أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، فمن هنا وجب أن يُحمد سبحانه وتعالى، إذ إنه مالك كل الكائنات في الأرض والسموات، وبالتالي فكيف لا يحمد وأنت تحمد صاحب منزلة أو صفة من الصفات؟! فكيف بـ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ [سبأ:1]؟ وكما أن له الحمد في الدنيا فكذلك له الحمد في الآخرة، إذ يحمده أهل النعيم المقيم في الجنة دار السلام.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ [سبأ:2]، هذا هو العليم الحكيم الخبير، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ [سبأ:2]، أي: ما يدخل في الأرض من قطر المطر الذي ينزل من السماء، إذ هو سبحانه وتعالى يعرفه، وكذلك أمواتنا الذين نرمي بهم في داخل الأرض الله يعلمهم، وأيضاً الحيات والثعابين التي في الجحور تحت الأرض الله يعلمها، بل كل ما يدخل في الأرض الله يعلمه، وهذا لا شك أنه علم عظيم، وبالتالي فمن يقوى على هذا؟ ومن يقدر على هذا؟!
ثم قال تعالى: وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، أي: من النباتات وأنواعها، وكذلك الأموات يوم القيامة، ويخرج منها أيضاً الكنوز المياه والعيون، فهو سبحانه وتعالى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، فيشمل أي شيء يدخل الأرض ويخرج منها، وهذا هو معنى إحاطة علمه سبحانه وتعالى بكل شيء، وذلك مما هو ظاهر وباطن، ويعلم أيضاً.
وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ [سبأ:2]، أي: من الملائكة والأمطار والبركات والخيرات، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، أي: من الملائكة والأعمال الصالحة، إذ كلها ترفع إلى الله عز وجل ويعرج بها إلى الملكوت الأعلى.
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2]، فحمد نفسه من قبل لأنه الرحيم الغفور، والرَّحِيمُ هو الذي يرحم عباده، والْغَفُورُ هو الذي يغفر ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها إن هم تابوا ورجعوا إليه سبحانه.
ثانياً: لا ننسى حمد الله أبداً في كل ظروفنا وأحوالنا وخاصة في الأماكن التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم أن نحمد الله فيها، ومنها -كما علمنا- عند الفراغ من الشرب أو الأكل، أو إذا ركبنا السيارة، أو إذا لبسنا الثوب فنقول: الحمد لله الذي رزقنيه ولو شاء لأعراني، وإذا سُئلنا عن حالنا فنقول: الحمد لله، إذ هذه هي صفتنا في الكتب السابقة، أي: أننا أمة الحمد، ولذا فنحن الحمادون لله عز وجل، كما أن الواجب علينا أن نذكر الغافلين والناسين الذين يأكلون ولا يقولون: الحمد لله، أو يركبون ولا يقولون: الحمد لله، أو يلبسون ولا يقولون: الحمد لله، أو يسألون عن حالهم ولا يقولون: الحمد لله، فهؤلاء يحتاجون إلى تعليم وإلى تبصير حتى يتهيئوا لهذا العلم ويعملون به.
قال: [ وقوله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]، في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها، الخبير بأحوالها، العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.
وقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ [سبأ:2]، أي: ما يدخل في الأرض من مطر وكنوز وأموات، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، أي: من الأرض من نبات ومعادن ومياه وعيون، وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ [سبأ:2]، من أمطار وملائكة وأرزاق، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، أي: يصعد من ملائكة وأعمال العباد، وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده، الرَّحِيمُ [سبأ:2]، بعباده المؤمنين، الْغَفُورُ [سبأ:2]، للتائبين.
بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية من صفات جلال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه ]، أي: من أجل هذه الصفات استحق الله العبادة دون من سواه، فلا يعبد مع الله غيره، لا بالدعاء ولا بالاستغاثة ولا بالنذر ولا بالخوف ولا بالرهبة ولا بالحب ولا بأية عبادة أبداً، إذ لا إله إلا الله، فالأنبياء والرسل عليهم السلام والملائكة جميعهم يعبدون الله وللعبادة خلقهم، فلا يستحقون أن يُعبدوا مع الله لا بدعائهم ولا بالاستغاثة بهم، فكيف بمن دون ذلك من المخلوقات؟! لكن للأسف فقد عبد الجهال الأحجار والأصنام ونسبوها إلى الله، كما عبدوا القبور والأضرحة ونسبوها إلى الله تعالى، كما عبدوا ما شاء الشيطان أن يعبدوا وهم في ذلك مشركون جاهلون والعياذ بالله تعالى.
قال: [ بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية، وهي صفات جلال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه، فكل تأليه لغيره هو باطل ]، وقد تورط النصارى المسيحيون الصليبيون في تأليه عيسى عليه السلام ونسبته إلى الله بأنه ابنه! قال: [ فكل تأليه لغيره فهو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلي عنه، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه ].
أفادتكم النعماء مني ثلاثة لساني ويدي والضمير المحجبا
قال: [ ثانياً: بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال ]، أي: أن الحمد لا يصح أبداً إلا إذا كان المحمود ذا جلال وجمال وكمال وإلا كنا كاذبين، فهل نطلق على بشع الخلقة فنقول: إنه جميل؟!
قال: [ ثالثاً: لا يحمد في الآخرة إلا الله ]، وعرفنا هذا لأن الله ما حمد نفسه إلا ويذكر موجب الحمد، إذ إنه في الخمس السور التي سمعناها لا يقول: الحمد لله إلا وقال لكذا وكذا، أي: لا يحمد محمود إلا إذا كان له ما يوجب الحمد ويقتضيه، والحمد المطلق لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
قال: [ ثالثاً: لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى ]، فلا يحمد في الآخرة إلا الله فقط، فهل يحمده أهل النار الذين هم أهل العذاب والشقاء والخسران؟ لا، بل يحمده أهل الجنة دار النعيم، جعلنا الله منهم وألحقنا بهم مسلمين، فهم الذين إذا أكلوا أو شربوا أو لبسوا أو تنعموا في رياض الجنة يحمدون الله عز وجل، أما أهل النار فلا يحمدونه؛ لأنهم في عذاب وشقاء.
قال: [ رابعاً: بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه ]، وهذه هي الحقيقة، ولذا فاعلموا يرحمكم الله! أن كل أعمالنا الظاهرة والباطنة معلومة لله تعالى، إذ لا يوجد هناك ما تستطيع أن تخفيه عن الله تعالى، حتى ولو كان في قلبك، إذ إن الله هو العليم بكل الكائنات، ظواهرها وبواطنها على حد سواء، وذلك لأنه خالقها وموجدها، فهل الذي يصنع الشيء لا يعلم ظاهره وباطنه؟ بلى إنه يعلم.
قال: [ خامساً: تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته ]، فيا عباد الله! لا رب إلا الله، ولا خالق ولا رازق ولا مدبر للخلق إلا هو، ولا يعبد على الحقيقة إلا هو، فلا رب سواه، ولا إله يعبد سواه، وهذه الآيات قد قررت ذلك، بل وكل الكون يشهد أنه لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، والذين عبدوا الشهوات والفروج والأطماع والدينار والدرهم والقبور والأولياء والصالحين إنما هو لجهلهم ولاستيلاء الشياطين عليهم، وبالتالي صرفتهم الشياطين عن الحق وأبعدتهم عنه ورمت بهم في الضلال والشرك والكفر والعياذ بالله، فنبرأ إلى الله منهم، ونعوذ بالله من صنيعهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر