضهم يقول: إذا سمعت المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، فقل: الصلاة خير النوم، فهذه ليست بذكر، ولا فائدة فيها، بخلاف ما إذا قلت: (صدقت وبررت) ونحو ذلك.

    وفي الإقامة تتابعه في كلماتها؛ وذلك لأنها كلها ذكر إلا كلمة (حي على الصلاة، حي الفلاح) فتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلمة: (قد قامت الصلاة)، ورد في حديث أنه عليه السلام لما أقيمت الصلاة قال: (أقامها الله وأدامها) والحديث في إسناده ضعف كما في سنن أبي داود ، ولكن سكت عنه أبو داود واعتبره صالحاً للاستدلال، ولو كان في سنده مجهول أو ضعيف، فسكوته عليه يدل على اعتماده، فإذاً: لا مانع من أن تقول: أقامها الله وأدامها؛ وذلك لأن هذا دعاء، والدعاء يثاب عليه الإنسان، وأنت تدعو الله أن يقيم هذه الصلاة فيجعلها قائمة، بمعنى: ظاهرة معلنة، ودائمة، بمعنى: مستمرة دوام هذه الحياة، أي: ما دامت الدنيا باقية.

    فهذه دعوة يرجى إجابتها، فهو أفضل من أن تردد الكلمة وتقول: قد قامت الصلاة؛ لأنه لا فائدة في ذلك، فالمؤذن يخبر الحاضرين ويقول: قد قامت الصلاة فقوموا، فمعلوم أنه يخبرهم، وأنت لست تخبرهم، فلا فائدة في أن تقول: قد قامت الصلاة فقوموا.

    فالصحيح -إن شاء الله- أنه يدعو بقوله: أقامها الله وأدامها، وهذا أفضل من ترديدها، وعرفنا بذلك أنه يأتي بالكلمات التي فيها ذكر إلا الكلمات التي لا ذكر فيها، كقوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهذه يأتي بدلها بالحوقلة، وكذلك (الصلاة خير من النوم) يأتي فيها بالتصديق، (وقد قامت الصلاة) يأتي فيها بالدعاء لإقامة الصلاة وإدامتها.

    الأذكار التي تقال بعد الأذان

    وبعد ذلك يأتي بما تيسر من الأذكار، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمرنا بعد الفراغ من الأذان أن نأتي بما تيسر من الأذكار في قوله: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء)، وقال: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة)، ومن ذلك الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة التي ذكرها في قوله: (إن الوسيلة درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد)، فأمرنا بأن نقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة -وفي رواية: والفضيلة-، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وفي رواية: إنك لا تخلف الميعاد)، وإذا قال بعد ذلك مثلاً: (آمنت بالله وحده، وكفرت بالجبت والطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم)؛ فهذا تجديد للعقيدة، وإذا قال مثلاً: (حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى)؛ كان ذلك أيضاً من الأذكار، وإذا قال مثلاً: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً)؛ كان ذلك أيضاً تجديداً للعقيدة، وإذا دعا بعد ذلك بما تيسر من الأدعية التي فيها سؤال الله الرحمة أو المغفرة فيرجى قبول دعائه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756516684