إسلام ويب

تفسير سورة الروم الآية [30]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله عز وجل الخلق على الفطرة الربانية التي فطرهم عليها، إنها فطرة التوحيد والإيمان والاعتراف بالله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولكن الشياطين حرفوا الفطر، وغيروا العقول، واجتالوا العباد إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وقد أمر الله نبيه أن يستقيم على ملة إبراهيم عليه السلام فقد فطر الله الخلق على هذه الملة السمحاء التي لا يعلمها كثير من الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً....)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

    هذا أمر من الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تبعاً بإقامة الوجوه لدين الله سبحانه وتعالى، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30] أي: أقم وجهك معتدلاً متوجهاً إلى دين الله سبحانه وتعالى.

    والحنيف بمعنى: المستقيم، وأصله من الحنف وهو الإماله أو الميل، فكأنه يقول: ابتعد ومل عن هذه الأديان الباطلة إلى طريق الله عز وجل المستقيم وإلى دينه القويم.

    الإسلام فطرة الله في خلقه

    فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30] أي: أقم وجهك إقامة عظيمة واستقم على فطرة الله سبحانه تبارك وتعالى التي هي داخل قلب كل إنسان، وذكره فطرة الله كأن فيه إشارة إلى أنها ضمن كلمة أقم وجهك، وعليه فيكون المعنى: توجه إلى الوجهة التي فطرك الله عليها، أو كأنه يقول: اتبع فطرة الله، أو أقم وجهك متبعاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة تأتي بمعنى: الدين والإسلام، وبمعنى: بدأ خلق الله عز وجل للإنسان، ومنه: فطره على الشيء أي: بدأ خلقه عليه وجعله مستقراً في قلبه.

    فالله عز جل خلق عباده كلهم حنفاء يعني: على دين الله، فلو تركوا وما في قلوبهم لاستقاموا على دينهم الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

    فلو ترك هذا المولود على ما فطره الله عز وجل عليه لاستقام على دين الله سبحانه، ولكن أبواه هما اللذان يوجهانه إلى الخير أو إلى الشر، فإما أن يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أو يتركانه على الأصل وهو هذا الدين المستقيم، فالأصل في الإنسان أنه على الإسلام.

    ولذلك تجد أصحاب الأديان الأخرى لابد أن يحولوا أولادهم إلى دينهم؛ لأنه خلاف الأصل والفطرة، فيعمدونهم بأن يأخذونهم إلى الكنيسة عند الكاهن حتى يعمده، وكأنهم يعترفون أنه على غير ما هم عليه، فيحتاجون إلى أن يتحولوا فينصرونه أو يهودونه على غير ما خلق عليه، أما في الإسلام فالإنسان مولود على الفطرة، ويشب على هذا الدين الذي فطره الله عز وجل عليه وأوجده في قلبه.

    فليس في الإسلام مسألة تعميد؛ لأن المولود مفطور على دين الله عز وجل، أما في غير الإسلام فلابد أن يحولوه، وكأنهم يعترفون ضمناً أنه مولود على غير ما هم عليه، فيحتاج أن يتحول إلى اليهودية أو إلى النصرانية.

    عبث الشياطين بالمشركين في تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله

    جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال)، يعني: ما أعطيت لعبادي من رزق ومن مال فالأصل أنه حلال، (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: مائلين عن الباطل مستقيمين على الحق، وفي قلوبهم ما يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى عبادته سبحانه وتعالى، ولكن كما قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: إذا بالشياطين تحول العباد عن هذا الدين وتفتنهم عنه، وفي الرواية الأخرى: (فاختالتهم عن دينهم).

    قال في الحديث: (وحرمت عليهم ما أحللت لهم) أي: أن الله أحل للعباد أرزاقهم فإذا بالشياطين توهم الناس أن هذا حلال وأن هذا حرام، فيقسمون أرزاقهم التي جعلها الله عز وجل لهم فيقولون: هذا لله وهذا لشركاء الله عز وجل، فما كان لله فهو يصل إلى شركائه، وما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، فجاءوا بأشياء يخترعونها ويبتدعونها بعقولهم، ويقول هؤلاء المشركون إذا حصدوا الثمار: الجزء هذا لله، والجزء هذا للشركاء، فإذا اختلط ما لله عز وجل بما للشركاء يقولون: نجعله كله للشركاء وربنا غني عن ذلك.

    فيقال رداً عليهم: إذا علمتم أن الله غني عن ذلك فلم تعبدون هؤلاء الشركاء وأنتم تعرفون أنهم فقراء وليسوا بأغنياء عن ذلك؟ فتعطونهم ما لله وتقولون: إن الشركاء محتاجون لهذا النصيب، فما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائكم ساء ما تحكمون.

    قال تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:138-139] وقد قسم لهم هذه القسمة الشياطين، فضحكت عليهم بها وخدعتهم فقسموا هذه القسمة، وقالوا لهم: هذه أنعام وحرث حجر، أي: محجورة فلا أحد يأخذها إلا من نريد!

    وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا [الأنعام:138] أي: ممنوع أن يركب عليها أحد؛ مكافئة لهذه الأنعام؛ لأنها أنجبت وأنجب خلفها، فيمنع الناس من ركوبها وذبحها مع أن الله قد خلقها رزقاً لعباده، وأباح لك أن تأكلها أو تعطيها غيرك يركبها أو تركبها أنت، أو تعطيها غيرك صدقة يأكلها، ولا تترك سائبة تمشي بين الناس، ولا أحد يتعرض لها، حتى تكون هرمة وتموت من غير أن ينتفع بها أحد.

    فيقال لهم: من الذي أمركم بتحريم أكل هذه الأنعام وتركها لنفسها هكذا؟ فالله لم يأمركم بذلك، ولكن العقول الخائبة والأديان الباطلة تعمل ذلك، فهؤلاء يعبدون غير الله والشياطين تستهويهم وتجتالهم عن دينهم، وهم أطاعوا الشياطين في معصية الله عز وجل، قال سبحانه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ [المائدة:103] ولكن الشياطين هم الذين يوحون إلى أوليائهم ذلك فيجادلون به.

    مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة:103]، يقال بحيرة: أي: بحرت بطنها وولدت أنثى وبعدها ولدت أنثى أيضاً، فيكافئونها بأن لا يركبها أحد ولا يستخدمها، وتترك هكذا.

    مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ [المائدة:103] يقول أحدهم: لله علي نذر، أو ينذر لغير الله عز وجل إذا شفى الله مريضي أو نحوه فسأترك الجمل سائباً لا يركبه ولا يأكله أحد! فلا هو انتفع به ولا غيره انتفع به، وقد جعله الله عز وجل حلالاً يؤكل فإذا بهم يحرمون أكله.

    مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ [المائدة:103] الوصيلة: هي التي وصلت بطناً ببطن، يعني: خلفت مرة وأخرى وثالثة، فتستحق أن لا تركب بعد ذلك ولا تؤكل.

    وَلا حَامٍ [المائدة:103]، وهو الذكر إذا لقح ولد ولده، يعني: أن الجمل إذا خلف جملاً، فنتج منه جمل آخر فيبقى عنده حفيده ولا أحد يتعرض لهذا الجمل الجد.

    أساليب عصرية في محاربة العقيدة من قبل الأعداء

    إن الإنسان إذا بعد عن الله عز وجل إذا بعقله يحل أشياءً ويحرم أشياءً، ويبقى عقله ضائعاً، والذي ينظر إليه يعرف غباءه، فأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأحجار، يصنع أحدهم الحجر بيده من تراب وماء، ويصنع منه صنماً، ثم يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، أو يصنع تمثالاً من عجوة وإذا جاع أكله، وإذا شبع عبده من دون الله!

    أية عبادة هذه التي يفعلونها؟! إنها عقول تافهة توجد في كل زمان، ومثل ذلك الذين يصنعون التمائم، لكي يكسبون المباراة في لعبة الكرة، والمسلمون يقلدون في هذا الشيء، ويصنعون ما يجعلهم يشركون بالله سبحانه، فيزعمون أن النصر من هذه التميمة التي صنعوها، وتكون ميدالية أو تمثالاً أو صورة، ويقولون: هذه تجلب لنا الفأل الحسن.

    فيكفرون بالله سبحانه ويشركون به، وهم يصنعونها أو يقرونها بمدح مثل هذا الشيء، ويعملون تمثيليات وأفلاماً تكون سبباً لانتشار هذا الشيء، كما تسمع عن تمثيلية تحكي عنها الجريدة أن شخصاً اشترى حذاءً؛ ليلعب به الكرة، يقوم فيغلب، وكلما يلعب به يغلب الآخرين، وعندما يترك هذا الحذاء ويلعب بدونه لا يغلب، والمقصود بهذا الشيء إقرار عقيدة باطلة في نفس الإنسان، فيأتي الشاب الصغير الذي لا يفهم العقيدة، فيذهب لشراء حذاء جديد؛ ليلعب به، فإذا غلب يقول: إن الحذاء هو الذي جعلني أغلب، وينسب النصر لهذا الحذاء! انظر إلى هذا الغباء وهذه العقول!

    إن هذه العقائد هي التي يريدون أن يغرسونها في نفوس الناس، والمسلمون ينساقون وراء ذلك، وكما رأيتم فيلم المسيح، فكم من المسلمين الآن يشاهدون هذا الفيلم في كل مكان؟! بدعوى أن فيه نكاية بإسرائيل، وهو يقرر في أذهان المسلمين أن المسيح صلب، والله عز وجل سبحانه يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، فلم يقتل المسيح، ولم يصلب وإنما رفع المسيح إلى السماء، وصاحب هذا الفيلم يقول: أنا لا أرضى حتى يتنصر كل الناس بسبب هذا الفيلم! وإذا بالمسلمين في بلادهم ينشرون هذا الفيلم على دور السينما لكي يشاهدونه، ويرون في الفيلم أنه صلب المسيح، وأنه وضع الشوك على رأسه، وأن المسيح قتل ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    والله عز وجل يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] والمسلمون تذهب عقولهم وتضيع وراء فلم من الأفلام، وإن كان فيه دعوة للنصرانية، وإذا بالجرائد تنشر مقالات مثل: آخر لحظات المسيح، ويقال فيها: انظروا إلى اليهود طوال عمرهم يعملون الشر، فهم الذين قتلوا المسيح! مع أن الله عز وجل يقول في القرآن وَمَا قَتَلُوهُ [النساء:157].

    وهذا هو الكفر الذي لا يقوله مسلم؛ لأنه يخالف ما جاء في القرآن، فينشرون عقيدة النصارى، ويقررون في قلوب المسلمين الشرك بالله سبحانه، والتكذيب لكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، والمسلمون لجهلهم يضعون المصاحف في بيوتهم للزينة، وبعضهم يضعها تحت رأسه وهو نائم حتى لا تأتي له رؤيا مفزعة، أما أن يقرأ ما في كتاب الله سبحانه ويتعلم ما فيه فلا، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى.

    وأيضاً الأب يرسل ابنه إلى مدرسة ليتعلم الإنجليزي وغيره، وآخر شيء يفكر فيه تعليم القرآن وكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى!

    فلابد للمسلمين من التوعية بعقائد الإسلام، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وقال لنا في هذا الحديث القدسي الصحيح: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).

    فلما وصل أهل الأرض إلى طاعة الشيطان والشرك بالله سبحانه فسيكون جزاؤهم المقت، فإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم، والمقت أشد البغض، فقال سبحانه في هذا الحديث: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، ولم يقل: إلا أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا وراء الدنيا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان منهم بقايا ممن عرفوا التوحيد وممن وحدوا الله سبحانه، وكانوا ينتظرون النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد تعلم على أيدي هؤلاء البقايا سلمان الفارسي ، وعبد الله بن سلام.

    قصة إسلام سلمان الفارسي

    إن سلمان تعلم عند بقايا من النصارى الذين كانوا يوحدون الله سبحانه، وكان كل إنسان منهم يوصي سلمان : أن اذهب إلى فلان وتعلم عنده، وهكذا حتى قال له آخرهم: لا أجد أحداً على الأرض على ما أنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي، وهذا آخر راهب كان معه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وسلمان كان فارسياً مجوسياً، وكان أبوه موقد النيران لقومه، ولما هرب سلمان من عند أبيه وأمه وجد راهباً يعبد الله سبحانه، فتعلم منه، ثم حبسه أبوه، ثم هرب بعد ذلك وتوجه ليعبد الله سبحانه ويترك هذه الديانة الباطلة، فدلوه على عبادة الله سبحانه، وكان كلما يذهب إلى راهب من الرهبان يلازمه حتى تحضر الراهبَ الوفاة، فيقول له سلمان : إلى من توصي بي؟ فيقول له: اذهب إلى فلان في القطر الفلاني فهو على التوحيد، فهؤلاء هم بقايا أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد.

    فلما وصل سلمان رضي الله عنه إلى آخر هؤلاء، وكان قد قرب عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه وجاءت الوفاة لهذا الراهب، فقال لـسلمان : اذهب إلى أرض العرب فإنه سيبعث فيها نبي في هذا الزمان، وسلمان لا يعرف طريق الذهاب إلى أرض العرب، فوجد جماعة من العرب فأعطاهم ماله حتى يوصلوه إلى أرض العرب، فأخذوا منه المال وخانوه وغدروا به وصيروه عبداً! وبذلك صار سلمان الفارسي الذي كان أبوه من الكبراء عبداً من العبيد في يوم من الأيام، حتى أعانه النبي صلى الله عليه وسلم ففك رقه وصار عتيقاً بعد ذلك.

    والغرض أن سلمان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي قاله له هؤلاء البقايا من أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد، وكانوا يعرفون الله سبحانه، ويؤمنون بالله الواحد ولم يقولوا: الله ثالث ثلاثة، ولم يقولوا: إنه اتخذ صاحبة أو ولداً، فـسلمان تعلم منهم ذلك، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بوصفه الذي حدثوه به.

    الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

    قال صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) أي: بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ليختبره ويختبر الخلق به صلوات الله وسلامه عليه.

    قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً)، إنما بعثتك لأبتليك ابتلاء، فهل تصبر على الرسالة أو لا تصبر؟ وأبتلي بك الناس وأختبرهم هل يستجيبون لك ويؤمنون بك حينما يروا الآيات والمعجزات معك أو لا يؤمنوا؟ فأنت مبتلى وهم مبتلون.

    قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، وهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم، فقد كانت الكتب السابقة تكتب فقط ولا يوجد من أصحاب الديانات السابقة من يحفظ كتاب الله سبحانه، إلا ما يكون من الأنبياء المعصومون عليهم الصلاة والسلام، ولكن سائر أصحاب الأديان ما كانوا يحفظون كتبهم، وإنما الكتب تكتب بالأحبار، فإذا أرادوا أن يبدلوا أو يغيروا مسحوا وكشطوا وكتبوا ما يريدون، إلا هذا القرآن العظيم فلا يغسله الماء أي: أن هذه معجزة من معجزات هذا القرآن العظيم، وهي أن المسلمين يحفظونه من عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، يأخذه اللاحق عن السابق حفظاً ومشافهةً وكتابةً أيضاً، فإذا محي من الكتب فهو محفوظ في الصدور لا يمحى منها إلا بأن يقبض الله عز وجل العلماء كما جاء في الحديث أو عند قرب الساعة فمن العلامات الكبرى أنه يرفع كتاب الله عز وجل، نسأل الله العفو والعافية.

    بذل الأسباب تأتي بعده معونة الله تعالى

    قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً) يعني: أقاتل قريشاً بعد أن أدعوهم إلى الله عز وجل، فإن لم يستجيبوا أقاتلهم، قال: (فقلت: ربي! إذاً: يفلقوا رأسي فيدعوه خبزاً) يعني: يكسروا رأسي كما يكسر الخبز ويصير خبزة واحدة؛ لأني وحيد، وهم كثر! فإذا بالله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك) أي: كما أخرجوك فأخرجهم، قال: (واغزهم نغزك) أي: قاتلهم وسنعينك عليهم، (وأنفق فسننفق عليك) أي: فلا تخف من النفقة أو من الغزو أو من الإخراج، فإن الله عز وجل معك، فابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وفي هذا كله يرينا الله أن النصر من عنده سبحانه، وأنه يعين عباده المتقين.

    فالمؤمن يأخذ بالأسباب ويأتي من عند الله عز وجل النصر، قال: (وقاتل بمن أطاعك من عصاك).

    من صفات أهل الجنة وأهل النار

    قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق)، فهؤلاء من أهل الجنة، ذو سلطان يحكم المسلمين بالعدل ويتصدق، ويوفقه الله عز وجل للطاعة وللحكم بالعدل.

    (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، وهنا الثاني ليس له سلطان، ولكنه رجل من المسلمين من صفاته أنه رحيم رقيق القلب، أي: في قلبه مودة ورقة وحنان لكل ذي قربى ومسلم، فهو رحيم بكل ذي قربى وكل مسلم.

    والثالث: (عفيف متعفف ذو عيال)، وهذا ليس إنساناً طماعاً، فلا ينظر إلى ما في أيدي الناس بل أعف نفسه عن الناس وتعفف عما في أيديهم، وحصن نفسه من الوقوع في الحرام، مع أن هذا الإنسان عنده عيال ويحتاج للإنفاق عليهم ولكنه عفيف متعفف.

    نسأله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجعلنا من أهل ناره.

    قال: (وأهل النار خمسة)، وبدأ بالضعيف من أهل النار، وهنا يظهر أن الضعيف من أهل النار غير الضعيف من أهل الجنة، فالجنة قالت لله عز وجل: (فيّ الضعفاء)، فمن أهل الجنة ضعفاء المؤمنين وأهل الفقر والحاجة والضعفاء والمرضى الذين رضوا بهذا الشيء وأطاعوا الله سبحانه وتعالى.

    وذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر له) أي: الذي لا منع له، والمقصود به هنا العقل، فليس له عقل يزجره عن معصية الله سبحانه وتعالى، وهو ضعيف ومع ضعفه لا يركن إلى الله بل يركن إلى الأقوياء من الناس، يقولون له: اعمل كذا فيعمل، استهزئ بفلان فيستهزئ، فيعصي الله ويكفر بالله؛ ليرضي سادته في الدنيا، قال عن أمثاله: (الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً)، لا يبتغون أي: لا مال معهم لزواج ولا غيره، بل يعيش متطفلاً على الناس، يمد يده للناس ويأخذ من هذا ويسرق ويعمل المعاصي التي حرمها الله سبحانه وتعالى، ويعمل ما يريد في الدنيا، ليس له قيمة عند الله عز وجل، ولا عند الناس، ولا في نفسه.

    قال: (والخائن) أي: من أهل النار (الذي لا يخفى)، يخفى من الكلمات المتضادة فلها معنيان متضادان، خفي الشيء بمعنى: اختفى، وخفى أيضاً بمعنى: ظهر، فهنا الذي لا يخفى بمعنى: الذي لا يظهر له شيء، (وإن دق إلا خانه) يعني: في طبيعته الخيانة، فأي شيء يظهر له وإن كان ليس له قيمة يخون ويسرقه، فالإنسان الذي في طبعه الخيانة من أهل النار.

    قال: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك وعن مالك)، فهو من أصحاب الخديعة، وهو الإنسان الذي يخادع في أي شيء، فيستطيع أن يضحك على الناس وعلى زوجته، أو على بناته وعلى عياله، فهو يضحك على أي إنسان فيخدعه في ماله وفي أهله، وهذا من أهل النار.

    قال: (لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك)، وأصبح هؤلاء اليوم كثر، فتجد الإنسان يتعرف على صديقه ثم يخونه في زوجته، أو يخونه في ابنته، يمسي ويصبح وهو على هذا الحال، وقد يكون متزوجاً، وقد يصلي مع الناس في الجماعة، ولكنه يخون الناس ويخدعهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    قال: (والشنظير)، وهو الإنسان البخيل الذي يمنعه بخله عن التصدق وعن الإنفاق الواجب عليه في أهله وعياله ويمنعه عن الزكاة ونحو ذلك، وكذلك هو الإنسان الكذاب، فهؤلاء من أهل النار الذين ذكرهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    ثم ذكر راوي الحديث أنه سأل التابعي الذي روى له هذا الحديث، قال: أفيكون ذلك يا أبا عبد الله؟ وهو مطرف بن عبد الله فقال: (لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي وما به إلا وليدته يطأها) أي: قد أدركت مثل ذلك، وهو أن الرجل يكون راعياً، والناس يأمنونه على الغنم وعلى المكان الذي يرعى فيه الغنم، فإذا به يجد الوليدة الأمة فيزني بها والعياذ بالله، وهذا من الخديعة التي يكون بها صاحبها من أهل النار.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756538576