والخطبة بعمومها تضيف أحكاماً هامة، ومعرفة بالحج يحتاجها كل المسلمين، ودعوة إلى استحضار التاريخ العريق لهذه المشاعر، واستلهام الدروس والعبر من ذلك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بما بطن وما ظهر، سبحانه وبحمده، تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه من البشر، ذو المجد الأغر، والوجه الأنور، والجبين الأزهر، والفضل الأظهر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما اتصلت عينٌ بنظر، وأذنٌ بخبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعــد:
فيا إخوة الإسلام: ويا حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإنها خير زادٍ يبلغكم إلى دار السلام، وهي السبب لتكفير الذنوب والآثام: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].
عباد الله: حجاج بيت الله! اشكروا الله جل وعلا على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، حيث تعيشون هذه الأجواء الروحانية العبقة، والنفحات الإيمانية المباركة، بعد أن من الله عليكم بالوقوف على صعيد عرفة ، والمبيت بـمزدلفة ، والإفاضة إلى منى ، والقيام بما تيسر من أعمال يوم النحر؛ من الرمي والذبح والحلق والطواف، فيا لها من مواقف عظيمة، وأعمالٍ جليلة! حيث تسكب العبرات، وتتنزل الرحمات، وتقال العثرات، وتحل الخيرات والبركات، وتمحى الذنوب والسيئات، اشكروا الله جل وعلا أن بلغكم هذا اليوم العظيم، وهذا الموسم الكريم.
لك الحمد يا رب الحجيج جمعتهم ليوم طهور الساح والعرفات |
واعلموا -رحمكم الله- أن يومكم هذا يومٌ مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين حجاجاً ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى ، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم، اتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، فهنيئاً لكم يا حجاج بيت الله الحرام، ولتهنئي يا أمة الإسلام في هذا اليوم الأغر بحلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على أمة الإسلام بالخير والنصر والعز والتمكين، ويا بشرى لكم رعاكم الله حيث تعيشون أجواءً روحانية، ولحظاتٍ إيمانية يتوجها وسام شرف الزمان والمكان، فيومكم هذا -يا عباد الله- غرة في جبين الزمان، وابتسامة في ثغر الأوان، كيف وقد جمع الله لكم فيه عيدين في عيد، إنه يومٌ تثمر فيه أغصان القلوب، وتتحات فيه أوراق الذنوب، وتجتمع الخلائق تدعو علام الغيوب، وتسأله رفع الدرجات، وتنزل الخيرات، ونجاح الطلبات والرغبات.
فيه يتذكر الحاج تاريخنا الإسلامي المجيد على ثرى هذه الربى والبطاح، ألا ما أشد حاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى أخذ الدروس والعبر من هذه المناسبة الإسلامية العظيمة! لتستعيد مجدها بين العالمين، وتحقق بإذن الله العز والنصر والتمكين.
في هذا اليوم المبارك يتذكر المسلم عبق الذكريات الخالدة، وشذا الانتصارات الماجدة، ويسعى في تحقيق الآمال الواعدة، والأماني الصاعدة، وهو يعيش هذه الأجواء العبقة.
وبعد الطواف يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، ويحسن التحلل الثاني بثلاثة أمور هي:
رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، فإذا فعل الحاج هذه الأمور الثلاثة حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء، وإن قدم أو أخر شيئاً منها فلا حرج إن شاء الله، لأنه صلى الله عليه وسلم ما سأل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: {افعل ولا حرج }.
ضيوف الرحمن: حجاج بيت الله الحرام! الواجب عليكم أن تبيتوا الليلة بـمنى ، اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويوم غدٍ إن شاء الله هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عز وجل فيها: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[هي أيام التشريق ]].
وقال فيها صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل } خرجه مسلم وغيره.
فأكثروا -رحمكم الله- من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة امتثالاً لأمر ربكم تبارك وتعالى، واستناناً بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتفاءً لأثر سلفكم الصالح، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة، وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بـمنى فيكبر الناس بتكبيره، فترتج منى كلها تكبيراً: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلا.
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل: {خذوا عني مناسككم } في هذه الأيام المباركة رمي الجمار الثلاث بعد الزوال مرتبة؛ الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى وهي العقبة، كل واحدةٍ بسبع حصياتٍ متعاقبات يكبر مع كل حصاة، والمبيت بـمنى واجبٌ من واجبات الحج، وينبغي للحجاج أن يلازموا ذكر الله وطاعته مدة إقامتهم بـمكة المكرمة .
ألا وإن مما يؤسف له تساهل بعض الحجاج هداهم الله بشيء من أعمال المناسك كالرمي والمبيت وغيرها، فيوكلون من غير ضرورة، بل قد يسافر بعضهم إلى بلده ولا يبيت ولا يرمي، وذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتساهلٌ في تعظيم شعائر الله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وإذا رمى الحاج وبات بـمنى في اليومين الأولين من أيام التشريق جاز له أن يتعجل ويخرج من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، يقول سبحانه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فإذا أراد الحجاج العودة إلى بلادهم وجب عليهم الطواف بالبيت طواف الوداع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض } متفق عليه، وإن أخر طواف الإفاضة وطافه مع الوداع أجزأه ذلك ولا حرج إن شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله واتقوا الله يا حجاج بيت الله، أتموا مناسككم كما أمركم بذلك ربكم سبحانه، بقوله جل وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] واحتسبوا الأجر عند ربكم، واختموا أعمالكم بالاستغفار والذكر والتوبة: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:199-202].
أخي الحاج المبارك: تفقه في أحكام المناسك واسأل أهل العلم عما يشكل عليك قبل وقوعك فيه.
أخي الزائر الكريم: يا من عزمت على زيارة مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم! هنيئاً لك زيارة طيبة الطيبة، مأرز الإيمان، ومهاجر المصطفى من ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، الحبيب المجتبى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لكن عليك أن تعلم أن من أراد الزيارة فعليه أن يقصد المسجد النبوي الشريف في أي وقت للصلاة فيه، ومن ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما بأدب واحترام، وخفض صوت، ولا يلزم أن يصلي فيه أوقاتاً متعددة كما يتوهمه بعض العامة، ولا يجوز التمسح بالحجرة النبوية أو غيرها من الأماكن كما يفعله بعض الناس هداهم الله، فينبغي للحجاج أن يلتزموا في كل أفعالهم سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحذروا كل الحذر من الأمور المبتدعة والمحرمة في الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } خرجه مسلم في صحيحه وبذلك يكون حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً ويتحقق لهم وعد الله بإعادتهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.
أما بعــد:
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الله يا حجاج بيت الله، واشكروه جل وعلا على سوابغ آلائه، والهجوا بالثناء له على ترادف نعمائه، وكبروه سبحانه، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ولاشك أن مناسبة الحج لبيت الله الحرام فريضة تؤكد على جوانب عظمة الإسلام، وسماحة الشريعة، وعراقة هذه الحضارة ورعايتها لحقوق الإنسان أكمل رعاية وبراءتها من كل ما توسم به عبر الحملات الإعلامية المغرضة بالعنف والإرهاب، يا لها من فريضة تدعو إلى الوحدة والتضامن، والحوار والتعاون، وسبق هذا الدين وحضارة المسلمين للعالمية الحقة بعدما ظهر عوار العولمة المفضوحة التي تساوم على ثوابتنا ومبادئنا وقيمنا.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! افتحوا صفحة المحاسبة والمراجعة والتقويم لأعمالكم واعلموا أن هذه المناسبات ليست تغييراً مؤقتاً في حياة الناس، بل هي تغيير شامل في جميع مناحي الحياة، فيعود الحاج أحسن مما كان عليه، وتلك أمارة بر الحج وقبوله التي يسعى إليها الحجاج ويرومونها، فاستقيموا على الأعمال الصالحة وجددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بالقبول والتوفيق بمنه وكرمه إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على سيد البشر، المصطفى الأغر، الشافع المشفع في المحشر، فقد ندبكم إلى ذلك المولى تبارك وتعالى وأمر، في أفضل القيل وأصدق الخبر، ومحكم الآيات والسور، فقال سبحانه قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وسلم الحجاج والمعتمرين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفره جزاء ما قدموا ويقدمون لحجاج بيتك الحرام، اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم يا حي يا قيوم، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك، وتطبيق سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان ، اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم لا تمكن فيه لليهود الظالمين والصهاينة الغاشمين يا رب العالمين!
اللهم تقبل من حجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم اجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين، مأجورين غير موزورين يا ذا الجلال والإكرام!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر