ها نحن اليوم مع سورة غافر، وتسمى سورة المؤمن وسورة الطّول، وهي مكية، وآياتها خمس وثمانون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات الخمس أو الست، ثم نتدارسها. والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:1-6].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: حم [غافر:1] تكرر في سبع سور، وأول هذه السور سورة غافر، وتسمى سورة المؤمن، أو سورة الطَّول، وآخرها الأحقاف. وهذه الحواميم السبع تعرف بديباج القرآن أو بعرائس القرآن، وأولها غافر التي تسمى سورة المؤمن وسورة الطَّول.
والسر في ذلك من حيث المعرفة والعلم نقول: الله أعلم بمراده به، فالله أعلم منا بما أراد من هذه الحروف، فقوله: المر الله أعلم بمراده من هذه الحروف، فنحن لا نعلم ذلك. وهذا هو التفويض لله، وهو الصواب، فنقول: الله أعلم بمراده به.
الفائدة الأولى: كان المشركون في مكة يمنعون المواطنين من أن يسمعوا قراءة القرآن، لا من أبي بكر ولا من عمر ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من غيره، وأصدروا أمرهم بمنع سماع القرآن؛ حفاظاً على الوطن والمواطنين كما يقولون والدولة والنظام، فمنعوهم من هذا. ثم لما نزلت هذه السور المفتتحة بهذه الحروف كان إذا أخذ القارئ يقرأ: طسم كان السامع ما يستطيع ما يسمع، بل يضطر اضطراراً إلى أن يصغي ويسمع، فإذا أصغى وسمع ينفذ نور القرآن في قلبه. والدليل على هذه القضية: ما جاء في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]. ولا تسمعوا له، بل إذا قرأ القارئ صيحوا أنتم وقولوا الكلام الباطل؛ حتى ما يُسمع كلامه. ونص الآية الكريمة واضح في هذا، فقد قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]. فكانوا يحاربون رسول الله ودعوته، ويحاربون قرآن الله وكلامه؛ ليبقوا على الشرك والكفر، والشر والفساد. فكانت هذه هي مهمتهم، وهي البقاء على الباطل الذي عاشوا قروناً عليه، ولم يريدوا أن يدخلوا في الإسلام. فكانت هذه السور التي افتتحها الله بهذه الآيات تضطرهم إلى أن يصغوا ويسمعوا، فإذا سمعوا دخل نور القرآن في قلوبهم، فآمنوا. هذه فائدة.
الفائدة الثانية: أن السر في هذه الحروف هي أن الله عز وجل تحدى العرب بأن يأتوا بسورة من كتابه، وأولاً تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وما استطاعوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فقط، فقال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13]. وما استطاعوا. وأخيراً تحداهم بسورة واحدة، فقال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24].
وبين لهم أن هذا القرآن مركب من هذه الحروف، فقال: حم .. طس .. الم . فألّفوا أنتم نظيره، فعجزوا، وسلموا بأنه كلام الله، وليس هو غير كلام الله. فهو مركب من هذه الحروف، وما استطعتم أن تأتوا بسورة فقط.
وهاتان الفائدتان عظيمتان، وقد نفع الله بهما، وآمن بالقرآن من كانوا بالأمس يكفرون به، ودخلوا في دين الله.
فلا يقال في لفظ حم الله أعلم بمراده به، بل هناك والله فائدتان عظيمتان ذكرهما أهل العلم، وهما:
الأولى: أنه مؤلف من هذه الحروف، فألّفوا إن كنتم قادرين على مثله، فإذا عجزتم فقولوا: إنه كلام الله، وآمنوا به.
وكذلك كان الذين لا يريدون أن يسمعوا ويلووا رءوسهم إذا سمعوا: طسم ولم يكونوا قد سمعوا هذا النغم أبداً يجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يصغوا ويسمعوا، فيدخل نور القرآن في قلوبهم.
وقوله: لا إِلَهَ إِلَّا هُو ، أي: لا معبود حق يستحق أن يعبد إلا الله، وكل من عبد غير الله فقد عبد الباطل وألّه الباطل. فلا يستحق العبادة إلا الله؛ لأنه هو الذي خلق الإنسان ليعبده، وخلق الحياة كلها من أجل أن يذكر فيها ويشكر.
وقوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3]، لا إلى غيره. فالعودة إلى الله.
فيا أيها البشر! مهما طالت أعماركم، ومهما امتدت حياتكم فلابد من المصير إلى الله عز وجل. وما دام المصير إليه فلا نهرب من عبادته، ولا نتأذى من تلك الطاعة التي هي حياتنا وروح حياتنا. فمصيرنا إليه تعالى، أي: نرجع إليه بعد موتنا، ونرجع إليه في عرصات القيامة ويوم القيامة، فنرجع كلنا إلى ربنا؛ ليحكم فينا بما يشاء، فيرحم من يشاء، ويعذب من يشاء.
وهكذا ينزل هذا القرآن الكريم على الحبيب صلى الله عليه وسلم والعرب يسمعون قائلاً: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3].
وقد ذكر القرطبي في تفسيره حادثة وقعت على عهد عمر رضي الله عنه، وهي: أنه بلغ عمر أن رجلاً بالشام سكّيراً خماراً شديداً قاسياً، فكتب إليه كتاباً، وكتب له هذه الآية: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3]. وقال لمن أعطاه الكتاب: أعطه إياه عندما يكون هادئاً معتدلاً. فذهب الرجل، فلما رآه هادئاً ساكناً ليس غاضباً أعطاه الكتاب فقرأه، وما إن وصل إلى كلمة: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3] حتى أخذ يبكي، والدموع تسيل منه، وتاب إلى الله عز وجل. وكان قد قال عمر لما أعطى الرجل الكتاب للمسلمين: ادعوا الله له بالهداية، وقال: هكذا ينبغي أن تكون الدعوة، أي: ليس بالشدة والعنف. فدعوا له، واستجاب الله لهم، وتاب وحسنت توبته بفضل الله، ثم بهذه الآيات من فاتحة غافر.
وقوله: وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ [غافر:5]، سميت الأحزاب لأنهم يتحزبون على النبي عليه السلام ليضربوه وليشنعوا عليه وليقتلوه، فسماها الله الأحزاب.
وقوله: وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ [غافر:5]، أي: من بعد قوم نوح.
ثم قال تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر:5]، أي: كل أمة همت برسولها لتأخذه فتقتله، أو تسجنه وتعذبه والله العظيم. وهذا خبر الله، فهو الذي قال: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر:5].
وهم يجادلون بالباطل؛ ليدفعوا به الحق، فهم ما يريدون الحق. والحق هو أن لا يعبد إلا الله، والباطل هو أن تعبد الأصنام مع الله والأحجار والتماثيل، وأن ينسب إليها الخلق والرزق والعبادة، وما إلى ذلك. مع أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله. وهم يريدون أن يدحضوا الحق ويبطلوه.
وهكذا يقول تعالى هنا ليخفف عن رسول الله أتعابه وآلامه، وما يعانيه من شدة قومه وطغيانهم، فيقول له: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غافر:5]. وليس العرب أو المشركون في مكة أول من كذب، بل كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر:5] فيقتلونه. وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ [غافر:5] كما يجادل هؤلاء المشركون في مكة. وهم يجادلون بالباطل لإدحاض الحق، وإبعاده عن أهله؛ ليبقوا على الشرك والكفر، والظلم والخبث، والشر والفساد. فَأَخَذْتُهُمْ [غافر:5]. والقائل فأخذتهم هو الله. فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5]؟ فقد كان نهاية وجودهم، ففرعون ومائة ألف معه من الجيش أغرقهم في البحر، وأمة نوح لم يكن هناك أمة على الأرض غيرهم أغرقهم الله في الأرض، ولوط نجا هو وامرأته وابنتيه، وتحولت تلك البلاد إلى بحيرة منتنة إلى الآن. وكذلك قوم صالح دمروا، وهكذا غيرهم. فالله على كل شيء قدير.
فاتق الله أيها المؤمن! واذكر ما ذكر الله تسلم وتنجو.
وهكذا يقول تعالى لرسوله هنا؛ ليحمله على الصبر والثبات وعلى الدعوة، فهو يقول له: كذبت قبل قومك قوم نوح، وكذب الأحزاب من بعدهم، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5]؟ فقد كان كما أراد الله، فلم يبق منهم أحد، ووالله ما نجا إلا المؤمنون. فالذين كانوا مع هود نجوا ونزحوا إلى مكة، والباقي دمروا عن آخرهم.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير أن القرآن الكريم ] الذي في صدورنا ومصاحفنا [ مصدر تنزيله هو الله تعالى ] فهو من وحي الله والله [ إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ] فمن نزل عليه القرآن لن يكون إلا رسول الله، ولذا محمد رسول الله، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولو لم يكن رسول الله لما نزل عليه هذا القرآن.
[ ثانياً: بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ] العزيز، الرحيم الغفور [ ذي الطول، غافر الذنب قابل التوب، لا إله إلا هو ] فهذه الأسماء تدل على عظمة صاحبها الذي لا يعجزه شيء، والذي لا يعجزه ذنب من الذنوب أن يغفره إذا تاب صاحبه، والذي ما يرد تائباً أبداً، بل يقبله ولا يطرده. وهذه الأسماء والصفات لله عز وجل تدل على ربوبيته وألوهيته، فلا إله غيره، ولا رب سواه.
[ ثالثاً ]: من هداية هذه الآيات: [ تقرير التوحيد والبعث والجزاء ] ومعنى التوحيد هو: أنه لا إله إلا الله. ومعنى البعث: أننا بعد موتنا نبعث؛ للجزاء على عملنا في هذه الدنيا.
والموت حق، والبعث والله حق كذلك. وسبب الموت والبعث وأن الله يميتنا ويحيينا لأجل أن يجزينا على عملنا في دنيانا هذه. فلهذا ما ننسى أبداً أن علة هذه الحياة: العمل، وعلة الحياة الثانية: الجزاء، وارفع صوتك به. فوالله العظيم إن سر هذه الحياة: العمل، وسر الحياة الثانية: الجزاء على العمل، والعمل صنفان: إيمان وعمل صالح، وشرك وكفر وعمل فاسد.
وأصحاب الإيمان والعمل الصالح في دار السلام، وأصحاب الشرك والباطل في دار البوار جهنم. وهذه هي الحقيقة.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ تقرير مبدأ أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن بطشه شديد ] فإذا الأمة عصت .. فسقت .. فجرت .. تمردت .. ردت الدعوة .. ما استجابت يمهلها الله؛ علها تتوب، وعلها ترجع، فإذا أصرت أبادها، وسلبها غناها، وسلط عليها فقرها، والعياذ بالله. وهذه سنة الله دائماً وأبداً. والله ما يهمل، بل يمهل، وقد يمهلهم عاماً .. عامين .. عشرة .. قرنين .. ثلاثة، ثم إن أبوا سلط عليهم ما شاء من العذاب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر