وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الليلة مع سورة (ق) المكية، وها نحن مع فاتحتها، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ق [ق:1] هذا حرف من حروف الهجاء، ومثله: ص، ومثله: ن، ومثل هذا حرفان: يس، طه، طس، وثلاثة أحرف: طسم، وخمسة أحرف: كهيعص، فما سر هذه الحروف التي يفتتح الله بها هذه السور القرآنية الكريمة؟
القول الذي لا خلاف فيه، وليكن عقيدة كل واحد منا: أنا نقول: الله أعلم بمراده به، لا نقول: معناه كذا أو يدل على كذا أو كذا، نقول: الله أعلم بما أراد بهذا الحرف، فنفوض أمر فهمه إلى الله عز وجل، فنطمئن ونستريح، ولا نقع في الافتراء والكذب، فالله أعلم بمراده.
وهناك لطيفتان نكرر القول فيهما مع كل سورة مفتتحة بهذه الحروف تذكيراً للناسين وتعليماً للجاهلين:
اللطيفة الأولى: لما صدر الأمر في مكة بمنع سماع القرآن، فحاكم مكة أصدر أمره: ممنوع على المواطنين أن يسمعوا القرآن، لا من أبي بكر ولا من رسول الله ولا من بلال ولا من فلان، وإذا ضبطت تسمع فإنك تعاقب، فممنوع ذلك من باب الاحتياط، وهذه سياسة.
فلما صارت السور تفتتح بهذه الحروف ويسمع السامع (طسم) لأول مرة ما كان العرب يعرفون هذه الصيغة وهذا الصوت أبداً، فيضطر أحدهم إلى أن يصغي ليسمع، فإذا أصغى واستمع دخل القرآن في قلبه، فهذه اللطيفة تحققت من هذه الحروف.
اللطيفة الثانية: لما ادعوا أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأنه ليس من كلام الله، وأنه وأنه؛ أعلمهم تعالى أنه مركب من هذه الحروف، فتفضلوا أنتم فألفوا مثل هذا القرآن، فقال أولاً: فائتوا بمثله، ثانياً: بعشر سور، فجهلوا وعجزوا، فقال: بسورة فقط، فوالله! ما استطاعوا وفيهم البلغاء والفصحاء وأرباب البيان، فعجزوا عن أن يأتوا بمثل سورة من سور القرآن، ولو كسورة الكوثر أو الفيل، فدل هذا يقيناً على أنه كلام الله ووحيه.
هاتان لطيفتان قال بهما أهل العلم من السلف، أما المعنى فالله أعلم بمراده من هذا الحرف، فنفوض أمر ذلك إلى الله.
فالله يقسم لصالح عباده، أما هو فغني عن ذلك، لكن من أجل فطرة الناس وغريزتهم أنهم ما يقبلون الأخبار العظيمة إلا إذا كان عليها يمين، فيقسم الله لذلك: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، والمجيد: الشريف الكامل الكريم العالي السامي، وهو القرآن الكريم، والله! إنه لمجيد وكريم وسام وعال، لو تجتهد البشرية في أن يأتوا بسورة ما استطاعوا، فكيف لا يكون مجيداً؟
جواب القسم: إن محمداً لرسول الله، أي: والقرآن المجيد! إن محمداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إي والله لرسول الله، وأي دليل أكبر من أنه ينزل عليه كتابه ويوحي إليه وحيه، فكيف لا يكون رسولاً؟ ومع هذا قال الخصوم والأعداء: ساحر، شاعر، مجنون، أبوا أن يسلموا بأنه رسول الله، فلهذا أقسم الله لهم: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] إن محمداً لرسول الله.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق:2]، والمنذر الذي يخوفهم عذاب الله في الدنيا إذا استمروا على الكفر والخبث والشر والفساد، وفي الآخرة بالخلود في جهنم إن استمروا على الكفر والفسق والفجور، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أنذرهم، خوفهم بأعلى صوته، وهذا كتاب الله يحمل الإنذار لهم في عشرات ومئات الآيات.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق:2] قالوا: لو كان من الملائكة فلا بأس، لن نرفض، لكن كيف يكون نذيراً منا؟ وهذا خطأ، فلو كان من الملائكة فكيف ستتفاهمون معه؟ هل ستسمعون كلام الملك؟
الملائكة الآن معك، فهل رأيتهم؟ هل تسمع كلامهم؟ فكيف يكون منهم؟ وإذا كان الملك ينطق نطق البشر إذاً أصبح بشرياً.
ثم من الحكمة أن يبعث الله من يعرف الناس لسانه ولهجته، ما يبعث غريباً عنهم ما يفهمون عنه، ليس من الحكمة هذا، وهذا كله -والله- من باب دفع الحق حتى لا يسلموا، حتى لا يدخلوا في الإسلام ولا يقبلوا دين الله فقط.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ [ق:2] الجاحدون للإلهية، الجاحدون للنبوة المحمدية، الجاحدون للبعث والجزاء والدار الآخرة، هؤلاء الكافرون قالوا: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:2] وما هذا الشيء العجيب؟ كون إنسان يوحى إليه وينزل عليه القرآن وينذر البشرية أهذا شيء عجاب، كيف يكون هذا؟
فلماذا قالوا هذا؟ قالوه لدفع الحق حتى لا يسلموا، حتى لا يمشوا وراء رسول الله ولا يقبلوا دين الله، وهذه الإملاءات يمليها الشيطان على ألسنتهم ويقولونها، وهذا واقع البشرية، من أراد أن يدفع الحق يقول أكثر من هذا الكلام إلى اليوم وفي كل مكان.
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] لا يمكن أن يقع! من القائلون؟ الآن كل البشرية -سوى المسلمين- تقول هذا من اليابان إلى الأمريكان، ولو آمنوا بالبعث والدار الآخرة والله! لقرعوا أبوابكم يطلبون منكم أن تعلموهم كيف يعبدون الله ليكملوا ويسعدوا في الدار الآخرة.
ولو تنازعهم أو تجادلهم لقالوا كما قال المشركون في الزمان الأول: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3]؟ والله! ما هو ببعيد أبداً، الذي يقول للشيء: كن فيكون هل يبعد عليه هذا؟ كما أوجدنا أول مرة يوجدنا مرة ثانية.
إذاً: يدفنون في الأرض والله عز وجل عليم بعظامهم وأجزائهم في الأرض، ومن ثم لا يعجزه أن يعيد حياتهم مرة ثانية.
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] ومعنى تنقص: تأكل منهم، وهنا نعرف أن الأنبياء والشهداء والمؤذنين الذين يؤذنون في سبيل الله وهم مسلمون موحدون لا تعدو تربة الأرض على أجسادهم، أجسادهم تبقى كما هي لا تفنى.
هؤلاء لا تعدو الأرض على أجسادهم، فالشهداء بحق وجدوهم في أحد أربعين سنة كما هم والدم يسيل بعد أربعين سنة، والأنبياء كذلك، لو وجد قبر نبي ويبحثون فوالله! لوجدوه كما هو.
إذاً: قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] أولاً، وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] ألا وهو كتاب المقادير، كتب الله تعالى فيه كل الكائنات قبل أن يوجدها، إذ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة )، إذاً: ما داموا مكتوبين في كتاب المقادير فكيف يخفون على الله ولا يوجدهم؟
أولاً: نفخة الفناء، فإسرافيل عليه السلام ينفخ في البوق نفخة فيفنى كل حي في هذه الأكوان، وتتحلل الدنيا وتذوب كلها.
ثانياً: نفخة البعث؛ حيث تكون الأرض قد استوت وأصبحت كقرص مستو، فينزل مطر من السماء كمني الرجال، فما من عجب ذنب هناك إلا وينبت صاحبه منه؛ لأن عجب الذنب عظيم موجود في آخر خرزات الظهر، هذا -والله- ما يفنى، لو تدفن في جبل، في قبر، في بحر؛ فهذا العظيم يبقى ولا يفنى، ومنه ننبت كما ينبت الزرع.
إذاً: فينزل ذلك الماء من السماء فتنبت البشرية بسبب ذلك الماء، تنبت من جهة ذلك العظم المسمى بعجب الذنب، ونأخذ في النمو فترة حتى يكتمل الجسد كما هو الحال في الفواكه والخضار، وحين يكتمل الجسد ينفخ إسرافيل نفخة البعث، ينفخ الأرواح فتدخل كل روح في جسدها، كل روح تدخل في جسدها فإذا هم قيام ينظرون.
فأولاً: تكون الأرض كقرص عجيب ما فيها تل ولا جبل، والعظام موجود فيها عجب الذنب، وهو عظيم صغير في آخر خرزات الظهر ما يفنى أبداً، لا تأكله الأرض.
ثم حين تعتدل الأرض وتستوي ينزل مطر من السماء فننبت، كل عظيم صغير ينبت كما ينبت البقل، وفي فترة من الزمن إذا بالأجساد كلها نامية كاملة وافية، فينفخ إسرافيل نفخة البعث فتدخل كل روح في جسدها، ويقومون لله رب العالمين.
وكثيراً ما نذكر اللطائف العامية، فأقول: عندنا ماعز في القرية نجمعه للراعي في الصباح، يرعى به طول النهار، وفي المساء يدخل باب القرية، والله! إن كل عنز تدخل إلى بيتها ولا تختلف واحدة عن الأخرى، هذه حيوانات، فكيف إذاً بالأرواح؟ كل روح تدخل في جسدها ولا تخطئ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، والأجداث: جمع جدث وهو القبر، فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51].
وتأتي نفخة الصعق حيث البشرية كلها واقفة على صعيد واحد، فينفخ إسرافيل نفخة فيصعقون، ولا ينجو إلا حملة العرش ومن شاء الله، ومن بينهم موسى عليه السلام؛ إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نفخ إسرافيل نفخة الصعق يكون أول من يفيق، وإذا بموسى قائماً آخذاً بقائمة من قوائم العرش، قال: فلا أدري: أأفاق قبلي أم جزاه الله بصعقة الدنيا فما صعق يوم القيامة.
إذاً: هكذا يقول تعالى عن الكفار: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:3-4] حفظ كل الأحداث لا يضيع منها شيء أبداً، عجب هذا الكتاب!
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان شرف القرآن ومجده وكرمه ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها الآن والحمد لله: بيان مجد القرآن وشرفه وكماله، أما أقسم الله به فقال: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، كيف يقسم الله به ولا يكون عظيماً؟
[ ثانياً: تقرير البعث والوحي الإلهي ].
من هداية الآيات: تقرير البعث الآخر والنبوة المحمدية، تقرير أن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر والحياة الثانية والجزاء فيها -وله- حق، وهي آتية.
[ ثالثاً: البرهنة الصحيحة الواضحة على صحة البعث والجزاء وإمكانهما ].
البرهنة الصحيحة الصادقة في قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]، ما دام عز وجل قد علم ما يدور في الأرض، ثم في كتاب المقادير كل إنسان موجود في هذا الكتاب بطوله وقصره وحياته؛ فكيف إذاً يعجز عن إحياء الموتى؟
[ رابعاً: تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير كتاب المقادير ]، ما معنى القضاء والقدر؟
معناه أنه ما من شيء إلا وقد قضى الله بوجوده وقدره، أي: حكم بوجوده وقدره جسماً، زماناً، مكاناً، طولاً عرضاً كما هو، ما من حدث يحدث إلا وهو مكتوب في كتاب المقادير، كتاب عند الله كتب فيه كل ما أراد أن يخلقه، فالقضاء هو الخلق والحكم بذلك، والتقدير: الصورة والكيفية والزمان والمكان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر