يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فلقد سبق أن بينا أن التبرك على ثلاثة أنواع: التبرك المشروع، والتبرك الممنوع، والتبرك المختلف فيه.
فأما التبرك المختلف فيه، فهو: التبرك بذوات الصالحين، فكثير ما تسمع من الناس يقولون: فلان هذا بركة، أو زارني اليوم بركة، أو لقد حلت علينا البركة، فهل هذا التبرك هو تبرك بذوات الصالحين، أم تبرك بأثر الصالحين؟ وهل هذا التبرك جائز أم لا؟ وما الأدلة على ذلك؟ وهذا ما سنتكلم عنه بمشيئة الله تعالى.
وكذلك عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( ما ولد مولود إلا جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بريقه صلى الله عليه وسلم، فكان يحنكهم ويدعو لهم بالبركة).
ومن الأدلة على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم ، وكان ينام عندها، لأنه محرم لها، قيل: إنها من خالاته من الرضاعة، والله تعالى أعلى وأعلم، فنام ذات يوم عندها فعرق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك، فأخذت أم سليم تجمع عرق النبي صلى الله عليه وسلم وتضعه في قارورة، كما ورد ذلك في الصحيح، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها، فسألها عن ذلك، فقالت: إني أتبرك به لي ولأولادي. فقال لها مقراً: (أصبت) ، أي: أصبت في تبركك بهذا.
وأيضاً في الصحيح عن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه الله عنه أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قبل أن يسلم، ثم رجع إلى أهل قريش يحدثهم بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فقال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنخم نخامة فتقع على يد أحدهم إلا دلك بها جلده، ثم قال: وما توضأ وضوءاً إلا كادوا يقتتلون على وضوئه؛ تبركاً بهذا الماء .
وأيضاً: فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، وذلك حين ردوه عن البيت، وكان الموقف موقف إحصار، فإنه دعا الحلاق، فحلق الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، ثم فرق هذا الشعر على أصحابه أبي طلحة وغيره من أصحابه يتبركون به، وقد بقيت شعرة واحدة مع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكان دائماً يتبرك بها، ويجعلها تحت عينيه، ويجعلها على لسانه، ويجعلها على بطنه؛ لأنه يعلم أنها شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم؛ تبركاً بأثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: أبو موسى الأشعري وبلال رضي الله عنه الله عنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان البشرى، فبشرهما النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ثم مج في الماء ودعا، ثم قال لهما: اشربا منه واغسلا وجهيكما به، تبركا به صلى الله عليه وسلم .
وفوق ذلك، كانوا يتبركون ببول النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويتبركون بدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي جعل بعض الفقهاء يقولون: إن بول النبي صلى الله عليه وسلم طاهر، واستدلوا بحديث المرأة التي شربت بول النبي الله عليه وسلم، فأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا الإسناد فيه ضعف، لكن يستأنس به هنا.
وأيضاً: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عندما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه دم الحجامة، فقال له: (ضعه في مكان لا يراه أحد، فأخذه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبأته؟ قال: نعم، وضعته في مكان لا يمكن لأحد أن يراه، فقال: أين وضعته؟ قال: وضعته في بطني) ، أي: شربه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل للناس منك، وويل منك من الناس)، فإن صح الحديث فهذا أيضاً تبرك بأثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
فالإجماع حاصل على أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم جائز، ونقول: إن كان التبرك جائزاً بأثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبالجلوس معه، وببركة علمه صلى الله عليه وسلم.
ويجب أن نعلم أن العلم أصبح الآن علماً نظرياً فقط، وليس علماً عملياً، لأن رسول الله صلى الله عيله وسلم قد مات، وآثاره قد انتهت ولم يبق منها شيء، فلا نصدق من جاء ببعض الأشياء وقال: هذه من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يقول إن معه نعال النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذي أتى بعصا وعمامة وقال: هذه عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنى لهم ذلك! فآثاره صلى الله عليه وسلم كما قلنا قد انتهت، ولكن هذا من باب بيان جواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم عندما كانت موجودة، وقد سبق الكثير من الأدلة على ذلك، ومنها كذلك: ما ورد عن الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه إزار ورداء، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اكسونيها يا رسول الله! وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحوج ما يكون لهذا الرداء، وكانت إحدى النساء قد صنعته خصيصاً له صلى الله عليه وسلم، ولما علمت من حاله صلى الله عليه وسلم أنه ما عنده أكثر من رداء وإزار، والصحابة رضي الله عنه الله عنهم لاموا هذا الرجل على صنيعه هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم من أخلاقه وكرمه وبركته لم يكن ليرفض هذا الطلب، ولو كان حاله ما كان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً بحال من الأحوال، فخلع رداءه وأعطاه للرجل، ثم بعد ذلك اعتذر هذا الرجل أمام الصحابة رضي الله عنه الله عنهم وقال: أردت أن أكفن فيه، تبركاً بما مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الأدلة كذلك على جواز التبرك بذاته صلى الله عليه وسلم وآثاره: ما ورد في إحدى الغزوات عندما سوى النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف، فإذا أحدهم خارج عن الصف فضربه بيده صلى الله عليه وسلم على خاصرته أو على بطنه، فقال (يا رسول الله! أوجعنتي وأريد القصاص، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتص الصحابي منه)، ما أعظم هذا الموقف وما أروعه! عندما يتعامل القائد مع الرعية بهذا التعامل؛ فإن البركة تنزل من السماء، والنصر يأتي لا محالة، (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه، فقام الرجل فقبل بطن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك، قال: قد رأيت ما نحن فيه يا رسول الله نحن في الصف، فأردت أن يكون آخر ما أمسه في حياتي هو بطن النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: أنه فعل ذلك تبركاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة كانوا من أفقه الناس، وكانوا يتبركون بأثر النبي وبذات النبي صلى الله عليه وسلم .
والذي أعلنها صراحة النووي في شرح صحيح مسلم ، ثم تعبه الحافظ ابن حجر في الفتح ، ثم الإمام الشوكاني ، فقالوا جميعهم: بجواز التبرك بآثار الصالحين، واستدلوا بما سبق من الأدلة التي تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكادوا يقتتلون على وضوءه، وتبركوا بثياب النبي صلى الله عليه وسلم، وتبركوا بكل شيء من رسول الله، بشعر النبي، بالماء الذي نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قالوا: إن هناك أدلة أخرى كثيرة، منها: قول الله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248] ، فهؤلاء كانت الآية لهم أن يأخذوا آثار الأنبياء ويتبركوا بها، ولذلك قال النووي : فهذه الآية فيها دلالة واضحة على جواز التبرك بآثار الصالحين، فإذا أخذت عمامة شيخك أو عصاه أو قميصه لتتبرك بها، جاز لك ذلك.
واستدلوا أيضاً بدليل آخر: وهو حديث في الصحيحين، أن عتبان بن مالك رضي الله عنه بعدما عمي لم يستطع أن يذهب إلى المسجد، وكان يؤم الناس، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيني وبين قومي هذا النهر، وإن الأمطار تأتي فتعوقني عن الذهاب إليهم لأؤمهم، فصل عندي يا رسول الله! في مكان اتخذه مصلى، فهو أراد أن يتبرك بالمكان الذي سيصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكان قد صنع له طعاماً، فأراد أن يطعم أولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أين تريد أن أصلي؟ فأشار إلى مكان في ناحية الدار، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى المكان فصلى فيه، فاتخذ عتبان بن مالك ذلك المكان مصلى؛ تبركاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عقب الحافظ على هذا الحديث فقال: هذا فيه دلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين.
كذلك من الأدلة التي استدل بها الجمهور على جواز التبرك بآثار الصالحين: حديث عائشة وأنس رضي الله عنه عنهما، أن كثيراً من الصحابة كانوا يأتون بالأطفال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكهم، ويدعوا لهم بالبركة.
قالوا: وهذه دلالة على أن المولود لا بد لمن يحنكه أن يكون صالحاً، وحتى ينزل في بطن المولود أو الطفل ريق الصالح.
واستدلوا أيضاً بما ورد عن الشافعي رحمه الله أنه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: بشر أحمد بن حنبل بالرفعة، وليصبر على بلوى ستأتيه، والبلوى كانت محنة القول بخلق القرآن، فبعث بهذه البشرى لـأحمد مع الساعي، وقال لساعيه: وائتني بغسول ثيابه، فجاءه الساعي بهذا الغسول، فأخذه الشافعي واغتسل به تبركاً بـأحمد بن حنبل لتقواه وورعه.
فهذا الدليل الذي ورد عن الشافعي ظاهر في جواز بالتبرك بآثار الصالحين، أما الأدلة الأولى فكلها وردت في التبرك بآثار النبيين، كموسى وهارون عليهما السلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال المجيزون للتبرك: ونحن نقيس الصالحين عليهم، فهم ما تبركوا بهم إلا لصلاحهم وتقواهم وقربهم من الله جل في علاه، فهذا تبرك بالصالحين.
هذا قول الجمهور وأدلتهم من الأثر ومن النظر، وكما قلنا التماس البركة يكون في الصلاح وأهل التقى والورع، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] ، وأيضاً ما من مترجم يترجم لعلمائنا، إلا ويقول: فلان بركة، فـالسخاوي في ترجمته للنووي قال: إنه بركة. وهذا صحيح، فإن النووي بركة، لكن سنبين ماذا يعني هذا القول.
وقالوا أيضاً: إن من الأدلة كذلك: أن الصلاح إذا وجد في مكان وجدت معه البركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة المرء أربع، وذكر منها: المرأة الصالحة)، فالمرأة الصالحة بصلاحها في بيت زوجها تأتي له بالبركات، وقول الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، فإن البركة موجودة في هذا البيت بسبب الصلاة.
إذاً: أهل الصلاح يكون معهم البركة، لكننا نقول: هذا الكلام فيه نظر وإن كان قول الجماهير، وقول الفحول من الشافعية كـالنووي وابن حجر وإمام الحرمين بل هو قول كثير من الشافعية قد توسعوا كثيراً في مسألة التبرك، فهم حين يصنفون في مسائل الحج يقولون: ومن آداب الحج أن يسافر من مكة إلى المدينة ليتبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والخطيب الشربيني صاحب كتاب (الإقناع) و(معنى المحتاج) من الأئمة في هذه المسألة.
الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي
فآل أبي بكر كلهم بركة، فـأبو بكر بركة ، وعائشة وأسماء بركة، وعبد الله ، وكل أبناء أبي بكر بركة، ومع هذا لم نجد أحداًمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتبرك بأثر من آثار أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فهذا عمر، وهو أفضل الصحابة أجمعين بعد أبي بكر ، لم نر أحداً فعل ذلك معه بعد موت أبي بكر ، ولم نر أحداً فعل ذلك مع عثمان ولا مع علي رضي الله عنه.
إذاً: من هنا تأتي القاعدة المهمة لو كان خيراً لسبقونا إليه.
الدليل الثاني: قالوا: من مقاصد الشريعة: سد الذرائع، والقاعدة الفقهية المتفق عليها تقول: الوسائل لها أحكام المقاصد، فقالوا: والتبرك بذوات الصالحين وسيلة للغلو فيهم، ومعلوم بينا أن أول شرك حدث في البشرية كان بسبب الغلو في الصالحين، وذلك عندما غلا قوم نوح عليه السلام في ودٍ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً، وقالوا: هؤلاء رجال صالحون، فلا بد أن نجعل لهم تماثيل حتى نتذكرهم ونقتدي بأفعالهم وعبادتهم وصلاحهم وورعهم، ثم تدرج الغلو حتى اعتقدوا فيهم ما لا يعتقد إلا في الله، ثم عبدوهم من دون الله جل وعلا، وهذا الذي قرره ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
فإذاً: الغلو في الصالحين ذريعة كبيرة لاعتقاد الشرك فيهم، وللاعتقاد فيهم ما لا يُعتقد إلا في الله جل في علاه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة من الوقوع في مثل هذا أيما تحذير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله).
وأيضاً لما دخل عليه القوم، فقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان) أي: لا يجري بكم الشيطان، فيجعلكم تغلون فيَّ وترفعوني فوق درجتي. أو كما قال قائلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم .
فهذا غلو في أعظم الخلق صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، ولذلك عقب المحققون وقالوا: هذا الرجل من الجنون بمكان؛ فلانه ما ترك لله سبحانه وتعالى شيئاً، بل أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء.
إذاً: التبرك بذوات الصالحين هو وسيلة للغلو فيهم، وقد غلا بعضهم في الإمام أبي حنيفة ، حتى أصبح بعض أصحابه يسبون أبا هريرة رضي الله عنه، لينافح عن مذهبه، وعن أقواله التي فيها من الخطأ الكثير، والمصادمة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتون إلى الحديث ويقولون: هذا من رواية أبي هريرة ، وقد كان يروي ما لا يعقل، فهذا سب في أبي هريرة رضي الله عنه بسبب الغلو في بعض الصالحين.
والغلو هذا قد يكون سبباً في هدم الإسلام، وذلك كما حدث لغلاة الشيعة، فإنهم غلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى أوصلوه إلى مرتبة الإلهية، وحتى أنه بعدما حرقهم بالنار قالوا له: لا يحرق بالنار إلا رب النار، أي: أنت إلهنا، والعياذ بالله، ووضعوا الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الغلو في آل البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أوليائي المتقون) ، أي: لو كان الواحد من آل البيت من الفسقة، فإنه ليس من أولياء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له التوقير ولا التعظيم ولا الاحترام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أغني عنكم من الله شيئاً) .
قال المجيزون: نعم، لأن الصالحين يقتدون ويقتفون أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم ورثة علمه صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما العلماء ورثة الأنبياء) ، فلم لا نفعل بهم ذلك وهم على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل عندنا عدم التخصيص؛ لأن الله جل وعلا إذا شرع شرعاً ووضع أحكاماً كانت على العموم لا على الخصوص، كما قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231] ، للناس عموماً، فقد قال الرجل: (يا رسول الله ! ألي خاصة؟ قال: بل للأمة عامة)، فالأصل في الأحكام أنها على العموم، فكذلك لا نخصص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.
ثم قالوا: إن قلتم: إن الأدلة وردت في الأنبياء، فعندنا قصة الشافعي ، ولا مدخل للأنبياء فيها.
قال المانعون: أما الكلام على الأنبياء فنحن نقول بالخصوصية، وبعد الاتفاق معكم على أن الأصل في الأحكام العموم، لكن التبرك بآثار الأنبياء خاص بالأنبياء فقط لا بالصالحين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل البشر أجمعين، وموسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وعيسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وإبراهيم عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
من الأدلة على أن الأنبياء والرسل هم أفضل الناس أجمعين: قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] ووجه الدلالة: أنه قدم ذكر النبيين على غيرهم في قوله فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69]، فدل هذا التقديم على أفضليتهم، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر النبيين ولم يذكر الرسل فإنهم يدخلون في هذا الذكر.
ومن الأدلة كذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، فهذا يدل على أنه أفضل الخلق أجمعين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
وأيضاً من الأدلة: قول الله تعالى عن الأنبياء: الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص:47]، وقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] و(من) هنا تبعيضية.
فهذه الأدلة على أن الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، فإذا كانوا كذلك فهذه دلالة على الخصوصية التي كانت لهم؛ لأن البركة كل البركة مع هؤلاء الذين هم أفضل البشر. فإذاً: لا يقاس غيرهم عليهم.
قال المجيزون: إن الشافعي تبرك بغسول ثياب أحمد بن حنبل ، وأحمد ليس بنبي.
قال المانعون: هذه القصة لا تثبت عن الشافعي بحال من الأحوال؛ لأن إسنادها مظلم.
ثم إذا سلمنا ذلك جدلاً، وقلنا: إنها حدثت من الشافعي -مع أنها لم تثبت عنه ولله الحمد والمنة- فإننا والله لا نقبل منه هذا الفعل، ولا نقبل منه هذا القول، فهو القائل: إن صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: إذا خالف فعلي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو قولي قول النبي صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي أو فعلي عرض الحائط، وهو الذي قال: قول الصحابي حجة ما لم يخالفه أحداً من الصحابة، ودائماً يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
فإذاً: ليس لهم حجة في ذلك بحال من الأحوال.
فنقول: التبرك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما دليلهم الأول فهو خاص بأنبياء بني إسرائيل: موسى وهارون وآثارهما، فإن سلمنا ذلك جدلاً وقلنا: قد جاءت آثار موسى وهارون وتبركوا بها، فنقول: هذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا على الصحيح الراجح أصولياً أنه شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما يكون ناسخاً له؛ وقد جاء من شرعنا النسخ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الصالحين؛ لأن الغلو يوصل الإنسان إلى أن يعتقد في الشخص ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه أراد أن يتبرك بهذا المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول:
أولاً: لم يرد عنه رضي الله عنه الله عنه أنه أراد التبرك، وإنما أراد أن يأخذ إقراراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى: (تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب).
ثانياً: أن التبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم جائز، وحق له أن يتبرك بذلك؛ لأنه تبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبمكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يصل إلى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول له: صل في المكان الفلاني حتى تحل فيه البركة، بل إن هذا العمل يؤدي إلى هلاك الشخص والعياذ بالله، لأنه قد يرى في نفسه أنه من أتقى الناس وأورع الناس، فيدخله العجب والكبر، فيؤدي هذا إلى هلاكه، فليس لأحد أن يداني النبي صلى الله عليه وسلم في منزلته، فلذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين.
أما استدلالهم بحديث تحنيك المولود، فنقول: إن كان المقصود من التحنيك هو التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة به، ولا يجوز التحنيك بعد ذلك؛ لأن هذه السنة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود من التحنيك غير التبرك فلا حجة لهم فيه، وهذا هو الصحيح الراجح، وهو الظاهر من الحديث؛ لأن أنساً قال: (وبرك)، أي: دعا له بالبركة.
إذاً: الصحيح الراجح كما بين ابن القيم : أن الإنسان عند خلو معدته من الطعام فإن أفضل ما ينزل إلى معدته حتى يرطبها هو الشيء الحلو، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يحنك بتمر فعلى حسوات من الماء.
فهذه دلالة واضحة في أن المقصود من التحنيك هو: أن يدخل الشيء الحلو في معدة الطفل، ولذلك نحن لا نشترط أن يكون بالتمر فقط، بل ممكن أن يكون بعسل أو سكر أو أي شيء حلو، وإنما التمر أولى من غيره.
فالخلاصة أننا نقول: إن كان المقصود من التحنيك التبرك، فهذه سنة قد انقطعت وانتهت بموته صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يعملها مرة أخرى، لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود بالتحنيك هو دخول الشيء الحلو إلى معدة الطفل حتى يرطب معدته، فنقول: هذه سنة إلى يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، وليس في ذلك دليل على جواز التبرك بآثار الصالحين ولا بذواتهم.
فمما يدل على جواز التبرك والتوسل بدعاء العبد الصالح، ما ورد في الحديث عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال له
وأيضاً: تبرك الرجل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، فرد الله عليه بصره، فهذا تبرك بدعاء الصالحين، ولا نقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك الكثير من الأدلة التي تدل على أن الصحابة كان بعضهم يسأل بعضاً أن يدعو له، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي رجل مع إمداد أهل اليمن يقال له:
فهذه الأدلة تدل على جواز التبرك بدعاء الصالحين، وما من عالم من العلماء إلا كان يتبرك بدعاء الصالحين من العلماء في عصره.
أيضاً: نتبرك بعلم الصالحين، فإن العلم بركة، فنتبرك بمجالسه أهل العلم لما فيها من الخير، ففيها تحفنا الملائكة، ونُذكر بأسمائنا وأسماء أبائنا وأمهاتنا عند ربنا جل في علاه، ويثني الله على أهل المجلس خيراً، ويقول الله جل وعلا: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فالبركة كل البركة أن تسمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم فتنتفع به وتعمل، فيكون سبب نجاتك في هذا الحديث، فهذا تبرك بعلم الصالحين.
ويكون التبرك كذلك بعبادة الصالحين، ويكون ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أننا نتأسى بهم في هذه العبادة، ونحاول أن نعمل مثل عملهم.
الأمر الثاني: أن المكان الذي تكون فيه العبادة تحفة الملائكة، وتنزل منه الخيرات والبركات، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] ، ولذلك نحن نقول للمرأة: لا تشددي على زوجك وتكثري عليه من الطلبات، بل أكثري من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الاستغفار، ومن العبادات في بيتك، وعندها تجدين الخير يأتي مع زوجك؛ لأن البركة كل البركة في الصلاح، وفي عبادة المرأة في بيتها، فهذا أيضاً من التبرك بعبادات الصالحين.
فإذاً نقول: لا يجوز التبرك بذوات الصالحين وآثارهم، ويجوز التبرك بما يكون متعدياً من الصالحين، كدعاء وعلم وعبادة وذكر واستغفار وقراءة قرآن، وكل فعلٍ متعدٍ منهم، ولنا في ذلك أسوة بالصالحين الذين كانوا سلفاً لنا.
ومن التبرك المشروع: التبرك بسير العلماء الصالحين، وهذا ليس تبركاً بذات العلم، وإنما تبرك بسيرته لنتأسى به؛ كيف عَبَدَ الله جل في علاه، وكيف جاب الأرض شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، فنتبرك بالتأسي بفعل هؤلاء الصالحين، لا بذواتهم.
نرد عليهم ونقول: هل كان القبر ثوباً لبسه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟
الجواب: لا، هل كان القبر شراباً يشربه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟
الجواب: لا، هل مج النبي صلى الله عليه وسلم في قبره وبقي الماء على فوهة القبر حتى نتبرك به؟
الجواب: لا.
إذاً: القبر ليس أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نتبرك به، فلا يجوز بحال من الأحوال التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا من الشرك بمكان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر