وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السادس والعشرون من كتاب الجهاد والسير (باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على هرقل يدعوه إلى الإسلام).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف بـإسحاق بن راهويه- وابن أبي عمر -محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني -نزيل مكة- ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -واللفظ لـابن رافع - قال ابن رافع وابن أبي عمر : حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن الزهري -محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة -ابن مسعود المسعودي الهذلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه -أي: من فمه إلى فمه مشافهة- قال -أي: أبو سفيان : (انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)] وهذه المدة هي المعروفة بصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وكانت مدتها عشر سنوات عقدت في آخر العام السادس الهجري، ولكن المشركين نقضوا عهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، فغزاهم وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فهذه هي المدة التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين كفار قريش.
قال: [(انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
قال: [(فدفعه عظيم بصرى إلى
قال: [(فدعيت في نفر من قريش)]، وفي رواية: أن هؤلاء النفر كانوا ثلاثين رجلاً وخرج بهم أبو سفيان إلى الشام في تجارة. قال: [(فدخلنا على
وهذه مجالس الملوك في الغالب، أن الوجيه إذا دخل على ملك من ملوك الدنيا أجلسه بين يديه، وأجلس أصحابه من بعده ومن دونه.
وهناك حكمة استخدمها هرقل في وضع هؤلاء خلف أبي سفيان ؛ قال للترجمان الذي كان بينه وبين أبي سفيان : إني سائل هذا الرجل فإن كذب علي فأخبر هؤلاء أن يكذبوه، وإنكم لتعلمون أن أبا سفيان كان شريفاً عظيماً مرموقاً في الجاهلية وبين قومه، وإذا كان للرجل في قومه هذه المهابة وهذه المكانة فيصعب على أتباعه وقومه أن يكذّبوه وجهاً لوجه؛ ولذلك أجلسهم خلفه حتى إذا كذب كذبوه، ويسهل عليهم تكذيبه ولو بالإشارة؛ لأنه إن أجلسهم في مقابلة أبي سفيان ربما منعهم الحياء أو الخوف والمهابة أن يكذّبوه إذا كذب، فهذه الجلسة التي اختارها هرقل بحكمته وفطنته وذكائه فلا يبعد أن يكذّب هؤلاء القوم أبا سفيان إذا كذب.
قال: [(فدعا بترجمانه)] وكلمة ترجمان بفتح التاء أفصح من تُرجمان بضمها.
فقال أبو سفيان : (وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت). وفي رواية: (فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي كذباً لكذبت عنه).
قال: [(ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ -والحسب: هو النسب- قال: قلت: هو فينا ذو حسب)] وأبو سفيان ذو حسب، وأنتم تعلمون أن أبا سفيان يلتقي مع الجد الرابع للنبي عليه الصلاة والسلام عبد مناف ، فـأبو سفيان إذا نفى نسب النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه نفاه عن نفسه.
قال: [(هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟) هل كان محمد هذا منحدر من سلالة فيها ملك؟ قال: (قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي مرسل- قلت: لا)].
قال: [(ومن يتبعه: أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟)] ومعنى الأشراف هنا: أصحاب الكبر والوجاهة والنخوة.
فقال: [(قلت: بل ضعفاؤهم)] وهذا لا يعني: أن يكون هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأنه كان من أفضل أشراف العرب أتباع النبي عليه الصلاة والسلام كـأبي بكر وعمر.
قال: [(أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا. بل يزيدون قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟)] أي: كرهاً وبغضاً في الدين؛ لأنه ربما يخرج من الدين أحد مكرهاً، فينطق بكلمة الردة وهو مكره، وهو لا يخرج في حقيقة الأمر، لكن في الظاهر أمام الناس أنه قد خرج، وربما يخرج الرجل من الدين ليس من باب السخط والكره لهذا الدين وإنما لمصلحة ينالها، أو لمال يقصده كـعبيد الله بن جحش ، ما ترك الدين إلا لحظ من حظوظ الدنيا.
أي: لكن لا بد أن تعلم يا هرقل أننا الآن في مدة وعهد وأمان، ولا ندري ماذا يصنع فيها ربما يغدر، كأنه أراد أن يقول: ربما يغدر؛ لأن هرقل ضيّق عليه الخناق جداً، فما سأله إلا أسئلة صريحة واضحة لا تحتمل إلا نوعاً واحداً من الجواب إما سلباً وإما إيجاباً، فإنه ترك السلب مخافة أن يؤثر عنه الكذب، وأجاب بإجابات صريحة كلها في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، إلا هذه الثغرة: هل يغدر؟ قال: لا، وربما يغدر؛ لأننا في مدة بيننا وبينه، والعهد لم ينته فربما يغدر، والله تعالى عاقبهم بأنهم هم الذين غدروا ولم يغدر النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدروا صاروا محاربين، فحاربهم النبي عليه الصلاة والسلام وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
قال: [(فوالله ما أمكنني من كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه)] أي: ما ترك لي ثغرة أبداً أتنقّص فيها محمداً أو أسبّه أو أغلبه إلا هذا السؤال. وهذا يدل على ذكاء وفطنة وحكمة هرقل فقد كان ذكياً.
قال: [(وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم -ثم يقرر
قال: [(قلت: بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا)] لأنهم كانوا ينادونه في الجاهلية قبل الإسلام: محمد الصادق.
قال: [(فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله)] وهذا قياس أولوي: أنت تزعم أنه لم يكن يكذب في حديث الناس، أي أنه حينما كان يتكلم معكم لم يكن يكذب، واشتهر عنه الصدق في القول ونقل الأخبار، فإذا كان هذا على هذا النحو معكم وبينكم فسيدع الكذب على الله من باب أولى. أي: يستحيل أن يكون صادقاً مع الناس وكاذباًمع ربه.
قال: [(وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ -أي: كرهاً وبغضاً في هذا الدين- فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)] وكذلك الإيمان لا يمكن أن يخرج من القلب إذا تذوق القلب حلاوة الإيمان، إذا خالط بشاشة الإيمان انشراح الصدر تمكّنت منه ولا يمكن أن تخرج منه.
قال: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب). وفي رواية: (إذا خالطت بشاشته القلوب).
قال: [(وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ -أي: أتباع هذا الرجل- فزعمت أنهم يزيدون)] وهذا بيان عملي على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المؤمنين دائماً في زيادة، فهو مؤمن لأنه دائماً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فبدأ الإيمان نظرياً قولاً فحسب، فلما نزلت التكاليف والأعمال كانت ركناً من أركان الإيمان؛ ولذلك من مات في مكة قبل العمل مات على كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لم يكلف إلا ما قد بُلّغ، وبعد نزول التكاليف لا يمكن أن يُنسب كمال الإيمان وتمامه إلى أحد من المسلمين إلا أن يأتي بهذه الأعمال، فكلما ازداد المرء عملاً في الإيمان والإسلام ازداد به إيماناً.
قال: [(وكذلك الإيمان -أي: يزيد- حتى يتم)] أي: حتى يكمل ويكون تماماً، ولذلك بعد أن نزلت العقائد والتكاليف والأحكام والحلال والحرام والحدود والآداب والأخلاق وغير ذلك -قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] أي: تمت وكملت وصارت في قمة الكمال والتمام. فلو قيل: لِم لم تنزل هذه الآية في مكة في الزمن الأول، وإنما نزلت في مكة في عرفات في حجة الوداع، أي: في أواخر عهد النبوة عند كمال الشريعة وتمام الإيمان؟
الجواب: لأن الدين لم يكمل ولم يتم بعد. قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] أي على هذا النحو بعد كماله وتمامه.
قال: [(وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى -ليرفع الله تبارك وتعالى درجاتهم- ثم تكون لهم العاقبة)] والعاقبة للمتقين، لا يمكن أن تكون العاقبة للمجرمين أبداً.
لو قلنا: إن عمر الدنيا -كما جاء في روايات إسرائيلية- من لدن آدم إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام سبعة آلاف سنة، زادت أو قلت لا يهمني العدد؛ لأن العدد لم يثبت بدليل صحيح، لكن من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا ألف وأربعمائة سنة وعدة سنوات، فهل رأيتم أن العاقبة للكافرين أو المجرمين أو البطالين؟ الجواب: لا. لكننا نجد في كتابه وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام وفي سير الناس وأحوال البشرية منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا أن الحرب سجال بين الإيمان والكفر، مرة لنا ومرة علينا؛ لأن هذه سنة الله الكونية، فهذا باب عظيم جداً من ساحات الجهاد، فلو كان الكافرون هؤلاء على يقين من سنة الله الكونية أنهم مهزومون لما دخلوا في معركة قط، فهل يتوقع أن أدخل معركة وأنا على يقين بأنني الخسران؟ فأكون في هذه الحالة مجنون، لكني أدخل على أمل النصر والكسب والتمكين، وكذلك الكافر يدخل معي في القتال على أمل النصر والكسب والتمكين، فهذا الأمل هو الذي حرّك الفريقين فريق الإيمان وفريق الكفر، لكن لو كانت هذه القضية محسومة لدى الكافر بأنه مهزوم لا محالة لما دخل في حرب؛ لأنه يعلم النتيجة أنه خسران ومقتول، والنتيجة أنه مشرد، فلا يمكن أن يدخل في حرب، فلما كانت الحرب لحكمة عظيمة جداً بين أهل الإيمان وأهل الكفر سجالاً طمع كل من الفريقين في القتال، فكانت الحرب مرة لنا ومرة علينا.
قال: [(وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر)] ثم لم يعلق هرقل على غمز أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: ونحن معه في مدة لا ندري ماذا سيصنع فيها. وإنما اعتبرها جملة اعتراضية لا قيمة لها.
قال: [(وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله)] أي: أنه يقلد من ظهر قبله ثم قال: أنا نبي، فهل قال بهذا القول أحد قبله؟ لم يقل أحد بهذا. إذاً: هو لم يأتم بأحد قبله، بل هذا القول أنشأه هو ابتداء ولم يقلد فيه أحداً.
قال: [(ثم قال: بم يأمركم؟)] وهذا يدل على أن كل نبي أو رسول يأتي بأمر ونهي.
قال: [(قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف -وفي رواية-: فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، وأمركم بالصلاة والصيام والصلة والصدقة والعفاف)] هذا الذي أتاكم به محمد عليه الصلاة والسلام، إذاً: فلماذا يُنكر عليه شيء من هذا؟ إنه لم يأتكم بشر وإنما أتاكم بخير، وعلى رأس الخير توحيد الله عز وجل، ونبذ الشرك وعبادة الأصنام والأوثان، ثم هو يأمركم بالصلاة وهي طهرة ونقاء وزكاة للنفس.
ويأمركم بالزكاة، وهذا من باب العادة والعرف، وهو عمل اجتماعي عظيم في مواساة الفقير، ناهيك أنه شرع ودين.
وكذلك يأمركم بصلة الأرحام وصلة كل ما أمر الله به أن يوصل، وليس الأرحام فحسب، ويأمركم بالصدقة أو بالصدق وفي الحديث: (ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً). وهذا كلام جميل، ويأمركم بالعفاف والطهر والنقاء وعدم الغش والغدر والخداع والتمويه والتدليس هذا هو دين الله عز وجل، فهذا الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أمرهم به.
قال: [(إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج -أي: عندي علم من الكتب السابقة أنه خارج- ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه)] أي: أذهب إليه وأنتهي إليه بأمان وسلام وبغير قتل.
قال: [(لأحببت لقاءه)]، وفي رواية البخاري : (لتجشمت لقاءه). والتجشم: هو الكلفة وتحمل المشقة وبذل الجهد في الوصول إلى الغرض.
قال: [(ولو أعلم أني أخلص إليه)] أي: أنتهي إليه وأذهب إليه في أمان ولو بمشقة لتجشمت لقاءه.
قال: [(ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه)] أي ولو خلصت إليه لغسّلت قدميه، وهذا تبجيل واحترام للنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وليبلغن ملكه ما تحت قدمي)] أي: أن هذا الملك لا بد أن يصل إلى إيليا وإلى القدس والشام كلها؛ لأننا نجد في الكتب السابقة أن ملك نبي آخر الزمان سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذه البشارات بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم)] طبعاً هذا كلام على خلاف ما يقوله النصارى: باسم الأب والابن والروح القدس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول ذلك وإنما قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وفي هذا: استحباب أن تبدأ الرسائل والمكاتبات بين الخلق بهذه البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال: [(من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
قال: (من محمد رسول الله إلى
قال: [(سلام على من اتبع الهدى)] ولم يقل: السلام عليكم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهانا أن نبدأ المشركين بالسلام، وإذا قابلناهم في الطريق قال: (فاضطروهم إلى أضيقها). أي: حافة الطريق. المسلم يمشي في وسط الطريق، وذلك حينما تكون دولة إسلامية لها عز وسيادة وريادة فالمسلم يمشي في وسط الطريق، والكافر يمشي على حافة الطريق، فإذا كان الأمر كذلك (فاضطروهم إلى أضيقها)، بل الكافر حينما يجد إسلاماً صحيحاً فهو في نفسه يذهب إلى أضيق الطريق.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى)؛ لأنه في الحقيقة لم يسلم؛ وكأنه يقول: فإن كنت متبعاً للهدى فسلام عليك وإلا فلا سلام ولا كلام، فهذا من باب الخبر وليس من باب إلقاء السلام.
ومن قبل قسّمنا المكاتبات والرسائل إلى أقسام:
المقدمة. الغرض. الخاتمة. فالمقدمة: فيها البسملة والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يذكر من أرسل ومن أُرسل إليه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (من محمد رسول الله إلى
ويستحب أن يشاطره الأدب، أي: أنه لا يقول: من فلان الفلاني العالم الفاضل الشيخ إلى محمد بن عبد الله..!
فإن المرسل إليه أول ما يبادئ الرسالة ويستطلع هذه الكلمات الطيبة ينشرح صدره للرسالة بمجرد قراءته العنوان، إلا أن تكون الرسالة في مظروف فتقول مباشرة: إلى فلان.
قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام)] أي: بدعوة الإسلام. وفي رواية: (بداعية الإسلام) وداعية الإسلام هي كلمة التوحيد. أي: إني أُطالبك بتوحيد الله عز وجل ونبذ الكفر والشرك.
قال: [(أسلم تسلم)] استخدم السلم في أمرين متقابلين أسلم يا هرقل ! تسلم من الإثم، وإن أسلمت يا هرقل ! سلمت من الحرب والقتل والسبي والتشريد وأخذ الأموال والأرض. (أسلم تسلم) من كل أذى ومن كل مكروه، كما يقول الشاعر: سميته (يحيى ليحيا). أي: أنه سماه يحيى ليعيش. فهذا من الجناس اللذيذ.
قال: [(أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين)] المرة الأولى أنه كان تابعاً لعيسى عليه السلام ولا شك أنه مأجور على تبعيته لعيسى، ولو أنه ترك شريعة عيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام مع إيمانه بعيسى واتبع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام لكان له الأجر مرتين: أنه آمن بعيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام.
فالتفسير الأول لقوله: (وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين) مرة لإيمانك بعيسى ومرة لإيمانك بمحمد عليه الصلاة والسلام.
والتفسير الثاني: (يؤتك الله أجرك مرتين) أي: أجرك أنت باعتبارك رئيساً وزعيماً عظيماً في قومك، ويؤتيك أجر من أسلم بإسلامك: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
قال: [(وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)] وفي رواية عند البخاري : (اليريسيين) بالتسهيل والياء.
قوله: (وإن توليت) أي: وإن كفرت وعاندت وبقيت على ضلالك فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين، وهم الزراع والفلاحين؛ لأن هذه المملكة الرومية كانت معروفة بالزراعة ولا تزال معروفة بالزراعة إلى يومنا هذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينبهه ويقول له: إذا أسلمت أسلم من وراءك فتؤجر في نفسك وفيمن وراءك، وإن بقيت على كفرك فتأثم بذلك وتأثم مرة أخرى بإثم الأريسيين الأتباع.
ثم قال له: [(و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64])].
أرسل النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآيات في رسالة إلى هرقل وهو يعلم يقيناً أنه كافر، ومع هذا أرسل إليه ببعض آي القرآن الكريم، وهو يعلم أن هذه الرسالة يأخذها هرقل بيده وهو كافر، وأجاز ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، بل أرسل غير ما رسالة إلى غير ما زعيم أو رئيس في الجاهلية يدعوه إلى الإسلام وكتب له في الرسالة بعض آي القرآن الكريم، وهذا يدل على أخذ الكافر بعض آيات القرآن الكريم ضمن صحيفة أو كتاب بيديه ولا حرج في ذلك. واستشهد بعض أهل العلم أن هذه الآية دليل على جواز قراءة الجنب والحائض القرآن الكريم من باب أولى. إذا كان هذا جائزاً للكافر فمن باب أولى أن يجوز للمسلم وإن قام به العذر لجنابة أو حيض. وهذا مذهب الظاهرية خلافاً للجمهور الذي منع من ذلك.
قال: [(فلما فرغ من قراءة الكتاب -أي:
قال: [(وأمر بنا فأُخرجنا)] يقول أبو سفيان حينما هاج الناس كالتيوس في زرائبها أمر هرقل بإخراج أبي سفيان ومن معه من هذه الدسكرة.
قال: [(فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة)] ومعنى (لقد أمر) لقد عظم وارتفع، كقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] أي: عظيماً.
يقول: ابن أبي كبشة تنويهاً بالنبي عليه الصلاة والسلام وإشارة إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن أبا كبشة هو جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، الجد الرابع أو الخامس، فعرّض أبو سفيان بهذا الكلام.
قال: لقد عظم أمر ابن أبي كبشة.
قال: [(إنه ليخافه ملك بني الأصفر)].
وكأنه يقول: ومن عظمة أمر ابن أبي كبشة أن هرقل يخافه مع هذا الملك الذي هو فيه وأبهته، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام في مكة في وسط جبال مع بعض أصحابه.
وتدور الأيام، فيصبح أناس في الجبال وفي الكهوف مطمئنين بذكر الله عز وجل وسعداء، وأمرهم يدور بين إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، والذين في الممالك يخافون. وهذه سنة.
قال: [(لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -أي: عظم- إنه ليخافه ملك بني الأصفر. قال: فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر)] أبو سفيان يقول: بعد أن رأيت هرقل يخاف أيقنت أن أمر محمد هذا لا بد أن يتم ويظهر. قال: [(حتى أدخل الله علي الإسلام)]، فحينما أسلم أخبرهم بالقصة هذه كاملة.
قال: (قال ابن الناطور ) وابن الناطور -لقب معناه: حارس البستان، ولعلها كلمة فارسية- (وكان صاحب إيليا). أي: أن ابن الناطور كان أميراً على بيت المقدس، وكان صديقاً حميماً لـهرقل ، فـهرقل كان زعيم الروم على حمص، والحارث بن أبي شمر كان على حوران، وابن الناطور كان على القدس، وكان ابن الناطور أسقفاً على نصارى الشام -أي: زعيماً وسيداً- يحدث: أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوماً خبيث النفس -أي: مهموماً مغموماً. وإيليا: كلمة عبرية معناها: بيت الله، فذهب هرقل من حمص إلى بيت المقدس ليزور ابن الناطور ، فنام ثم قام من النوم خبيث النفس.
قال: (أصبح يوماً خبيث النفس) وهذا خبر عن حال الغير، وهل يجوز إنسان أن يقول عن نفسه: خبثت نفسي؟ أو إذا سألته تقول: ما لك؟ يقول: خبيث النفس أو يقول المسلم: أنا نفسي خبيثة؟ الجواب: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي).
قال: فقال بعض بطارقته: (قد استنكرنا هيئتك). قال ابن الناطور : وكان هرقل حزاء -أي: أنه كان منجّماً يعرف الأخبار عن طريق النجوم.
فقال لهم حين قالوا له: قد استنكرنا هيئتك. قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر). وفي رواية: (مُلك الختان قد ظهر).
وهذا يدل على أن العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يختتنون. أي: أن الختان ليست عادة فرعونية.
قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟).
أي: أنه يريد أن يعرف من على وجه الأرض يختتن؟
قال: (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود).
وكأنهم يقولون له: النصارى لا يختتنون، إنما اليهود من عادتهم الختان. قالوا: (فلا يهمنك شأنهم).
أي: يا هرقل ! لا يهمك، وهذه هي بطانة السوء التي تستدرجه. قالوا: لا تخف. الذين يختتنون على وجه الأرض كلها اليهود. قالوا: (واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود).
وكأن هذه نصيحة يقولون له فيها: ابعث رسائل للولاة والأمراء والملوك من الباطن أن يتتبعوا رعاياهم فإن وجدوا يهودياً قتلوه.
قال: (فبينما هم على أمرهم) أي: وهم يتداولون الكلام. قال: (أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان) والملك هو الحارث بن أبي شمر الغساني أرسل برجل يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: أمختتن هو أم لا؟).
وحينما أتى شخص من مكة لحق به ملك غسان، وأرسله إلى حمص عند هرقل ، فدخل عليه فقال هرقل : أريد أن أنظر أصحاب مكة: هل هم يختتنون أم لا؟
قال: (فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن). إذاً: الملك والرئاسة والنبوة الجديدة هذه أتت من جزيرة العرب.
قال: (وسأله عن العرب: أهم يختتنون؟ قال: نعم. فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان اسمه ضغاطر ، وكان نظيره في العلم) أي وكان ينظر في النجوم.
قال: (وسار هرقل إلى حمص) وحمص فتحها أبو عبيدة بن الجراح .
قال: (فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي).
أي: أن هرقل أرسل رسالة لـضغاطر وقال له: قد رأيت بعد نظري في النجوم أن نبي هذه الأمة العربي قد ظهر، فما رأيك: هل توافقني على ذلك أم لا؟
قال: ثم انطلق، وفي أثناء سيره إلى وجهته أتاه كتاب ضغاطر ، وقد نظر في النجوم مثله فوافقه على أن ملك هذه الأمة قد ظهر، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص).
والدسكرة: هو القصر العظيم وحوله بيوت قد فتحت أبوابها في دهليز هذا القصر.
قال: دعا هرقل الناس جميعاً العظماء وغير العظماء في هذه الدسكرة وكان بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش -أي: كالبهائم- إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان -أي: أيس من إيمانهم بهذا النبي وفقد الأمل- قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم).
وهو في حقيقة الأمر كان يدعوهم إلى الإسلام، فلو أن هؤلاء وافقوه لكان هو أول من أسلم، لكنه حينما رأى نفرتهم وحيصتهم خاف على نفسه وعلى ملكه وعلى حياته.
وفعل ضغاطر في روميا نفس الذي فعله هرقل في الشام، فحاصوا عليه حيصة عظيمة لم يعبأ بها ضغاطر فقاموا عليه وقتلوه، فمات على الإيمان والتوحيد.
فقال هرقل لهم: (قد اطمأننت إلى تمكّن الكفر من قلوبكم).
وقال: (إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل ).
أي: أن الكفر كان آخر شيء من هرقل ، لأنه قد بدت منه بوادر تشكك في بقائه على الكفر، فهو الذي قال: ولو أني أعلم أني أخلف إليه لتجشمت لقاءه، ولو أني خلصت إليه لغسلت عن قدميه. وهذا لا يقوله إلا رجل يحترم محمداً عليه الصلاة والسلام.
ولذلك حينما أراد أن يخدعه نفى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الشبهة من قلوب أصحابه، وأخبرهم أنه باق على كفره. قال لهم: (كذب
قيل: بنو الأصفر هم الروم، يقول ابن الأنباري : سموا ببني الأصفر؛ لأن جيشاً من الحبشة غلب على بلادهم -أي: على الروم، وهؤلاء الروم بيض- فوقع رجال الحبشة على نساء الروم فأتى الولد بين السواد والبياض أي: أصفر، فلُقّبوا بعد ذلك ببني الأصفر.
أما أبو إسحاق بن إبراهيم الحربي فقال: كلام ابن الأنباري هذا مردود ومرفوض، وإنما هم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
قال القاضي عياض : وهذا أشبه من قول ابن الأنباري . أي: أن هذا أقوى وأصح من قول ابن الأنباري .
فأنتم تعلمون أن دحية الكلبي أخذ هذا الكتاب، وذهب من مكة إلى هرقل في الشام، وهرقل علم أن خبر الواحد يحتج به في العقائد والإسلام، فـهرقل يعتقد وجوب العمل بخبر الواحد، والمعتزلة المنسوبون إلى الإسلام لا يعتقدون ذلك.
قال الإمام النووي : ومن فوائد هذا الحديث: (وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة، وهذا إجماع من يُعتد به، أن خبر الواحد يجب الاحتجاج به في العقائد والأحكام على السواء).
ولذلك هرقل لم يقل له: لا يا دحية ! نحن لن نقبل منك هذا الكلام؛ لأنك واحد وخبرك خبر واحد، وإنما أقرّه واحترمه. وفي بعض الروايات: أن هرقل حينما قرأ رسالة النبي عليه الصلاة والسلام طبّقها ووضعها على رأسه، ثم وضعها في صندوق من ذهب، وظل هذا الصندوق يتوارثه الأجيال.
والمراد بالحمد لله: ذكر الله تعالى.
أي: حينما يكون هناك حرب مع دولة كافرة فليس لأهل الإسلام أن يدخلوها بالقرآن الكريم مكتوباً.
ومنها: (أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن). أي: ضمن كتاب.
قال أكثر العلماء: يستحب أن يبدأ بنفسه.
ومنها: (التوقي في المكاتبة، واستعمال الورع فيها، فلا يُفرط ولا يفرّط). لا يظل يثني ويطري ويمدح ويغالي في ذلك سواء في نفسه أو في غيره، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلى هرقل عظيم الروم) فلم يقل: ملك الروم؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة، ولم يقل: إلى هرقل فقط، وإنما قال: عظيم الروم؛ تأليفاً لقلبه، وامتثالاً لقول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44].
ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز: (أسلم تسلم).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر