-
تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما... )
يقول الله تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
لما أوجب الله سبحانه وتعالى في الآيات المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة ناسب أن يذكر بعدها في هذه الآية حكم أخذ المال على سبيل السرقة، وأنه يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً. فقال عز وجل: (( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )) السارق والسارقة (أل) فيهما موصولة مبتدأة، وصلتها هي الصفة الصريحة، أي: (سارق وسارقة) ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره فقال تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فالفاء دخلت في الخبر لشبه هذا الأسلوب بأسلوب الشرط، أي: من سرق فاقطعوا يده. أو من سرقت فاقطعوا يدها. ومعنى (أيديهما) أي: يمين كل منهما من الكوع، والكوع هو العظم الذي يلي الإبهام.
وبينت السنة أن الذي يقطع فيه ربع دينار فصاعداً، وهذا هو النصاب، قال صلى الله عليه وسلم: (
لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وإذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، وبعد ذلك يعزر بما يراه الإمام من العقوبة، روى ذلك
البيهقي في سننه و
أبو يعلى .
وقوله تعالى: ( جزاء بما كسبا ) جزاء نصب على المصدر ( نكالاً ) يعني: عقوبة لهما.
( والله عزيز ) أي: غالب على أمره ( حكيم ) أي: في خلقه.
-
تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح...)
قال تعالى:
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39].
قوله تعالى: (( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ )) يعني: من رجع عن السرقة (( وَأَصْلَحَ )) يعني: أصلح عمله (( فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) عبر بهذا لما تقدم من سقوط حق الله تبارك وتعالى، فلا يسقط بتوبته حق الآدمي من القطع ورد المال، نعم بينت السنة أنه إن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، فما دامت القضية لم تبلغ الإمام فإنه لا يقع الحد، أما إذا بلغت الإمام فلا سبيل أبداً إلى إيقاف تطبيق الحد عليه، وعليه الإمام
الشافعي .
-
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض..)
-
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ...)
قول القاسمي رحمه الله تعالى
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى:
(والسارق) أي: من الرجال (والسارقة) أي: من النساء (فاقطعوا أيديهما) يعني: يمين كل منهما، والمقطع الرسغ -كما بينته السنة- عند الكوع.
(جزاء بما كسبا) أي: يقطع الآلة الكاسبة؛ لأنها هي التي سرقت فهذه اليد الخائنة هي التي سرقت، فلذلك يجزى بأن يُقطع أو يبتر هذا العضو الخبيث.
(نكالاً من الله) أي: عقوبة من الله على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة، فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال.
(والله عزيز) أي: مع عزته الموجبة لامتثال أمره لا يبالي بعزة من دونه.
(حكيم) أي: في شرائعه. فيختل أمر النظام العالمي بمخالفة أمره؛ إذ فيه نفع عام للخلائق.
قول أبي السعود رحمه الله
يقول
أبو السعود : لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال -يعني: يمكن أن تقع المرأة في السرقة كما يقع الرجل- صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة؛ لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.
لأن الحكم حتى لو كان بذكر السارق دون السارقة لشمل النساء، لكنه هنا فصل وبين وذكر النساء بعدما ذكر الرجال لمزيد الاعتناء؛ وللمبالغة في الزجر عن السرقة في حق الطرفين، ولما كانت السرقة في الرجال غالبة لقوتهم بدأ بالسارق، حيث قال تعالى: (والسارق والسارقة) ؛ لأن الرجل أقوى، فلذلك يستطيع أن يستغل قوته في السرقة، ثم إن الرجل هو الذي يلي النفقة وتكاليف الحياة والعيش، فهو المسئول عن الإنفاق والمال، فلذلك الغالب أن الرجل هو الذي يسرق، أما في آية سورة النور فقال عز وجل:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2] وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا التقديم السبب فيه هو أن هذا الأمر في النساء أقوى، وهذا غير صحيح في الحقيقة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أحل للرجل أربع نسوة، فالأمر بالعكس، لكن لما كانت الفتنة دائماً أو غالباً في هذا الباب إنما تقع من جهة المرأة قبل الرجل، ولأنها تفرط في الاحتشام وغير ذلك فتقع بسببه الفواحش قدم تبارك وتعالى المرأة في قوله: ( والزانية والزاني ).
وقد ذكروا أن
أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء انتقد فيه نصاب السرقة بكون ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فهذا الإشكال الذي أورده من عدوانه على حدود الله تبارك وتعالى.
فيقول: هذه اليد في حالة الدية والقصاص ديتها خمسمائة دينار، فكيف تكون قيمتها في الدية خمسمائة دينار ثم في مقابلة سرقة ربع دينار -الذي هو النصاب- تقطع في مقابلة هذا المبلغ الهين؟!
فأجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي
عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. فلما خانت هانت فقطعت في ربع دينار، فبسبب هذه الخيانة صارت قليلة القيمة بهذا القدر.
ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها؛ لأن الناس إذا عرفوا هذه القيمة الغالية لليد من حيث الدية فإنهم لا يجنون ولا يعتدون عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال عز وجل: (( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهما، فناسب أن يقطع ما استعان به في ذلك.
فهذا هو حكم الله تبارك وتعالى، وهذا هو حد الله عز وجل، وإذا كنا نقول: إن هذا حكم الله وهذا الذي أنزله الله في القرآن الكريم فنقطع بأن أي إنسان حاول أن يتناول هذا التشريع بالإزدراء أو وصفه بالوحشية أو القسوة أو غير ذلك من الصفات المنفرة فإنه وإن كان كافراً يزداد بذلك كفراً، وإن كان من المنتسبين للإسلام فلا شك في ردته، لا شك في ردته وخروجه من ملة الإسلام، فأي إنسان يصف حكم الله عز وجل بهذه الأوصاف الشنيعة فهو مرتد خارج عن الملة؛ لعدوانه على حكمة التشريع، ولمصادمته هذا النص الصريح في القرآن الكريم.
قول ابن تيمية رحمه الله
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ .. ، إلى آخر الآية.
ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار تأخيره لا بحسب ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله، وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله عز وجل بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله.
وقد نهى الله تعالى عن أن إنساناً رأفة في حدود الله فقال:
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، فهذا الذي يوصف بأنه رحمة أو رأفة أو مشاعر إنسانية أو غير ذلك إذا كان فيه مصادمة لشرع الله فهذا منهي عنه، مثل إقامة حد الزنا، فينبغي أن يكون هناك قوة في إقامة حد الله عز وجل، وعدم تردد أو ضعف أو شفقة؛ لأن هذا هو من صالح البشر، ولذلك قال عز وجل:
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، ومثل الرجل الذي تأخذه رأفة بأولاده في أن يوقظهم لصلاة الفجر والجو بارد أو غير ذلك من الأعذار، فيجد في قلبه رأفة في دين الله، فهنا يقال له:
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] فهذا من الرأفة المحرمة والممنوعة، وليس من الصفات التي يحبها الله، وليس من الرحمة التي يحبها الله عز وجل أن تكون في قلوب عباده، فذلك منهي عنه مادام على حساب الدين، فلا ينبغي أبداً أن تأخذ الإنسان رأفة.
وكذلك التوسط بين أهل المعاصي والعشاق وغير ذلك، بحجة أن هذا نوع من الرأفة بهم، فهذا -أيضاً- ليس رأفة، بل هو تعاون على العدوان وعلى حرمات الله تبارك وتعالى.
فأعداء الإسلام من المنافقين والزنادقة الذين يزعمون الإسلام ثم يطعنون في الشرائع -كما يحصل من المنتسبين لأعضاء لجنة حقوق الإنسان في كل البلاد خاصة في مصر- نسمع منهم كلاماً تقشعر منه الجلود، ولا يصح بعده الانتساب للإسلام أبداً، حيث يطعنون في العقوبات والحدود، ويطعنون في بعض البلاد التي تطبق بعض الحدود وإن كان تطبيقاً غير كامل، ويطعنون في الإسلام من خلال الطعن في هذه الدول على أن هذه عقوبات بدنية أو مادية، ويحتكمون إلى قوانين بشرية وما يسمى بمواثيق حقوق الإنسان الظالمة.
يقول
شيخ الإسلام : فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده -كما تفعل به الأم رقة ورأفة- لفسد الولد، والغالب أن الأمهات لا يحزمن في تربية الأولاد، فإذا كان الأب غير جازم ولم يضع الشدة في موضعها فسد الولد بالتدليل الزائد إذا ترك لأمه، وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحاً حاله، فالأب إذا عاقب ولده ليس قسوة عليه، وليس إشفاء لغليله أو غيظه، وإنما لإصلاحه، فالشدة هي نوع من العلاج وليست لشفاء الغيظ.
يقول: وهو بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجامة، وقطع العروق ونحو ذلك، بل في منزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة، فكذلك شرعت الحدود لأجل هذه النية، ولأجل تحصيل هذه المصالح.
ثم يقول تبارك وتعالى:
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وإظهار الاسم الجليل فيه إشعار بعلة الحكم، وتأييد استقلال الجملة في قوله: (( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )).
وكذا في قوله عز وجل:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:40].
والمراد الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه، فيقول: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والابتلاء الباهر المستلزمين للقدرة التامة على التصرف في نيتيهما وفيما فيهما.
وقوله تعالى: ( يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ) قدم التعذيب لأن السياق هنا في الوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر.
( والله على كل شيء قدير ) ومنه التعذيب والمغفرة.
-
تفسير قوله تعالى: (أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...)
-
تفسير قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت...)
يقول تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].
قوله تعالى: (( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )) بضم الحاء وسكونها، أي: (السحُت) أو (السحْت). والمقصود الحرام، كالرشوة.
(( فَإِنْ جَاءُوكَ )) يعني: لتحكم بينهم (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فهنا تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: (( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ )) فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا، وهو أصح قولي
الشافعي ، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب الحكم بينهم إجماعاً.
لكن لو أقاموا الحد فيما بينهم فمرجعه إلى الإمام كالحكم الأول، وهو أن الإمام مخير كما في الآية ( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) على وجه التخيير، ثم نسخ بقوله: (( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ )) يعني: ما داموا ترافعوا إلينا فيجب أن يكون الحكم بينهم لا على سبيل التخيير وهو أصح قولي
الشافعي ، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب ذلك إجماعاً.
وقوله تعالى: (( وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ )) يعني: بينهم (( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ )) أي: بالعدل (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) العادلين في الحكم.
ومن التأويل أن يفسر
السيوطي قوله تعالى: ( إن الله يحب المقسطين ) بالإثابة.
لكن هذه من صفات الله تبارك وتعالى.
-
تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله...)
يقول تعالى:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43] .
قوله تعالى: ( وعندهم التوراة ) أي: التي جاءهم بها موسى عليه السلام.
(( فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ )) يعني: بالرجم. وهو استفهام تعجيب، أي: لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ) فهم حينما تحاكموا إليك لم يقصدوا أن يعرفوا الحق؛ لأن الحق وحكم الله موجود عندهم في التوراة، وهو الرجم، لكن هم ما أتوك إلا ليبحثوا عن مخرج، فلعلك تحكم بينهم بما هو أهون من حكم الله المذكور في التوراة وهو الرجم.
(( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ )) يعني: يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم (( مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ )) أي: من بعد ذلك التحكيم (( وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ))
-
تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور...)
-
تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس...)
قال عز وجل:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .
قوله تعالى: ( كتبنا ) يعني: فرضنا (عليهم فيها) أي: في التوراة ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) أي أن النفس تقتل بالنفس، والمقصود إذا قتلتها، فمن قتل يقتل.
( وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) أي: العين تفقأ بالعين ( وَالأَنفَ بِالأَنفِ ) أي: يجدع بالأنف (( وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ ))، أي: الأذن تقطع بالأذن (( وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ )) أي: تقلع السن بالسن، وفي قراءة بالرفع في الأربعة المواضع.
(( وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ )) قرئ بالوجهين أيضاً، بالرفع والنصب، (والجروحُ) (والجروحَ قصاص)، لكن إذا رفعنا ما مضى فتكون القراءة بالرفع فقط، فإذا قلنا ( النفسُ بالنفس والعينُ بالعين والأنفُ بالأنف والأذنُ بالأذن والسنُ بالسن والجروجُ قصاص ) نقول: (والجروح قصاص).
وقوله: ( قصاص ) أي: يقتص فيها إذا أمكن، كاليد والرجل ونحو ذلك، وما لا يمكن فيه القصاص ففيه الحكومة، ومعنى الحكومة أن يقدر المجني عليه رخيصاً، ثم ينظر إلى نسبة النقص الذي سببه العدوان في قيمته، فيؤخذ مثلها من الدية، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا.
( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) أي: بالقصاص، بأن مكن من نفسه (فهو كفارة له) يعني: لما أتاه.
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) في القصاص وغيره. ( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يعني أن حكم الله هو العدل، فناسب أن يكون خلافه موصوفاً بالظلم.
-
تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم...)
-
تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه...)
-
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب...)
-
تفسير قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...)
-
تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون..)
قال تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]
قوله: (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ )) قرئت (يبغون) بالياء وبالتاء، (أفحكم الجاهلية يبغون) أو (تبغون) والمقصود: يطلبون المداهنة والميل عن الحق إذا تولوا عن حكمك، والاستفهام في الآية استفهام إنكاري.
قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) أي: من يظفر منك بالحكم الذي يشتهون؟! لأن الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام الجاهلية.
(( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا )) أي: لا أحد أحسن من الله حكماً (لقوم يوقنون) أي: يوقنون به، وخص هؤلاء الموقنون بالذكر لأنهم الذين يتدبرونه.
-
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)
-
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت...)
يقول تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42].
قوله تعالى: (سماعون للكذب) أي: الباطل، وهو خبر لمحذوف، وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله تعالى: (أكالون للسحت) أي: الحرام، وهي الرشوة كما قال
ابن مسعود .
وقال
الزمخشري : السحت كل ما لا يحل كسبه، وهو مأخوذ من (سحته) إذا استأصله؛ لأنه مسحوت البركة، كما قال تعالى:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276] والربا باب من السحت.
وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، والسحت كله حرام، تحمل عليه شدة الشره، وهو يرجع إلى الحرام الذي لا تكون له بركة، ولا لآكله مروءة.
فعن
أبي هريرة رضي الله عنه: (
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم) والراشي هو الذي يدفع، والمرتشي هو الذي يأخذ وقال
ابن مسعود : (الرشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت).
وفي هذا حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (
من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا توسطت لأخيك المسلم، وليس المراد أخاك الذي يصلي معك في الجامع أو صديقك الذي تعرفه، وإنما المراد أخوك في الإسلام، فأي إنسان مسلم إذا شفعت له بشفاعة ونال ما يريده من الحق أو دفع الظلم عنه بسبب شفاعتك، ثم بعد ذلك أعطاك هدية فقبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فالإنسان يعجب حينما يجد الأسئلة في مثل هذا الأمر وهو واضح مثل الشمس، فكيف تصل بنا الأمية في الفقه إلى هذا الحد؟!
كيف يصل إهمال العلم الشرعي إلى حد أن بعض الناس لا يعرف أن هذا حرام وأن هذا سحت، وأن هذا أكل أموال الناس بالباطل؟! فما دمت تمثل الشركة مندوباً عنها وتحمل اسمها فأعطيت لك هدية مقابل هذا الاسم فيجب عليك أن تردها إلى الشركة، فمن أخذ شيئاً بسبب ذلك لابد له من أن يرده إلى شركته، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
فهلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلينظر أيهدى إليه شيء)؟! فإذا جلس في بيته هل كانوا سيهدون له شيئاً؟! ولو في شركة أخرى فهل كانوا سيعطونه هذه الهدية؟! ما اكتسب الهدية إلا بصفته ممثلاً لهذه الشركة، وحينئذٍ فلا يحل له أن يأخذ هذه الهدية وإلا كان من أكلة السحت.
فـ
ابن مسعود رضي الله تعالى يقول: (الرشوة في كل شيء) ويذكر هنا مثالاً فيقول: (فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً) أي: شخص حقه مهضوم وشفعت له كي ترد إليه الحق، فهذا مقصد شرعي (أو ليدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت) فقيل له: يا
أبا عبد الرحمن ! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! أي: ما كنا نحسب أن هذه الشفاعة المحرمة إنما تحرم في شفاعة الحكم فقط، فقال: (الأخذ على الحكم كفر)، أي أن هذه أفظع، فقد قال الله تعالى: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )).
يقول تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم) يعني: إن جاءك اليهود لتحكم بينهم فاحكم بينهم؛ لأنهم اتخذوك حكماً.
(أو أعرض عنهم): لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم، والمقصود أنك بالخيار، وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. يقول
القاسمي : والتحقيق أنها محكمة والتخيير باق.
فـ
القاسمي يرجح أن التخيير باقٍ والآية محكمة وليست منسوخة، وهو مروي عن
الحسن و
الشعبي و
النخعي و
الزهري ، وبه قال
أحمد ، فلا منافاة بين الآيتين، فإن قوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه التخيير، وقوله تعالى: (( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ )) فيه كيفيه الحكم إذا حكم بينهم, وهي أن يحكم بينهم بما أنزل الله، فالمقصود بها بيان كيفية الحكم إذا اختار أن يحكم بينهم.
(وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً) يعني: لن يقدروا على الإضرار بك؛ لأن الله تعالى عاصمك من الناس، فصلى الله عليه وسلم.
(وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل.
(إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.
وقد روى
مسلم عن
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين-، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
-
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله...)
يقول تعالى:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة:43].
قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) هذا تعجبٌ من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به.
(وكيف يحكمونك) هذا التعجيب من شأن هؤلاء الناس، فهم يزعمون أنهم لا يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمنون بقرآن، والحكم الذي يسألون عنه موجود ومنصوص عليه في كتبهم، ومع ذلك يأتون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حكم الله حسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة، ووجود هذا الحكم الخاص فيها لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة محرفة.
وسماها التوراة إما باعتبار عرفهم أو باعتبار أصلها، فقال: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: باعتبار عرفهم أنهم يطلقون اسم التوراة على الكتاب الذي بين أيديهم، لكنها في الحقيقة ليست هي التوراة المضبوطة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام؛ لأنهم قد قاموا بالتحريف والتبديل، كما ذكر تعالى آنفاً فقال: (( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ )) فهذه سجية فيهم غير محدثة، وهذه حرفة يهودية قديمة، أي: التحريف والتبديل والتزوير كما بين الله تبارك وتعالى.
فتسميتها التوراة هنا إما باعتبار أصلها الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام، وإن كان مخالفاً لما بين أيديهم، أو باعتبار أنها التوراة في عرفهم ونظرهم، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية، ولولا ذلك لما صح أن تسمى بذلك، فلولا وجود بقية من الحق فيها لما صح أن تسمى التوراة، ونفس الشيء يقال في الإنجيل، مع اعتقاد تحريفهما وتبديلهما وعدم صحة كثير من أجزائهما.
(ثم يتولون من بعد ذلك) أي: من بعد البيان في التوراة، ومن بعد حكمك الموافق لما في التوراة (وما أولئك بالمؤمنين) يعني: بالتوراة، كما يزعمون.
قال
الحاكم : وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقاً إلى ما يعتقده غير حق.
وقوله: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) يدل على أن التولي عن حكم الله يخرج المرء عن الإيمان، وإذا كره حكم الشرع وطلب حكم غيره فهل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟
هذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته أو رأى له مزية أو تعظيماً أو استهان بحكم الإسلام فلا إشكال في كفره، وكأنه هنا يفصل ما سيأتي في الآية التالية في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقوله تعالى: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) فيه نفي الإيمان عمن يتولى عن حكم الله تبارك وتعالى.
فهنا بعض العلماء يفصل الكلام، فيقول: إن اعتقد -يعني هذا الشخص الذي يحكم بغير ما أنزل الله- صحة هذا الحكم الذي ينافي حكم الشريعة، أو رآه مساوياً لحكم الإسلام، أو أحسن من حكم الله، أو استهان بحكم الإسلام، فهذه الأحوال كلها لا إشكال في كفر فاعلها، ففي هذه الحالة لا إشكال فيه أنه كفر أكبر مخرج من الملة.
وإن لم يحصل منه ذلك، بل اعتقد أنه باطل خفيف، وكان معظماً لشرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر؛ إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع، فإن كان يعظم شرع الله سبحانه وتعالى، ويقر بحكم الله، وأن هذه الأحكام الوضعية المخالفة للشريعة باطلة ووضيعة ونحو ذلك كذا وكذا لكنه يحكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى فهذا لا يكفر على الظاهر، وله نظير في أي معصية، كشرب الخمر مثلاً، فقد يكون رجل يشرب الخمر ويكون مسلماً، ورجل لا يشرب الخمر ويكون كافراً، فالذي يشرب الخمر وهو يعرف أنها حرام وأن القرآن أمر باجتنابها ويقر بحكم الله فيها، ويرى أنها أم الخبائث، لكن هواه يغلبه فيشرب الخمر هو فاسق وعاص، ولا يكفر بمجرد ذلك، لكن ينقص إيمانه، أما الذي يعتقد أن الخمر حلال وشيء مباح ويجحد حكم الله سبحانه وتعالى فيها فهو -قطعاً- كافر مرتد، حتى لو لم يشرب الخمر؛ لأن هذا يكفر بالاعتقاد القلبي، فهو بقلبه يعتقد تحليل ما حرم الله قطعاً، ولذلك يكفر بذلك.
-
الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون...)
ثم أشار تبارك وتعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها ويقتلون النبيين؛ لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال عز وجل:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً) أي: إرشاد للحق.
(ونور) أي: إظهار لما انبهم من الأحكام.
(يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل؛ لأن كل نبي من قبل كان يبعث إلى قومه خاصة، ولم يبعث أحد إلى الناس عامة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان التبشير بالنصرانية بدعة مخترعة في النصرانية، فلا يوجد نص أبداً في الإنجيل الذي بين أيديهم الآن يأمرهم بأن يدخلوا غير بني إسرائيل في النصرانية أبداً، بل عندهم نصوص كثيرة في الإنجيل ينص فيها المسيح عليه السلام على أنه ما بعث إلا إلى بني إسرائيل الضالة، أو كما روي عنهم، كما قال عز وجل:
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49].
أما موضوع التبشير فقد اخترعه
بولس الخبيث بعد المسيح بمدة، حينما افترى وزعم أنه ظهر له في السماء من يناديه ويقول له: اذهبوا وادعوا جميع الأمم باسم كذا وكذا وكذا.. إلى آخره، فليس في النصرانية تبشير أصلاً أو دعوة للأمم الأخرى، وإنما هي دعوة خاصة ومحدودة لبني إسرائيل، وكذلك دعوة موسى عليه السلام، ولذلك نفسر قوله تعالى هنا: (( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ )) أي: من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا بالتوراة كانوا أنبياء بني إسرائيل فقط، قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل (الذين أسلموا) أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام، وسنذكر سر هذه الصفة.
(للذين هادوا) وهم اليهود؛ لأن (هاد) بمعنى: تاب ورجع إلى الحق.
فقوله: (للذين هادوا) أي: لا لمن يأتي بعدهم، ولم يختص بالحكم بها الأنبياء، بل: (يحكم بها الربانيون) أي: الزهاد العباد (والأحبار) أي: العلماء الفقهاء.
(بما استحفظوا من كتاب الله) أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل، وأن يقضوا بالأحكام.
وفي قوله تعالى: (استحفظوا) الضمير هنا عائد للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً، ويكون الاستحفاظ من الله، أي: استحفظهم الله كتابه، بمعنى أن الله كلفهم بحفظ كتابه.
أو يكون الواو عائداً على الربانيين والأحبار، ويكون الذين استحفظهم هم الأنبياء، (وكانوا عليه شهداء) يعني: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شهداء بأنه حق وصدق من عند الله، فمعلموا اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها؛ لشيوعه وتداوله وتوافر العمل به.
وهذا هو السبب الذي من خلاله حصل التحريف في هذه الكتب؛ لأن التحريف في الكتب السابقة كان أمراً شرعياً إرادياً، أي أ، الله سبحانه وتعالى كلفهم بحفظه، والمقصود أحبار بني إسرائيل، أو الربانيين.
فما دام كلفهم بحفظه فهذا تكليف، ومادام تكليفاً فيمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع؛ لأنه أمر شرعي طلبي إرادي وليس أمراً كونياً قدرياً، فقد يتخلف الأمر الشرعي فيطيعون أو يعصون، وقد يفون بالعهد وقد ينقضونه ويقعون في تحريف كتاب الله، فمن أجل ذلك حصل التحريف؛ لأن استحفاظ هذه الكتب كان مهمة ألزم الله بها أحبارهم ورهبانهم، فضيعوها وخانوا الأمانة.
أما القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى لم يكل حفظه إلى أحد من خلقه، بل الله عز وجل هو الذي تكفل بحفظه، فانظر إلى هذه الآية العظيمة:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] كلها عظمة وقوة قاهرة تقطع بأن القرآن محفوظ، الأمر الذي لا يمكن ليهودي، ولا لنصراني، ولا لملحد، ولا لأي مخلوق وجد على الأرض منذ نزلت هذه الآية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يمكن لأحد أن يثبت تحريف حرف واحد من كلام الله أبداً، وهذه من أعظم آيات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لو أن رجلاً في أقاصي الدنيا لحن في حرف واحد من القرآن، أو أسقط كلمة من القرآن لرد عليه مئات الصبيان في الكتاتيب، وردوا عليه بأن هذا غير صحيح، فهذا من آيات الله سبحانه وتعالى القائل:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9] وهو القرآن الكريم، ويدخل فيه السنة أيضاً، وقوله تعالى:
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] تأكيد وقطع، وهذا الوعد لم يتخلف؛ لأن الله قضى بذلك.
وهذا لا يعني أننا لا نأخذ بأسباب حفظ الكتاب، وإن كان ذلك فهو لا يقع فيه تحريف أبداً، وأذكر في الستينات أن عصابات اليهود كانوا حاولوا إصدار بعض الطبعات من المصحف الشريف، وحرفوا فيها سيراً على الحرفة التي يتقنونها طول عمرهم، نفس الحرفة الدنيئة الخبيثة المتأصلة فيهم، وقد كانوا روجوها في بعض البلاد الإفريقية، وكل محاولات هؤلاء أو غيرهم للتلاعب بآيات الله تفضح في الحال ولا تمكث أبداً، ولله الحمد على أنه ما زال هناك تسخير ونقيض لحفظ كتاب الله من التلاعب به والتحريف حتى مع وجود كثير من مظاهر الوهن والضعف في كثير من بلاد المسلمين.
ورغم ما آل إليه حال الأزهر عموماً لكننا نجد فيه حتى الآن العناية بالمصحف والاهتمام الشديد جداً بالمراجعة والتصحيح والتدقيق في ذلك، وهذا كله من الأسباب التي ييسر الله عز وجل بها حفظ كتابه.
وقوله تبارك وتعالى: (( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا )) هذه الصفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل عنها.
هذا كلام
الزمخشري في الكشاف وقد رد عليه
ناصر الدين ابن المنير في حاشيته فقال: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصيل والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم ذكرها، فمن ثم حملها على المدح، وفيه نظر.
والمقصود بها التعريض باليهود بأنهم ليسوا مسلمين، وأن الإسلام الذي هو دين الأنبياء أجمعين برئ منهم، فيذكر
الناصر أن فإنك المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة، فإذا أردت أن تمدح شخصاً فأنك تمدحه بصفة امتاز بها عن غيره.
والإسلام لفظ عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم، فقوله: (الذين أسلموا) يدخل فيه عوام المسلمين وأمم الأنبياء أجمعين، كما يدخل فيه الأنبياء أنفسهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً، فلو أن رجلاً أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رجل مسلم. فهل هذا مدح له؟ لا، لا يكون هذا مدحاً؛ لأن هذا أمر مقطوع به، فالرسول عليه الصلاة والسلام مسلم قطعاً بلا شك، وهو أول المسلمين، لكن إذا أردت مدحه فتمدحه بشيء اختص به الممدوح عمن سواه؛ لأن أقل متبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف -أيضاً- بصفة الإسلام.
يقول: فالوجه -والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر.
والمدح هنا لصفة الإسلام نفسها لا للرسول نفسه، أو للأنبياء أنفسهم، (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) فالمدح هنا لصفة الإسلام، من حيث إن الأنبياء -وهم أعلى الناس قدراً- متصفون بصفة الإسلام، فاقتدوا بهم في هذه الصفة.
يقول: فالوجه -والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها.
فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة لعظم موصوفها، وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى:
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112] فهنا المدح لإسحاق أم لصفة الصلاح؟ هنا المقصود به التنويه بصفة الصلاح وبمقداره إذ جعلت صفة الصلاة لأكمل الناس -وهم الأنبياء- بعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] فأخبر عن الملائكة المقربين بالإيمان قال: (ويؤمنون به) تعظيماً لقدر الإيمان، وبعثاً للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا.
ولهذا قال:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] يعني: من البشر؛ لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين الطائفتين، فكذلك -والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به، فالمدح هنا لصفة الإسلام، في قوله: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) ولقد أحسن القائل في مدحه عليه الصلاة والسلام حيث قال:
فلئن مدحت محمداً بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
عليه الصلاة والسلام.
والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف -إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه- إلا أن النبوة أشرف الأوصاف؛ لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة -في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح- لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزي